الفصل الخامس
علم المنطق
(١٨١٢–١٨١٦م)
أكد الكثيرون الاختلاف الواضح بين منطق هِيجِل والمنطق التقليدي بقولهم إن هِيجِل
قد
استعاض عن المنطق الصوري بمنطقٍ مادي، ونبذ التفرقة الشائعة بين مقولات الفكر وصوره
وبين مضمونها … فالمنطق التقليدي كان ينظر إلى هذه المقولات والصور على أنها صحيحة إذا
كانت قد تكوَّنَت بطريقةٍ سليمة، وكان استخدامها متفقًا مع القوانين النهائية للفكر
وقواعد القياس — أيًّا كان المضمون الذي تطبَّق عليه. أمَّا هِيجِل فقد ذهب، على عكس
ذلك، إلى أن مضمون المقولات يحدِّد شكلها، فضلًا عن صحتها … «ولكن طبيعة المضمون،
وطبيعته وحدها، هي التي تحيا وتتقدم في المعرفة الفلسفية، وفي الوقت ذاته فإن الانعكاس
الباطن للمضمون هو الذي يضع تحديداته ويُنشِئها.»
١ فمقولات الفكر وأحواله تُستمد من مسار الواقع الذي تنتمي إليه، وصورتها
تتحدَّد ببنيان هذا المسار.
وفي هذا الصدد ذاته يظهر الزعم الذي يردِّده الكثيرون، والقائل إن منطق هِيجِل كان
جديدًا … إذ يفترض أن الجدَّة تكمُن في استخدامه المقولات للتعبير عن دينامية الواقع،
ولكن هذه النظرة الدينامية لم تكُن، في حقيقة الأمر، تجديدًا هِيجِليًّا؛ فنحن نجدها
في
فلسفة أرسطو؛ حيث تفسر كل أشكال الوجود بأنها صورٌ وأنواع للحركة، ولقد حاول أرسطو
وَضْع صِيَغٍ فلسفية دقيقة من خلال فكرة الدينامية، وكل ما فعله هِيجِل هو أنه أعاد
تفسير المقولات الأساسية لكتاب «الميتافيزيقا» لأرسطو، دون أن يخترع مقولاتٍ
جديدة.
وينبغي أن نلاحظ، فضلًا عن ذلك، أنه قد ظهَرَت في الفلسفة الألمانية قبيل هِيجِل
فلسفةٌ دينامية … فقد حوَّل «كَانْت» الصور السكونية للواقع المعطَى إلى مجموعةٍ
معقَّدة من تركيبات «الوعي الترنسندنتالي»، على حين أن فيشته حاول أن يرُدَّ «المعطى»
إلى فعلٍ تلقائي للأنا … فلم يكن هِيجِل إذن هو الذي اكتشف دينامية الواقع، ولا كان
أوَّل من لاءم بين المقولات الفلسفية وبين هذه العملية. ولكن ما اكتشَفه واستخدمه فعلًا
كان شكلًا محدَّدًا للدينامية، وعلى هذه الحقيقة ترتكز جدَّة منطقه وأهميَّته في نهاية
المطاف؛ فقد أراد للمنطق الفلسفي الذي وضعه أن يعكس المسار الفعلي للواقع، ويقدِّم له
تصويرًا وافيًا.
وحين نصل إلى «علم المنطق»، فإننا نبلغ المستوى النهائي لجهود هِيجِل الفلسفية. ومنذ
هذا الكتاب، يظل البناء الأساسي لمذهبه، وتصوُّراته الأساسية، دون تغيير؛ ولذلك فقد
يكون من المفيد أن نقدِّم عرضًا موجَزًا لهذا البناء وهذه التصوُّرات، على النحو الذي
عرضَها به هِيجِل في تصديرات كتاب «علم المنطق» ومقدمته.
إن الباحثين لم ينتبهوا انتباهًا كافيًا إلى أن هِيجِل ذاته يقدِّم إلينا منطقه
بوصفه
أداةً نقديةً قبل كل شيء … فهو أوَّلًا ناقد للرأي القائل إن «مادة المعرفة تُوجَد في
ذاتها ولذاتها على هيئة عالمٍ تامٍّ بمعزل عن التفكير»، أو أنها تُوجَد بوصفها «شيئًا
في ذاته، كاملًا وتامًّا، شيئًا يستطيع، فيما يتعلق بواقعيته، أن يستغني عن الفكر
استغناءً تامًّا.»
٢ ولقد سبق أن بيَّن هِيجِل في كتاباته الأولى أن هجومه على الفصل التقليدي
بين الفكر والواقع يتجاوز بكثيرٍ نطاق النقد الإبستمولوجي البحت … فمثل هذه الثنائية
في
رأيه تعني الامتثال للعالَم كما هو، وانسحاب الفكر من أداء مهمته الرفيعة، مهمة بعث
التوافق بين نظام الواقع الموجود وبين الحقيقة … فالفصل بين الفكر والوجود يعني أن
الفكر قد تراجع أمام هجوم الموقف الطبيعي
common sense
… فإذا ما شئنا بلوغ الحقيقة، فلا بد من أن نتخلص تخلصًا تامًّا من تأثير الموقف
الطبيعي، ومعه مقولات المنطق التقليدي، التي هي، في نهاية الأمر، المقولات الفلسفية
للموقف الطبيعي، وهي المقولات التي تُثبِت واقعًا زائفًا وتعمل على الإبقاء عليه. وعلى
عاتق المنطق الجدَلي تقع مهمة التخلص من قبضة الموقف الطبيعي. ويردِّد هِيجِل مرارًا
وتكرارًا أن الجدَل يتسم بهذا الطابع «السلبي»؛ فالسلبي «يشكِّل طابع العقل الجدَلي.»
٣ والخطوة الأولى «نحو التصور الحقيقي للعقل» هي «خطوة سلبية»؛
٤ فالسلبي «هو قوام العملية الجدَلية الأصيلة».
٥ في كل هذه الاستعمالات نجد لفظ «السلبي يدل على شيئَين مختلفَين؛ فهو يدل
أوَّلًا على سلب مقولات الموقف الطبيعي السكونية الثابتة، ويدل ثانيًا على الطابع
السلبي، وبالتالي الزائف، للعالَم الذي تشير إليه هذه المقولات. وكما لاحظنا من قبلُ،
فإن السلبية واضحة في مسار الواقع ذاته؛ بحيث إن أي شيءٍ موجود لا يكون صحيحًا في صورته
الراهنة … فلا بد لكل شيءٍ منفرد من أن يتطور إلى أوضاع وأشكالٍ جديدة إذا شاء أن
يحقِّق إمكاناته.
وإذن فوجود الأشياء سلبي في أساسه، وكل الأشياء تُوجَد بمعزل عن حقيقتها، وفي حالة
افتقار إليها. وحركتها الفعلية، التي تسترشد بإمكاناتها الكامنة، هي مسيرتها المتقدمة
نحو هذه الحقيقة. على أن مسار التقدم هذا ليس مباشرًا مستقيمًا؛ فالسلب الذي ينطوي عليه
كل شيء يتحكَّم في وجوده ذاته، والجزء المادي من حقيقة أي شيءٍ يتألف مما لا يكونه هذا
الشيء، ومما يستبعده وينفيه بوصفه ضدًّا له … «إن الشيء الوحيد الذي يضمن التقدم العلمي
… هو معرفة القاعدة المنطقية القائلة إن السلب هو إيجابٌ بقَدْر ما هو سلب، أو إن ما
هو
مناقض لذاته لا يتحول إلى العدم وإلى اللاوجود المجرَّد، بل إنه لا يتحوَّل أساسًا إلا
إلى سلب مضمونه الجزئي الخاص …»
٦
إن التناقض، أو صورته العينية التي نناقشها، وهي التضاد، لا يحل محل الهوية الفعلية
للشيء، بل ينتج هذه الهوية على شكل عملية تتكشف فيها إمكانات الأشياء، وقانون الهوية
الذي يسترشد به المنطق التقليدي ينطوي ضمنًا على ما يُسَمَّى بقانون التناقض؛ ذلك لأن
أ
لا تساوي أ إلا بقَدْر ما تكون في تضاد مع لا-أ؛ أي إن هوية أ تنتج عن التناقض وتتضمنه
… ويرى هِيجِل أن أ لا تناقض لا-أ خارجية، بل لا-أ تنتمي إلى صميم هوية أ، وبعبارةٍ
أخرى فإن أ مناقضة لذاتها.
وبفضل السلبية التي تنتمي إلى طبيعة كل شيء، يرتبط كل شيء بضده؛ فلِكَي يكون ما هو
عليه حقيقة، لا بد له أن يصبح ما ليس هو … وإذن فالقول إن كل شيء يناقض ذاته يعني القول
إن ماهيته تناقض حالة وجوده المعطاة؛ فطبيعته الحقة، التي هي في نهاية المطاف ماهيته،
تدفعه إلى «تخطِّي» حالة الوجود التي يجد نفسه فيها، والانتقال إلى حالةٍ أخرى. ولا
يقتصر الأمر على ذلك، بل إنه ينبغي أن يتخطى حدود خصوصيته ذاتها، ويضع ذاته في علاقةٍ
كلية مع الأشياء الأخرى … فالكائن البشري مثلًا لا يجد هُويته الحقة إلا في تلك
العلاقات التي هي بالفعل سلب لخصوصيته المنعزلة — أعني في عضوية جماعة أو طبقةٍ
اجتماعية تتحكَّم مؤسَّساتها وتنظيمها وقِيَمها في فرديته ذاتها … وحقيقة الفرد تتجاوز
خصوصيته وتهتدي إلى مجموعةٍ كاملة من العلاقات المتعارضة التي تتحقَّق فيها فرديته،
وهكذا نصل مرةً أخرى إلى الكلي بوصفه الصورة الحقيقية للواقع.
والصورة المنطقية للكلي هي المفهوم
notion. ويقول
هِيجِل إن حقيقة الأشياء وماهيتها تحيا في مفهومها، وتلك عبارةٌ قديمة قِدَم الفلسفة
ذاتها، بل إنها تغلغلَت في اللغة الشعبية ذاتها؛ فنحن نقول إننا نعرف حقيقة الأشياء
وندركها في أفكارنا عنها. والمفهوم هو الفكرة التي تعبِّر عن ماهيتها، مميزة عن
التنوُّع والتبايُن السائد في وجودها الظاهري. وقد استخلص هِيجِل نتيجة هذا الرأي …
«فعندما يكون قصدنا هو التحدث عن الأشياء، نطلق على طبيعتها أو ماهيتها اسم تصوُّرها»،
ولكنا نذهب في الوقت ذاته إلى أن التصوُّر «لا يُوجَد إلا بالنسبة إلى الفكر.»
٧ ذلك لأن التصور، على ما يُقال، كلي، على حين أن كل ما يُوجَد جزئي … وهكذا
فإن التصوُّر هو «مجرد» تصوُّر، وحقيقته مجرد فكرة. وفي مقابل هذا الرأي، يبيِّن هِيجِل
أن الكلي لا يُوجَد فحسب، بل إن له بالفعل حقيقةً أكثر مما للجزئي … فهناك بالفعل
حقيقةٌ كلية كالإنسان أو الحيوان، وهذا الكلي هو في الواقع أساس وجود كل إنسانٍ أو
حيوانٍ فردي … «إن كل فردٍ بشري، وإن كان فريدًا إلى حدٍّ لامُتناهٍ، لا يكون كذلك إلا
لأنه ينتمي إلى فئة الإنسان، وكل حيوان لا يكون كذلك إلا لأنه ينتمي إلى فئة الحيوان
…
فكونه إنسانًا أو كونه حيوانًا هو الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لفرديتهما.»
٨ ولو شئنا الدقة لقلنا إن العمليات البيولوجية والنفسية للفرد الإنساني
والحيواني ليست عملياتهما، بل هي عمليات النوع أو الفئة التي ينتميان إليها. وعندما
يقول هِيجِل إن كل فردٍ بشري هو إنسان أوَّلًا، يعني أن أعلى إمكاناته، ووجوده الحقيقي،
يتركَّز في كونه إنسانًا؛ ومِن ثَمَّ فإن أفعال كل فردٍ خاص أو جماعةٍ معيَّنة،
وقِيمهما وأهدافهما، ينبغي أن تُقاس على أساس ما يستطيع الإنسان، وما ينبغي عليه أن
يفعله.
وتتضح الأهمية العينية لهذه الفكرة إذا ما قارنَّاها بالأيديولوجية التسلطية الحديثة،
التي تُنكر فيها حقيقة الكلي، وذلك من أجل إخضاع الفرد على نحوٍ أفضل للمصالح الخاصة
لجماعاتٍ معيَّنة تدَّعي لنفسها وظيفة الكلي. والحق أنه لو لم يكن الفرد إلا فردًا
فحسب، لما كان هناك مهربٌ ممكِن من القوى المادية والاجتماعية العمياء التي تطغى على
حياته، أعني مهربًا إلى تنظيمٍ اجتماعي أعلى وأعقل؛ فلو لم يكُن إلا عُضوًا في طبقةٍ
أو
جنسٍ أو أمةٍ معيَّنة، لما استطاعت مطالبه أن تتجاوز الجماعة الخاصة التي ينتمي إليها،
ولكان عليه أن يكتفي بقبول معاييرها. غير أن هِيجِل يرى أنه لا تُوجَد خصوصية؛ أيًّا
كانت، تستطيع أن تشرِّع للإنسان الفرد، فهذا حقٌّ نهائي يحتفظ به الكلي ذاته
لنفسه.
ويعمل المفهوم على الاحتفاظ بمضمون الكلي؛ فإذا لم يكن الكلي تجريدًا فحسب، بل كان
أيضًا واقعًا، فعندئذٍ يكون المفهوم دالًّا على هذا الواقع. كذلك فإن تكوين المفهوم ليس
فعلًا ذهنيًّا اعتباطيًّا، وإنما هو شيءٌ يساير الحركة الفعلية للواقع. إن تكوين الكلي
هو في نهاية المطاف عمليةٌ تاريخية، والكلي عاملٌ تاريخي. وسوف نرى فيما بعدُ، في
«فلسفة التاريخ» عند هِيجِل، أن التطور التاريخي من العالم الشرقي القديم إلى العالم
الحديث يُتصوَّر على أنه تطوُّر يجعل فيه الإنسان نفسه الموضوع الفعلي للعملية
التاريخية؛ فعن طريق سلب الإنسان لكل شكلٍ تاريخي للوجود يغدو قيدًا على إمكاناته، يحصل
الإنسان لنفسه أخيرًا على الوعي الذاتي للحرية … ويتضمن المفهوم الجدَلي للإنسان هذه
العملية المادية ويشتمل عليها؛ ومِن ثَمَّ فإن هذا المفهوم لا يمكن أن يُدرَج ضمن قضيةٍ
واحدة أو سلسلة من القضايا تدَّعي أنها تعرف ماهية الإنسان وفقًا لقانون الهوية
التقليدي. بل إن مثل هذا التعريف يقتضي نسقًا كاملًا من القضايا التي تعكس التطور
الفعلي للبشرية. وسوف تظهر ماهية الإنسان، في مختلف أجزاء هذا النسق، على أشكالٍ
مختلفة، بل متناقضة، ولن تكون الحقيقة شكلًا معيَّنًا من هذه الأشكال، بل هي كلِّية
الإنسان وتطوُّره العيني.
وبعد أن عرضنا الخطوط العامة للجدَل في جانبه السلبي، ننتقل إلى جانبه الإيجابي،
فنجد
أن قوامه هو تشكيله للكلي من خلال سلب الجزئي، وتكوينه للمفهوم؛ فمفهوم الشيء هو «الكلي
الكامن فيه».
٩ وهو كامن لأن الكلي يتضمن الإمكانات الحقيقية للشيء ويجمع بينها … والتفكير
الجدَلي «إيجابي لأنه هو مصدر الكلي الذي يندرج فيه الجزئي.»
١٠ وهكذا فإن عملية القضاء على الثبات الذي يُضفِيه الموقف الطبيعي على
العالم، تؤدي إلى تكوين «الكلي الذي هو في ذاته عيني»، وهو عيني لأنه لا يُوجَد في خارج
الجزئي، بل إنه لا يحقِّق ذاته إلا في الجزئي وبه، أو على الأصح في المجموع الكلي
للجزئيات.
ولقد اتخذنا من الإنسان مثلًا للتكوين الجدَلي للكلي، غير أن هِيجِل يبرهن على نفس
العملية بالنسبة إلى كل الكيانات الموجودة في العالم الموضوعي والذاتي، ويقوم كتاب «علم
المنطق» بمعالجة البناء الأنطولوجي الذي تتسم به هذه الكيانات، لا بالبحث في وجودها
الفردي العيني، ولهذا السبب اتسمَت العملية الجدَلية في «المنطق» بصورةٍ عامة ومجردة
إلى أبعد حد. ولقد سبق لنا أن ناقشنا هذه العملية في الفصل الخاص «بمنطق يينا».
١١ فعملية الفكر تبدأ بمحاولة إدراك البناء الموضوعي للوجود
being. وفي خلال التحليل، ينحلُّ هذا البناء إلى كثرة من «الأشياء»
والكيفيات والكميات المعتمِدة بعضُها على بعضٍ اعتمادًا متبادلًا … فإذا ما مضى الفكر
في تحليله أبعد من ذلك، اكتشف أن هذه الأخيرة تؤلِّف كلًّا من العلاقات المتضادة، التي
تحكمها القوة الخلَّاقة للتناقض. هذه العلاقات تبدو على أنها ماهية الوجود، وعلى ذلك
فإن الماهية تظهَر بوصفها العملية التي تنفي كل أشكالٍ ثابتة محددة للوجود، وتنفي أيضًا
تصوُّرات المنطق التقليدي التي تعبِّر عن هذه الأشكال. والواقع أن المقولات التي
يستخدمها هِيجِل للكشف عن هذه الماهية تنظر إلى البناء الفعلي للوجود على أنه توحيدٌ
للأضداد يقتضي تفسيرًا للواقع من خلال «الذات». وهكذا يتحوَّل منطق الموضوعية إلى منطقٍ
للذاتية هو «المفهوم» الحقيقي للواقع.
وتظهر في العرض الذي يقدمه هِيجِل معانٍ متعدِّدة للفظ المفهوم:
- (١)
فالمفهوم هو «ماهية» الأشياء و«طبيعتها»؛ أي «ما يُعرف بالفكر في الأشياء
وعنها» و«ما هو حقيقي فيها بحق».
١٢ هذا المعنى ينطوي على القول بكثرةٍ من المفاهيم تُناظِر كثرةَ
الأشياء التي تدُل عليها هذه المفاهيم.
- (٢)
يدل المفهوم على التركيب العقلي للوجود، وعلى العالَم بوصفه عقلًا، أو
«لوجوس». وبهذا المعنى يكون المفهوم «واحدًا»، وهو الأساس الضروري والمضمون
الفعلي «للمنطق».
١٣
- (٣)
المفهوم في صورته الحقيقية هو «الذاتي الحر، المستقل، المتحكِّم في ذاته،
أو هو على الأصح الذات نفسها».
١٤ وهذا المعنى للفظ هو الذي يعنيه هِيجِل حين يقول: «إن طابع
الذات يجب أن يُحتفظ به صراحة للمفهوم.»
١٥
يبدأ كتاب «علم المنطق» بالعرض المشهور للتفاعل والتقابل بين الوجود والعدم … فهذا
الكتاب، على خلاف «ظاهريات الروح»، لا يبدأ بمعطيات الموقف الطبيعي، بل بنفس التصور
الفلسفي الذي اختتمَت به «الظاهريات»؛ فالتفكير، في سعيه إلى الحقيقة من وراء الوقائع،
يبحث عن قاعدةٍ مستقرة توجِّه مسيرته، وعن قانونٍ كلي وضروري وسط الصيرورة والتنوُّع
اللانهائيَّين للأشياء؛ فإذا شاء هذا الكلي أن يكون بحقٍّ بداية كل التعيُّنات التالية
وأساسها، كان عليه ألا يكون هو ذاته متعينة؛ إذ إنه لو كان متعينًا لما كان أوَّلًا ولا
بداية … أمَّا السبب في أنه لا يمكن أن يكون متعينًا إذا شاء أن يكون بداية، فيرجع إلى
أن كل شيء متعين يعتمد على ما يعيِّنه؛ ومِن ثَمَّ فهو ليس سابقًا له.
وأول كلي غير متعين يضعه هِيجِل هو الوجود being إنه
مشترك بين الأشياء جميعًا (إذ إن الأشياء جميعًا هي وجود)؛ ومِن ثَمَّ فهو أشد الكيانات
في العالم كلية … إنه لا يتسم بأية تعيُّنات، بل هو وجودٌ خالص ولا شيء غيره.
وهكذا فإن كتاب «المنطق» يبدأ، كما بدأَت الفلسفة الغربية بأَسْرها، بتصور الوجود
…
وكان السؤال: ما الوجود؟ يبحث عما يجمع كل الأشياء في التجربة ويجعلها على ما هي عليه
…
وتصوُّر الوجود يفترض مقدمًا التمييز بين الوجود المتعين (أعني شيئًا ما، أو
شيئًا موجودًا
Seiendes) والوجود بما هو كذلك
(أو الكينونة)
Sein دون تعيُّنات.
١٦ واللغة اليومية تميِّز الوجود (أو الكينونة) من الوجود المتعين في كل ضروب
الحكم … فنحن نقول إن الزهرة (تكون) نباتًا، وإنه (يكون) غيورًا، وإن الحكم (يكون)
صحيحًا، وإن الله يكون أو يُوجَد … والرابطة «يكون» تدل على الوجود أو الكينونة، ولكنه
وجودٌ مختلف تمامًا عن الوجود المتعين … فلفظ «يكون» لا يشير إلى أي شيءٍ فعلي يمكن أن
يُتخذ موضوعًا لقضيةٍ محددة؛ إذ إننا حين نحدِّد الوجود على أنه هذا الشيء أو ذاك،
يتعين علينا أن نستخدم نفس لفظ «يكون» الذي نحاول تعريفه، وهو أمرٌ واضح الاستحالة.
ونحن لا نستطيع تعريف الوجود بأنه شيءٌ ما لأن الوجود هو محمول كل شيء. وبعبارةٍ أخرى
فكل شيء يكون أو يُوجَد، ولكن الوجود لا يكون شيئًا ما … وما ليس بشيءٍ ما هو لا شيء
…
وهكذا فإن الوجود هو «لا تعيُّن وخواءٌ خالص»، إنه ليس شيئًا؛ ومِن ثَمَّ فهو عدم.
١٧
ففي محاولتنا الوصول إلى الوجود صادفنا العدم. ويستخدم هِيجِل هذه الحقيقة وسيلة
لإثبات الطابع السلبي للواقع … ففي التحليل السابق لتصور الوجود، لم «يتحول» الوجود إلى
عدم، بل تكشَّف الاثنان على أنهما شيءٌ واحد؛ بحيث يصح القول إن كل وجودٍ متعين يتضمن
الوجود كما يتضمن العدم. ويرى هِيجِل أنه لا يُوجَد شيءٌ واحد في العالم لا يجمع في
ذاته بين الوجود والعدم؛ فكل شيء لا يكون إلا بقَدْر ما يظهر، في كل لحظة من لحظات
وجوده، شيءٌ لم يُوجَد بعدُ، ويتحول شيءٌ موجود بالفعل إلى اللاوجود … والأشياء لا
تُوجَد إلا بقَدْر ما تظهر، أو أن من الواجب النظر إلى الوجود على أنه صيرورة
Werden.
١٨ وهكذا فإن الجمع بين الوجود واللاوجود ظاهر في تركيب كل الموجودات، وينبغي
الاحتفاظ به في كل مقولةٍ منطقية: «هذه الوحدة الجامعة بين الوجود والعدم، بوصفها
الحقيقة الأولى، هي الأساس القاطع لكل ما يليها وعنصره الأصلي؛ ومِن ثَمَّ فإن كل
التحديدات المنطقية الأخرى، إلى جانب الصيرورة ذاتها … وبالاختصار كل التصوُّرات
الفلسفية، هي أمثلة لهذه الوحدة».
فإن كان الأمر كذلك، كانت تقع على عاتق المنطقة مهمة لم تعهدها الفلسفة من قبلُ؛
فهو
لا يعود مصدر قواعد التفكير الصحيح وأشكاله. بل إنه في الواقع ينظر إلى قواعد المنطق
التقليدي وأشكاله ومقولاته جميعًا على أنها باطلة؛ لأنها تتجاهل الطابع السلبي المتناقض
للواقع؛ ففي منطق هِيجِل يعكس مضمون المقولات التقليدية عكسًا تامًّا. وفضلًا عن ذلك
فلما كانت المقولات التقليدية هي إنجيل التفكير اليومي (وضمنه التفكير العلمي العادي)،
والسلوك اليومي، فإن منطق هِيجِل يعرض في الواقع قواعدَ وأشكالًا للتفكير والسلوك
الباطل — أعني الباطل من وجهة نظر الموقف الطبيعي؛ فالمقولات الجدَلية تشيِّد عالمًا
مقلوبًا، يبدأ بهُوية الوجود والعدم، ويختم بالمفهوم أو الفكرة بوصفها الواقع الحقيقي.
وعلى الرغم من أن هِيجِل يتلاعب بالطابع الممتنع المفارق لهذا العالم، فإن من يتتبع
العملية الجدَلية إلى نهايتها يكتشف أن المفارقة هي مكمن الحقيقة الخفية، وأن الامتناع
هو على الأصح طابعٌ تتسم به الأطر الصحيحة للموقف الطبيعي، التي تنطوي إذا ما طهرَت من
شوائبها، على الحقيقة الكامنة … ذلك لأن الجدَل يبيِّن أن الموقف الطبيعي ينطوي بصورةٍ
مضمَرة على مضمونٍ خطير هو أن الشكل الذي يعطَى به العالم وينظَّم قد يكون مناقضًا
لمضمونه الحقيقي؛ أي إن الإمكانات الكامنة في الناس والأشياء قد تقتضي التخلُّص من
الأشكال المعطاة … وعلى حين أن المنطق الشكلي يقبل صورة العالَم كما هي، ويقدِّم بعض
القواعد العامة للتوجُّه النظري فيه، فإن المنطق الجدَلي يأبى على المعطى أي ادعاء
بالقداسة، ويزعزع شعور الثقة والارتكان الذي يتملك أولئك الذين يعيشون في ظله … إنه يرى
أن «الوجود الخارجي» ليس على الإطلاق المعيار الوحيد لصحة أي مضمون،
١٩ بل إن كل شكل للوجود ينبغي أن يثبت، أمام محكمةٍ أعلى، إن كان مطابقًا
لمضمونه أم لا.
ولقد ذكر هِيجِل أن سلبية الوجود هي «أساس وعنصر» كل ما يليها ويترتَّب عليها …
فالحافز على الانتقال من مقولةٍ منطقية إلى أخرى هو ميلٌ كامن في كل نوع للوجود إلى
تجاوز أوضاع وجوده السلبية والانتقال إلى شكلٍ جديد للوجود يبلغ فيه صورتَه ومضمونَه
الحقيقيَّين … وقد لاحظنا من قبلُ أن حركة المقولات في منطق هِيجِل ليست إلا انعكاسًا
لحركة الوجود … وفضلًا عن ذلك فليس من الصحيح تمامًا القول إن كل مقولة «تنتقل» أو
«تتحول» إلى أخرى. والأصح أن التحليل الجدَلي يكشف عن مقولةٍ معيَّنة على أنها مقولةٌ
أخرى؛ بحيث إن الأخرى تمثِّل مضمونها المتكشف — أعني الذي تكشفه المتناقضات الكامنة
فيه.
وأول مقولة تشارك في هذه العملية هي مقولة الكيف … وقد رأينا أن كل وجود في العالم
متعين، ومن هنا كانت أولى مهام المنطق هي بحث هذا التعيُّن؛ فالشيء يكون متعينًا حين
يكون متميزًا كيفيًّا عن أي موجودٍ آخر … «إن الشيء يكون مقابلًا أو مضادًّا لشيءٍ آخر
بفضل كيفه، فيكون متغيرًا متناهيًا، متعينًا بوصفه سلبيًّا، ليس فقط في مقابل آخر، بل
في ذاته فحسب.»
٢٠ فكل تعيُّن كيفي هو في ذاته تحديد؛ ومِن ثَمَّ فهو سلب … ويضفي هِيجِل على
هذه العبارة الفلسفية القديمة مضمونًا جديدًا؛ إذ يربطها بنظرته السلبية إلى الواقع.
٢١ فالشيء يُوجَد بكيفيةٍ محددة — وهذا يعني أنه يستبعد الكيفيات الأخرى ويجد
نفسه محددًا بتلك التي يملكها … وفضلًا عن ذلك فإن كل كيفية لا تكون على ما هي عليه إلا
في علاقتها بالكيفيات الأخرى، وهذه العلاقات تتحكم في طبيعة الكيفية ذاتها … وهكذا فإن
التعيُّنات الكيفية للشيء ترتد إلى علاقات يندمج بفضلها الشيء في المجموع الكلي للأشياء
الأخرى؛ بحيث يُوجَد في بعد الآخرية
otherness. مثال
ذلك أن المنضدة الموجودة في هذه الحجرة إذا ما حلِّلت إلى كيفياتها، لا تكون هي
المنضدة، وإنما لونٌ معين، ومادة وحجم وأداةٌ معينة … إلخ؛ فهي من حيث الكيفيات ليست
وجودًا لذاته، بل وجود
للآخر
Anderssein, Sein-für-Anderes كما يقول هِيجِل. وفي مقابل هذه الآخرية يُوجَد ما يكونه الشيء
في ذاته (أي كونه منضدة)، أو كما يسمِّيه هِيجِل، وجوده
في ذاته
Ansichsein. هذان هما العنصران التصوُّريَّان اللذان يشيِّد بهما هِيجِل
كل وجود. وينبغي أن يُلاحَظ أن هذَين العنصرَين لا يمكِن، في نظر هِيجِل، أن ينفصل
أحدهما عن الآخر … فالشيء في ذاته لا يكون ما هو عليه إلا في علاقاته بالآخرين، وبالعكس
فإن علاقاته بالآخرين تتحكَّم في وجوده ذاته … أمَّا الفكرة التقليدية عن شيءٍ في ذاته
من وراء الظواهر، وعن عالمٍ خارجي منفصل عن العالم الداخلي، وعن ماهيةٍ منفصلة عن
الواقع انفصالًا دائمًا، هذه الفكرة تغدو ممتنعة بفضل هذا الفهم، وتظهر الفلسفة مرتبطة
ارتباطًا مؤكدًا بالواقع العيني.
ولنعد إلى تحليلنا للكيف … إن الوجود المتعين أكثر من مجرد صيرورة لكيفياتٍ متغيرة
…
فهناك شيء يظل باقيًا طَوال هذه الصيرورة المتغيرة، شيء يتحول إلى أشياء أخرى، ولكنه
يظل أيضًا في مقابلها بوصفه وجودًا لذاته … هذا الشيء لا يمكن أن يُوجَد إلا بوصفه
نتاجًا لعملية يدمج بواسطته آخريَّته بوجوده الحق … ويقول هِيجِل إن وجوده ينتج عن طريق
«نفي النفي».
٢٢ فالنفي أو السلب الأوَّل هو الآخرية التي يتحول إليها، والثاني هو إدماج
هذا الآخر في ذاته الخاصة.
مثل هذه العملية تفترض مقدمًا أن الأشياء تتحكَّم على نحوٍ ما في حركتها، وأنها
تُوجَد في علاقةٍ معينة بذاتها، تتيح لها أن «توسط» أحوالها الوجودية.
٢٣ ويضيف هِيجِل أن تصور الوسط هذا «له أهمية قصوى»؛ لأنه هو وحده الذي
يتغلَّب على التجريدات الميتافيزيقية القديمة، كالجوهر، والكمال
Entelechy والصورة، وما إلى ذلك … وإذ يؤدي ذلك إلى النظر إلى العالم
الموضوعي على أنه تطوُّر للذات، فإنه يمهِّد الطريق لتفسيرٍ فلسفي للواقع
العيني.
ويعزو هِيجِل إلى الشيء علاقةً دائمة بذاته … «إن الشيء يكون في ذاته بقَدْر ما يكون
قد عاد إلى ذاته بعد أن كان موجودًا لأجل الآخر.»
٢٤ وعندئذٍ يكون ذلك موجودًا «تحول إلى
الداخل
introflected». على أن التحول إلى الداخل صفة للذات، وبهذا المعنى يكون
الشيء الموضوعي قد أصبح بالفعل «بداية الذات».
٢٥ وإن كان مجرد بداية … ذلك لأن العملية التي يحتفظ فيها الشيء بنفسه هي
عملية عمياء وليست حرة؛ فالشيء لا يستطيع التحكُّم في القوى التي تشكِّل وجوده … ومن
هنا فإن «الشيء» إنما هو مستوًى أدنى لتطور العملية التي تبلغ قمَّتَها في ذاتٍ حرةٍ
واعية … «إن الشيء يحدِّد ذاته على أنه وجود
للذات
Bein-for-Self وما إلى ذلك، حتى يتلقَّى أخيرًا، بوصفه مفهومًا، العمق العيني للذات.»
٢٦
ويستطرد هِيجِل موضحًا أن وحدة الشيء مع ذاته، التي هي أساس حالاته المتعينة، هي
في
واقع الأمر شيءٌ سلبي؛ لأنها تنجم عن «نفي النفي»؛ فالشيء الموضوعي يكون معينًا، وهو
ينتقل إلى شكلٍ جديد للوجود بأن يتقبل تأثير القوى الطبيعية المتعدِّدة، ومن هنا فإن
«الوحدة السالبة» التي يتسم بها ليست وحدةً واعية أو فعَّالة، بل وحدةٌ آلية … ونظرًا
إلى افتقار الشيء إلى القوة الفعلية، فإنه ببساطة «يرتد إلى تلك الوحدة البسيطة التي
هي
الكينونة»
Being،
٢٧ وهي وحدة ليست نتيجة عملية يقوم هو ذاته بها، ويوجِّه فيها نفسه بنفسه؛
فعلى الرغم من أن الشيء مشتبك في تحولاتٍ مستمرة مع الأشياء والحالات الأخرى، فإنه
موضوع للتغيُّر، وليس هو الموضوع الذي يقوم بالتغيُّر.
وفي الأقسام التالية يلخص هِيجِل الطريقة التي يمكِن أن تنمو بها وحدة الشيء. وهذه
أقسامٌ عسيرة الفهم؛ لأن هِيجِل يطبِّق على العالم الموضوعي مقولاتٍ لا تتحقق إلا في
حياة الذات … فالتصوُّرات من أمثال
التعيين determination والتوسط mediation
والعلاقة بالذات self-relation والوجوب ought وغيرها، تستبق مقولات الوجود الذاتي. ومع ذلك فإن
هِيجِل يستخدمها لتمييز عالم الأشياء الموضوعية، محلِّلًا وجود الأشياء من خلال وجود
الذات. ومحصلة هذا كله هي أن الواقع الموضوعي يفسَّر على أنه الميدان الذي ينبغي أن
تتحقَّق فيه الذات.
وتظهر السلبية على أنها الفرق بين الوجود للآخر والوجود للذات داخل وحدة الشيء …
فالشيء كما هو «في ذاته» مختلف عن الشروط التي يُوجَد عليها بالفعل؛ أي إن الشروط
الفعلية للشيء «تعترض» أو تقف في سبيل سعيه إلى بلوغ طبيعته الحقة … هذا الاعتراض هو
الذي يشير إليه هِيجِل بأنه هو التقابل بين
التعيُّن
Bestimmung، الذي يصبح له الآن معنى «الطبيعة الحقة» للشيء، وبين
الوضع القائم
Beschaffenheit الذي يدُل على الحالة
الفعلية أو الوضع الفعلي للشيء. فتعيُّن الشيء يشمل إمكاناته الباطنة «في مقابل الأوضاع
الخارجية التي لم تُدمَج بعدُ في الشيء ذاته.»
٢٨
فحين نتحدث مثلًا عن تعيُّن الإنسان، ونقول إن هذا التعيُّن هو العقل، نعني أن
الأوضاع الخارجية التي يعيش فيها الإنسان لا تتفق مع ما يكونه الإنسان حقًّا، وأن حالة
وجوده ليست عقلية، وأن الإنسان تقع على عاتقه مهمة جعلها كذلك … وإلى أن تتحقق هذه
المهمة بنجاح، فإن الإنسان يُوجَد بوصفه موجودًا لآخر، لا موجودًا لذاته؛ فوضعه القائم
يناقض تعيُّنه … ووجود هذا التناقض يجعل الإنسان قلقًا غير مستقل، فيناضل من أجل التغلب
على حالته الخارجية المعطاة … وهكذا تكون للتناقض قوة «الوجوب» Sollen التي تدفعه إلى تحقيق ما لا يُوجَد بعدُ.
وكما قلنا من قبلُ، فإن العالم الموضوعي بدوره يُعامل الآن على أنه مشتركٌ في نفس
النوع من العملية … ويفسَّر تحول الشيء من وضعٍ قائم إلى آخر، بل تحوُّله إلى شيءٍ آخر،
على أنهما موجَّهان بدافع من إمكانات الشيء ذاته … فتحوُّله لا يحدث، كما بدَا لأول
وهلة، «وَفْقًا لوجوده من أجل الآخر»، بل وفقًا لذاته الخاصة
٢٩ … وفي إطار عملية التغيُّر، يُستوعب كل شرطٍ خارجي في الوجود الخاص للشيء،
ويُوضع الآخر المقابل له «في الشيء على أنه لحظةٌ خاصة له.»
٣٠ ويطرأ تعديلٌ آخر على تصوُّر السلب في العرض الذي يقدِّمه هِيجِل في هذا
الموضع. فقد رأينا أن الحالات المتعدِّدة للشيء قد فُسِّرَت من قبلُ على أنها «سُلوب»
متعدِّدة لوجوده الحق … أمَّا الآن، فنظر إلى أن الشيء يتصوَّر على أنه نوع من الذات
التي تعيِّن ذاتها عن طريق علاقاتها بالأشياء الأخرى، فإن صفاتها أو أوضاعها القائمة
تُعَدُّ حواجزَ أو حدودًا
Grenzen ينبغي أن تجتازها
إمكاناته … وليست عملية الوجود إلا التناقض بين الأوضاع القائمة وبين الإمكانات، ومن
هنا فإن وجود الشيء، وكونه متعينًا، هما شيءٌ واحد … «إن الشيء لا يكون له وجوده
المتعين إلا في الحد»
٣١ و«الحدود هي مبدأ ما تحدُّه هذه الحدود».
ويلخِّص هِيجِل نتيجة هذا التفسير الجديد بقوله إن وجود الأشياء هو «عدم استقرار
الشيء في حده … فالحد يكمُن فيه التناقض الذي يدفع الشيء إلى ما وراء ذاته.»
٣٢ وهنا نصل إلى تصوُّر التناهي عند هِيجِل … فالوجود صيرورةٌ مستمرة … وكل
حالة من حالات الوجود ينبغي تجاوزها، فهي شيءٌ سلبي، تتخلى عنه الأشياء، مدفوعةً
بإمكاناتها الباطنة، في سبيل حالةٍ أخرى، تتكشَّف بدورها على أنها سلبية، وعلى أنها حد.
«حين نقول عن الأشياء إنها متناهية، نعني بذلك … أن اللاوجود يشكِّل طبيعتها
ووجودها … إن الأشياء المتناهية موجودة، ولكن علاقتها بذاتها هي أنها ترتبط
بذاتها بوصفها شيئًا سالبًا، وفي هذه العلاقة بذاتها تدفع بذاتها إلى ما وراء
ذاتها ووجودها … إنها موجودة، ولكن حقيقة هذا الوجود هي نهايتها؛ فالمتناهي لا
يتغير فحسب … بل هو يفنى، وفناؤه ليس عارضًا فحسب؛ بحيث يمكِن أن يكون دون
فَناء، بل الأصح أن نفس وجود الأشياء المتناهية هو كونها تحتوي على بذور
الفَناء بوصفه وجودها الخاص في
ذاتها
Insichsein، وساعة ميلادها هي ساعة موتها.»
٣٣
هذه الأقوال تعبيرٌ تمهيدي عن الفقرات الحاسمة التي أحدث بها ماركس فيما بعدُ ثورة
في
الفكر الغربي … ذلك لأن تصوُّر هِيجِل للتناهي قد حرَّر النظرات الفلسفية إلى الواقع
من
المؤثِّرات الدينية واللاهوتية القوية التي كانت لها فاعليتُها حتى على أشكال التفكير
الدنيوية في القرنِ الثامنَ عشَر … وكان التفسير المثالي للواقع، الشائع في ذلك الحين،
لا يزال يأخذ بالرأي القائل إن العالم مُتناهٍ لأنه عالمٌ مخلوق، وإن سلبيته تشير إلى
تغَلغُل الخطيئة فيه … وعلى ذلك فإن الصراع ضد هذا التفسير «للسالب» كان إلى حدٍّ بعيد
صراعًا مع الدين والكنيسة … أمَّا عند هِيجِل فلم تكن السلبية أخلاقية ولا دينية، بل
كانت فلسفيةً خالصة. وقد أصبح مفهوم التناهي الذي يعبِّر عنها، على يدَيه، مبدأً
نقديًّا، يكاد يكون ماديًّا … فقد قال إن العالم مُتناهٍ، لا لأن الله خلقَه، بل لأن
التناهي هو صفتُه الكامنة … وتبعًا لذلك فإن التناهي ليس حطًّا من قَدْر الواقع، يقتضي
نقل حقيقته إلى «عالَمٍ آخر» ممجَّد. بل إن الأشياء تكون متناهية بقَدْر ما تكون
موجودة، وتناهيها هو عالَم حقيقتها. وهي لا تستطيع أن تنسى إمكاناتها إلا
بالفَناء.
ولقد عبَّر ماركس فيما بعدُ عن القانون التاريخي القائل إن النظام الاجتماعي لا
يستطيع أن يطلق قواه الإنتاجية من عقالها إلا بأن يفنى وينتقل إلى شكلٍ آخر للتنظيم
الاجتماعي. والواقع أن هِيجِل قد رأى هذا القانون التاريخي ساريًا على الوجود كله.
«فأعلى نضوج، أو أعلى مرحلة، يمكِن أن يبلغها أي شيء، هي تلك التي فيها يبدأ في الفَناء.»
٣٤ وواضحٌ تمامًا من المناقشة السابقة أنه عندما تحوَّل هِيجِل من تصوُّر
المتناهي إلى تصور اللامتناهي، كان من المستحيل أن يكون ما قصد إليه هو ذلك اللامتناهي
الذي يلغي نتائج تحليله السابق؛ أي إن من المستحيل أن يكون قد قصد لامتناهيًا بمعزل عن
المتناهي أو متجاوزًا له … بل الأصح أن تصوُّر اللامتناهي كان لا بد أن ينتج عن تفسيرٍ
أدق للمتناهي.
والواقع أننا نجد أن تحليل الأشياء الموضوعية قد انتقل بنا، بالفعل، من المتناهي
إلى
اللامتناهي … ذلك لأن العملية التي يفنى فيها شيءٌ مُتناهٍ ويصبح بفنائه شيئًا متناهيًا
آخر يكرِّر نفس هذه العملية، هي ذاتها عمليةٌ تسير إلا ما لا نهاية، ليس فقط بالمعنى
السطحي القائل إن السلسلة لا يمكن أن تنقطع … فعندما يفنى شيءٌ مُتناهٍ في شيءٍ آخر،
يكون قد غيَّر ذاته، بقَدْر ما يكون الفَناء هو طريقته الخاصة في استجماع إمكاناته
الحقيقية … وهكذا فإن الفَناء المستمر للأشياء هو، بنفس المقدار، سلبٌ مستمر لتناهيها،
فهو اللامتناهي … «إن المتناهي في فَنائه، وفي نفيه هذا لذاته، يبلغ وجودَه في ذاته
Ansichsein؛ ومِن ثَمَّ يكون قد وصل إلى ذاته
الحقة … وهكذا فإنه لا يتجاوز ذاته إلا لكي يهتَديَ إليها مرةً أخرى … هذه الهُوية
الذاتية، أو نفي النفي، هي الوجود الإيجابي، وهي الآخر بالنسبة إلى التناهي … أي هي اللامتناهي.»
٣٥
وإذن فاللامتناهي هو بعينه الدينامية الباطنة للمتناهي، المتضمَّنة في معناه الحقيقي.
وهو لا يعدو أن يكون حقيقة أن المتناهي «لا يُوجَد إلا بوصفه تجاوزًا» لذاته.
٣٦
ويبيِّن هِيجِل، في ملحقٍ أضافَه إلى هذا العرض، أن تصوُّر التناهي يقدِّم المبدأ
الأساسي للمثالية … فإن كان وجود الأشياء ينحصر في تحوُّلها، لا في الحالة التي تُوجَد
عليها، فإن حالاتها الكثيرة، أيًّا كانت صورتها ومضمونها، ليست إلا لحظات لعمليةٍ
شاملة، ولا تُوجَد إلا في الإطار الكلي لهذه العملية … وعلى ذلك فهي ذات طبيعة
«مثالية»، وتفسيرها الفلسفي ينبغي أن يكون هو المثالية.
٣٧ «إن القضية القائلة إن المتناهي له طبيعةٌ مثالية هي قوام المثالية.
فالمثالية في الفلسفة لا تعدو أن تكون الاعتراف بأن المتناهي ليس له وجودٌ حقيقي … وكل
فلسفة هي في أساسها مثالية، أو على الأقل تتخذ من المثالية مبدأ …»
٣٨ ذلك لأن الفلسفة تبدأ عندما يضع المرء حقيقة الحالة المعطاة للأشياء موضع
التساؤل، ويعترف بأن هذه الحالة ليست لها حقيقةٌ نهائية في ذاتها … والقول إن «المتناهي
ليس له وجودٌ حقيقي» لا يعني أن الوجود الحقيقي ينبغي أن يُلتمس في عالمٍ آخر أو في
أعمقِ أغوار النفس الإنسانية … فهِيجِل يرفض مثل هذا الهروب من الواقع بوصفه «مثالية
رديئة». أمَّا فكرته المثالية فتنطوي على القول بأن الأشكال الجارية للفكر، نظرًا إلى
كونها تقف عند حد الصور المعطاة للأشياء، ينبغي أن تتغيَّر إلى أشكالٍ أخرى حتى يتم
بلوغ الحقيقة … ويدرج هِيجِل هذا الموقف، الذي هو نقدي في أساسه، ضمن تصوُّر الوجوب …
فالوجوب (أو ما ينبغي أن يكون) لا ينتمي إلى مجال الأخلاق أو الدين، بل إلى مجال العمل
الفعلي … والعقل والقانون يكمُنان في التناهي، ومن الواجب، بل من الضروري، تحقيقُهما
على هذه الأرض … «إن العقل والقانون، في واقع الأمر، ليسا في موقفٍ مؤسف من شأنه أن
يكون وجودهما «واجبًا» فحسب … كما أن الوجوب في ذاته ليس دائمًا، والتناهي ليس مطلَقًا
(وهو ما يعادل نفس الشيء).»
٣٩ إن نفي التناهي هو في الوقت ذاته نفي للعالم الآخر اللامتناهي، وهو ينطوي
على مطلب ضرورة تحقُّق «الوجوب» في هذا العالم.
ومن هنا فإن هِيجِل يضع تصوُّره للامتناهي في مقابل التصور اللاهوتي له؛ فليس ثمَّة
حقيقةٌ مغايرة للمتناهي، أو تعلو عليه. وإذا شاءت الأشياء المتناهية أن تجدَ وجودها
الحقيقي، فلا بد لها أن تجدَه من خلال وجودها المتناهي، ومن خلاله وحده؛ ومِن ثَمَّ فإن
هِيجِل يصف تصوُّره هذا للامتناهي بأنه هو ذاته «سلب» (أو نفي) هذا «الماوراء الذي هو
في ذاته سلبي» … فاللامتناهي عنده ليس إلا «الآخر» الذي يتسم به المتناهي، ومن هنا كان
متوقفًا على المتناهي، وهو في ذاته لا مُتناهٍ مُتناهٍ، فليس ثمة عالمان، المتناهي
واللامتناهي، بل هناك عالمٌ واحد فقط، تصل فيه الأشياء المتناهية إلى استقلالها الذاتي
بالفَناء … ولا نهائيتها موجودة في هذا العالم، لا في أي موضعٍ آخر.
إن المتناهي، منظورًا إليه على أنه عملية التحول «اللامتناهية»، إنما هو عالمية الوجود
لذاته
Fürsichsein … ونحن نقول إن الشيء يُوجَد
لذاته عندما يمكِنه أن يستوعب كل أحواله الخارجية ويدمجها في وجوده الخاص … وهو يكون
«لذاته» إذا كان قد «تجاوز الحاجز وآخريته على نحوٍ من شأنه أن يكون، بسلبه ذاته على
هذا النحو، عودًا لانهائيًّا إلى ذاته.»
٤٠ والوجود لذاته ليس حالة، بل هو عملية أو مسار؛ لأن كل وضعٍ خارجي ينبغي أن
يتحول باستمرار إلى مرحلة تحقُّقٍ ذاتي، وكل وضعٍ خارجي جديد ينشأ، لا بد أن يُعامل على
هذا النحو … ويقول هِيجِل إن الوعي الذاتي هو «أقرب مثل لحضور اللانهائية.» ومن جهةٍ
أخرى فإن «الأشياء الطبيعية لا تصل أبدًا إلى وجودٍ حرٍّ لذاته»، فهي تظل وجودًا لآخر.
٤١
هذا الفارق الأساسي بين طريقة وجود الموضوع وطريقة وجود الكائن الواعي يؤدِّي إلى
قَصْر لفظ «المتناهي» على الأشياء التي لا تُوجَد لذاتها، وليست لديها بالتالي القدرة
على تحقيق إمكاناتها بواسطة أفعالها الخاصة الحرة الواعية … ونظرًا إلى افتقارها إلى
الحرية والوعي، فإن كيفياتها المتعدِّدة تكون عندها «سواء»،
٤٢ وتكون وحدتها وحدةً كمية لا كيفية.
٤٣
ولن نناقش هنا مقولة الكم، بل سوف نعرض مباشرةً للانتقال من الوجود إلى الماهية،
الذي
يختتم به الكتاب الأوَّل من «علم المنطق» … فتحليل الكَم يكشف لنا أن الكم ليس خارجيًّا
بالنسبة إلى طبيعة الشيء، بل إنه هو ذاته كيف؛ أي قدر
measure. ويعبِّر هِيجِل عن الطابع الكيفي للكَم بقانونه المشهور القائل
إن الكَم يتحوَّل إلى كيف … فقد يتغيَّر شيءٌ ما في الكَم دون أن يطرأ أدنى تغيُّر عليه
في الكيف؛ بحيث تظل طبيعتُه أو خواصُّه على ما هي عليه، على حين أنه يزيد أو ينقص في
اتجاهٍ معيَّن … ولكل شيء «نطاقٌ معيَّن يظل فيه غير مكترث بهذا التغيُّر …»
٤٤ ومع ذلك فإنه تأتي نقطة تتبدل فيها طبيعة الشيء من مجرد تغييرٍ كمي.
والواقع أن الأمثلة المشهورة لكوم الحبوب الذي لا يعود كومًا لو أُزيحت منه حبة بعد
حبة، أو للماء الذي يصبح ثلجًا عندما يصل النقصان التدريجي للحرارة إلى نقطةٍ معينة،
أو
للأمة التي تتحلل وتتفكَّك فجأة خلال توسُّعها — كل هذه الأمثلة لا تعبِّر عن المعنى
الكامل لفكرة هِيجِل … بل إن من الواجب أيضًا أن ندرك أنه كان يستهدف بها معارضة الرأي
العادي القائل أن عملية «الظهور والاختفاء» هي عمليةٌ تدريجية، وكذلك الرأي القائل إن
«الطبيعة لا تعرف الطفرات
natura non facit saltum».
٤٥
إن أي شكلٍ مُعطًى، من أشكال الوجود، لا يمكِن أن يكشف عن مضمونه إلا إذا فَنِي …
ولا
بد أن يكون الجديد هو السلب الفعلي للقديم، لا مجرد تصحيح أو مراجعة له … صحيحٌ أن
الحقيقة لا تهبط كاملةً من السماء، وأن الجديد لا بد أن يكون قد وُجد على نحوٍ ما في
قلب القديم … ولكنه لم يكن يُوجَد فيه إلا بوصفه إمكانًا، وكان الشكل السائد للوجود
يحول دون تحقُّقه فعليًّا … فلا بد إذن من الخروج عن نطاق هذا الشكل السائد. «إن
تغيُّرات الوجود» هي «عملية تحوُّل إلى آخر، تكسر نطاق التدرُّج، وتكون مختلفة كيفيًّا
بالقياس إلى حالة الوجود السابقة.»
٤٦ فليس في العالم تقدُّم مطَّرد، بل إن ظهور كل وضعٍ جديد ينطوي على قفزة،
ومولد الجديد هو موت القديم.
لقد استهلَّ كتاب «علم المنطق» بالسؤال: ما الوجود؟ وأثار هذا السؤال مسألة البحث
عن
المقولات التي يمكِنها أن تعيننا على إدراك ما هو واقعيٌّ بحق … وخلال هذا التحليل،
انحلَّ ثبات الوجود في عملية الصيرورة، وتبيَّن أن الوحدة الثابتة للأشياء هي «وحدةٌ
سلبية»، لم يكُن من الممكِن أن تُعرف من أوجهها الكمية أو الكيفية، بل كانت تنطوي على
سلب كل التعيُّنات الكيفية والكمية؛ فقد تبيَّن أن كل خاصيةٍ متعينة تناقض ما تكونه
الأشياء «لذاتها». وأيًّا كانت الوحدة الباقية للوجود «لذاته»، فإنَّا نعرف أنها ليست
كيانًا كيفيًّا أو كميًّا يُوجَد في أي موضعٍ من العالم، وإنما هي على الأصح سلبٌ لكل
التعيُّنات … ومِن ثَمَّ فإن طابعها الأساسي هو السلبية … ويُطلق عليها هِيجِل أيضًا
اسم «التناقض الكلي»، الذي يُوجَد «عن طريق سلب كل تعيُّن قائم.»
٤٧ إنها «سلبيةٌ مطلَقة» أو «كليةٌ سلبية».
٤٨ ويبدو أن هذه الوحدة إنما تكون وحدة بفضل عملية تنفي فيها الأشياء كل
خارجيةٍ وآخريةٍ بحتة، وتربط هذه الأخيرة بذاتٍ دينامية. والشيء لا يكون في ذاته إلا
عندما يكون قد وضع
gesetzt كل تعيُّناته وجعل منها
لحظاتٍ في تحقيقه لذاته، وبذلك يكون على الدوام، وفي كل الأحوال المتغيِّرة، «عائدًا
إلى ذاته».
٤٩ ويطلق هِيجِل على هذه الوحدة السلبية وعملية الدخول في علاقة مع الذات، اسم
ماهية الأشياء.
إن السؤال: ما الوجود؟ يُجاب عنه بالقول إن «حقيقة الوجود هي الماهية.»
٥٠ وكل ما علينا، لكي نعرف ما هي الماهية، أن نجمع نتائج التحليل السابق:
-
(١)
فالماهية «ليس لها وجود متعين.»
٥١ ولا بد من رفض كل الآراء التقليدية المتعلقة بعالمٍ من الأفكار
أو الجواهر … ذلك لأن الماهية ليست شيئًا في العالم ولا شيئًا فوق العالم،
بل هي سلب كل وجود.
-
(٢)
هذا السلب لكل وجود ليس عدمًا، بل هو «الحركة اللانهائية للوجود» من وراء
كل حالةٍ متعينة.
-
(٣)
هذه الحركة ليست عمليةً خارجية عارضة، وإنما هي عمليةٌ تتماسك بقوة
العلاقة مع الذات self-relation. وهي
العلاقة التي تضُم بها الذات تعيُّناتها على أنها لحظاتٌ في تحقُّقها
الذاتي.
-
(٤)
هذه القوة تفترض مقدمًا
وجودًا محدَّدًا في ذاته a definite-being-in-self أي قدرة على معرفة الحالات
المتعينة والتفكير فيها … فمسار الماهية هو مسار التفكير.
-
(٥)
والذات التي تتكشَّف الماهية عليها ليست خارج هذا المسار أو العملية، كما
أنها ليست هي الجوهر الثابت القائم من ورائه، بل إنها هي هذه العملية
ذاتها، وكل صفاتها دينامية. ووحدتها هي المجموع الكلي لحركة يصفها هِيجِل
في «نظرية الماهية» بأنها حركة التفكير.
ومما له أهمية قصوى أن نعرف أن التفكير
reflection
عند هِيجِل، شأنه شأن كل صفات الماهية، يدل على حركةٍ موضوعية وذاتية معًا؛ فالتفكير
ليس قبل كل شيء عملية إعمال الفكر، بل هو عملية الوجود ذاته.
٥٢ وبالمثل فإن الانتقال من الوجود إلى الماهية ليس في أساسه عملية معرفةٍ
فلسفية، بل هو عمليةٌ من عمليات الواقع … طبيعة الوجود ذاتها هي التي تجعله يُداخِل
internalize ذاته، وحين يدخل الوجود «في ذاته على هذا
النحو، يصبح ماهية» … وهذا يعني أن الوجود الموضوعي؛ إذا ما أصبح متضمنًا في صورته
الحقيقية، ينبغي أن يُفهم على أنه وجودٌ ذاتي، وهو بالفعل كذلك … فالذات تظهر الآن على
أنها جوهر الوجود، أو أن الوجود ينتمي إلى حالة ذاتٍ واعية بدرجاتٍ متفاوتة، تستطيع أن
تواجه حالاتها المتعينة وتضمَّها في ذاتها، وبذلك تكون لديها القدرة على التفكير فيها
وتشكيل ذاتها. والواقع أن مقولات الماهية تنتظم عالم الوجود بأَسْره، الذي يتبدَّى الآن
في صورته الحقَّة المفهومة … وهنا تعود مقولات «نظرية الوجود» إلى الظهور، ويُتصور
الوجود المتعين الآن على أنه وجودٌ فعلي
existence ثم
فيما بعدُ على أنه تحقُّق فعلي، كما يتصور اﻟ «شيء ما
the
something» على أنه شيء، ثم فيما
بعدُ على أنه جوهر، وهكذا دوالَيك.
إن التفكير هو العملية التي يقوم فيها موجودٌ فعلي بعملية تكوين نفسه بوصفه وحدة ذات
… وللتفكير وحدةٌ أساسيةٌ مضادة لتلك الوحدة السلبية المتغيِّرة التي يتسم بها اﻟ «شيء
ما»، فهو ليس وجودًا متعينًا بل هو وجودٌ معيَّن … وكل تعيين هنا «يُوضع بواسطة الماهية
ذاتها» ويكمن من وراء قدرتها المعيَّنة.
فإذا اختبرنا ما ينسبه هِيجِل إلى عملية الماهية، وما يناقشه تحت باب «تحديدات (أو
تعيُّنات) التفكير»، لوجدنا قوانين الفكر التقليدية النهائية، وهي قوانين الهُوية،
والتنوُّع، والتناقض … ويضيف هِيجِل، تحت عنوانٍ مستقل، قانون الأساس
ground. ولقد كان المعنى الأصلي لهذه القوانين ومضمونها
الموضوعي الفعلي كشفًا استحدثه المنطق الهِيجِلي … أمَّا المنطق الصوري فلا يستطيع حتى
الاقتراب من معناها؛ إذ إن الفصل بين موضوع الفكر أو مادته وبين صورته يهدم نفس الأساس
الذي ترتكز عليه الحقيقة … فالفكر لا يكون صحيحًا إلا بقَدْر ما يظل متمشيًا مع الحركة
العينية للأشياء ويساير تقلُّباتها المختلفة عن كثَب … وما إن ينعزل الفكر عن العملية
الموضوعية ويحاول، في سبيل بلوغ نوعٍ زائف من الدقة والاستقرار، أن يحاكي الانضباط
الرياضي، حتى يصبح مفتقرًا إلى الصدق … ولقد كانت «نظرية الماهية»، في كتاب «علم
المنطق»، هي التي قدَّمَت التصوُّرات الأساسية التي تحرِّر المنطق الجدَلي من المنهج
الرياضي … والواقع أن هِيجِل قام بنقدٍ فلسفي للمنهج الرياضي قبل أن يعرض «نظرية
الماهية» — وذلك في مناقشته للكَم … فالكَم ليس إلا سمةً خارجية إلى أبعد حدٍّ للوجود،
وهو مجالٌ يضيع فيه المضمون الحقيقي للأشياء. والعلوم الرياضية التي تتعامل مع الكَم،
تتعامل مع صورة بلا مضمون، يمكِن قياسُها وعدُّها والتعبيرُ عنها بأية أعداد ورموز …
ولكن مسار الواقع الفعلي لا يمكِن أن يُعامل على هذا النحو … فهو يتحدَّى التثبيت
والصبغ بالصبغة الشكلية؛ لأنه هو ذاته نفيٌ لكل شكلٍ ثابت … إن الوقائع والعلاقات التي
تظهر في هذا المسار تغيِّر طبيعتها في كل مرحلة من مراحل تطوُّرها … وإن معرفتنا لتصبح
في محنةٍ أليمة حقًّا لو أن موضوعاتٍ كالحرية والقانون والأخلاق، بل والله ذاته، عُدَّت
موضوعاتٍ تعجز المعرفة الدقيقة عن بلوغها، نظرًا إلى أنها لا يمكِن أن تُقاس أو تُحصى
أو يُعبَّر عنها بصيغةٍ رياضية، ولو كان علينا أن نكتفي بصورةٍ عامةٍ غامضة عنها
٥٣ … ولما كانت معرفة أمثال هذه المعاني هدفًا لا يقتصر السعي إليه على
الفلسفة وحدها، بل يسعى إليه أيضًا كل فرعٍ أصيل من فروع البحث، فإن إرجاع العلم إلى
الرياضة يعني استسلام الحقيقة نهائيًّا.
«عندما تُستخدم المقولات الرياضية لتحديد شيء له علاقة بمنهج العلم الفلسفي أو
مضمونه، فإن أول ما يثبت بطلان مثل هذا الإجراء، أن الصِّيَغ الرياضية، بقَدْر ما تعني
أفكارًا وتمييزاتٍ تصوُّرية، فإن معناها هذا ينبغي أن ينبغ أوَّلًا من الفلسفة ويتحدَّد
فيها ويبرِّر ذاته بواسطتها … ولا بد للفلسفة، في علومها العينية، أن تستمد العنصر
المنطقي من المنطق، لا من الرياضة، أمَّا إذا التجأَت الفلسفة إلى تلك الأشكال التي
يتخذها المنطق في علومٍ أخرى، والتي يُعَد الكثير منها مجردَ بوادرَ غامضةٍ لها، ويُعَد
غيرها صوَرًا مشوَّهةً لها، لكي تستخلص منها منطقًا فلسفيًّا، فلا بد أن يكون ذلك
ملاذًا للعاجز في ميدان الفلسفة … وإن مجرد استخدام أمثال هذه الأشكال المستعارة إنما
هو، في أية حال من الحالات، إخراجٌ خارجيٌّ سطحي، ولا بد أن تسبق استخدامها معرفةٌ
بقيمتها ومعناها، غير أن هذه المعرفة لا تنتج إلا من التأمُّل الفكري، لا من السلطة
التي تُضفيها عليها الرياضيات.»
٥٤
وتحاول «نظرية الماهية» تحرير المعرفة من عبادة «الوقائع الملاحظة» ومن فلسفة الموقف
الطبيعي، التي تفرض هذه العبادة … والواقع أن الشكلية الرياضية تتخلى عن أي فهمٍ نقدي
للوقائع، وتحول دون أي استخدامٍ نقدي لها … وقد اعترف هِيجِل بوجود ارتباطٍ باطن بين
المنطق الرياضي وبين القَبول الشامل للوقائع، وكان في ذلك يستبق أكثر من مائة عام من
تطوُّر المذهب الوضعي. على أن الميدان الحقيقي للمعرفة ليس الواقع المُعطى عن الأشياء
كما هي، بل هو تقويمها النقدي من حيث هو تمهيدٌ لتجاوز صورتها المعطاة؛ فالمعرفة تتعامل
مع المظاهر لكي تتجاوزها. «إن كل شيء، على ما يُقال، له ماهية؛ أي إن الأشياء ليست في
الواقع على ما تتبدَّى عليه مباشرة؛ ومِن ثَمَّ فإن مهمتنا لا يمكِن أن تقتصر على مجرد
التنقُّل من كيفية إلى أخرى، ومجرد التقدُّم من الكَيفي إلى الكَمي، وبالعكس، بل إن في
الأشياء عنصرًا دائمًا، وهذا الدائم هو، أوَّلًا وقبل كل شيء، ماهيَّتها.»
٥٥ وبداية الحقيقة هي معرفة أن المظهر والماهية لا يتفقان … وعلامة التفكير
الجدَلي هي القدرة على تمييز المسار الأساسي من المسار الظاهري للواقع، وعلى إدراك
العلاقة بينهما … ولما كانت قوانين التفكير التي يعرضها هِيجِل بالتفصيل هي القوانين
الأساسية للجدَل، فسوف ننتقل الآن إلى تقديم عرضٍ موجَز لهذه القوانين.
إن الماهية تدل على وحدة الموجود، وهُويته طَوال تغيُّره، ولكن ما هي هذه الوحدة
أو
الهُوية بالضبط؟ إنها ليست جوهرًا أساسيًّا دائمًا ثابتًا، بل هي مسار أو عملية يتعامل
فيها كل شيء مع متناقضاته الكامنة ويكشف عن ذاته نتيجةً لذلك. ولو نظرنا إلى الهُوية
على هذا النحو، لوجدنا أنها تتضمَّن عكسها، وهو الاختلاف، وتنطوي على تمايزٍ ذاتي، وعلى
توحيدٍ مترتِّب عليه؛ فكل وجودٍ فعلي ينحدر بذاته إلى السلبية، ولا يظل على ما هو عليه
إلا بسلب هذه السلبية. وهو ينشطر إلى حالاتٍ متنوِّعة وعلاقاتٍ متباينة بالأشياء
الأخرى، التي هي أصلًا غريبة عنه، وإن كانت تصبح جزءًا من ذاته الحقَّة عندما تدخُل تحت
تأثير ماهيته الفعَّال. وهكذا فإن الهُوية هي نفسها الكلية السلبية
negative totality «التي تبين أنها هي ذاتها
بناء الواقع، فهي معادلةٌ للماهية.»
٥٦
إن الماهية، منظورًا إليها على هذا النحو، تصف المسار الفعلي للواقع … «وتأمُّل كل
شيءٍ موجود، يبيِّن، في ذاته، أن الشيء في هُويته الذاتية مناقض لذاته، ومخالف لذاته،
وأنه في تنوُّعه أو تناقضه، في هُوية مع ذاته، فهو في ذاته نفس حركة الانتقال هذه من
واحدٍ من هذه التعيينات إلى الآخر، لا لشيء إلا لأن كلًّا منها هو في ذاته عكس ذاته.»
٥٧
وينطوي موقف هِيجِل على انقلابٍ شامل لقوانين الفكر التقليدية ولنوع التفكير المستمد
منها … فنحن لا نستطيع التعبير عن هُوية الأشياء هذه في قضية تميز بين جوهرٍ ثابت دائم
وصفاته من جهة، وبين ضده أو عكسه من جهةٍ أخرى … بل إن التنوُّع والامتداد هما في نظر
هِيجِل جزء من هُوية الشيء الأساسية، وعلى الفكر، لكي يدرك الهوية، أن يُعيد تكوين
العملية التي يصبح بها الفكر عكس ذاته، ثم ينفي عكسه ويدمجه في كيانه الخاص.
ويعود هِيجِل مرارًا وتكرارًا إلى تأكيد أهمية هذه الفكرة … فالأشياء جميعًا، بفضل
السلبية الكامنة فيها، تصبح مناقِضةً لذاتها، ومضادَّةً لنفسها، ويكون قوام وجودها هو
تلك «القوة التي تستطيع أن تحتوي التناقض وتتحمله».
٥٨ «كل الأشياء متناقضة في ذاتها» — هذه الجملة، التي تختلف اختلافًا قاطعًا
عن القوانين التقليدية للهُوية والتناقض، تعبِّر في نظر هِيجِل عن «حقيقة الأشياء وماهيتها.»
٥٩ «فالتناقض أساس كل حركة وحياة»، وكل واقع مناقض لذاته … والحركة بوجه خاص،
سواء منها الحركة الخارجية والحركة الذاتية، ليست سوى «تناقض موجود».
٦٠
والواقع أن تحليل هِيجِل لتعيُّنات التفكير يمثِّل النقطة التي يتبيَّن فيها أن
التفكير الجدَلي يمزِّق إطار الفلسفة المثالية التي تستخدمه … فنحن نلاحظ حتى الآن أن
الجدَل قد انتهى إلى النتيجة القائلة إن الواقع ذو طابعٍ متناقض، وإنه «كلية سلبية».
وقد بدَا الجدَل في نظرنا، بالقَدْر الذي تعمَّقنا فيه منطق هِيجِل، قانونًا
أنطولوجيًّا شاملًا، يؤكد أن كل وجودٍ فعلي يسير في طريقه بالتحوُّل إلى ضده، ويصل إلى
هُوية وجوده بعد أن يمُر بضدِّه … غير أن دراسة القانون بمزيد من الدقة تكشف عن
مضموناتٍ تاريخية تظهر فيها دوافعه التي كانت نقدية في أساسها … فإذا كانت ماهية
الأشياء نتيجة لمثل هذه العملية، فإن الماهية ذاتها نتيجة تطورٍ عيني؛ أي إنها «شيء
تسري عليه الصيرورة
ein Gewordenes».
٦١ ويؤدي تأثير هذا التفسير التاريخي إلى زعزعة دعائم المثالية.
ومن الجائز جِدًّا أن المتناقضات التي ازدادت وضوحًا في المجتمع الحديث قد دفعَت
الفلسفة إلى المناداة بأن التناقض هو «الأساس القاطع لكل نشاطٍ وحركةٍ ذاتية». مثل هذا
التفسير تؤيده كلَّ التأييد معالجةُ هِيجِل للعلاقات الاجتماعية الحاسمة في مذهبه
الأوَّل … (مثال ذلك تحليله لعملية العمل، ووصف التعارض بين المصلحة الخاصة والعامة،
والتوتُّر بين الدولة والمجتمع)؛ ففي ذلك المذهب، كان الاعتراف بالطابع المتناقض للواقع
الاجتماعي أسبق من وضع النظرية العامة للجدَل.
وعلى أية حال، فإننا عندما نطبق بالفعل تعيُّنات (أو تحديدات) الفكر على الوقائع
التاريخية، نجد أنفسنا مدفوعين بصورة تكاد تكون ضرورية إلى الأخذ بالنظرية النقدية التي
وضعَتْها المادية التاريخية … إذ ما الذي تعنيه وحدة الهُوية والتناقُض في سياق الأشكال
والقوى الاجتماعية؟ إنها تعني، في صيغتها الأنطولوجية، أن حالة السلبية ليست تشويهًا
لماهية الشيء الحقيقية، بل هي ماهيَّته ذاتها. وهي، في صيغتها الاجتماعية التاريخية،
تعني أن الأزمة والانهيار ليسا، في العادة، عوارضَ أو اضطراباتٍ خارجية، بل هما
يعبِّران عن طبيعة الأشياء ذاتها، ومن هنا فإنهما يقدِّمان الأساس الذي يمكِن أن تُفهم
عليه ماهية النظام الاجتماعي السائد … وهي تعني فضلًا عن ذلك أن الإمكانات الكامنة
للناس والأشياء لا يمكِن أن تتكشَّف في التاريخ إلا بموت النظام الاجتماعي الذي ظهرَت
بوادرها فيها أول مرة … إن هِيجِل يقول إن الشيء عندما يتحوَّل إلى ضده، وعندما يناقِض
ذاته، يعبِّر عن ماهيته. وماركس يقول إنه عندما تؤدي الفكرة الجارية وطريقة الممارسة
الراهنة للعدالة والمساواة إلى الظلم واللامساواة، وعندما يؤدِّي التبادل الحر بين
أشخاصٍ متكافئين إلى استغلالٍ من جانب، وإلى تراكُم الثروة من جانبٍ آخر، فإن أمثال هذه
المتناقضات، بدورها، تنتمي إلى ماهية العلاقات الاجتماعية الراهنة؛ فالتناقض هو
المحرِّك الفعلي للعملية والمسار.
وهكذا فإن نظرية الماهية تضع القوانين العامة للفكرة بوصفها قوانين للهدم — أعني
الهدم في سبيل الحقيقة … وفيها يتحدَّد مركز الفكر بوصفه المحكمة التي تناقض الأشكال
الظاهرية للواقع في سبيل مضمونها الصحيح … فالماهية؛ أي «حقيقة الوجود»، تُحفظ في
الفكر، الذي هو بدوره تناقُض.
على أن هِيجِل يرى أن التناقض ليس هو الغاية … فالماهية، التي هي مقَر التناقض، ينبغي
أن تفنى، و«لا بد للتناقض أن ينحلَّ.»
٦٢ وهو ينحلُّ بقَدْر ما تصبح الماهية أساسًا للوجود الفعلي … فالماهية؛ إذ
تصبح أساس الأشياء، تنتقل إلى الوجود
٦٣ … وأساس الشيء، عند هِيجِل، ليس إلا ماهيَّته الكلية، كما تتجسَّد في
الأوضاع والظروف العينية للوجود الفعلي … وهكذا فإن الماهية تاريخية بقَدْر ما هي
أنطولوجية … والإمكانات الأساسية للأشياء تتحقَّق في نفس العملية الشاملة التي تؤسِّس
وجودها الفعلي … فالماهية تستطيع «بلوغ» وجودها الفعلي حين تكون إمكاناتُ الأشياء قد
نضجَت في ظروف الواقع ومن خلالها. ويصف هِيجِل هذه العملية بأنها الانتقال إلى التحقُّق
الفعلي.
وعلى حين أن التحليل السابق كان يسترشد بحقيقةٍ توجِّهه، هي الحقيقة القائلة إن
الإمكانات الفعلية للأشياء لا يمكِن أن تتحقَّق في إطار الأشكال السائدة للوجود الفعلي،
فإن تحليل التحقق الفعلي
actuality يكشف عن شكل الواقع
الذي تصل فيه هذه الإمكانات إلى الوجود الفعلي … وهنا لا تظل التحديات الأساسية خارج
الأشياء، على هيئة شيء ينبغي أن يكون ولكنه ليس كائنًا، بل هي تتجسَّد الآن كاملة …
وعلى الرغم من هذا التقدُّم العام الذي ينطوي عليه تصوُّر التحقُّق الفعلي، فإن هِيجِل
يصف هذا التحقُّق بأنه عملية يتخلَّلها بأَسْرها الصراع بين الإمكان والواقع … غير أن
الصراع لا يعود تضادًّا بين قوًى موجودة وقوًى لم تُوجَد بعدُ، بل بين شكلَين متضادَّين
للواقع، يُوجَدان معًا. وتكشف الدراسة الدقيقة للتحقُّق الفعلي أنه أوَّلًا عرضية
Zufälligkeit؛ فما يكون ليس ما يكونه بالضرورة، بل
كان من الممكن أن يكون على صورةٍ أخرى. ولا يشير هِيجِل في هذا الصدد إلى نوعٍ من
الإمكان المنطقي الخاوي؛ ذلك لأن كثرة الصور الممكِنة ليست اعتباطية، بل إن هناك علاقةً
محدَّدة بين المعطَى والممكِن؛ فما يمكِن أن يُستخلص من نفس مضمون الواقع هو وحده
الممكِن. ويذكِّرنا ذلك بالتحليل الذي أجراه هِيجِل من قبلُ في صدد تصوُّر الواقع
reality؛ فالواقع يتبدَّى على صورةٍ تنطوي على تضادٍّ،
وينشطر إلى وجوده ووجوبه
ought. والواقعي ينطوي على
سلب ما يكونه مباشرة، بحيث يكون هذا السلب هو طبيعته الباطنة، وبذلك فإنه «ينطوي على
… الإمكان.»
٦٤ وما الصورة التي يُوجَد عليها الواقع مباشرةً إلا مرحلةٌ يكشف فيها عن
مضمونه، أي إن الواقع المعطى «معادل للإمكان.»
٦٥
وهكذا تحوَّل تصوُّر الواقع إلى تصوُّر الإمكان … فالواقعي ليس «متحققًا» بعدُ، بل
هو
في البداية مجرد إمكانٍ لمتحققٍ فعلي … والإمكان البحت ينتمي إلى صميم طبيعة الواقع،
فهو لا يُفرض عليه بفعلٍ تأمُّلي نظري تعسُّفي. والممكن والواقعي تربطهما علاقةٌ جدَلية
تقتضي شرطًا خاصًّا لكي تصبح سارية، ولا بد أن يكون هذا شرطًا حقيقيًّا بالفعل … مثال
ذلك أنه إذا كانت العلاقاتُ القائمة في نظامٍ اجتماعي معيَّن مفتقرةً إلى العدالة
والإنسانية، فلا يمكن أن تعوِّضها إمكاناتٌ أخرى قابلة للتحقُّق ما لم يتضح أن هذه
الإمكانات الأخرى تتغلغل جذورها في هذا النظام ذاته … فلا بد إذن أن تكون موجودة فيه،
مثلًا، على شكل تراكُمٍ واضح للقوى الإنتاجية، ونُمو لحاجات الناس ورغباتهم المادية،
وتقدُّم في ثقافتهم، ونضجهم اجتماعيًّا وسياسيًّا، وما إلى ذلك … في هذه الحالة لا تكون
الإمكانات واقعية فحسب، بل إنها تمثِّل المضمون الحقيقي للنظام الاجتماعي في مقابل
الشكل المباشر لوجوده … وهكذا فإنها واقع أكثر واقعيةً من المعطَى ذاته … ويمكِننا أن
نقول في هذه الحالة إن «الإمكان واقع»، وإن تصوُّر الممكن قد عاد راجعًا إلى تصوُّر الواقعي.
٦٦
ولكن كيف يكون الإمكان واقعًا؟ إن الممكن لا بد أن يكون واقعيًّا بمعنًى دقيق هو
أنه
ينبغي أن يكون موجودًا … ولقد أوضحنا من قبلُ، بالفعل، طريقة وجوده؛ فهو يُوجَد بوصفه
الواقع المعطَى ذاته، منظورًا إليه بوصفه شيئًا ينبغي سلبه وتحويره. وبعبارةٍ أخرى،
فالممكن هو الواقع المعطَى منظورًا إليه على أنه «شرط» لواقعٍ آخر.
٦٧ ولا تكون أشكال الوجود الفعلي المعطاة، في مجموعها، صحيحة إلا بوصفها
شروطًا لأشكالٍ أخرى للوجود الفعلي.
٦٨ وهذا هو تصوُّر هِيجِل للإمكان الواقعي، معروضًا بوصفه اتجاهًا وقوةً
تاريخيةً عينية، على النحو الذي يحول على نحوٍ قاطع دون استخدامه مهربًا مثاليًّا من
الواقع … وفي وسعنا الآن أن نفهم المعنى الدقيق لقضية هِيجِل المشهورة، القائلة: «إن
الواقعة أو الشيء
die Sache يكون قبل أن يُوجَد فعليًّا.»
٦٩ فقبل أن تُوجَد الواقعة فعليًّا، تكون على صورة شرطٍ وسط المجموع المعقَّد
للمعطَيات القائمة … وليست الحالة القائمة إلا مجرد شرطٍ لمجموعٍ معقَّد آخر من الوقائع
التي تعمل على تحقيق الإمكانات الكامنة للمعطَى … «وعندما تصبح كل شروط الواقعة حاضرة،
تدخُل هذه الواقعة حيِّز الوجود الفعلي.»
٧٠ وفي هذا الوقت يكون الواقع المعطَى؛ أيضًا، إمكانًا حقيقيًّا للتحوُّل إلى
واقعٍ آخر … «إن الإمكان الحقيقي لشيءٍ ما هو الكثرة الموجودة فعليًّا من الظروف
المرتبطة به.»
٧١ فلنعد الآن إلى المثال الذي ضربناه من قبلُ لنظامٍ اجتماعي لم يتحقق بعدُ.
مثل هذا النظام الجديد يكون ممكنًا بحقٍّ إذا كانت شروطه حاضرة في النظام القديم؛ أي
إذا كان الشكل الاجتماعي الأسبق له بالفعل مضمونٌ يتجه نحو النظام الجديد بوصفه
تحقُّقًا له … وبذلك يُنظر إلى الظروف الموجودة في الشكل القديم، لا على أنها صحيحةٌ
مستقلة في ذاتها، بل على أنها مجرَّد شروط لوضعٍ آخر ينطوي على سلب الوضع السابق …
«وهكذا فإن الإمكان الحقيقي يؤلِّف المجموع الكلي للشروط، وهو التحقُّق الفعلي … الذي
هو الوجود في ذاته لآخر …»
٧٢ وعلى ذلك فإن تصوُّر الإمكان الحقيقي يستخلص نقده للموقف الوضعي من طبيعة
الوقائع نفسها … ذلك لأن الوقائع لا تكون وقائع إلا إذا ارتبطَت بما لم يصبح واقعةً
بعدُ، وإن كان مع ذلك يتكشَّف في الوقائع المعطاة بوصفه إمكانًا حقيقيًّا … ولنقُل
بعبارةٍ أخرى إن الوقائع لا تكون على ما هي عليه إلا بوصفها لحظاتٍ في عمليةٍ تتجه إلى
تجاوزها، وتُفضي إلى ما لم يتحقَّق واقعيًّا بالفعل.
وتتميَّز عملية «الاتجاه إلى التجاوز» هذه، بأنها اتجاهٌ موضوعي كامن في الوقائع
من
حيث هي معطاة … فهي فاعلية، لا في الفكر، بل في الواقع. وهي النشاط المميز للتحقُّق
الذاتي … ذلك لأن الواقع المعطَى يضُم الإمكانات الحقيقية بوصفها مضمونة، «وينطوي على
ازدواج في ذاته»، ويكون في ذاته «واقعًا وإمكانًا» … ويتسم مضمونه، في كليته فضلًا عن
كل وجهٍ معيَّن من أوجهه وكل علاقةٍ من علاقاته، بنقص من شأنه ألا يكون من الممكِن
تحويلُ إمكاناته إلى تحقُّقاتٍ فعلية إلا عن طريق فَنائه … «إن الأشكال المتعدِّدة
للوجود الفعلي هي ذاتها عُلو على الذات وفَناء، وبذلك تتعيَّن في ذاتها بوصفها إمكانًا
بحتًا.»
٧٣ وتؤدي عملية إفناء الأشكال القائمة وإحلال أشكالٍ جديدة محلَّها إلى إطلاق
مضمونها من عقاله، وتُتيح لها أن تكتسب حالتها المتحقِّقة فعليًّا … وعلى ذلك فإن
العملية التي يفنَى فيها نظامٌ معيَّن للواقع ويُسفِر عن نظامٍ آخر، ليست إلا الصيرورة
الذاتية للواقع القديم
٧٤ … إنها «عودة» الواقع إلى ذاته؛ أي إلى صورته الحقيقية.
٧٥
إن مضمون الواقع المعطَى يحمل بذرة تحوُّله إلى شكلٍ جديد، وتحوُّله هو «عملية
ضرورية، بمعنى أنه هو الوسيلة الوحيدة التي يصبح بها الواقع الممكِن متحقِّقًا بالفعل
…
ويؤدي التفسير الجدَلي للتحقق الفعلي إلى القضاء على التعارض التقليدي بين العرضية
والإمكان والضرورة، ويضمُّها كلها بوصفها لحظاتٍ في عمليةٍ شاملة واحدة؛ فالضرورة تفترض
مقدمًا واقعًا عارضًا؛ أي واقعًا يحمل في صورته الحاضرة إمكاناتٍ لم تتحقق. والضرورة
هي
العملية التي يبلغ فيها ذلك الواقعُ العارض صورتَه الحقة … وهذا ما يطلق عليه هِيجِل
اسم عملية التحقُّق الفعلي.
ولو لم يفهم المرء التمييز بين الواقع والتحقُّق الفعلي
reality
and actuality لأصبَحَت فلسفة هِيجِل بلا معنًى في مبادئها
الحاسمة … ولقد ذكَرنا من قبلُ أن هِيجِل لم يعلن أن الواقع معقول، وإنما احتفظ بهذه
الصفة لشكلٍ محدَّد من أشكال الواقع، هو التحقُّق الفعلي … والواقع الذي هو متحقِّق
فعلًا هو الذي يتم فيه التغلب على التعارض بين الممكِن والواقعي … ويتم بلوغه عن طريق
عملية تغيُّر، يتقدَّم فيها الواقع المعطى وَفقًا للإمكانات التي تتكشَّف فيه … ولما
كان الجديد، بالتالي، هو حقيقة القديم بعد تحرُّرها، فإن التحقُّق الفعلي هو «الوحدة
الإيجابية البسيطة» لتلك العناصر التي كانت تُوجَد من قبلُ مفتقرة إلى الوحدة داخل
القديم، إنه وحدة الممكن والواقعي، الذي «لا يعود إلا إلى ذاته»
٧٦ في عملية التحوُّل.
ولا يمكِن أن يكون أي اختلافٍ مزعوم بين مختلف أشكال المتحقِّق فعليًّا سوى اختلاف
ظاهري؛ لأن التحقُّق الفعلي يكشف عن ذاته في كل الصور، ويكون الواقع متحققًا بالفعل إذا
ظل محفوظًا وباقيًا طَوال السلب المطلَق لكل الحالات العارضة، أو بعبارةٍ أخرى إن لم
تكن مختلف صوره ومراحله سوى تكشُّفٍ واضحٍ لمضمونه الحقيقي؛ في مثل هذا الواقع يكون قد
تم تجاوز التضاد بين العرضية والضرورة. والعملية التي يسير فيها هذا الواقع ضرورية؛ لأن
الواقع يتبع القانون الكامن لطبيعته الخاصة، ويظل كما هو في كل الأحوال.
٧٧ ولكن هذه الضرورة هي في الوقت ذاته حرية؛ لأن العملية لا تتحكَّم فيها قوًى
دخيلة من الخارج، بل هي نموٌّ ذاتي بالمعنى الدقيق؛ فكل الشروط تُدرك وتُوضع
posited بواسطة الواقع النامي ذاته … وهكذا فإن
التحقُّق الفعلي هو الاسم الذي يُطلَق على الوحدة النهائية للوجود الذي لا يعود معرضًا
للتغيُّر؛ لأنه يمارس قوةً مستقلة على كل تغيُّر — فهو ليس هُوية فحسب، بل «هُوية ذاتية».
٧٨
مثل هذه الهوية الذاتية لا يمكن بلوغها إلا بتوسُّط الوعي الذاتي والمعرفة؛ ذلك لأن
الكائن الذي لديه ملَكَة معرفة إمكاناته وإمكانات عالمه، هو وحده الذي يستطيع تحويل كل
حالةٍ معطاة، من أحوال الوجود الفعلي، إلى شرطٍ لتحقُّقه الذاتي؛ فالواقع الحقيقي يفترض
الحرية مقدَّمًا، والحرية تفترض مقدَّمًا معرفة الحقيقة … وعلى ذلك فإن الواقع الحقيقي
ينبغي أن يُفهم على أنه تحقُّق ذاتٍ عارفة … وهكذا يؤدي تحليل هِيجِل للتحقُّق الفعلي
إلى فكرة الذات بوصفها ما هو متحقِّق فعليًّا بحقٍّ في كل واقع.
وبذلك نكون قد بلغنا النقطة التي يتحول فيها المنطق الموضوعي إلى منطقٍ ذاتي، أو
التي
تظهر فيها الذاتية بوصفها الشكل الحقيقي للموضوعية … ويمكِننا أن نلخِّص تحليل هِيجِل
في التعبير الموجَز الآتي:
الشكل الحقيقي للواقع يقتضي الحرية.
والحرية تقتضي الوعي الذاتي ومعرفة الحقيقة.
والوعي الذاتي ومعرفة الحقيقة هما أساسيات الذات.
وإذن فالشكل الحقيقي للواقع ينبغي أن يُنظَر إليه على أنه ذات.
•••
ولا بد لنا أن نشير إلى أن مقولة «الذات» المنطقية لا تدل على أي نوع بعينه من
الذاتية (كالإنسان)، بل تدل على بناءٍ عام قد يكون أفضل وصفٍ له هو تصوُّر «الروح»؛
فالذات تدل على كلي يصطبغ بالصبغة الفردية، وإذا شئنا أن نتصور مثلًا عينيًّا لها، ففي
وسعنا أن نشير إلى «روح» عصرٍ تاريخي، فإذا فهمنا مثل هذا العصر، وتوصَّلنا إلى مفهومه،
فإنَّا سنرى مبدأً كليًّا ينمو ويتطور، من خلال فعل الأفراد، الوعي بذاته، في كل النظم
والوقائع والعلاقات السائدة.
غير أن تصوُّر الذات ليس الخطوة الأخيرة في تحليل هِيجِل؛ فهو ينتقل الآن إلى إثبات
أن الذات «مفهوم
notion» … ولقد سبق أن بيَّن أن حرية
الذات إنما تكون في قدرتها على فهم ما هو كائن … وبعبارةٍ أخرى فإن الحرية تستمدُّ
مضمونها من معرفة الحقيقة … غير أن الصورة التي تحفظ بها الحقيقة هي «المفهوم»؛
فالحرية، في نهاية المطاف، ليست صفةً للذات المفكِّرة بما هي كذلك، وإنما صفة للحقيقة
التي تحتفظ بها تلك الذات وتستخدمها … وإذن فالحرية صفةٌ للمفهوم، والشكل الحقيقي
للواقع الذي تتحقق فيه ماهية الوجود هو المفهوم. غير أن المفهوم لا «يُوجَد» إلا في
الذات المفكِّرة … «إن المفهوم، بقَدْر ما يكون قد تقدَّم إلى وجودٍ فعليٍّ حر في ذاته،
هو بعينه الأنا، أو الوعي الذاتي الخالص.»
٧٩
ولا يمكن أن يُفهَم توحيد هِيجِل — الذي يبدو غريبًا — بين المفهوم والأنا، إلا إذا
وضعنا في اعتبارنا أنه ينظر إلى المفهوم على أنه نشاط أو
فعل الفهم
Begriff لا صورته أو نتيجته المنطقية
المجرَّدة
Begreifen. وفي هذا ما يذكِّرنا بمنطق كَانْت الترنسندنتالي، الذي
تُعامل فيه أعلى تصوُّرات الفكر على أنها أفعالٌ خلَّاقة للأنا، تتجدَّد دوامًا في
عملية المعرفة.
٨٠ على أننا سنحاول، بدلًا من الوقوف طويلًا عند العرض الذي قدمه هِيجِل لهذه النقطة،
٨١ أن نستخلص بعض نتائج تصوُّر المفهوم عنده.
إن المفهوم، في رأي هِيجِل، هو فاعلية الذات، وهو — بهذا الوصف — الشكل الحقيقي
للواقع، ومن جهةٍ أخرى فإن الذات تتسم بالحرية؛ بحيث إن «نظرية المفهوم» عند هِيجِل
إنما تعرض مقولات الحرية في واقع الأمر … هذه المقولات تفهم العالم كما يبدو حين يكون
الفكر قد حرَّر نفسه من سلطة الواقع «المتشيئ
reified»، وحين تكون الذات قد ظهرَت بوصفها «جوهر» الوجود … مثل هذا
الفكر المتحرِّر يكون قد تغلَّب بالفعل على الفصل التقليدي بين الصور المنطقية وبين
مضمونها … ففكرة هِيجِل عن المفهوم تعكس العلاقة العادية المألوفة بين الفكر والواقع،
وتصبح المحور الذي تدور حوله الفلسفة من حيث هي نظريةٌ نقدية … ولو رجعنا إلى تفكير
الموقف الطبيعي، لوجدناه ينظر إلى المعرفة على أنها تزداد افتقارًا إلى الحقيقة كلما
تجرَّدَت عن الواقع … أمَّا عند هِيجِل فالعكس هو الصحيح … ذلك لأن التجرُّد عن الواقع،
الذي يقتضيه تكوين المفهوم، لا يجعل المفهوم أفقر بل أغنى من الواقع، لأنه ينقلُنا من
الوقائع إلى مضمونها الأساسي … ولا يمكن أن تُستخلص الحقيقة من الوقائع ما دامت الذات
لم تعِشْ فيها بعدُ، وإنما تظل تقف في مواجهتها. إن عالم الوقائع ليس معقولًا ولكن
ينبغي أن يُجلب إلى العقل؛ أي إلى صورةٍ يكون فيها الواقع مناظرًا بالفعل للحقيقة … وما
دام هذا لم يتحقَّق، فإن الحقيقة ترتكز على المفهوم المجرَّد لا على الواقع العيني …
ومهمة التجريد تنحصر في «العلو» على الواقع وردِّه (من المظهر المجرَّد) إلى ما هو
أساسي؛ أي ما يتبدَّى في المفهوم وحده.»
٨٢ وحين يتكوَّن المفهوم، فإن التجريد لا يتخلى عن التحقُّق الفعلي
actuality بل يؤدِّي إليه … فنحن لن نجد في
الوقائع السائدة الحقيقة الفعلية للطبيعة والتاريخ؛ إذ إن العالم ليس منسجمًا إلى هذا
الحد … وهكذا فإن المعرفة الفلسفية تُوضع في مقابل الواقع، وهذا التقابل هو ما يعبِّر
عنه الطابع المجرَّد للمفاهيم الفلسفية. «ليس المقصود من الفلسفة أن تكون روايةً لما
يحدث، بل معرفة لما هو صحيح في الأحداث، وعليها أن تفهم، خارج نطاق الحقيقة، ما يبدو
في
الرواية على أنه مجرَّد حدث.»
٨٣
على أن المعرفة الفلسفية لا تكون أرفع من التجربة والعلم إلا بقَدْر ما تتضمن
مفاهيمها تلك العلاقة بالحقيقة، التي يعزوها هِيجِل إلى المفاهيم الجدَلية وحدها؛ فمجرد
المرور عبْر الوقائع لا يميِّز المعرفة الجدَلية من العلم الوضعي؛ إذ إن هذا الأخير
بدَوره يتجاوز الوقائع، ويحصل على قوانين، ويقوم بتنبؤات … إلخ. غير أن العلم الوضعي،
بكل الجهاز الذي يستخدمه في عملياته، يظل في إطار الوقائع المعطاة، والمستقبل الذي
يتنبأ به، بل حتى تغيُّرات الشكل التي يؤدي إليها، لا يخرجان أبدًا عن نطاق المعطَى؛
فشكل التصوُّرات العلمية ومضمونها يظلان مقيدَين بالنظام السائد للأشياء، وهما يتصفانِ
بطابعٍ سكوني حتى عندما يعبِّران عن الحركة والتغيُّر … إن العلم الوضعي بدَوره يتعامل
بتصوُّراتٍ مجردة، ولكن هذه التصوُّرات تنشأ بالتجريد عن الصور الجزئية للأشياء، وتثبت
صفاتها المشتركة الدائمة.
أمَّا عملية التجريد التي تُفضي إلى المفهوم الجدَلي فمختلفةٌ عن ذلك كلَّ الاختلاف؛
فهنا يكون التجريد هو رد الأشكال والعلاقات المتباينة للواقع إلى العملية الفعلية التي
تتكوَّن فيها هذه الأشكال والعلاقات … وهنا يكون المتغيِّر والجزئي مماثلَين في
أهميَّتهما للثابت والعام … وليس طابع الكلية الذي يتسم به المفهوم الجدَلي هو المجموع
الكلي، الثابت المستقر، للصفات المجرَّدة، بل هو كلٌّ عيني يعمل هو ذاته على تطوير
الفوارق الجزئية لكل الوقائع المنتمية إلى هذا الكل … والمفهوم لا يتضمَّن فقط كل
الوقائع التي يتألف منها الواقع، بل يتضمَّن أيضًا العمليات التي تعمل فيها هذه الوقائع
على تنمية ذاتها وتفكيكها … وهكذا فإن المفهوم يضع «مبدأ تميزاته»،
٨٤ وهو يكشف عن الوقائع المتباينة التي يضمُّها بوصفه «تميُّزات باطنة»
للمفهوم ذاته.
٨٥
إن المنهج الجدَلي يستمد كل التحديدات العينية من مبدأ واحد شامل، هو مبدأ
النمو الفعلي للموضوع
subject-matter ذاته … فلا
بد أن تبدو مختلف حالات الموضوع وصفاته وشروطه بوصفِها مضمونَه الإيجابي المكتشَف. ولا
يمكِن أن يُضاف أي شيء من الخارج (أعني أية واقعةٍ معطاة مثلًا) … فالنمو الجدَلي ليس
«النشاط الخارجي للفكر الذاتي»، بل هو التاريخ الموضوعي للواقع ذاته
٨٦ … ومن هنا استطاع هِيجِل أن يقول إننا «لسنا نحن الذين نصوغ المفاهيم»
٨٧ في الفلسفة الجدَلية، بل إن تكوينها نموٌّ موضوعي نكتفي نحن
بترديده.
وأوضح مثل لتكوين المفهوم الجدَلي هو تصوُّر الرأسمالية عند ماركس … فكما أن هِيجِل
قد أعلن، وَفقًا للنظرية القائلة إن المفهوم كلٌّ ينطوي على تناقض، أن «من المستحيل
والممتنع حصر الحقيقة في أشكالٍ مثل الحكم الموجب أو الحكم بوجهٍ عام».
٨٨ فكذلك نبذ ماركس أيةَ تعريفاتٍ تثبت الحقيقة في أية مجموعةٍ نهائية من
القضايا … فتصوُّر الرأسمالية ليس أقل من المسار الكامل للرأسمالية، مفهومًا على أساس
«المبدأ» الذي يتقدَّم بواسطته … ذلك لأن مفهوم الرأسمالية يبدأ بالفصل بين المنتجِين
الفعليِّين وبين وسائل الإنتاج، فيترتَّب على ذلك إيجاد عملٍ مجاني والاستحواذ على
القيمة الفائضة التي تؤدي، بنمو التكنولوجيا، إلى تراكُم رأس المال وتركُّزه، وإلى
التدهور المطَّرد لمعدَّل الربح، وانهيار النظام بأكمله … وهكذا فإن مفهوم الرأسمالية
ليس بأقلَّ من المجلدات الثلاثة لكتاب «رأس المال»، مثلما أن مفهوم فكرة «المفهوم» عند
هِيجِل يشتمل على المجلدات الثلاثة لكتابه «علم المنطق».
وفضلًا عن ذلك فإن المفهوم يؤلِّف «كلًّا
سلبيًّا negative totality» لا يتطور إلا بفضل قواه المتناقضة … وهكذا فإن الأوجه
المتناقضة للواقع ليست اختلالاتٍ أو نقاطَ ضعفٍ داخل كلٍّ متآلف، بل هي نفس الشروط التي
تكشف عن بناء الواقع واتجاهاته … وتظهر الأهمية غير العادية لهذا المنهج بوضوحٍ تام
عندما نتأمل الطريقة التي نظر بها ماركس إلى الأزمة على أنها لحظةٌ أساسية في النظام
الرأسمالي؛ بحيث إن هذه اللحظة «السلبية» هي تحقيق لمبدأ هذا النظام … فالأزمات مراحلُ
ضرورية في «التمايز الذاتي» للرأسمالية، والنظام يكشف عن مضمونه الحقيقي عن طريق عملية
الانهيار السلبية.
إن المفهوم يمثِّل كليةً موضوعية تظهر فيها كل لحظةٍ جزئية على أنها هي «التمايز
الذاتي» للكلي (المبدأ الذي يحكُم الكل)؛ ومِن ثَمَّ فإنه هو ذاته كلي … ومعنى ذلك أن
كل لحظة معيَّنة تتضمن الكل، بوصفه مضمونها ذاته، وينبغي أن تفسَّر على أنها الكل، فإذا
شئنا تفسيرًا لهذا، كان علينا أن نشير مرةً أخرى إلى الميدان الذي أثمَر فيه المنطق
الجدَلي، وهو نظرية المجتمع.
يرى المنطق الجدَلي أن كل مضمونٍ جزئي يتكون بواسطة المبدأ الكلي الذي يتحكَّم في
حركة الكل … فالعلاقة الإنسانية الواحدة، كعلاقة الأب بابنه مثلًا، تتكوَّن بواسطة
العلاقات الأساسية التي تحكُم النظام الاجتماعي … فسلطة الأب يدعمها كونه مصدر رزق
الأسرة، والغرائز الأنانية للمجتمع القائم على المنافسة تتدخل في حبه … وتظل صورة الأب
مصاحبة للشخص البالغ، وتكون هي الموجِّهة لخضوعه للقوى التي تتحكَّم في وجوده الاجتماعي
… وهكذا فإن العلاقة العائلية، برغم طابعها الخصوصي، تتفتَّح على العلاقات الاجتماعية
السائدة وتؤدي إليها؛ بحيث إن العلاقة الخاصة ذاتها تكشف عن مضمونها الاجتماعي الخاص
…
هذا التطور يسير وَفقًا لمبدأ «السلب المتعين»؛ أي إن العلاقة العائلية تُنتِج نقيضَها
الذي يحطِّم مضمونها الأصلي، وهذا النقيض، وإن كان يؤدي إلى تحلُّل الأسرة، يحقِّق
وظيفتها الفعلية … إن الجزئي هو الكلي؛ بحيث إن المضمون النوعي الخاص يتحوَّل مباشرةً
إلى المضمون الكلي عن طريق عملية وجوده العيني … وهنا أيضًا يكون المنطق الجدَلي
ترديدًا للتركيب الذي يتخذه شكلٌ تاريخي معيَّن للواقع، وهو شكل تؤدي فيه العملية
الاجتماعية إلى تفكيك كل مجالٍ محدَّد ثابت للحياة، وإذابته في الدينامية
الاقتصادية.
ونظرًا إلى العلاقة الباطنة التي تربط بين مضمون ووظيفة كل وجهٍ معطًى وبين كل لحظةٍ
جزئيةٍ أخرى في الكل، فإن هذا الوجه المعطَى يتغير مع كل تغيُّر يطرأ على الكل … وعلى
ذلك فإن عزل اللحظات الجزئية وتثبيتها مستحيل … وعلى هذه النقطة ترتكز الثغرة التي
يستحيل عبورها، والتي أكَّد هِيجِل أنها تفصل بين الرياضة وبين النظرية الجدَلية؛ ولهذا
السبب فإن كل محاولة لوضع الحقيقة في إطارٍ من الأشكال الرياضية تؤدي حتمًا إلى هدمها
…
ذلك لأن الموضوعات الرياضية «تتميز بصفةٍ خاصة … هي أنها خارجة كلٌّ عن الآخر، ولها
تحديدٌ ثابت … ولو أخذَت المفاهيم على هذا النحو، بحيث تصبح مناظِرة لهذه الرموز
(الرياضة)، لما عادت مفاهيم؛ ذلك لأن تحديداتها ليست أمورًا ميتةً كالأعداد والخطوط …
بل هي حركاتٌ حية، والتحدُّد المختلف لطرفٍ واحد منها هو في الوقت ذاته داخليٌّ على
نحوٍ مباشر بالنسبة إلى الآخر، وما يكون تناقضًا تامًّا في الأعداد والخطوط هو أساسيٌّ
لطبيعة المفهوم.»
٨٩ … فالمفهوم، الذي هو الشكل الوافي الوحيد للحقيقة، «لا يمكن أن يُدرَك في
أساسه إلا بواسطة الروح … ومن العبث محاولة تثبيته بأشكالٍ مكانية ورموزٍ جبرية من أجل
العين الخارجية والمعالجة الآلية الخالية من المفاهيم، أو من أجل الحساب التحليلي».
٩٠
والواقع أن نظرية المفهوم بأَسْرها تكون «واقعية» تمامًا إذا فُهِمَت وطُبِّقَت
بوصفها نظريةً تاريخية … ولكن هِيجِل، كما أشرنا تلميحًا من قبلُ، يميل إلى إزالة
العنصر التاريخي العملي، والاستعاضة عنه بالحقيقة المستقلة للفكر. وفي نهاية الأمر
تتجمَّع كثرة المفاهيم الجزئية في «المفهوم» (الكلي)، الذي يصبح المضمون الواحد للمنطق
بأكمله
٩١ … على أن من الممكن، مع ذلك، التوفيق بين هذا الاتجاه وبين التفسير
التاريخي، إذا نظرنا إلى المفهوم على أنه يمثِّل التغَلغُل النهائي للعقل في العالم …
عندئذٍ يعني تحقيق المفهوم، السيطرة الشاملة التي يُمارِسها أناسٌ لديهم تنظيمٌ اجتماعي
عاقل، على الطبيعة — وذلك في عالمٍ يمكِننا بالفعل أن نتخيَّله على أنه تحقيقٌ لمفهوم
الأشياء جميعًا … مثل هذا الفهم التاريخي يظل حيًّا في فلسفة هِيجِل، ولكن تطغى عليه
دوامًا التصوُّراتُ الأنطولوجية المثالية المطلَقة … وهذه الأخيرة هي التي يختتم بها
«علم المنطق» آخر الأمر.
إننا لن نستطيع متابعة «نظرية المفهوم» بعد النقطة التي بلغناها … وبدلًا من أن
نقدِّم عرضًا موجزًا — لا بد أن يكون بالضرورة عرضًا ناقصًا — للمنطق الذاتي، فقد
اخترنا أن نحاول تقديم تفسيرٍ عام للفِقرات الأخيرة في هذا الجزء. هذه الفِقرات هي التي
يتحقَّق فيها الانتقال المشهور من «المنطق» إلى «فلسفة الطبيعة والروح»، وبذلك يختَتم
المذهب بكامل نطاقه.
•••
إن المفهوم يدُل على الشكل العام لكل وجود، ويدُل في الوقت ذاته على الوجود الحقيقي
الذي يمثِّل هذا الشكل تمثيلًا وافيًا، وأعني به الذات الحرة. والذات بدورها تُوجَد في
حركة تنتقل من الأشكال الدنيا للتحقُّق الذاتي إلى أشكاله العليا … ويطلق هِيجِل على
أعلى شكل لهذا التحقُّق الذاتي اسم «الفكرة». ولفظ «الفكرة» كان، منذ عهد أفلاطون، يعني
صورة الإمكانات الحقيقية للأشياء في مقابل واقعيَّتها الظاهرة … وكان ذلك في الأصل
تصورًا نقديًّا، شأنه شأن الماهية، يندِّد بحالة الاطمئنان التي يتسم بها الموقف
الطبيعي في عالمٍ يقنَع بسهولةٍ بالشكل المباشر الذي تبدو عليه الأشياء … وهكذا فإن
القضية القائلة إن الوجود الحق هو الفكرة وليس الواقع، تنطوي على مفارقةٍ
مقصودة.
أمَّا عند هِيجِل، الذي لم يكن يعرف مجالًا للحقيقة وراء هذا العالم، فإن الفكرة
متحقِّقة فعليًّا، ومهمة الإنسان هي أن يحيا في تحقُّقها الفعلي … إن الفكرة تُوجَد
بوصفها معرفةً وحياة … ولم يكن في وسع هذه الألفاظ أن تقف عقبةً في طريقه؛ فمنذ كتابات
هِيجِل الأولى، كان لفظ الحياة يدل على الشكل الفعلي للوجود الحق.
٩٢ فهو يمثِّل طريقة الوجود التي جعلَت منها الذات، عن طريق نفيها الواعي لكل
آخرية، عملًا حرًّا لها … وفضلًا عن ذلك فإن الحياة لا يمكنها أن تكون عملًا حُرًّا
كهذا إلا بفضل المعرفة، ما دامت الذات تحتاج إلى قوة التفكير التصوُّري من أجل السيطرة
على إمكانات الأشياء.
ويظل العنصر العملي محتفظًا به في الأقسام الختامية من «المنطق»؛ فالشكل الوافي
للفكرة يُسَمَّى وحدة المعرفة والفعل، أو «هوية الفكرة النظرية والعملية».
٩٣ ويعلن هِيجِل صراحةً أن الفكرة العملية؛ أي تحقيق «الخير» الذي يغيِّر
الواقع الخارجي، «أعلى من فكرة المعرفة … إذ ليس له شرف الكلي فحسب، بل له أيضًا شرف
المتحقق واقعيًّا.»
٩٤
على أن الطريقة التي يثبت بها هِيجِل هذه الوحدة تبيِّن أنه قد قام بتحويل التاريخ،
آخر الأمر، إلى أنطولوجيا؛ فهو يتصوَّر الوجود الحق على أنه وجود كامل الحرية. والحرية
الكاملة عند هِيجِل تقتضي أن تفهم الذات كل الموضوعات؛ بحيث تتجاوز موضوعيتها المستقلة
… عندئذٍ يصبح العالم الموضوعي هو الوسيط الذي يتم به التحقُّق الذاتي للذات، التي تعرف
كل واقعٍ على أنه واقعُها الخاص، والتي ليس لها موضوعٌ عدَا ذاتِها … وطالما كان
للمعرفة والفعل موضوعٌ خارجي لم تتمَّ السيطرة عليه بعدُ، وبالتالي يظل غريبًا عن الذات
ومعاديًا لها، فإن الذات لا تكون حرة … فالفعل موجَّه دائمًا ضد عالمٍ مُعادٍ، ولمَّا
كان الفعل يتضمن وجود مثل هذا العالَم المُعادي، فإنه يقيِّد أساسًا من حرية الذات …
أمَّا الفكر، والفكر الخالص، فهو وحده الذي يفي بمقتضيات الحرية الكاملة؛ لأن الفكر
يفكِّر في ذاته، فهو موجود لذاته دائمًا في آخريته، فليس له موضوعٌ ما عدَا ذاته.
٩٥
إننا نذكُر عبارة هِيجِل القائلة إن «كل فلسفة مثالية». والآن نستطيع أن نفهم الجانب
النقدي للمثالية، الذي يبرِّر هذه العبارة. غير أن للمثالية وجهًا آخر يربطها بالواقع
الذي تسعى اتجاهاتُها النقدية إلى تجاوزه … فالتصوُّرات الأساسية للمثالية تعبِّر، منذ
أصلها الأوَّل، عن انفصالٍ اجتماعي للمجال العقلي عن مجال الإنتاج المادي … ولقد كان
مضمونها، وصحتها، مرتبطَين بسلطة وقدرات «طبقة تتمتَّع بالفراغ»، أصبحَت راعية الفكرة
نظرًا إلى أنها لم تكن مضطرةً إلى العمل من أجل الإنتاج المادي للمجتمع … ذلك لأن
المركز الاستثنائي الذي كانت تتمتَّع به هذه الطبقة قد حرَّرها من العلاقات غير
الإنسانية التي خلقَها الإنتاج المادي، وجعلَها قادرةً على أن تعلو عليها … وهكذا
أصبحَت حقيقة الفلسفة مرتبطة بابتعادها عن العمل المادي ومتوقفة عليه.
ولقد رأينا أن هيجل احتَجَّ على هذا الاتجاه في الفلسفة، ونظَر إليه على أنه يُعَد
تخليًا تامًّا من العقل عن أداء مهمته. وقد دافع هيجل عن إعطاء سلطةٍ للعقل على الواقع،
وإضفاء صبغةٍ مادية عينية على الحرية … ولكن الخوف تملكُه من القوى الاجتماعية التي
أخذَت على عاتقها هذه المهمة … فالثورة الفرنسية قد أثبتَت مرةً أخرى أن المجتمع الحديث
نسقٌ من المتعارِضات التي يستحيل التوفيق بينها. وقد اعترف هيجل بأن علاقات المجتمع
المدني يمكِن ألا تؤدي أبدًا إلى قيام حريةٍ كاملة وعقلٍ كامل، بِناءً على الشكل الخاص
للعمل، الذي ترتكز عليه هذه العلاقات؛ ففي هذا المجتمع ظل الإنسان خاضعًا لقوانين
اقتصاد لم تتم السيطرة عليه، وكان لا بد من أن تقوم بترويضه دولةٌ قوية قادرة على
التصدِّي للمتناقضات الاجتماعية. وعلى ذلك فقد كان من الضروري التماس الحقيقة النهائية
في مجالٍ آخر من مجالات الواقع. وهذه هي الفكرة التي كان هِيجِل على اقتناعٍ تام بها،
والتي سيطَرَت تمامًا على فلسفته السياسية. وبالمثل يحمل كتاب «المنطق» طابع
الاستسلام.
فإذا كان العقل والحرية هما معيارَا الوجود الحقيقي، وإذا كان الواقع الذي يتجسَّدان
فيه هو واقع تشوِّهه اللامعقولية والعبودية، فلا بد من أن يصبحا بدَورهما مرتكزَين على
الفكرة … وهكذا تصبح المعرفة أكثر من السلوك، وتصبح معرفة الفلسفة أقرب إلى الحقيقة من
الفعل العملي الاجتماعي والسياسي … وعلى الرغم من أن هِيجِل يقول إن مرحلة التطور
التاريخي التي تم بلوغها في عصره تبيِّن أن الفكرة قد أصبَحَت واقعًا، فإن هذه الفكرة
«تُوجَد» في العالم المفهوم، وتكون حاضرةً في الفكر، بوصفها «نسَق العلم». هذه المعرفة
لا تعود فردية، بل إن لها «شرف» «الكلي» … ففي رأيه أن البشرية أصبَحَت واعيةً بالعالم
بوصفه عقلًا، وبالأشكال الحقيقية لكل ما هو قابلٌ للتحقُّق … فإذا ما طهَّرنا نسَق
العلم هذا من شوائب الوجود الفعلي، فإنه يصبح الحقيقة التي لا يمكن أن يأتيها الباطل،
ويغدو هو الفكرة المطلَقة.
ولنلاحظ أن الفكرة المطلَقة لا تُضاف إلى نتائج التحليل السابق بوصفها حقيقةً عليا
مستقلة … بل هي، في مضمونها، المجموع الكلي للتصوُّرات التي كشف عنها «المنطق»، وهي في
شكلها «المنهج» الذي يعمل على تطوير هذا المجموع … «إن الحديث عن الفكرة المطلَقة قد
يوحي بالاعتقاد بأننا نصل في نهاية المطاف إلى مربط الفرس، وإلى الحصيلة النهائية
للموضوع كله … ومن الممكِن قطعًا أن يشتبك المرء في جدَلٍ هائل لا معنى له عن الفكرة
المطلَقة … غير أن مضمونَها الحقيقي ليس إلا النسَق الكامل الذي كُنَّا من قبلُ ندرُس
نُموه وتطوُّره.»
٩٦ ومِن ثَمَّ فإن الفصل الذي يكرِّسه هِيجِل للفكرة المطلَقة يقدِّم إلينا
عرضًا نهائيًّا شاملًا للمنهج الجدَلي.
٩٧ وهنا أيضًا يقدم إلينا هذا المنهج على أنه المسار الموضوعي للوجود، الذي لا
يظل محتفظًا بنفسه إلا من خلال الصور المختلفة «لنفي النفي» … هذه الدينامية هي التي
تحرِّك الفكرة المطلَقة وتحقِّق الانتقال من «المنطق» إلى «فلسفة الطبيعة والروح». إن
الفكرة المطلَقة هي المفهوم الصحيح للواقع، وهي بهذا الوصف أعلى صور المعرفة. إنها أشبه
ما تكون بالفكر الجدَلي وقد تكشف في كليته … ولكنها مع ذلك فكرٌ جدَلي؛ ومِن ثَمَّ فهي
تتضمَّن سلبها، إنها ليست شكلًا منسجمًا ثابتًا، بل عملية توحيد للأضداد … وهي لا تكتمل
إلا في آخريتها
otherness.
إن الفكرة المطلَقة هي الذات في شكلها النهائي، أعني الفكر … وآخريتها وسلبها هو
الموضوع، الوجود … ولا بد من تفسير الفكرة المطلَقة على أنها وجودٌ موضوعي … وهكذا
ينتهي «منطق» هِيجِل حيث بدأ، بمقولة الوجود. غير أن هذا وجودٌ مختلف، لا يعود من
الممكن تفسيره من خلال التصوُّرات المطبقة في التحليل الذي استهل به كتاب «المنطق» …
ذلك لأن الوجود يُعرف الآن في مفهومه؛ أي بوصفه كلًّا عينيًّا تظل كل الصور الجزئية
قائمة فيه بوصفها التمييزات والعلاقات الأساسية لمبدأ واحد شامل … فالوجود، مفهومًا على
هذا النحو، هو الطبيعة … وبذلك ينتقل الفكر الجدَلي إلى فلسفة الطبيعة.
هذا العرض لا يغطي إلا وجهًا واحدًا من أوجه الانتقال (من المنطق إلى فلسفة الطبيعة)
… ذلك لأن تجاوز المنطق ليس مجرَّد انتقالٍ منهجي من علمٍ معيَّن (المنطق) إلى علمٍ آخر
(فلسفة الطبيعة)، بل هو أيضًا انتقالٌ موضوعي من شكل من أشكال الوجود هو الفكرة
Idea إلى شكلٍ آخر (الطبيعة) … ويقول هِيجِل إن «الفكرة
تطلق ذاتها بحرية» في الطبيعة، أو «تعيِّن ذاتها» بحرية بوصفها طبيعة.
٩٨ وهذا التصريح، الذي يعرض الانتقال على أنه مسارٌ فعلي في الواقع، هو الذي
يشكِّل صعوباتٍ جمَّة في فهم مذهب هِيجِل.
فلقد أكدنا أن المنطق الجدَلي يربط شكل الفكر بمضمونه … فالمفهوم، بوصفه شكلًا
منطقيًّا، هو في الوقت ذاته المفهوم بوصفه حقيقةً منطقية، فهو ذاتٌ مفكِّرة، وعلى ذلك
فإن الفكرة المطلَقة، التي هي الصورة الكاملة لهذا الوجود، لا بد أن تتضمن في ذاتها تلك
الدينامية التي تدفعُها إلى ضدها، ثم تعود بها إلى ذاتها عن طريق نفي هذا الضد … ولكن
كيف يمكن إثبات هذا التحوُّل الحر للفكرة المطلَقة إلى وجودٍ موضوعي (طبيعة)، ومن هذا
الأخير إلى الروح — كيف يمكِن إثباته بوصفه حدثًا فعليًّا؟
عند هذه النقطة، يعود منطق هِيجِل إلى الانضمام إلى التراث الميتافيزيقي للفلسفة
الغربية، وهو التراث الذي كان قد تخلَّى عنه في كثيرٍ من جوانبه؛ فمنذ أرسطو، كان البحث
عن الوجود (بما هو كذلك) مرتبطًا بالبحث عن الوجود الحق، أو عن ذلك الوجود المتعيِّن
الذي يعبِّر على أوفَى نحوٍ ممكن عن خصائص الوجود بما هو وجود … ولقد أطلق على هذا
الوجود الحق اسم الله
٩٩ … وقد بلغَت الأنطولوجيا الأرسطية قمتها في مذهب في اللاهوت، ولكن لاهوت لا
شأن له بالدين؛ لأنه يبحث في وجود الله على نفس النحو الذي يعالج به وجود الأشياء
المادية … فالإله الأرسطي ليس خالقًا للعالم ولا حاكمًا فيه، وإنما له وظيفةٌ أنطولوجية
بحتة، بل قد يمكِن القول إنها وظيفةٌ آلية … فهو يمثِّل نوعًا محدَّدًا من أنواع
الحركة.
وتمشيًا مع هذا التراث، يربط هِيجِل بدوره المنطق عنده باللاهوت، فيقول: إن المنطق
«يعرض علينا الله كما هو في ماهيته الأزلية، قبل خلق الطبيعة وخلق روحٍ متناهية.»
١٠٠ وفي هذه الصيغة يعني الله مجموع الصور الخالصة للوجود كله، أو الماهية
الحقة للوجود كما يكشفها «المنطق» … هذه الماهية تتحقق في الذات الخالصة التي تكون
حريتها الكاملة فكرًا … وإلى هذا الحد نجد تفكير هِيجِل يساير أنموذج الميتافيزيقا
الأرسطية … ولكنا نجد بعد ذلك أن التراث المسيحي، الذي كانت فلسفة هِيجِل متغلغلة فيه
بعمق، يؤكِّد حقوقه، ويحول دون الإبقاء على تصوُّرٍ أنطولوجي بحت لله … فلا بد من
تصوُّر الفكرة المطلَقة على أنها الخالق الفعلي للعالم، ولا بد أن تثبت حريتها بأن
تنطلق بحرية إلى آخريتها
its otherness؛ أي إلى
الطبيعة.
ومع ذلك فإن رأي هِيجِل يظل مرتبطًا بالاتجاهات العقلانية لفلسفته؛ فالوجود الحق
لا
يكمُن في عالمٍ يتجاوز هذا العالم، بل إنه لا يُوجَد إلا في العملية الجدَلية التي تحفظ
وجوده … ولا يُوجَد خارج هذه العملية هدفٌ نهائي قد يعني خلاصَ العالم؛ فالعالَم، كما
يصوِّره كتاب «المنطق»، هو «كل في ذاته، ينطوي على الفكرة الخالصة للحقيقة ذاتها.»
١٠١ ومسار الواقع «دائري»، تظهر فيه نفس الصورة المطلَقة في كل لحظاته، وأعني
بها عودة الوجود إلى ذاته عن طريق سلب آخريته … وهكذا فإن مذهب هِيجِل يصل إلى حد إلغاء
فكرة الخلق ذاتها؛ إذ إن كل سلب يتم تجاوزه بالدينامية الكامنة للواقع … فالطبيعة تبلغ
حقيقتها عندما تدخُل مجال التاريخ، ونمو الذات وتطوُّرها يحرِّر الوجود من ضرورته
العمياء، وتصبح الطبيعة جزءًا من التاريخ البشري، وبالتالي جزءًا من الروح … أمَّا
التاريخ فهو بدَوره الطريق الطويل الذي تسلكه البشرية من أجل السيطرة، نظريًّا
وعمليًّا، على الطبيعة والمجتمع، وهي السيطرة التي تتحقَّق حين يكون الإنسان قد خضع
للعقل وامتلك العالم بوصفه عقلًا … والعلامة التي تدُل على بلوغ هذه المرحلة هي، كما
يقول هِيجِل، الوصول إلى وضع «نسق العلم» الحقيقي، ويقصد بذلك مذهبه الفلسفي الخاص …
فهذا المذهب يضم العالم كله بوصفه كلًّا مفهومًا تظهر فيه كل الأشياء وكل العلاقات في
صورتها ومضمونها الفعلي؛ أي في مفهومها … وفي هذا المذهب يتم تحقيق الهوية بين الذات
والموضوع، وبين الفكر والواقع.