الفصل السادس
الفلسفة السياسية
١٨١٦–١٨٢١م
ظهر المجلد الأوَّل من كتاب «علم المنطق» في عام ١٨١٢م، والثاني والأخير في عام ١٨١٦م
… وخلال السنوات الأربعة الواقعة بين الاثنَين نشبَت «حرب التحرير» البروسية، وعُقد
«الحلفُ المقدس» ضد نابليون، ونشبَت معركتا ليبتسج ووترلو، ودخل الحلفاء باريس ظافرين
…
وفي عام ١٨١٦م عُيِّن هِيجِل، الذي كان عندئذٍ ناظرًا لمدرسةٍ ثانوية في نورمبرج،
أستاذًا للفلسفة بجامعة هيدلبرج. وفي العام التالي نشر الطبعة الأولى من «موسوعة العلوم
الفلسفية»، واختير خليفةً لفيشته في جامعة برلين … وهكذا تحقَّق الهدف النهائي لحياته
الأكاديمية في نفس الوقت الذي بلَغ فيه تطوُّره ونمُوه الفلسفي منتهاه … فأصبح الفيلسوف
الرسمي — كما يقولون — للدولة البروسية، والدكتاتور الفلسفي لألمانيا.
ولن نتعرض هنا لمزيد من التفاصيل المتعلقة بحياة هِيجِل؛ إذ إننا لا نبحث هنا في
طباعه أو دوافعه الشخصية … بل إن من الواجب تفسير الوظيفة الاجتماعية والسياسية
لفلسفته، والرابطة الوثيقة بين فلسفته وبين عهد عودة
الملكية Restoration من خلال الوضع الخاص الذي أصبح المجتمع الحديث يمُر به عند
نهاية العصر النابليوني.
لقد رأى هِيجِل في نابليون البطل التاريخي الذي يحقِّق رسالة الثورة الفرنسية؛ فهو،
كما تصوَّر هِيجِل، الرجل الوحيد القادر على تحويل إنجازات ثورة ١٧٨٩م إلى نظام دولة،
وعلى ربط الحرية الفردية بالعقل الكلي لنظامٍ اجتماعي ثابت … ولم يكن ما يُعجَب به في
نابليون عظمةً مجردة، بل صفة التعبير عن الحاجة التاريخية لذلك العصر؛ فنابليون كان
«روح العالم»، الذي يتجسَّد فيه الهدف الكلي للعصر … هذا الهدف هو دعم الشكل الجديد
للمجتمع، الذي كان يعبِّر عن مبدأ العقل، والمحافظة عليه، ونحن نعلم أن مبدأ العقل في
المجتمع يعني عند هِيجِل نظامًا اجتماعيًّا مبنيًّا على الاستقلال العقلي الذاتي للفرد،
غير أن الحرية الفردية كانت قد اتخذَت شكل نزعةٍ فردية غاشمة، ودخلَت حرية كل فرد في
صراع حياة أو موت ضد حرية كل فردٍ آخر … وكان «عهد الإرهاب» في عام ١٧٩٣م هو المثَل
المميز لهذه النزعة الفردية، وهو نتيجتها الحتمية … وإذا كان الصراع بين المقاطعات
الإقطاعية قد أثبت من قبلُ أن الإقطاع لم يعُد قادرًا على التوحيد بين الصالح الفردي
والصالح العام، فإن حرية الأفراد الشاملة القائمة على التنافس تشهد الآن بأن مجتمع
الطبقة الوسطى بدَوره عاجز عن هذا التوحيد … وهكذا رأى هِيجِل في سيادة الدولة المبدأ
الوحيد القادر على تحقيق هذه الوحدة.
كان نابليون قد سحق إلى حدٍّ بعيد بقايا الإقطاع في ألمانيا، وأدخل «القانون المدني»
في أرجاءٍ عديدة من الرايخ الألماني السابق … «لقد كان الهدف من المساواة المدنية،
والحرية الدينية، وإلغاء الضرائب الكنسية والحقوق الإقطاعية، وبيع الممتلكات الكنسية،
وإلغاء الطوائف الحِرفية، وتوسيع نطاق البيروقراطية، وتطبيق نُظمٍ إدارية «حكيمة
متحرِّرة»، ووضع دستور يتضمن اقتراع النواب على الضرائب والقوانين — كان الهدف من ذلك
كله نسج شبكة من المصالح المرتبطة بالمحافظة على السيطرة الفرنسية ارتباطًا وثيقًا.»
١ واستُعيض عن الرايخ، الذي كان عاجزًا إلى حدٍّ يبعث على الرثاء، بعددٍ من
الدول ذات السيادة، ولا سيَّما في جنوب ألمانيا … وبطبيعة الحال لم تكن هذه الدول إلا
أشكالًا هزْلية للدولة الحديثة ذات السيادة كما نعرفها فقط، ولكنها كانت مع ذلك تمثِّل
تقدمًا ملحوظًا بالقياسِ إلى الأجزاء الإقليمية السابقة التي كان ينقسم إليها الرايخ،
الذي كان يسعى بلا جدوى إلى التوفيق بين نُمو الرأسمالية وبين النظام القديم للمجتمع؛
فالدول الجديدة كانت على الأقل وحداتٍ اقتصاديةً أكبر، وكانت فيها بيروقراطيةٌ مركزية،
ونظامٌ أبسط للقضاء، وطريقةٌ في جمع الضرائب تتميَّز بأنها أرشد، وبأنها خاضعةٌ لنوع
من
الإشراف الشعبي … كانت هذه التجديدات تبدو متمشِّية مع دعوة هِيجِل إلى مزيدٍ من
التنظيم العقلي الرشيد للأشكال السياسية، من أجل إتاحة نُمو القوى الذهنية والمادية
الجديدة التي أطلقَتها الثورة الفرنسية من عقالها، فلا عجب إذن أن رأيناه في البداية
ينظُر إلى الصراع ضد نابليون على أنه معارضةٌ رجعية … ومن هنا كانت إشارته إلى «حرب
التحرير» تحمل معنى السخرية والازدراء … بل لقد ذهب إلى حد أنه لم يَستطِع الاعتراف بأن
هزيمة نابليون قد أصبحَت نهائية، حتى بعد أن دخل الحلفاءُ باريس ظافرين.
ومن العبارات الدالة على موقف هِيجِل من الأحداث السياسية في تلك السنوات، التصريحات
التي أدلى بها في محاضراته (عام ١٨١٦م)، والتي أكَّد فيها، متحديًا، القِيَم العقلية
الخالصة، في مقابل المصالح السياسية الفعلية.
«نستطيع أن نأمل أنه، بالإضافة إلى الدولة، التي ابتلعَت كل المصالح الأخرى
داخل مصلحتها الخاصة، قد تتمكَّن الكنيسة الآن من العودة إلى مركزها الرفيع —
وبالإضافة إلى مملكة العالم التي كانت كل الأفكار والجهود موجَّهة إليها حتى
الآن، قد يتجه الاهتمام إلى مملكة الله أيضًا … وبعبارةٍ أخرى، فإلى جانب
المهام السياسية والمصالح الأخرى للحياة اليومية، يمكِننا أن نأمل في أن العلم،
والعالم العقلي الحر للذهن، سيزدهر ثانيةً.»
٢
لقد كان ذلك، في الحق، موقفًا غريبًا … ذلك لأن فلسفة هِيجِل السياسية، التي أصبحَت،
بعد عامٍ واحد فقط، المتحدثة الأيديولوجية الرسمية باسم الدولة البروسية، وأعلنَت
عندئذٍ أن حقوق الدولة هي حقوق العقل ذاته — هذه الفلسفة تحمل، في هذا الوقت الذي نتحدث
عنه، على النشاط السياسي، وتفسِّر التحرُّر الوطني بأنه يعني حرية البحث الفلسفي … وهو
الآن يضع الحقيقة والعقل على مستوًى يتجاوز دوَّامة الأحداث الاجتماعية والسياسية
بمراحل، في عالَم العِلم الخالص.
وسنلاحظ أن موقف هِيجِل الجديد قد ظل ملازمًا له … أمَّا عن انتقاله من موقفٍ أقربَ
إلى أن يكون مضادًّا للقومية، إلى موقفٍ قومي، فإنَّا نستطيع أن نتذكَّر نوعًا مشابهًا
من «عدم الاتساق» في العهود الأولى للكتابة الفلسفية الحديثة؛ ذلك لأن «هبز»، الذي
يمكِن أن يُوصف بأنه أقوى الفلاسفة تمثيلًا للبورجوازية الصاعدة، قد وجد فلسفته
السياسية متمشِّية أوَّلًا مع ملكية تشارلس الأوَّل، ثم مع دولة كرومويل الثورية،
وأخيرًا مع رجعية أسرة ستوارت … ولم يكن هبز يهتم بكون الدولة ذات السيادة تتخذ شكل
الديمقراطية، أو الأوليجاركية، أو الملكية المقيَّدة، ما دامت تؤكِّد سيادتها في
علاقتها بالدول الأخرى، وتحتفظ بسلطتها بالنسبة إلى مواطنيها … كذلك كانت الفوارق في
الشكل السياسي بين الدول غير هامة في نظر هِيجِل، ما دامت تحافظ على هوية العلاقات
الاجتماعية والاقتصادية الكامنة من ورائها، على النحو المطلوب في مجتمع الطبقة الوسطى
…
ولقد بدَا له أن الملكية الدستورية الحديثة تصلُح تمامًا للمحافظة على هذا البناء
الاقتصادي … ومِن ثَمَّ فإنه، بعد انهيار نظام نابليون في ألمانيا، كان على استعدادٍ
تام للترحيب بالملكية ذات السيادة التي أعقبَته، بوصفها الوريث الحقيقي لنظام
نابليون.
لقد كانت سيادة الدولة، في نظر هِيجِل، أداةً ضرورية للمحافظة على مجتمع الطبقة
الوسطى … ذلك لأن الدولة ذات السيادة تزيل عنصر المنافسة الهدَّام من الأفراد، وتجعل
المنافسة مصلحةً إيجابيةً للحقيقة الكلية، فالدولة قادرة على السيطرة على المصالح
المتعارضة لأفرادها … والنقطة التي ينطوي عليها رأيه هذا هي أنه، حين يقتضي النظام
الاجتماعي أن يتوقف وجود الفرد على التنافس مع الآخرين، يكون الضمان الوحيد لتحقيق
المصلحة المشتركة، على نطاقٍ محدود على الأقل، هو وضوح حريته في إطار لا تتعداه، داخل
النظام الكلي للدولة … وهكذا فإن سيادة الدولة تفترض مقدمًا التنافس الدولي بين وحداتٍ
سياسية متعارضة، تكمن قوة كلٍّ منها أساسًا في سلطتها، التي لا تُنازَع، على
أفرادها.
ولقد كان هذا الموقف هو وحده الذي أملى على هِيجِل آراءه الواردة في تقريره المنشور
عام ١٨١٧م عن مناقشات ولايات «فورتمبرج» … وكانت فورتمبرج قد أصبحَت مملكةً مستقلة
بقانونٍ وضعه نابليون، وكان من الضروري وضع دستورٍ جديد يحلُّ محلَّ النظام العقيم شبه
الإقطاعي، كما كان من الضروري ضم الأقاليم التي اكتُسبَت حديثًا إلى الدولة الأصلية من
أجل تكوين كلٍّ اجتماعي وسياسي ومركزي. وكان الملك قد وضع مسوَّدة دستور كهذا، وقدَّمه
إلى مجالس الولايات التي اجتمَعَت في عام ١٨١٥م، ولكن هذه الأخيرة رفضَته. أمَّا
هِيجِل، فإنه في دفاعه الحار عن المشروع الملكي ضد معارضة الولايات، قد فسَّر النزاع
بين الفريقَين على أنه نضالٌ بين المبدأ الاجتماعي القديم والجديد، بين الامتياز
الإقطاعي والسلطة الحديثة.
ويظهر في جميع مواضع تقريره هذا خيطٌ واحد يوجِّهه، هو مبدأ السيادة … فهو يقول إن
نابليون قد وضع دعائم السيادة الخارجية للدولة — والمهمة التاريخية الواجبة الآن هي وضع
دعائم سيادتها الداخلية؛ أي سلطة الحكومة، التي لا تُنازَع، على أفرادها … ولا بد من
الاستعاضة عن فكرة العقد الاجتماعي بفكرة الدولة بوصفها كلًّا موضوعيًّا … ولقد كان
«مذهب يينا» قد حمل على أي تطبيقٍ لفكرة العقد الاجتماعي على الدولة … والآن، أصبحَت
النغمة الرئيسية التي تتحكَّم في تشكيل فلسفة هِيجِل هي أن الدولة منفصلة عن
المجتمع.
إن الأجهزة الكامنة في المجتمع الحديث لا تستطيع أن تولِّد مصلحةً مشتركة من الصراع
الحاد للمصالح الخاصة أو الجزئية، التي هي أساس العلاقات في هذا المجتمع … ولا بد أن
يُفرض الكلي على الجزئيات، رغمًا عن إرادتها إذا لزم الأمر؛ بحيث يستحيل أن تكون
العلاقات الناجمة بين الأفراد من جهة والدولة من جهةٍ أخرى مماثلة للعلاقة بين الأفراد
… أمَّا العقد فيجوز أن ينطبق على هذه الأخيرة، غير أنه لا يمكِن أن يسري على الأولى.
ذلك لأن العقد يفترض أن الأطراف المتعاقدة «يستقل كلٌّ منها عن الآخر بنفس المقدار.»
٣ وليس اتفاقهم إلا «علاقة عارضة» يرجع أصلها إلى حاجاتهم الذاتية.
٤ أمَّا الدولة فهي «علاقة موضوعية ضرورية»، مستقلة أساسًا عن الحاجات
الذاتية.
وفي رأي هِيجِل أن المجتمع المدني لا بد أن يتولَّد عنه آخر الأمر نظامٌ قائم على
السلطة، وهو تغيُّر ينبثق من الأسس الاقتصادية للمجتمع ذاته، ويُستخدم في المحافظة على
إطاره … والمفروض أن يؤدِّي التغير في الشكل إلى إنقاذ المضمون المهدَّد بالخطر …
ولنذكُر هنا أن هِيجِل كان قد حدَّد معالم نظامٍ قائم على السلطة عندما تحدَّث عن
«حكومة النظام الصارم» في نهاية «مذهب يينا» الأخلاقي. ولم يكُن هذا الشكل من أشكال
الحكومة يعني نظامًا جديدًا، بل كان يقتصر على فرض منهجٍ على النظام الفردي السائد.
كذلك فإن هِيجِل، حين يجعل الدولة هنا فوق المجتمع، يسير على نفس النهج؛ فهو يجعل
للدولة أرفعَ مكانةٍ لأنه يدرك التأثيرات المحتومة للتعارُضات داخل المجتمع الحديث؛ ذلك
لأن المصالح الفردية المتنافسة عاجزة عن أن تولِّد نظامًا يضمن استمرار الكل، ومن هنا
كان لا بد من أن تُفرض عليها سلطة لا معقِّب عليها، وهو يُبعِد علاقة الحكومة بالشعب
من
نطاق العقد، ويجعلها «وحدة جوهرية أصلية.»
٥ فالفرد تربطه بالدولة أساسًا علاقة واجب، وحقُّه خاضع لهذه العلاقة،
والدولة ذات السيادة تتحدَّد معالمها بوصفها دولة نظامٍ صارم.
على أن سلطتها ينبغي أن تكون مختلفة عن سلطة دولة الحكم المطلَق — فلا بد أن يصبح
الشعب جزءًا ماديًّا من قوة الدولة؛
٦ ذلك لأنه لمَّا كان المجتمع الحديث قائمًا على نشاط الفرد المتحرِّر من
قيوده، فلا بد من تأكيد نضجه الاجتماعي وتشجيعه. ومما يلفِت النظر في هذا الصدد أن
هِيجِل قد وجَّه نقدًا خاصًّا لنقطةٍ معيَّنة في الدستور الملكي، هي النقطة المتعلقة
بتقييد حق الاقتراع؛ ذلك لأن الملك كان قد نص أوَّلًا على أن موظَّفي الدولة، فضلًا عن
أفراد الجيش ورجال الكنيسة والمهنة الطبية لا ينتخبون، كما نص ثانيًا على أن يكون الحد
الأدنى لدخل الشخص من عقاره ٢٠٠ فلورين لكي يكون له حق الاقتراع. أمَّا هِيجِل فقد
أعلن، في صدد المسألة الأولى، أن ما يترتَّب عليها من استبعاد موظفي الدولة من مجلس
النواب أمرٌ غاية في الخطورة؛ ذلك لأن هؤلاء الموظَّفين هم بعينهم السياسيون الذين هم
أقدر، بحكم مهنتهم وتدريبهم، على الدفاع عن المصالح العامة في مقابل المصالح الخاصة،
وأعلن أن كل الأعمال الخاصة في هذا المجتمع تؤدِّي بحكم طبيعتها إلى وضع الفرد في مقابل
الجماعة.
«إن مُلَّاك العقارات، فضلًا عن الحرفيين وغيرهم، ممن يجدون أنفسهم يمتلكون
عقارًا أو صنعةً، يجدون من مصلحتهم المحافظة على النظام البورجوازي، ولكن هدفهم
المباشر في ذلك هو الحفاظ على ملكيتهم الخاصة.»
٧ محاضرات في تاريخ الفلسفة.
إنهم ليسوا على استعدادٍ لأن يبذلوا في سبيل (الصالح) العام إلا أقل القليل، بل هم
مصمِّمون على ذلك. وهو يضيف إلى ذلك أن هذا الموقف ليس مسألةً تتعلق بالأخلاق، أو
بالطبيعة الشخصية لبعض الأفراد، بل إن جذورها ترجع إلى «طبيعة الوضع نفسه».
٨ أي طبيعة هذه الطبقة الاجتماعية، ومن الممكن أن يُقضى على تأثيرها إذا
وجدَت بيروقراطية ثابتة بعيدة بقَدْر الإمكان عن نطاق المنافسة الاقتصادية؛ وبالتالي
يمكِنها أن تخدم الدولة دون أي تدخُّل من أصحاب الأعمال الخاصة.
هذه الوظيفة الأساسية للبيروقراطية في الدولة عنصرٌ هام في تفكير هِيجِل السياسي،
وقد
أيَّد التطور التاريخي نتائجه التي توصَّل إليها، وإن كان ذلك على صورةٍ مغايرة تمامًا
لتوقُّعاته.
كذلك فإن هِيجِل حمل على القيد الثاني على حق الاقتراع، وهو القيد المتعلِّق بمقدار
المِلكية لدى المقترعين؛ ذلك لأن الملكية هي ذاتها العامل الذي يجعل الفرد يعارض
المصلحة الكلية، ويتقيَّد بمصلحته الخاصة بدلًا منها، أو بتعبير هِيجِل، إن الملكية صفة
«مجرَّدة» لا شأن لها بالخصائص الإنسانية. وهو يعلن أن التأثير السياسي لكمية الممتلكات
وحدَها هو ميراثٌ سلبي من الثورة الفرنسية، ومن الواجب آخر الأمر تجاوزها من حيث هي
معيار للامتيازات، أو ينبغي على الأقل أن تصبح هي «الشرط الوحيد الذي يُوضع لوظيفة من
أهم الوظائف السياسية.»
٩ ولو أُلغي قيد الملكية بوصفه شرطًا للحقوق السياسية لكان في ذلك تقويةٌ
للدولة لا إضعاف لها … ذلك لأن البيروقراطية القوية التي تجعل ذلك ممكنًا، تُرسي هذه
الدولة على أساسٍ أمتَن بكثير من ذلك الذي تهيِّئه لها مصالح المُلَّاك الصغار
نسبيًّا.
وقد صور هِيجِل الصراع بين الملك والمقاطعات في فورتمبرج بأنه صراع بين «قانون الدولة
العقلي
vernunftiges Staatsrecht» وبين النظام
التقليدي للقانون الوضعي.
١٠ فالقانون الوضعي ينحدر إلى مستوى نظامٍ بالٍ من الامتيازات القديمة التي
يظُنها الناس سارية أزليًّا، لا لشيءٍ إلا لأنها ظلَّت ساريةً خلال بضع مئاتٍ من السنين
… وهو يذهب إلى أن «القانون الوضعي قد يندثر بحقٍّ عندما يفقد ذلك الأساس الذي هو شرط
وجوده.»
١١ والحق أن الامتيازات القديمة للإقطاعيات ليس لها من الأساس في المجتمع
الحديث أكثر مما «للقتل وفاءً بالقربان، والرِّق، والاستبداد الإقطاعي، وسائر الفظائع
الأخرى.»
١٢ هذه أمور عفا عليها الزمان — من حيث هي «حقوق» — وأصبح العقل حقيقةً
تاريخية منذ الثورة الفرنسية … وأدَّى الاعتراف بحقوق الإنسان إلى إسقاط الامتياز
القديم، ووضع أسس «المبادئ الدائمة للتشريع المستقر، والحكومة والإدارة الراسخة.»
١٣ وفي الوقت ذاته فإن النظام العقلي الذي يناقشه هِيجِل هنا تُنزع عنه
بالتدريج مضامينه الثورية، ويُلاءم بينه وبين مقتضيات المجتمع في عصره؛ فهو يدُل الآن
في نظره على أبعد الحدود التي يستطيع هذا المجتمع أن يكون معقولًا فيها دون أن يُسلب
أو
يُنفى من حيث المبدأ … وهو يرى أن الإرهاب الثوري عام ١٧٩٣م كان نذيرًا مشئومًا بأن
النظام القائم ينبغي أن يُصان بكل الوسائل الممكِنة … وعلى الأمراء أن يعرفوا «بناءً
على خبرات السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، الأخطار والأهوال المرتبطة بإقامة دساتيرَ
جديدة، وباتباع معيار الواقع الذي يطابق الفكر.»
١٤
لقد امتدح هِيجِل، بوجه عام، محاولة تشكيل الواقع وَفقًا للفكر … فذلك في رأيه أرفع
امتيازٍ للإنسان، وهو الوسيلة الوحيدة لتجسيد الحقيقة … ولكن حين تكون مثل هذه المحاولة
مهدِّدة لنفس المجتمع الذي رحَّب بها أصلًا بوصفها امتيازًا للإنسان، فإن هِيجِل يفضِّل
الإبقاء على النظام السائد تحت أي ظرفٍ من الظروف … وهنا أيضًا نستطيع أن نرجع إلى
«هبز» لنرى كيف أن الحرص على النظام القائم يجمع حتى بين أشد الفلسفات تباينًا: «إن
الإنسان لا يمكن أن يحيا في حالةٍ تخلو تمامًا من نوعٍ من المتاعب»، ولكن «أشد المتاعب
التي يمكن أن تصيب الشعب بوجهٍ عام في أي شكلٍ من أشكال الحكومة، لا تكاد تكون شيئًا
مذكورًا بالقياس إلى الأهوال والكوارث الفظيعة التي ترتبط بالحرب الأهلية …» «إن من
الواجب دائمًا تفضيل الحاضر والمحافظة عليه والنظر إليه على أنه الأحسن؛ ذلك لأن القيام
بأي شيء يؤدِّي إلى هدمه هو أمرٌ منافٍ لقانون الطبيعة، وكذلك للقانون الوضعي الإلهي.»
١٥
إن طغيان السلطة التي ينسبها هيجل إلى المجموع أو الكل، على الحرية الفردية، واتخاذ
العنصر العقلي آخر الأمر شكل النظام الاجتماعي القائم، ليس افتقارًا إلى الاتساق في
مذهبه، بل إن عدم الاتساق الظاهري يعبِّر عن الحقيقة التاريخية، ويعكس اتجاهات الصراع
في المجتمع القائم على النزعة الفردية، وهو الصراع الذي يحوِّل الحرية إلى ضرورة والعقل
إلى سلطة. والواقع أن «فلسفة الحق (القانون)» عند هيجل تَدين بصلاحيتها، إلى حدٍّ غير
قليل، لقدرة تصوُّراتها الأساسية على استيعاب متناقضات هذا المجتمع واستبقائها عن وعي
ومتابعتها حتى النهاية المريرة … فهذا الكتاب رجعيٌّ بقَدْر ما كان النظام الاجتماعي
الذي تعكسه رجعيًّا، وتقدميٌّ بقَدْر ما كان هذا النظام تقدميًّا.
ومن الممكِن التخلص من بعضٍ من أخطر مظاهر سوء الفهم، التي تُضفي غموضًا على كتاب
«فلسفة الحق (القانون)» إذا تأمَّلْنا — ببساطة — موقع هذا الكتاب في مذهب هِيجِل …
فالكتاب لا يعالج العالم الثقافي بأكمله؛ إذ إن مجال الحق ليس إلا جزءًا من المجال
الروحي، أعني ذلك الجزء الذي يصفه هِيجِل بأنه روحٌ موضوعية. وهو بالاختصار لا يعرض أو
يعالج الحقائق الثقافية للفن والدين والفلسفة، التي هي تجسُّد للحقيقة النهائية في نظر
هِيجِل … وهكذا فإن المركز الذي تحتله «فلسفة الحق (القانون)» في المذهب الهِيجِلي يجعل
من المستحيل النظر إلى الدولة، وهي أعلى حقيقة في مجال الحق (القانون)، على أنها أعلى
حقيقة في المذهب بأَسْره؛ فحتى ذلك التأليه المؤكَّد الذي كان هِيجِل ينظر به إلى
الدولة، لا يمكِنه أن يُلغيَ حقيقةً قاطعة، هي أنه أخضَع الروحَ الموضوعية للروح
المطلَقة، والحقيقةَ السياسية للحقيقة الفلسفية.
ولقد أعلن هِيجِل في تصدير هذا الكتاب مضمونه الذي سيأتي فيما بعدُ. وقد هاجم
الكثيرون هذه المقدمة على أساس أنها وثيقةٌ تعبِّر عن أقصى قَدْرٍ من الذلة والعبودية
تجاه عهد عودة الملكية، وعن عداءٍ صارخ لكل الاتجاهات التقدُّمية المتحرِّرة في ذلك
العصر … وأشار موجِّهو هذا الاتهام، تأييدًا له، إلى تنديد هِيجِل بأحد زعماء حركة
الشباب الألماني في أول عهدها وهو «فريز J. F. Fries»،
وإلى دفاعه عن قرارات كارلسباد Karlsbader Beschlüsse
(١٨١٩م)، التي أدانت بالجملة كل عمل أو تصريحٍ متحرِّر (ووصفَته بالديماجوجية، وهو وصفٌ
للتشهير كان شائعًا عندئذٍ)، ودفاعه عن تشديد الرقابة، وعن قمع الحريات الأكاديمية،
والحد من كل الاتجاهات الرامية إلى تحقيق نوعٍ من الحكومة النيابية الحقيقية … وليس من
شكٍّ في أنه لا يُوجَد مبرِّر لموقف هِيجِل الشخصي في ذلك الوقت … أمَّا في ضوء الوضع
التاريخي، وبخاصة التطوُّر الاجتماعي والسياسي التالي، فإن موقفه، والمقدِّمة
بأَسْرِها، تصبح لهما دلالةٌ مختلفة كل الاختلاف … ولا بد لنا من أن نبحث بإيجازٍ طبيعة
المعارضة الديمقراطية التي كان هِيجِل ينتقدها.
لقد انبعثَت الحركة من خيبة أمل البورجوازية الصغيرة واستيائها بعد حرب ١٨١٣–١٨١٥م
…
فقد اقترن تحرير الدول الألمانية من الحكم الفرنسي برجعيةٍ استبدادية … ولم يتحقق الأمل
في الاعتراف السياسي بحقوق الشعب، والحُلم الذي كان يراود الألمان بإقامة دستورٍ سليم
…
وكان رد الفعل هو ظهور موجة من الدعاية من أجل الوحدة السياسية للأمة الألمانية، وهي
دعاية كانت تتضمَّن إلى حدٍّ غير قليل عداءً ليبراليًّا صادقًا لعهد الطغيان الذي
توطَّدَت أركانه حديثًا … ومع ذلك، فنظرًا إلى أن الطبقات العليا كانت قادرة على
الاحتفاظ بمركزها داخل الإطار الاستبدادي، ونظرًا إلى عدم وجود طبقةٍ عاملة منظَّمة،
فإن الحركة الديمقراطية كانت إلى حدٍّ بعيد تعبيرًا عن روح السخط من جانب البورجوازية
الصغيرة التي وقفَت عاجزةً لا سلطان لها … وظهر التعبير الصريح عن هذا السخط في برنامج
الجماعات الطلابية (البورشنشافتن Burschenschaften)،
وفي الجماعة التي مهَّدَت لها الطريق، وهي «النوادي
الرياضية Turnvereine». ولقد كثر حديث هذه الجماعات عن الحرية والمساواة، ولكن هذه
كانت حريةً تشكِّل امتيازًا مقصورًا على الجنس التيوتوني وحده، ومساواة تعني تعميم
الفقر والحرمان.
وكان يُنظر إلى الثقافة على أنها من أسلحة الأغنياء والأجانب، هدفها إفساد الشعب
وإفقاده خشونته وصلابته، وكانت كراهية الفرنسيين مقترنة لديهم بكراهية اليهود
والكاثوليك و«النبلاء» … ولقد كانت الحركة تنادي «بحربٍ ألمانية» بالمعنى الصحيح، حتى
تستطيع ألمانيا أن تكشف عن «الثراء الزاخر لقوميتها». وكانت تطالب «بمخلِّص» يحقِّق
الوحدة الألمانية، وهو شخص «يغتفر له الشعب كل خطاياه». وكانت الحركة تحرِق الكتب
وتُهاجم أصحاب العقائد الأخرى، وتظُن نفسها فوق القانون والدستور لأنه «ليس ثمَّة قانون
للقضية العادلة.»
١٦ وكانت تنادي بضرورة بناء الدولة «من أسفل»، عن طريق الحماسة الخالصة للكتل
الجماهيرية، وبأن تحلَّ الوحدة «الطبيعية» للشعب محلَّ النظام المتدرِّج، المتفاوِت،
للدولة والمجتمع.
وليس من العسير أن يتعرَّف المرء في هذه الشعارات «الديمقراطية» على أيديولوجية الاتحاد
الشعبي
Volksgemeinschaft الفاشية. والواقع
أن العلاقة بين الدَّور التاريخي «للبورشنشافتن» — بما تتسم به من عنصريةٍ وعداءٍ
للعقلانية، وبين الاشتراكية الوطنية النازية، أوثقُ بكثيرٍ من علاقة موقف هِيجِل بهذه
الأخيرة … فقد ألَّف هِيجِل كتابه «فلسفة الحق (القانون)» بوصفه دفاعًا عن الدولة ضد
هذه الأيديولوجية الديمقراطية المزعومة، التي رأى فيها تهديدًا للحرية أخطر من استمرار
حكم السلطات القائمة … وليس من شكٍّ في أن كتابه أدَّى إلى تقوية نفوذ هذه السلطات،
وساعد بذلك الرجعية التي كانت منتصرة من قبلُ، ولكن هذا الكتاب تحوَّل، بعد وقتٍ قصير
نسبيًّا، إلى سلاح ضد الرجعية … ذلك لأن الدولة التي كان هِيجِل يقصدها كانت دولةً
تحكُمها معايير العقل النقدي والقوانين التي تسري على نحوٍ شامل. وفي هذا يقول إن
معقولية القانون هي العنصر الحيوي للدولة الحديثة … «إن القانون هو العلامة الحقيقة
التي تكشف الأعوان والأصدقاء المزيَّفين لما يُسَمَّى بالشعب.»
١٧ وسوف نرى أن هِيجِل ظل يسير على أساس هذا المبدأ حتى مرحلة النضج في فلسفته
السياسية. والحق أنه ليس ثمَّة تصوُّر أبعد عن مسايرة الأيديولوجية الفاشية من ذلك الذي
يبني الدولة على قانونٍ كلي عقلي يصون مصالح كل فرد؛ أيًّا كانت الصفاتُ العارضة التي
يتسم بها مركزه الطبيعي والاجتماعي.
وفضلًا عن ذلك فإن هجوم هِيجِل على الخصوم الديمقراطيين لعهد عودة الملكية، لا يمكن
أن ينفصل عن نقده الأشد حدة للممثلين الرجعيين للنظرية العضوية في الدولة … فنقده
للحركة الشعبية
Volksbewegung يرتبط بصراعه ضد
كتاب فون هالر
K. L. von Haller إصلاح علم السياسة
Restauration der Staatwissenschaft (الذي
نُشِر لأول مرة عام ١٨١٦م). وهو كتابٌ كان له تأثيرٌ كبير في الرومانتيكية السياسية في
ألمانيا … في هذا الكتاب نظر هالر إلى الدولة على أنها واقعةٌ طبيعية، ونتاجٌ إلهي في
الوقت ذاته. وعلى هذا الأساس فقد قَبِل دون تبريرٍ حُكْم القوي على الضعيف، وهو ما
تنطوي عليه ضمنًا كلُّ دولة، ورفض أي تفسيرٍ للدولة على أنها تمثِّل حقوقًا لأفرادٍ
أحرارٍ منظمة قانونًا، أو على أنها تخضع لمطالب العقل البشري … وقد وصف هِيجِل موقف
هالر بأنه ليس أقل من «تعصُّبٍ أعمى، وبلاهةٍ عقلية، ونفاق.»
١٨ فإذا كانت القيم الطبيعية المزعومة، لا قيم العقل، هي المبادئ الأساسية
للدولة، فعندئذٍ تحل العشوائية والظلم والعنصر البهيمي في الإنسان محل المعايير العقلية
للتنظيم الإنساني.
لقد اتفق كلٌّ من الخصوم الديمقراطيين والإقطاعيين للدولة على رفض حكم القانون. وفي
مقابل الاثنَين معًا ذهب هِيجِل إلى أن حكم القانون هو الشكل السياسي السليم الوحيد
للمجتمع الحديث؛ فالمجتمع الحديث، في رأيه، ليس جماعةً طبيعية، وليس نظامًا من
الامتيازات الممنوحة من مصدرٍ إلهي، وإنما يقومُ على المنافسة العامة لملَّاكٍ أحرار
يكتسبون مركزهم في العملية الاجتماعية ويحتفظون به عن طريق نشاطهم الذي يعتمدون فيه على
أنفسهم … إنه مجتمعٌ لا يحرص فيه الناسُ على الصالح العام، ولا يحقِّقون مصلحة «الكل»،
إلا بالصدفة العمياء. وعلى ذلك فإن التنظيم الواعي للصراعات الاجتماعية بواسطة قوةٍ
تعلو على تعارض المصالح الخاصة، وتُحافِظ مع ذلك عليها كلها، هو وحدَه الكفيل بتحويل
ذلك المجموع الكلي الفوضوي للأفراد إلى مجتمعٍ قائم على أسسٍ عاقلة، والوسيلة التي
تحقِّق هذا التحويل هي حكم القانون.
وفي الوقت ذاته رفض هِيجِل النظرية الاجتماعية في ذاتها، وأنكَر أن تكون لها أيةُ
قيمةٍ في الحياة السياسية؛ فحكم القانون في متناول أيدينا، وهو متجسِّد في الدولة،
ويشكِّل التحقُّق التاريخي السليم للعقل، وما إن يقبل المرء النظام القائم على هذا
النحو، ويرضى به، حتى تصبح النظرية السياسية بلا جدوى؛ إذ إن «النظريات تضع نفسها الآن
في مقابل النظام الموجود، وتدَّعي أنها صحيحة وضرورية بصفةٍ مطلَقة.»
١٩ لقد كان لزامًا على هِيجِل أن يتخلى عن النظرية لأنه كان يرى أن النظرية
نقدية بالضرورة، ولا سيَّما في الصورة التي اتخذَتها في التاريخ الغربي؛ فمنذ ديكارت،
كان المفكِّرون يزعمون أن النظرية تستطيع إصلاح البناء العقلي للكون، وأن العقل يستطيع
بجهوده الخاصة أن يصبح معيارًا للحياة الاجتماعية … وهكذا كانت المعرفة النظرية
والعقلية للحقيقة تتضمَّن اعترافًا بأن الواقع، الذي لم يصل بعدُ إلى المستوى المطلوب،
مفتقرٌ إلى الحقيقة … فالطبيعة الناقصة للواقع الموجود أرغمَت النظرية على أن تتجاوزه،
وعلى أن تُصبحَ مثالية … ولكن التاريخ كما يقول هِيجِل الآن، لم يقف ساكنًا، فقد وصلَت
البشرية إلى مرحلة أصبَحَت فيها كل وسائل تحقيق العقل متوافرة. والدولة الحديثة هي
التجسُّد الفعلي لهذا التحقيق، ومن هنا فإن أي استمرار في تطبيق النظرية على السياسة
بعد الآن، يجعل النظرية خياليةً طوباوية؛ أي إنه حين يُنظر إلى النظام القائم على أنه
عقلي، تكون المثالية قد بلغَت غايتها ونهايتها. ومنذ ذلك الحين يتعيَّن على الفلسفة
السياسية أن تمتنع عن تعليم الناس ما ينبغي أن تكون عليه الدولة … إن الدولة موجودة،
وهي عقلية، وهذا هو مسك الختام. ويضيف هِيجِل أن فلسفته سوف تدعو، بدلًا من ذلك، إلى
وجوب الاعتراف بالدولة بوصفها عالمًا أخلاقيًّا كاملًا … وهنا تصبح مهمة الفلسفة هي
«المواءمة بين الناس وبين ما هو متحقِّق فعلًا».
وإنها لمواءمة غريبة بحق! إذ لا يكاد يُوجَد عملٌ فلسفي يكشف، على نحوٍ أوضح، عن
المتناقضات الحادَّة للمجتمع الحديث، أو يبدو أكثر منه رضاءً عن هذه المتناقضات التي
يُعَد الرضا عنها أمرًا شاذًّا بحق … والواقع أن نفس «المقدمة» التي ينبذ فيها هِيجِل
النظرية النقدية، تبدو كأنها تدعو إلى كشف هذه المتناقِضات، وذلك إذ تؤكِّد «الصراع بين
ما هو كائن وما ينبغي أن يكون».
لقد قال هِيجِل إن المضمون الذي يشير إليه العقل أصبح قريبَ المنال؛ فلم يعُد من
الممكِن أن يظل تحقيقُ العقل مهمَّة الفلسفة وحدها، ولا أصبح من الممكِن السماح لهذه
المهمة بأن تتبدَّد في تأملاتٍ خيالية طوباوية … بل إن المجتمع، كما هو متكوِّن فعلًا،
قد أنضج الشروط المادية اللازمة لتغييره؛ بحيث يمكِن، بصورةٍ نهائية قاطعة، إظهارُ
الحقيقة التي تنطوي عليها الفلسفة في باطنها … ففي الإمكان الآن إدراك أن الحرية والعقل
أكثر من مجرد قِيمٍ باطنة … إن الوضع القائم للواقع هو «هجين» ينبغي توليده، هو عالم
من
البؤس والظلم، ولكن في هذا العالم ذاته تزدهر إمكانات العقل الحر … ولقد كان إدراك هذه
الإمكانات هو وظيفة الفلسفة من قبلُ، أمَّا بلوغ النظام الصحيح للمجتمع فأصبح الآن
وظيفة العقل العملي … لقد عرف هِيجِل أن «شكلًا من أشكال الحياة قد أصبح عتيقًا»، وأن
من المحال أن تستطيع الفلسفة تجديد شبابه.
٢٠ وقد حدَّدَت الفقرات الختامية في «المقدمة» اتجاه كتاب «فلسفة الحق
(القانون)» بأَسْره، فهذه الفِقرات مظهر استسلام إنسانٍ يعلم أن الحقيقة التي يمثِّلها
قد قاربَت نهايتها، وأنه لم يعُد في وسعها إنعاش العالم وجعل الحياة تسري في
أوصاله.
كذلك لم يكن في وسعها جعل الحياة تسري في أوصال القوى الاجتماعية التي كان يفهمها
ويمثِّلها … «ففلسفة الحق (القانون)» هي فلسفة مجتمع الطبقة الوسطى، وقد وصل إلى تمام
وعيه الذاتي … وهي تحتفظ في داخلها بالعناصر الإيجابية والسلبية لمجتمعٍ أصبح ناضجًا،
ويدرك عن وعيٍ كامل حدوده التي لا يستطيع أن يتعدَّاها. ولقد أعاد هِيجِل في «فلسفة
الحق (القانون)» تطبيق كل التصوُّرات الأساسية للفلسفة الحديثة على الواقع الاجتماعي
الذي انبثقَت هذه التصوُّرات منه، واتخذَت كلها مرةً أخرى شكلَها العيني، واختفَى
طابعُها التجريدي الميتافيزيقي، وبرز مضمونُها التاريخي الفعلي … وظهر الآن بوضوح أن
مفهوم الذات (الأنا) يرتبط ارتباطًا باطنًا بالإنسان الاقتصادي المنعزل، وأن مفهوم
الحرية يرتبط بالملكية، ومفهوم العقل بالافتقار إلى الكلية أو العمومية الحقيقية في
عالم المنافسة، وأصبح القانون الطبيعي الآن قانونًا للمجتمع القائم على التنافس — وليس
كل هذا المضمون الاجتماعي نتاجًا لتفسيرٍ متعسف، أو لتطبيقٍ خارجي لهذه التصوُّرات، بل
هو الصورة النهائية التي يتكشَّف عليها معناها الأصلي … والواقع أن «فلسفة الحق
(القانون)»، في جذورها، مادية النظرة … فهِيجِل يكشف في فِقرة تلو الفِقرة، عن البناء
الأدنى الاقتصادي والاجتماعي لتصوُّراته الفلسفية … صحيحٌ أنه يستمد كل الحقائق
الاجتماعية والاقتصادية من الفكرة، غير أنه يفهم الفكرة من خلال هذه التصوُّرات ويجعلها
تحمل طابعَها في كل لحظاتها.
إن كتاب «فلسفة الحق (القانون)» لا يقدِّم نظريةً محددةً في الدولة … وهو ليس مجرد
استنباطٍ فلسفي للحق، والدولة، والمجتمع، وليس تعبيرًا عن آراء هِيجِل الشخصية في
حقيقتها … بل إن أهم ما في الكتاب هو أن التصوُّرات الأساسية للفلسفة الحديثة تتحلَّل
فيه وتنفي ذاتها، وتُشارِك في مصير المجتمع الذي تفسِّره. وهي تفقد طابعها التقدُّمي،
ولهجتها المتفائلة، وتأثيرها النقدي، وتتخذ طابع الهزيمة والخذلان. وسوف ينصَبُّ جهدُنا
على تتبُّع هذه الأحداث الداخلية في الكتاب، لا على عرض بنائه المنهجي.
يضع هِيجِل في «المقدمة» الإطار العام الذي يمهِّد لعرض موضوع الحق، والمجتمع المدني،
والدولة … فعالم الحق هو عالم الحرية.
٢١ والذات المفكِّرة هي الموجود الحر، فالحرية صفة لإرادتها … والإرادة هي
التي تكون حرة؛ بحيث إن الحرية هي جوهرها وماهيتها.
٢٢ على أنه لا ينبغي النظر إلى هذا القول على أنه مناقضٌ لختام كتاب «المنطق»،
الذي جاء فيه أن الفكر هو المجال الوحيد للحرية … ذلك لأن الإرادة «طريقةٌ خاصة في
التفكير»، أعني أنها هي «التفكير وقد تُرجم إلى لغة الواقع، وأصبح عملًا … وفي استطاعة
الفرد، عن طريق إرادته، أن يتحكَّم في أفعاله وفقًا لعقله الحر … فمجال الحق بأكمله،
أعني حق الفرد، والأسرة، والمجتمع، والدولة، يُستمد من الإرادة الحرة للفرد وينبغي أن
يكون مطابقًا لها … وهكذا يمكِن القول إننا حتى الآن نُعيد تأكيد النتائج التي توصَّل
إليها هِيجِل في كتاباته السابقة، وهي أن الدولة والمجتمع ينبغي أن يُشيَّدَا بواسطة
العقل النقدي للفرد المتحرِّر … ولكن هِيجِل سرعان ما يثير شكوكًا حول هذه النقطة؛
فالفرد المتحرِّر في المجتمع الحديث ليس قادرًا على مثل هذا التشييد، وإرادته التي
تعبِّر عن مصالحَ خاصة لا تتضمن ذلك «الشمول» الذي يتيح أساسًا مشتركًا للصالح الخاص
والصالح العام … إن الإرادة الفردية ليست بذاتها جزءًا لا يتجزأ من «الإرادة العامة».
ولهذا السبب ينبغي إنكار الأساس الفلسفي للعقد الاجتماعي.
إن الإرادة وحدة تجمع بين وجهتَين مختلفتَين أو لحظتَين مختلفتَين؛ الأولى هي قدرة
الفرد على التجرُّد من أي شرط أو وضعٍ محدد، والعودة، بعد نفيه، إلى التحرُّر المطلَق
للأنا الخالص،
٢٣ والثانية هي الفعل الذي يختار فيه الفرد بحرية شرطًا أو وضعًا عينيًّا،
ويؤكِّد وجوده بوصفه أنا جزئيًّا، محدودًا.
٢٤ ويطلق هِيجِل على اللحظة الأولى من هاتَين اسم الوجه الكلي للإرادة؛ لأن
الأنا فيها، بتجرُّده الدائم من كل وضعٍ متعين، وسلبه الدائم له، يؤكِّد فيها هُويته
في
مقابل تنوُّع حالاته الجزئية؛ أي إن الأنا الفردي هو كليٌّ حقيقي، بمعنى أنه يستطيع
التجرُّد من كل وضعٍ جزئي والعلو عليه، ويظل خلال ذلك في وحدة مع ذاته. أمَّا المعنى
الثاني فيعترف بأن الفرد لا يمكِنه في الواقع أن ينفي كل وضعٍ جزئي، بل لا بد له من
اختيار وضعٍ ما، يواصل فيه حياته، وبهذا المعنى يكون أنا جزئيًّا.
ويؤدي الاستقرار عند أي وجه من وجهَي الإرادة هذَين إلى حريةٍ سلبية؛ فإذا تجرَّد
الفرد من كل حالةٍ جزئية، وانسحب إلى مجال الإرادة الخالصة للأنا، فسوف تظل إرادته ترفض
على الدوام كل الأشكال الاجتماعية والسياسية القائمة، وتصل إلى ما يشبه الحرية
والمساواة المجردتَين اللتَين كانت الثورة الفرنسية تمجِّدهما. وهذا بعينه هو ما حدث
في
نظرية الدولة والمجتمع عند روسو، وهي النظرية التي افترضَت حالةً أصليةً للإنسان تكون
فيها الوحدة الحية هي الفرد المجرَّد، الذي يملك صفاتٍ معينة مختارة اعتباطًا، كالخير
والشر، والملكية الخاصة أو عضوية جماعة لا تتمتع بأية ملكيةٍ خاصة، وما إلى ذلك … وهكذا
يقول هِيجِل إن روسو جعل «إرادة وروح الفرد الجزئي في تقلباته الشخصية … هي الأساس
الجوهري الأوَّل» في المجتمع.
٢٥
إن مفهوم الإرادة عند هِيجِل يهدف إلى إثبات أن للإرادة طابعًا مزدوجًا، قوامه
استقطابٌ أساسي بين العنصرَين الجزئي والكلي … وهو يهدف أيضًا إلى بيان أن هذه الإرادة
لا تكفي لكي ينبثق منها نظامٌ اجتماعي وسياسي. بل إن هذا النظام يقتضي عواملَ أخرى لا
يمكِن التوفيق بينها وبين الإرادة إلا عن طريق المسار الطويل للتاريخ … فإرادة الفرد
الحرة تؤكِّد بالضرورة مصلحته الخاصة؛ ومِن ثَمَّ فهي لا تستطيع أبدًا، بذاتها، أن ترغب
في الصالح العام أو المشترك … فهِيجِل يوضِّح مثلًا أن الشخص الحر يصبح مالكًا يقف،
بهذا الوصف، ضد المُلَّاك الآخرين … فإرادته بطبيعتها «متعينة» بدوافعه ورغباته وميوله
المباشرة، وهي موجهة إلى إشباعها.
٢٦ والإشباع يعني أنه جعل هدف إرادته موضوعًا خاصًّا به … فهو لا يستطيع تحقيق
رغباته إلا عن طريق الاستحواذ على الأشياء التي يرغبها، وبذلك يحول بين الأفراد الآخرين
وبين استخدام هذه الأشياء والتمتُّع بها … وتتخذ إرادته بالضرورة شكل الفردية
Einzelheit.
٢٧ فالموضوع هو بالنسبة إلى الأنا شيءٌ يمكِن أن يكون أو لا يكون ملكي».
٢٨ وليس في طبيعة الإرادة الفردية أي شيءٍ يمكِنه تجاوز هذا التقابل بين
«ملكي» و«ملكك»، والجمع بين الاثنَين في ثالثٍ مشترك … وإذن فالإرادة الحرة في بُعدها
الطبيعي، هي الانطلاق الذي يستبيح كل شيء، والذي يظل مرتبطًا على الدوام بعمليات
الاستحواذ التعسفية.
٢٩
هنا نجد مثلًا أول لتوحيد هِيجِل بين قانونٍ طبيعي وقانون المجتمع القائم على
المنافسة؛ فهو يتصور «طبيعة» الإرادة الحرة على نحوٍ يجعلها تشير إلى شكلٍ تاريخي خاص
للإرادة، هو الفرد بوصفه مالكًا؛ بحيث تمثِّل الملكية الفردية أول تحقق للحرية.
٣٠
فكيف إذن يتسنَّى للإرادة الفردية، التي تعبِّر عن المطالب الموزَّعة بين ما هو
«ملكي» وما هو «ملكك»، كيف يتسنَّى لها على أي نحوٍ أن تصبح إرادة ما هو «ملكنا»،
وتعبِّر بذلك عن مصلحةٍ مشتركة؟ إن فرض العَقْد الاجتماعي لا يستطيع أن يقدِّم إلينا
الرد؛ إذ إن أي عقدٍ بين الأفراد لا يمكِنه أن يعلو على عالَم القانون الخاص. ولا بد
أن
يؤدي الأساسُ التعاقدي الذي يفترضُ وجوده للدولة والمجتمع، إلى جعل الكل خاضعًا لنفس
الطبيعة التعسُّفية التي تتحكَّم في المصالح الخاصة … وفي الوقت ذاته لا يمكِن أن تبني
الدولة ذاتها على أي مبدأ ينطوي على إلغاء حقوق الفرد … والواقع أن هِيجِل دافَع بصلابة
عن هذه القضية التي نادت بها كل فلسفةٍ سياسيةٍ للطبقة الوسطى الصاعدة؛ إذ كان قد انقضى
الوقت الذي يمكِن أن يُقال فيه عن دولة الحكم المطلَق التي وصفها هبز في «اللفياثان»
بأنها خيرُ ما يحفظ مصالح الطبقة الوسطى الجديدة … فمنذ ذلك الحين أثمَرَت عملية
التنظيم الصارمة الطويلة، وأصبح الفرد هو الوحدة الحاسمة للنظام الاقتصادي، والأهم من
ذلك أنه أصبح الآن يطالب بحقوقه في النظام السياسي … وقد أخذ هِيجِل على عاتقه أن يعرض
هذا المطلب، وظل يدافع عنه في جميع مواضع نظريته السياسية.
لقد ذكَرنا أن هِيجِل يصوِّر «كلية» الإرادة بأنها كلية للأنا، ويعني بذلك أن الكلية
تنحصر في أن الأنا يدمج كل أحوال حياته في هُويته الذاتية … ويؤدي هذا الرأي إلى نتيجة
فيها مفارقة؛ إذ إن الكلي يُوضع في أشد عناصر الإنسان فردية؛ أي في الأنا. ولو نظرنا
إلى هذه العملية من وجهة النظر الاجتماعية لوجدناها مفهومةً تمامًا … ذلك لأن المجتمع
الحديث لا يوحِّد الأفراد بحيث يمكِنهم القيام بأوجه نشاطٍ تجمع بين الاستقلال الذاتي
من جهة، وبين التضافر من أجل تحقيق مصلحة الجميع من جهةٍ أخرى … أي إنهم لا يقومون
بنشاطٍ جماعي يردِّدون فيه صورة مجتمعهم ترديدًا واعيًا … فإذا ما كان الوضع السائد على
هذا النحو، فإن المساواة المجرَّدة للأنا الفردي تصبح هي الملاذ الوحيد للحرية. والحرية
التي يرغب فيها هذا الأنا حرية سلبية، أعني سلبًا دائمًا للكل. أمَّا الوصول إلى حريةٍ
إيجابية فيقتضي أن يخرج الفرد عن مجال مصلحته الشخصية، الذي هو أشبه بمجال الذرة
الروحية المقفَلة على ذاتها، ويستقر في مجال ماهية الإرادة، التي لا تهدف إلى غايةٍ
خاصةٍ معينة، بل تستهدف الحرية بما هي كذلك؛ فلا بد أن تصبح إرادة الفرد إرادة للحرية
العامة … غير أنها لا تستطيع أن تكون كذلك إلا إذا كان قد أصبح حُرًّا بالفعل … فإرادة
الإنسان الذي هو ذاته حر، هي وحدها التي تستهدف الحرية الإيجابية … ويضع هِيجِل هذه
النتيجة في صيغة شديدة الإيجاز والغموض، هي القائلة إن «الحرية تريد الحرية» أو إن
«الإرادة الحرة … تريد الإرادة الحرة.»
٣١
هذه الصيغة تضم الحياة التاريخية العينية فيما يبدو أنه إطارٌ فلسفي مجرد؛ فليس من
«يريد الحرية» هو أي فرد، بل هو الفرد الحر؛ أي إن الحرية في صورتها الحقة لا يمكِن أن
يعترف بها ويريدها إلا فرد هو بالفعل حر. والمرء لا يستطيع معرفة الحرية إلا بامتلاكها؛
فلا بد أن يكون حُرًّا لكي يصير حُرًّا … وليست الحرية مجرد مركزٍ يتمتَّع به، بل هي
سلوك يقوم به بوصفه ذاتًا واعيةً بنفسها … وطالما لم يكن يعرف الحرية، فإنه لا يستطيع
بلوغها بذاته، بل إن افتقاره إلى الحرية قد يصل إلى حد أنه يختار عبوديته أو يرضى بها
طوعًا … وفي هذه الحالة لا يكون لديه اهتمام بالحرية، وينبغي أن يجيء تحرُّره ضد إرادته
… وبعبارةٍ أخرى فإن فعل التحرُّر يُؤخَذ من أيدي الأفراد الذين لا يستطيعون، بسبب
الأغلال التي تقيِّدهم، أن يختاروه بوصفه طريقهم الخاص.
إن مفهوم الحرية في «فلسفة الحق (القانون)» يعود بنا إلى الوراء، إلى العلاقة
الأساسية بين الحرية والفكر، كما عُرضَت في كتاب «المنطق» … وهو الآن يبيِّن بوضوح أن
جذور هذه العلاقة ترجع إلى البناء الاجتماعي، كما يكشف عن الارتباط بين المثالية ومبدأ
المِلْكية … وفي خلال العرض التحليلي الذي يقدِّمه هِيجِل، تفقد فكرتُه مضمونَها
النقدي، وتصبح لها وظيفة التبرير الميتافيزيقي للمِلكية الخاصة … وسوف نُحاوِل الآن أن
نتتبَّع هذا الاتجاه في مناقشته للموضوع.
إن العملية التي «تطهِّر» بها الإرادة ذاتها إلى حدٍّ تصبح معه راغبة في الحرية،
هي
العملية الشاقة، عملية التعلم بواسطة التاريخ … والتعلم نشاطٌ للفكر ونتاجٌ له. «إن
الوعي الذاتي، الذي يطهِّر موضوعه أو مضمونه أو غايته، ويرتفع به إلى مستوى الكلية
والشمول، هو الفكر وقد تحوَّل بذاته إلى إرادة. وهذه هي النقطة التي يظهر عندها بوضوحٍ
أن الإرادة لا تكون صحيحة وحرة إلا بوصفها عقلًا مفكرًا.»
٣٢ فحرية الإرادة تتوقف على الفكر، وعلى معرفة الحقيقة … والإنسان لا يمكِنه
أن يكون حُرًّا إلا عندما يعرف إمكاناته … فالعبد ليس حُرًّا لسببَين؛ أولهما أنه في
حالة عبوديةٍ فعلية، وثانيهما أنه لم يجرِّب الحرية ولم يعرفها … إن المعرفة، أو الوعي
الذاتي بالحرية، في لغة هِيجِل، هي «مبدأ الحق والأخلاقية وكل صور الأخلاق الاجتماعية.»
٣٣ ولنقُل إن كتاب «المنطق» قد أسَّس الحرية على الفكر، أمَّا كتاب «فلسفة
الحق»، فإنه توصَّل، وهو يستعيد هذا الموضوع، إلى الشروط الاجتماعية والتاريخية لهذه
النتيجة … فالإرادة تكون حرة إذا كانت «معتمدة على ذاتها تمامًا؛ لأنها لا تشير إلى
شيءٍ ما عدا ذاتها؛ بحيث تتخلص من كل اعتمادٍ على أي شيءٍ آخر.»
٣٤
إن الإرادة، بحكم طبيعتها ذاتها، تستهدف تملُّك موضوعها، وجَعْل هذا الموضوع جزءًا
من
وجودها الخاص … وهذا شرطٌ ضروري للحرية الكاملة. غير أن الأشياء أو الموضوعات المادية
تضع حدًّا قاطعًا لهذا التملُّك … فهي، أساسًا، خارجيةٌ بالنسبة إلى الذات المتملِّكة؛
ومن هنا كان تملُّكُها بالضرورة ناقصًا. والموضوع الوحيد الذي يمكِن أن يصبح مِلكًا لي
بأكمله هو الموضوع الذهني؛ إذ ليست له حقيقةٌ مستقلة بمَعزِل عن الذات المفكِّرة … «إن
الذهن هو الذي يمكِنني أن أتملَّكه بأكمل صورةٍ ممكِنة.»
٣٥ ويختلف التملُّك الذهني عن مِلكية الأشياء المادية في أن الموضوع الذي
نفهمه ونضمه إلينا ذهنيًّا لا يظل خارجًا عن الذات … وهكذا فإن التملُّك يكتمل بالإرادة
الحرة، التي تمثِّل تحقُّق الإرادة فضلًا عن اكتمال التملُّك.
ولقد سبق أن انتهى كتاب «المنطق» إلى أن قوام الحرية هو أن تكون للذات سلطةٌ كاملة
على ما هو «آخر» بالنسبة إليها … والصورة العينية لهذه الحرية هي المِلكية الدائمة …
وبذلك يكتمل التوحيد بين مبدأ المثالية ومبدأ المِلكية. والواقع أن هيجل يمضي في هذا
التوحيد بحيث يجعله توحيدًا تامًّا في فلسفته؛ فهو يذكُر أن «الإرادة هي وحدَها
المطلَقة التي لا تُحد، على حين أن كل الأشياء الأخرى، على عكس الإرادة، نسبيةٌ فحسب
…
وما التملُّك في أساسه إلا إظهار سيادة إرادتي بالنسبة إلى الأشياء، عن طريق بيان أنها
غير مكتملة بذاتها، وليس لها هدفٌ خاص بها … وهذا ما يتحقَّق حين أضع في الموضوع غايةً
أخرى غير تلك التي كانت له في البداية … فعندما يصبح الكائن الحي (يشير هِيجِل في هذا
السياق إلى مثال الحيوان بوصفه موضوعًا ممكنًا للإرادة) مِلكًا لي، تصبح له نفسٌ أخرى
غير تلك التي كانت له؛ إذ إنني أعطيه إرادتي.»
٣٦ وينتهي هِيجِل من ذلك إلى أن «الإرادة الحرة إذن هي المثالية التي ترفض
الاعتراف بأن الأشياء، على نحو ما هي عليه، يمكِن أن تكون مكتملةً بذاتها.»
فهنا يفسِّر مبدأ المثالية، القائل إن الوجود الموضوعي يتوقَّف على الفكر، بأنه أساس
طابع التملُّك الذي تتسم به الأشياء بالقوة، وفي الوقت ذاته فإن أكثر أشكال الوجود
حقيقة، وهو الذهن، هو الذي تتصوَّر المثالية أنه يحقِّق فكرة التملُّك.
إن تحليل هِيجِل للإرادة الحرة يجعل للمِلكية مكانًا في تكوين الفرد ذاته؛ أي في
إرادته الحرة؛ فالإرادة الحرة تظهر إلى الوجود بوصفها الإرادةَ الخالصة للحرية. وتلك
هي
«فكرة الحق»، التي هي في هُوية مع الحرية بما هي كذلك … ولكنها ليست إلا فكرة الحق
والحرية … ويبدأ تجسُّد هذه الفكرة عندما يؤكِّد الفرد المتحرِّر إرادتَه بوصفها إرادة
تملُّك. «هذه المرحلة الأولى للحرية هي ما سنعرفه على أنه مِلكية.»
٣٧
والطريقة التي تتم بها عملية استنباط المِلكية من ماهية الإرادة الحرة، في المناقشة
التي يقوم بها هِيجِل، هي طريقةٌ تحليلية … فما يفعله هو أنه يستخلص ما يترتَّب على
استنتاجاته السابقة المتعلقة بالإرادة … ففي البداية تكون الإرادة الحرة هي «الإرادة
المنفردة لذات»، وتكون حافلة بالأهداف الموجهة نحو عديد من موضوعات عالَم ترتبط به
الذات بوصفها فردًا مُستحوِذًا متفردًا … ويصبح الفرد حُرًّا بالفعل في عملية اختبار
لإرادته عن طريق استبعاد الآخرين من موضوعات إرادته، وجَعْل هذه الموضوعات خاصةً به
وحده … وبفضل الإرادة المتفرِّدة المُستحوِذة للذات، تصبح هذه الذات «شخصًا»؛ أي إن
الشخصية تبدأ حين تكون للمرء قدرةٌ واعية بذاتها على أن يجعل من موضوعات إرادته
موضوعاتٍ يملكُها.
٣٨
ولقد أكد هِيجِل أن الفرد لا يكون حُرًّا إلا عندما يُعترف به حرًّا، وأن هذا
الاعتراف لا يُمنَح له إلا عندما يكون قد برهن على حريته. وفي وسع الفرد أن يقدِّم هذا
البرهان بأن يوضِّح ما لديه من قدرة على موضوعات إرادته، وذلك بأن يتملَّكَها. ويكتمل
فعل التملُّك عندما يُقرُّه الأفراد الآخرون أو «يعترفون» به.
٣٩
كذلك رأينا أن جوهر الذات، في نظر هِيجِل، يكمُن في «سلبية مطلَقة»، من حيث إن الأنا
يسلب أو ينفي الوجود المستقل للموضوعات ويحوِّلها إلى وسائط لتحقيق ذاته … وهنا يظهر
نشاط صاحب المِلكية على أنه هو القوة الدافعة لعملية السلب هذه … «إن للمرء الحقَّ في
توجيه إرادته نحو أي موضوع، بوصفه غايتَه الحقيقية الإيجابية … وعلى هذا النحو يصبح
الموضوع مِلكًا له … ولمَّا لم تكن لهذا الموضوع في ذاته غاية، فإنه يتلقَّى معناه
وروحه من إرادة هذا الإنسان … فللإنسان حقٌّ مطلَق في أن يستحوذ على كل ما هو شيء.»
٤٠ غير أن مجرد الاستحواذ يؤدي إلى مجرد الاستيلاء
Besitz … ولا يصبح الاستيلاء مِلكية إلا إذا أصبح موضوعيًّا
بالنسبة إلى أفرادٍ آخرين بالإضافة إلى المالك … «إن شكل الذاتية البحتة ينبغي أن
يُستبعد عن الموضوعات»؛ فلا بد أن يُحتفظ بها، وتُستخدم، بوصفها مِلكية لشخصٍ بعينه،
مُعترَفًا بها اعترافًا عامًّا
٤١ … ولا بد لهذا الشخص بدَوره أن يتعرَّف على نفسه في الأشياء التي يملكها،
وأن يعرفها ويتصرَّف فيها بوصفها تحقيقًا لإرادته الحرة … وعندئذٍ فقط يصبح الاستيلاء
حقًّا فعليًّا.
٤٢ فالإرادة الحرة هي بالضرورة «الإرادة المنفردة» لشخص بعينه، والمِلكية تحمل
«طابع المِلكية الخاصة».
٤٣
والحق أنه يندر أن نجد فيلسوفًا آخر يعرض نظام المِلكية الخاصة من خلال طبيعة الفرد
المنعزل، ويؤسِّسها عليها، بمثل هذا الاتساق … فحتى الآن لم يُتطرق إلى استنباط هِيجِل
أي نظامٍ كلي شامل، أو أي شيءٍ يضفي على التملك الفردي ضمانَ الحق الشامل … وهو لم يلجأ
إلى أي إله يأمر بهذه الملكية ويبرِّرها، كما أنه لم يُشِر إلى حاجات الإنسان على أنها
مسئولة عن إيجادها، بل إن المِلكية لا تُوجَد إلا بفضل قدرة الذات الحرة … وهي مستمدة
من ماهية الشخص الحر … فهِيجِل قد أبعد نظام المِلكية عن أية رابطةٍ عارضة، وجسَّمها
بوصفها علاقةً أنطولوجية … وهو قد أكَّد مرارًا وتكرارًا أنها قد لا يكون لها مبرِّر
بوصفها وسيلةً لإشباع حاجات الإنسان … «إن مبرِّر المِلكية لا ينحصر في إرضائها
للحاجات، وإنما في كون هذا النظام يتجاوز الذاتية البحتة للشخص، ويحقِّق في الوقت ذاته
تعيُّن هذا الأخير … فالشخص لا يُوجَد بوصفه عقلًا إلا في المِلكية.»
٤٤ فالمِلكية سابقة على الحاجات العارضة للمجتمع … وهي «التجسُّد الأوَّل
للحرية؛ وبالتالي فهي غايةٌ جوهرية في ذاتها» … «إن العنصر العاقل، في علاقة الإنسان
بالموضوعات الخارجية، ينحصر في الاستحواذ على الملكية.» غير أن ما يملكه المرء، ومقدار
ما يملكه، هو مسألة اتفاق أو حظ، وهي عارضة تمامًا من وجهة نظر الحق
٤٥ … ويعترف هِيجِل صراحةً بأن التوزيع السائد للمِلكية هو نتاج ظروفٍ عارضة،
تتنافَى تمامًا مع المقتضيات العقلية … ومن جهةٍ أخرى فإنه يُعفي العقل من مهمة إصدار
حكم على هذا التوزيع؛ فلم يبذل هِيجِل جهدًا لتطبيق المبدأ الفلسفي الذي يقضي بالمساواة
بين الناس، على مظاهر اللامساواة في المِلكية، بل إنه يرفض هذه الخطوة في الواقع …
والمساواة الوحيدة التي يمكن أن تُستمد من العقل هي «ضرورة حصول كل شخصٍ على مِلكية»،
٤٦ أمَّا نوع هذه المِلكية ومقدارها فأمرٌ لا يكترث به العقل على الإطلاق. وفي
هذا الصدد يقدِّم هِيجِل تعريفه الذي يدعو إلى الدهشة: «إن الحق لا يعبأ بالفروق بين
الأفراد.»
٤٧
هذا التعريف يجمع بين السمات التقدُّمية والسمات الرجعية لفلسفة الحق عند هِيجِل …
فعدم الاكتراث بالفروق الفردية هو — كما سنرى فيما بعدُ — صفةٌ مميزة للشمول المجرَّد
للقانون، الذي يفرض حدًّا أدنى من المساواة والمعقولية على نظام يتسم باللامعقولية
والظلم … ومن جهةٍ أخرى فإن نفس عدم الاكتراث هذا يمثِّل أسلوبًا في العمل الاجتماعي،
لا يتم فيه المحافظة على الكل أو العام إلا بتجاهل الماهية الإنسانية للفرد … أي إن
موضوع القانون ليس الفرد العيني، بل هو الذات المجرَّدة التي تسري عليها الحقوق.
ويظهر في صيغة هِيجِل تأثير عملية تحويل العلاقات بين الناس إلى علاقات بين الأشياء
…
فالشخص تطغى عليه مِلكيته، ولا يكون شخصًا إلا بفضل مِلكيته … ومِن ثَمَّ فإن هِيجِل
يصف كل قانونٍ للأشخاص بأنه قانونٌ للمِلكية … «من الواضح أن الشخصية وحدَها هي التي
تعطينا حقًّا على الأشياء؛ وبالتالي فإن الحق الشخصي هو في أساسه حقٌّ شيئي
Sachrecht.»
٤٨
وتظل عملية التشيؤ متغلغلة في تحليل هِيجِل … فهو يستمد قانون التعاقدات والالتزامات
بأَسْره من قانون المِلكية؛ فلما كانت حرية الشخص تُمارَس في المجال الخارجي للأشياء،
ففي استطاعة الشخص أن «يخرج
externalize» ذاته؛ أي أن
يتعامل مع ذاته بوصفها موضوعًا خارجيًّا … وفي استطاعته بمحض إرادته أن يجعل ذاته
مغتربة، ويبيع إنجازاته وخدماته. «إن المواهب الذهنية، والعلم، والفن، بل أمورًا دينية
كالمواعظ والصلوات والقدَّاسات والبركات، وكذلك الاختراعات وما شاكلها، تصبح موضوعاتٍ
للتعاقُد، ويُعترف بها وتُعامل على نفس النحو الذي تُعامل به موضوعات البيع والشراء.»
٤٩ غير أن اغتراب الشخص ينبغي أن يكون له حدٌّ في الزمان؛ بحيث يظل هناك شيء
من «الكلية والشمول» اللذَين يتسم بهما الشخص … ولو كان عليَّ أن أبيع «كل وقت عملي
العيني، ومجموع إنتاجي، لأصبَحَت شخصيتي ملك شخصٍ آخر، وعندئذٍ لن أعود شخصًا، بل
يتعيَّن عليَّ أن أضع ذاتي خارج مجال الحق.»
٥٠ وهكذا فإن مبدأ الحرية، الذي كان المفروض أنه دليل السيادة المطلَقة للشخص
على الأشياء جميعًا، لم يؤدِّ فقط إلى تحويل هذا الشخص إلى شيء، بل إنه أيضًا قد جعل
منه شيئًا متوقفًا على الزمان … وبذلك توصَّل هِيجِل إلى نفس الحقيقة التي دفعَت ماركس
فيما بعدُ إلى المطالبة «بتقصير يوم العمل» بوصفه شرطًا لانتقال الإنسان إلى «عالم
الحرية». كذلك فإن أفكار هِيجِل في هذا الصدد تمتد إلى حدِّ التوصُّل إلى القوة الخفية
لوقت العمل، واكتشاف أن الفارق بين الرقيق في العصور القديمة وبين العامل «الحر» يمكِن
التعبير عنه من خلال كمِّية الوقت التي يكتسبها منه «السيد».
٥١
لقد استُمد نظام المِلكية الشخصية من الإرادة الحرة للشخص، غير أن هذه الإرادة لها
حدٌّ لا تتعداه، هو المِلكية الخاصة للأشخاص الآخرين؛ فأنا لا أكون مالكًا، ولا أظل
مالكًا، إلا بقَدْر ما أتخلى طائعًا عن حقي في الاستحواذ على مِلكية الآخرين … وهكذا
فإن المِلكية الخاصة تؤدي بنا إلى تجاوز الفرد المنعزل، وتنقلنا إلى علاقاته بالأفراد
الآخرين المنعزلين مثله … والأداة التي تجعل نظام الملكية مضمونًا ومستقرًّا في وضعه
هذا هي العقد.
٥٢ وهنا أيضًا يلائم هِيجِل بين فكرة العقل الأنطولوجية وبين المجتمع المنتِج
للسلع، ويجعلها تتجسَّد عينيًّا في هذا المجتمع. «إن قيام الناس بتعاقدات، ومبادلات،
وتجارة، هو ضرورةٌ عقلية، شأنه تمامًا شأن استحواذهم على المِلكية.» فالعقود تؤلِّف ذلك
«الاعتراف المتبادل» اللازم من أجل تحويل الاستحواذ إلى مِلكيةٍ خاصة، وهكذا فإن تصوُّر
«الاعتراف»، الذي كان في الأصل تصوُّرًا جدَليًّا عند هِيجِل، أصبح يصف الآن الوضع
القائم في المجتمع المبني على الكسب والاقتناء.
٥٣
على أن العقود تقتصر على تنظيم المصالح الخاصة للمُلَّاك، ولا تتجاوز أبدًا نطاق
القانون الخاص … وهنا نجد هِيجِل يرفض مرةً أخرى نظرية العقد الاجتماعي لأن من الخطأ،
في رأيه، القول إن لدى الناس حرية الانفصال عن الدولة أو عدم الانفصال عنها، «والأصح
أن
من الضروري على نحوٍ مطلَق أن يُوجَد كل شخص في دولة.» وأن «التقدم الهائل» للدولة
الحديثة بالقياس إلى الدولة الإقطاعية ليرجع إلى أن الأولى «غاية في ذاتها»، وليس في
وسع أي شخصٍ أن يتخذ بصدَدها تدابيرَ خاصة.
٥٤
والواقع أن النتائج التي تستتبعها المِلكية الخاصة قد جعلَت هِيجِل يزداد توغلًا
في
الأعماق الغامضة لنظرية الحق … ولقد كان أعلن من قبلُ في المقدمة أن الجريمة والعقاب
ينتميان أساسًا إلى نظام المِلكية الخاصة؛
٥٥ ومِن ثَمَّ فهما ينتميان أيضًا إلى نظام الحق … ولا بد أن تتعارض حقوق
أصحاب المِلكيات، ما دام كلٌّ منهم يقف ضد الآخرين، ولا يخضع إلا لإرادته الخاصة …
فكلٌّ يعتمد في أفعاله على «الهوى والاختيار الخاطئ، الذي تُمليه معرفته ورغبته،
٥٦ ولا يمكن أن يكون اتفاق إرادته الخاصة مع الإرادة العامة إلا شيئًا عارضًا
يحمل في طياته بذور شقاقٍ جديد … وهكذا فإن الحق الشخصي باطل بالضرورة؛ لأن الفرد
المنعزل لا بد أن يخالف الحق العام. ويعلن هِيجِل أن «الغش والجريمة» هما «خطأ عن غير
سبق إصرار، أو هو خطأ مدني»، ويعني بذلك أنهما جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع المدني … ويرجع
أصل الحق في المجتمع المدني إلى أن هناك تعميمًا مجردًا للمصالح الجزئية … فإذا اصطدم
الفرد في سعيه إلى مصلحته، بالحق، فإنه يستطيع أن يدَّعي لذاته نفس السلطة التي يدعيها
الآخرون ضده، فيقول إنه يتصرَّف من أجل المحافظة على صالحه الخاص … غير أن الحق هو الذي
له السلطة العليا؛ لأنه يمثِّل أيضًا مصلحة الكل — وإن كان ذلك بصورةٍ ناقصة.
إن حق الكل وحق الفرد لا يسريان على نطاقٍ واحد … فالأول يقنِّن مطالب المجتمع التي
يتوقف عليها أيضًا صونُ الأفراد ورفاهُهم … فإذا لم يعترف هؤلاء الأفراد بهذا الحق،
فإنهم لا يخطئون فقط في حق الصالح العام، بل يخطئون في حق أنفسهم أيضًا … عندئذٍ يكونون
قد أخطَئوا، وتؤدي العقوبة التي تُفرض على جريمتهم إلى إعادة حقهم الفعلي إلى
نصابه.
هذه الصيغة، التي هي الموجِّهة لنظرية العقوبة عند هِيجِل، تفصل فكرة الخطأ عن
الاعتبارات الأخلاقية فصلًا تامًّا. «ففلسفة الحق» لا تضع الخطأ ضمن أية فئةٍ أخلاقية،
وإنما تُدخِله في باب «الحق المجرَّد»؛ فالخطأ عنصرٌ ضروري في علاقة المُلَّاك الأفراد
بعضهم ببعض … وينطوي العرض الذي يقدِّمه هِيجِل على هذا العنصر الآلي بقوة؛ بحيث يوازي،
على نحوٍ مُلفِت للنظر، فلسفة «هبز» السياسية ذات النزعة المادية … صحيحٌ أن هِيجِل يرى
أن العقل الحر يحكم إرادة الأفراد وسلوكهم، ولكن يبدو أن هذا العقل يسلك على طريقة
قانونٍ طبيعي، لا على أنه نشاطٌ إنسانيٌّ مستقل … فالعقل يسيطر على الإنسان بدلًا من
أن
يمارس نشاطه من خلال قدراته الواعية … وعلى ذلك فإن هِيجِل عندما يوحِّد بين قانون
العقل وقانون الطبيعة، تتخذ هذه الصيغة عنده دلالةً مشئومة، لم تكن على الإطلاق هي ما
قصده منها؛ فقد كان قصده هو أن يؤكِّد أن العقل هو «طبيعة» المجتمع ذاتها، ولكن الخاصية
«الطبيعية» لقانون العقل أقرب بكثيرٍ إلى أن تكون هي الضرورة الطبيعية العمياء، منها
إلى أن تكون الحرية الواعية بذاتها، لمجتمعٍ عاقل … وسوف نرى أن هِيجِل يؤكِّد مرارًا
«الضرورة العمياء» للعقل في المجتمع المدني … وهكذا فإن نفس تلك الضرورة العمياء التي
حمل عليها ماركس فيما بعدُ، بوصفها مظهرَ الفوضوية في الرأسمالية، هي التي تُوضع في قلب
الفلسفة الهِيجِلية، عندما أخذَت هذه الفلسفة على عاتقها إثباتَ العقلانية الحرة للنظام
القائم.
إن الإرادة الحرة التي هي المحرِّك الفعلي للعقل في المجتمع، تولِّد الخطأ بالضرورة
…
فلا بد أن يصطدم الفرد بالنظام الاجتماعي الذي يزعم أنه يمثِّل إرادته الخاصة في صورتها
الموضوعية … ولكن الخطأ و«عدالة القصاص» التي تصحِّحه لا يعبِّران فقط عن «ضرورة منطقية
أعلى».
٥٧ بل هما يمهِّدان أيضًا للانتقال إلى شكلٍ اجتماعي أعلى للحرية، هو الانتقال
من الحق التجريدي إلى الأخلاق … ذلك لأن الفرد، بارتكابه الخطأ وقبوله العقوبة عن فعله،
يصبح واعيًا «بالذاتية اللانهائية» لحريته.
٥٨ وهو يتعلم أنه لا يكون حرًّا إلا بوصفه شخصًا خاصًّا … وحين يصطدم بنظام
الحق، يجد أن هذا النوع من الحرية، الذي كان يمارسه، قد بلغ حدودًا لا يُمكِنه تجاوزها.
وحين تجد الإرادة أن العالم الخارجي يصدُّها، فإنها تتحوَّل إلى الداخل، باحثةً هناك
عن
الحرية المطلَقة … وتدخل الإرادة الحرة المجال الثاني لتحقُّقها، وتصبح الذات التي
تتملَّك هي الذات الأخلاقية.
وهكذا فإن الانتقال من الجزء الأوَّل إلى الجزء الثاني من كتاب هِيجِل يمثِّل اتجاهًا
حاسمًا في المجتمع الحديث، هو ذلك الذي تصبح فيه الإرادة متحولة إلى الباطن
verinnerlicht. والواقع أن ديناميات الإرادة، التي
عرضها هِيجِل على أنها عمليةٌ أنطولوجية، تناظر مسارًا تاريخيًّا بدأ منذ عهد الإصلاح
الديني الألماني … وقد أوضحنا ذلك في مقدمة كتابنا هذا … وقد أشار هِيجِل إلى وثيقة من
أهم الوثائق التي تعرض هذا الهدف بوضوح، وهي بحث لوثر «في الحرية المسيحية»، الذي ذهب
فيه لوثر إلى أن «الروح لن تُمس ولن تتأثر لو أُسيئَت معاملة البدن، ولو أخضِع الشخص
لقوة شخصٍ آخر» … ويصف هِيجِل هذه العبارة بأنها «حجةٌ سفسطائية لا معنى لها»، ولكنه
يوافق في الوقت ذاته على أن هذه الحالة، وأعني بها أن المرء يستطيع أن يكون «حُرًّا وهو
في الأصفاد» ممكِنة … ولكنه يرى أن هذا لا يصدُق إلا إذا كانت هذه الحالة نتيجة إرادة
الإنسان الحرة، وحتى في هذه الحالة فإنها لا تصدُق إلا بالنسبة إليه وحده … أمَّا
بالنسبة إلى أي شخصٍ آخر، فإن المرء لا يكون حُرًّا إذا كان جسمُه مُستعبَدًا، ولا يكون
حُرًّا إلا إذا كان يعيش فعلًا، وعينيًّا، على أنه حُر
٥٩ … ففي رأي هِيجِل أن الحرية الباطنة ليست إلا مرحلةً انتقالية في عملية
تحقيق الحرية الخارجية … ويمكن القول إن الاتجاه إلى إلغاء عالم الحرية الباطن هو
استباقٌ لتلك المرحلة في تطوُّر المجتمع، التي لا تعود فيها عملية تحويل القيم إلى
العالم الباطن كافيةً بوصفها وسيلةً للحد من مطالب الأفراد … إن الحرية الباطنة تحتفظ
للفرد على الأقل بمجالٍ من الخصوصية غير المشروطة، لا تستطيع أية سلطة أن تتدخل فيه،
كما أن الأخلاقية تُخضِع الفرد لالتزاماتٍ معيَّنة ذات صحةٍ شاملة … ولكن حين يتحول
المجتمع إلى الأشكال الشمولية، وفقًا لحاجات الإمبريالية الاحتكارية، فإن الشخص في
كُلِّيته يصبح موضوعًا سياسيًّا … وعندئذٍ، فإن أخلاقيته الباطنة ذاتها تصبح خاضعةً
للدولة، ويُقضى على خصوصيته التي ينفرد بها … وهنا نجد أن نفس الأوضاع التي كانت تستدعي
صبغ القِيَم بالصِّبغة الباطنة، أصبَحَت تقتضي صبغها تمامًا بالصِّبغة الخارجية.
ويظل كتاب هِيجِل «فلسفة الحق» يعبِّر عن التوازن بين هذَين التطورَين المستقطبَين
…
فهِيجِل يرى أن ذاتية الإرادة «تظل أساسًا لوجود الحرية»،
٦٠ وهو يجعل الحرية تنتهي إلى دولةٍ ذات سلطةٍ شاملة … غير أن الأخلاقية؛ أي
عالم الحرية الباطنة، تفقد كل جلالها ومجدها في كتاب هِيجِل، وتصبح مجرد نقطة التقاء
بين القانون الخاص والقانون الدستوري، أو بين الحق المجرَّد والحياة الاجتماعية.
ولقد أكَّد الكثيرون أن مذهب هِيجِل لا يتضمَّن نظريةً أخلاقية بالمعنى الصحيح؛
ففلسفته السياسية تستوعب في داخلها فلسفته الأخلاقية، ولكن إدماج الأخلاق في السياسة
يتمشَّى مع تفسيره وتقويمه للمجتمع المدني؛ ومن هنا فليس من قبيل المصادفة أن كان القسم
المخصَّص للأخلاق أقصر أجزاء كتابه وأقلَّها أهمية.
وسوف ننتقل الآن إلى الجزء الأخير من «فلسفة الحق»، وهو الجزء الذي يبحث في
الأخلاق الاجتماعية والسياسية
Sittlichkeit … هذا
الجزء من الكتاب يبحث في الأسرة، والمجتمع المدني، والدولة. ولا بد لنا أوَّلًا من أن
نقدِّم عرضًا عامًّا للرابطة التي تجمع بين هذا الجزء وبين الجزأَين السابقَين من
«فلسفة الحق»؛ فهنا تتحوَّل الإرادة إلى الخارج؛ أي إلى العالم الخارجي للواقع
الاجتماعي. ويتضح لنا أن الفرد الذي يستمتع بالحرية والحقيقة الباطنة لأخلاقيته، لا
يكون قد وصل بعدُ إلى الحرية والحقيقة … «فالخير المجرَّد عديم القدرة»، وهو يتمشَّى
مع
أي مضمونٍ مُعطًى.
٦١ ولقد كان «علم المنطق» قد أثبت أن الفكرة لا تخرج إلى حيِّز الوجود إلا في
التحقُّق الفعلي
actuality. وبالمثل فلا بد
للإرادة الحرة من التغلب على الانفصام بين العالم الداخلي والخارجي، وبين الحق الذاتي
والكلي، ولا بد للفرد أن يحقِّق إرادته في نُظمٍ اجتماعية وسياسية موضوعية، ينبغي أن
تكون بدَورها متمشِّية مع إرادته. وهكذا يفترض هِيجِل مقدمًا، في الجزء الثالث من
«فلسفة الحق» بأكمله، أنه لا يُوجَد نظامٌ موضوعي لا يقوم على الإرادة الحرة للذات، ولا
تُوجَد إرادةٌ حرة لا تتجسَّد في النظام الاجتماعي الموضوعي.
وهذا بعينه هو ما يرِد في الفقرات الأولى … وفضلًا عن ذلك فإن هِيجِل يبشِّر هنا بأن
يظهر المثالي بوصفه وجودًا متحققًا فعليًّا … فقد بلغَت البشرية مرحلة النضج، ولديها
كل
الوسائل التي تجعل تحقُّق العقل ممكنًا، ولكن هذه الوسائل بعينها قد وضَعها واستخدَمها
مجتمعٌ مبدؤه المنظم هو إطلاق العِنان للمصالح الخاصة؛ ومِن ثَمَّ فهو عاجز عن
استخدامها لمصلحة الكل … ويذهب كتابُ فلسفة الحق «إلى أن المِلكية الخاصة هي الحقيقة
المادية للذات الحرة، وهي تحقق الحرية» … ولكن هِيجِل كان قد أدرك، منذ كتاباته الأولى،
أن علاقات المِلكية الخاصة تتعارض مع النظام الاجتماعي الذي هو حرٌّ بحق … فلا يمكِن
أن
تؤدي فوضى المُلَّاك الأنانيين، بتلقائيتها الخاصة، إلى نظامٍ اجتماعي كُلي، عاقل،
متكامل … وفي الوقت ذاته فإن النظام الاجتماعي السليم، في رأي هِيجِل، لا يمكِن أن
يُفرض مع إنكار حقوق الملكية الخاصة؛ إذ إن هذا يؤدي إلى القضاء على الفرد الحر … ومِن
ثَمَّ فإن مهمة تحقيق التكامل التام تقع على عاتق نظامٍ يعلو على المصالح الفردية
وعلاقات التنافس القائمة بينها، ولكنه مع ذلك يصون ممتلكات الأفراد ويحافظ على أوجه
نشاطهم.
ويعالج هِيجِل هذه المشكلة على نفس النحو الذي اتبعه عندما أثار مشكلة القانون
الطبيعي … فنظرية القانون الطبيعي كانت قد كافحَت من أجل مواجهة مشكلة الطريقة التي
تتحوَّل بها حالة التملُّك الفوضوي (أي الحالة الطبيعية) إلى حالة تكون فيها المِلكية
آمنة بصورةٍ عامة … وكان المفروض في نظرها أن يقوم المجتمع المدني بإقرار حالة الأمان
العام هذه … أمَّا هِيجِل فيطرح الآن هذا السؤال نفسه، ولكنه يتخذ في إجابته عنه خطوةً
أخرى تتجاوز النمط التقليدي؛ فمرحلتا التطور، وهما مرحلة الحالة الطبيعية، ومرحلة
المجتمع المدني، تعلو عليهما مرحلةٌ ثالثة، هي الدولة … ويرى هِيجِل أن نظرية القانون
الطبيعي قاصرة؛ لأنها تجعل من المجتمع المدني غاية في ذاته … وحتى في فلسفة «هبز»
السياسية، كانت السيادة المطلَقة خاضعة للحاجة إلى صونِ مصالح المجتمع المدني
وممتلكاته، وأصبح تحقيقُ هذا الشرط الأخير يكوِّن مضمون السيادة. كذلك يقول هِيجِل إن
المجتمع المدني لا يمكن أن يكون غايةً في ذاته؛ لأن متناقضاته الكامنة تحول بينه وبين
تحقيق وحدةٍ وحريةٍ حقيقية … ولذلك رفض هِيجِل استقلال المجتمع المدني، وجعله خاضعًا
للدولة المتمتِّعة بالاستقلال الذاتي.
وينقل هِيجِل مهمة تجسيد نظام العقل من المجتمع المدني إلى الدولة … غير أن هذه
الأخيرة لا تحلُّ محلَّ المجتمع المدني، بل هي تُحافظ على حركته، وتصونُ مصالحه دون أن
تغيِّر مضمونه … وهكذا فإن الخطوة التي تتجاوز المجتمع المدني، تؤدي إلى نظامٍ سياسيٍّ
تسلُّطي، يحفظ المضمون المادي للمجتمع سليمًا … أي إن الاتجاه التسلطي الذي يظهر في
فلسفة هِيجِل السياسية يصبح ضروريًّا بسبب التعارض والتضارب الذي يتسم به بنيان المجتمع
المدني.
غير أن هذا ليس الاتجاه الوحيد … فالجدَل يتتبَّع التحوُّل في بناء المجتمع المدني
حتى النقطة التي يصبح فيها منفيًّا أو مسلوبًا آخر الأمر … والواقع أن التصوُّرات التي
تشير إلى هذا النفي أو السلب تكمُن في قلب المذهب الهِيجِلي ذاته؛ فالعقل والحرية،
منظورًا إليهما على أنهما تصوُّران جدَليَّان أصيلان، لا يمكِن أن يتحقَّقا في النظام
السائد للمجتمع المدني … وهكذا تظهر في مفهوم الدولة عند هِيجِل عناصر تتعارض مع نظام
المجتمع المدني، وترسم الخطوط العامة لصورة تنظيمٍ اجتماعيٍّ مقبلٍ للبشر. وهذا ينطبق
بوجهٍ خاص على الشرط الأساسي الذي يضعه هِيجِل للدولة، وهو أن تصونَ المصلحة الحقيقية
للفرد وتحقِّقَها؛ بحيث يستحيل تصوُّرها إلا في ضوء الوحدة التامة بين الفرد وبين الكلي
… وتظهر هنا مرةً أخرى التحديدات المجرَّدة لكتاب «المنطق»، منظورًا إليها من خلال
دلالتها التاريخية … فالوجود الحق، كما جاء في كتاب «المنطق»، هو الكلي، الذي هو في
ذاته فردي، ويتضمَّن في ذاته الجزئي … هذا الوجود الحق، الذي أطلَق عليه «المنطق» اسم
المفهوم، يعود الآن بوصفه الحالة التي يتجسَّد فيها العقل والحرية … إنه «الكلي وقد
كشَف عن معقوليته الفعلية»،
٦٢ وهو يمثِّل «هُوية الإرادة العامة والخاصة»؛
٦٣ فالدولة هي «تجسُّد الحرية العينية، وفيها يصل الشخص ومصالحه الخاصة إلى
تمام نموِّهما، ويجدان اعترافًا كافيًا بحقوقهما.»
٦٤ فمن الواجب ألا تُترك المصالح الجزئية للأفراد جانبًا أو تُقمع على أي نحو؛
لأن «كل شيءٍ يتوقف على وحدة الكلية والجزئية في الدولة.»
٦٥
والواقع أن المضمون الجدَلي الحقيقي للعقل والحرية يتكشَّف مرارًا من وراء الصيغة
التسلطية التي يضعها هِيجِل لإنقاذ النظام الاجتماعي القائم؛ إذ نجد من جهةٍ أن الرغبة
في المحافظة على النظام القائم تدفعه إلى تجميد الدولة، بوصفها مجالًا قائمًا بذاته،
يتخذ موقعًا يعلو على حقوق الفرد بل يتعارض معها؛ فالدولة «لها سلطةٌ أو قوةٌ مطلَقة».
٦٦ وسيَّان عند الدولة «أن يُوجَد الفرد أو لا يُوجَد.»
٦٧ ولكن هِيجِل يؤكِّد، من جهةٍ أخرى، أن الأسرة، والمجتمع المدني، والدولة
«ليست أشياء غريبة عن الذات»، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من «ماهيتها الخاصة».
٦٨ وهو يطلق على العلاقة بين الفرد وبين هذه النُّظم اسم «الواجب والالتزام»
الذي يقيِّد حريته حتمًا … ولكنه يذهب إلى أنها لا تقيِّد إلا «حريته المجرَّدة»؛ ومِن
ثَمَّ فإنها تعني بالأحرى إطلاق «حريته الجوهرية».
٦٩
والواقع أن نفس الدينامية التي تفصل تصوُّرات هِيجِل عن ارتباطاتها بتركيب مجتمع
الطبقة الوسطى وتدفع بالتحليل الجدَلي إلى ما وراء هذا النظام الاجتماعي، تتكرَّر في
كل
جزء من القسم الأخير من «فلسفة الحق»؛ فالأسرة، والمجتمع المدني، والدولة، تبرَّر
بطريقة تنطوي على سلبها … ويشيع طابع المُفارَقة هذا في جميع مواضع مناقشة الأسرة، التي
يستهلُّ بها هذا القسم … فالأسرة أساسٌ «طبيعي» لنظام العقل الذي يبلغ قمَّته في
الدولة، ولكنها في الوقت ذاته لا يكون لها هذا الوصف إلا بقَدْر ما تنحلُّ … و«الحقيقة
الخارجية» للأسرة تتمثل في المِلكية، ولكن المِلكية تحطِّم الأسرة أيضًا؛ إذ يشبُّ
الأبناء ويُنشِئون أُسَرًا خاصة بهم، لها مِلكيتها الخاصة
٧٠ … وهكذا تنحل الوحدة «الطبيعية» للأسرة إلى كثرة من جماعات المُلَّاك
المتنافسة، التي تستهدف أساسًا مصلحتَها الأنانية الخاصة … هذه الجماعات تمهِّد الطريق
للمجتمع المدني، الذي يظهَر على المسرحِ حين تُضيَّع كل أخلاقٍ وتُسلب.
٧١
يبني هِيجِل تحليله للمجتمع المدني على المبدأَين الماديَّين للمجتمع الحديث، وهما:
(١) أن الفرد لا يستهدف إلا مصالحه الخاصة، التي يسلك في سعيه وراءها بوصفه «مزيجًا من
الضرورة المادية والنزوة التلقائية». (٢) أن المصالح الفردية مرتبطةٌ بعضُها ببعض على
نحو يجعل تأكيدَ إحداها وتحقيقَها متوقفًا على تأكيد الأخرى وتحقيقها.
٧٢ وحتى الآن لا نجد في ذلك سوى الوصف التقليدي الذي قدَّمه القرنُ الثامنَ
عشَر للمجتمع الحديث بوصفه «نظامًا من الاعتماد المتبادل» يعمل فيه كل فرد، في سعيه إلى
مصلحته الخاصة، على تحقيق مصلحة الكل «بالطبيعة».
٧٣ غير أن هِيجِل يتابع الأوجه السلبية، لا الإيجابية، لهذا النظام … فالمجتمع
المدني لا يظهر إلا لكي يختفي توًّا في «مشهد من الإفراط، والبؤس، والفساد المادي والاجتماعي».
٧٤ ونحن نعلم أن هِيجِل كان يؤمن منذ البداية بأن المجتمع الحقيقي، الذي هو
المصدر الحر لتقدُّم نمُوه الخاص، لا يمكِن تصوُّره إلا على أنه مجتمعٌ تتجسَّد فيه
الحرية الواعية. ونتيجةً لافتقار المجتمع المدني إلى مثل هذه الحرية فإن هِيجِل يأبى
أن
يصفه بأنه هو التحقُّق النهائي للعقل … فهِيجِل، شأنه شأن ماركس، يؤكِّد أن تكامل
المصالح الشخصية في هذا المجتمع إنما يكون نتاجًا للصُّدفة، لا لقرارٍ عقلي حر … ومِن
ثَمَّ فإن الكلية لا تظهر فيه بوصفها حرية، بل «بوصفها ضرورة»
٧٥ … «ففي المجتمع المدني لا تكون الكلية إلا ضرورة.»
٧٦ وهي تُضفي نظامًا على عملية إنتاجٍ لا يتحدَّد مكان الفرد فيها تبعًا
لحاجاته وقدراته، بل تبعًا «لرأسماله» … وهنا لا يدُل لفظ «رأس المال» فقط على القدرة
الاقتصادية الخاصة للفرد، بل يدُل أيضًا على ذلك الجزء من قوَّته المادية، الذي يبذله
في العملية الاقتصادية؛ أي على قوة عمله
٧٧ … فالحاجات الخاصة للأفراد تُشبَع بواسطة العمل المجرَّد،
٧٨ الذي هو «ملكٌ عامٌّ ودائم» للبشر.
٧٩ ولما كان إمكان المشاركة في الثروة العامة يتوقَّف على رأس المال، فإن هذا
النظام يؤدِّي إلى تزايد اللامساواة.
٨٠ وهذه النقطة من بحث هِيجِل لا تفصلها إلا مسافةٌ قصيرة عن تلك الفِقرات
المشهورة التي عرض فيها للارتباط الداخلي الوثيق بين تكديس الثروة من جهة وبين تزايد
فقر الطبقة العاملة من جهةٍ أخرى:
«إن تعميم العلاقات بين الناس على أساس حاجاتهم، وتعميم الطريقة التي تُعد
بها وسائل تلبية هذه الحاجات وتُكتسب، يؤدي إلى تكديس ثرواتٍ ضخمة … ومن جهةٍ
أخرى تحدث إعادة توزيع وتحديد لعمل العامل الفرد؛ ومِن ثَمَّ يسود الاعتماد على
الغير والبؤس بين طبقة الصُّناع …
وعندما ينحدر عددٌ كبير من الناس إلى ما دون مستوى المعيشة الذي يُعَد
أساسيًّا لأفراد المجتمع، ويفقدون إحساسهم بالحق والاستقامة والشرف، وهو
الإحساس الذي يُستمد من اعتماد المرء على ذاته، تنشأ طبقة من الفقراء، وتتراكَم
الثروة على نحوٍ غير متناسب في أيدي قلة من الناس.»
٨١
ويتكهَّن هِيجِل بظهور جيشٍ صناعي ضخم، ويلخِّص المتناقضات الحادَّة للمجتمع المدني
في العبارة القائلة إن «هذا المجتمع، برغم ثروته الفائضة، ليس ثريًّا إلى الحد الذي
يكفي … للقضاء على الفقر الزائد وعلى ظهور المزيد من الفقراء.»
٨٢ فنظام الفئات المتباينة
estates الذي
يحدِّد هِيجِل معالمه بوصفه التنظيم المميز للمجتمع المدني، ليس قادرًا بذاته على رفع
التناقض … ذلك لأن الوحدة الخارجية التي يُحاوِل هِيجِل تحقيقها بين الأفراد المتنافسين
من خلال الفئات الثلاث — فئة الفلاحين، والحِرفيين (وتشمل الصنَّاع وأصحاب الحِرف
والتجار)، والبيروقراطية — هذه الوحدة لا تزيد عن كونها تكرارًا لمحاولات هِيجِل
السابقة في هذا الاتجاه، وتبدو الفكرة هنا أقلَّ إقناعًا مما كانت عليه في أي وقتٍ مضى
… فهو يرى أن تنظيمات المجتمع المدني ونُظمه تهدف إلى «حماية المِلكية»،
٨٣ وأن الحرية في هذا المجتمع لا تعني إلا «حق المِلكية» … ولا بد أن تنظَّم
الفئات بقوًى خارجية أقوى من الأجهزة الاقتصادية، وتؤدي هذه إلى تمهيد الطريق للانتقال
إلى التنظيم السياسي للمجتمع … ويتم هذا الانتقال في الأقسام التي يعالج فيها هِيجِل
ممارسة العدالة، والشرطة، والنقابات.
إن ممارسة العدالة تجعل من الحق المجرَّد قانونًا، وتُدخِل نظامًا شاملًا واعيًا
في
عمليات المجتمع المدني العرضية العمياء … وقد ذكَرنا أن تصوُّر القانون هو محور كتاب
«فلسفة الحق»، إلى حد أنه قد يكون من الأفضل أن يُترجم عنوان الكتاب بعبارة «فلسفة
القانون» … فكل المناقشة التي يتضمَّنها الكتاب تفترض ضمنًا أن الحق يُوجَد فعلًا بوصفه
قانونًا، وهو افتراض يترتَّب على المبادئ الأنطولوجية لفلسفة هِيجِل … والحق، كما رأينا
من قبلُ، صفةٌ للذات الحرة، أو الشخص … والشخص بدَوره لا يكون ما يكونه إلا بفضل الفكر؛
أي من حيث هو ذاتٌ مفكِّرة … فالفكر يقيم مجتمعًا حقيقيًّا من الأفراد الذين هم بدونه
منعزلون، ويُضفي عليهم كليةً وشمولًا … والحق ينطبق على الأفراد بقَدْر ما يكونون
متصفين بصفة الكلية، ولا يمكن أن يمتلك نتيجةً لأية صفةٍ عرضية خاصة … وهذا يعني أن من
يملك الحق إنما يملكه بوصفه «الفرد على صورة الكلي، أو الأنا من حيث هو شخصٌ كلي»،
٨٤ وأن شمول الحق إنما هو في أساسه شمولٌ مجرَّد … وهكذا يتضح أن المبدأ
المثالي القائل إن الفكر هو الوجود الحقيقي، يعني أن الحق كليٌّ على شكل قانونٍ شامل؛
ذلك لأن القانون يجرِّد الفرد من فرديته ويعامله على أنه «شخصٌ كلي» … «إن قيمة الإنسان
ترجع إلى كونه إنسانًا، لا إلى كونه يهوديًّا أو كاثوليكيًّا أو بروتستنتيًّا أو
ألمانيًّا أو إيطاليًّا.»
٨٥ فحكم القانون يتعلق «بالشخص الكلي» لا بالفرد العيني، وهو يتضمَّن من
الحرية بقَدْر ما يكون كُليًّا.
إن نظرية هِيجِل التشريعية تنحاز على نحوٍ قاطع إلى الاتجاهات التقدُّمية في المجتمع
الحديث … فهو يرفض كل النظريات التي تجعل الحق متوقفًا على قرار القاضي لا على شمول
القانون — وكان في ذلك مستبقًا لاتجاهاتٍ لاحقة في التشريع — وهو ينقُد وجهة النظر التي
تجعل القضاة «مشرِّعين دائمين»، أو تجعل القرار النهائي فيما يتعلق بالحق والباطل
متروكًا لتقديرهم.
٨٦ ولم تكن القوى الاجتماعية المسيطرة على السلطة في عهده قد اعترفَت بعدُ بأن
الشمول المجرَّد للقانون، شأنه شأن سائر ظواهر النزعة الليبرالية، يقف في وجه
مشروعاتها، وأن الحاجة تدعو إلى أداةٍ للحكم أكثر فعاليةً وأقربَ إلى الطابع المباشر
…
فتصوُّر هِيجِل للقانون يلائم مرحلةً أسبق في تطوُّر المجتمع المدني، تتسم بالتنافس
الحر بين أفرادٍ تتساوى مواردهم المادية إلى حدٍّ معقول؛ بحيث يكون «كل فرد غاية في
ذاته» ويكون «الآخرون بالنسبة إلى كل فرد بعينه وسيلة لبلوغه غايته».
٨٧ في مثل هذا النظام يبدو الصالح المشترك أو الكلي ذاته، في نظر هِيجِل، مجرد
وسيلة.
هذا هو النظام الاجتماعي الذي ولد المجتمع المدني … ولا يمكِن أن يستمر هذا النظام
إلا إذا وفَّق بين المصالح المتعارضة، التي يتألف هو ذاته منها؛ بحيث يجعل منها شكلًا
أكثر عقلانية؛ أي شكلًا يمكن التنبؤ بمساره بسهولةٍ أكبر، بالقياس إلى عمليات سوق السلع
التي تتحكَّم فيه … فالمنافسة غير المقيدة تقتضي حدًّا أدنى من الحماية المتساوية
للمتنافسين، وضمانًا يُعتمد عليه للعقود والخدمات. على أن هذا الحد الأدنى من التوافق
والتكامل لا يمكن الوصول إليه إلا بتجريد الوجود العيني واختلافاته في كل فرد … «إن
الحق لا شأن له بتعيُّنات الإنسان المحددة. وهدفه ليس تشجيعه وحمايته» في «حاجاته
الضرورية وغاياته وميوله الخاصة (كتعطُّشه إلى المعرفة أو رغبته في حفظ حياته وصحته وما
إلى ذلك).»
٨٨ إن الإنسان يدخل في تعاقدات، وعلاقات تبادُل، وغيرها من الالتزامات بصفته
مجرد صاحب رأسمال أو قوة عمل أو صاحب أية ممتلكاتٍ أو أدواتٍ أخرى ضرورية للمجتمع …
وعلى ذلك فإن القانون لا يمكِن أن يكون كليًّا، ويعامل الأفراد بوصفهم متساوين، إلا
بقَدْر ما يظل مجردًا؛ ومن هنا فإن الحق شكلٌ أكثر مما هو مضمون … والعدالة التي يمنحها
القانون تستمد أنموذجها من الشكل العام للتعامل والتفاعل، على حين أن الاختلافات
العينية للحياة الفردية لا يكون لها شأن به إلا من حيث هي مجموعة من الظروف التي تخفِّف
المسئولية أو تزيد من وطأتها … وهكذا فإن للقانون من حيث هو كلِّي وجهًا سلبيًّا؛ فهو
ينطوي بالضرورة على عنصر من الصُّدفة والاتفاق، ولا بد أن يكون تطبيقه على أية حالةٍ
خاصة تطبيقًا ناقصًا، مسببًا للظلم والعَسْف. غير أن هذه العناصر السلبية لا يُمكِن
القضاء عليها بتوسيع سلطة القاضي في التصرف؛ فالشمول المجرَّد للقانون، برغم كل عيوبه،
ضمانٌ للحق أفضل بكثير من الذات الفردية العينية الخاصة؛ ذلك أن لكل الأفراد في المجتمع
المدني مصالحَ خاصةً يفترقون بها عن المجموع، وليس لأحدٍ منهم أن يدَّعي أنه مصدر
الحق.
ومن الصحيح في الوقت ذاته أن المساواة المجرَّدة بين الناس أمام القانون لا تزيل
التفاوت المادي بينهم، أو تقضي بأي معنًى على العرضية العامة التي تُحيط بمركزهم
الاجتماعي والاقتصادي، ولكن القانون، نظرًا إلى كونه يتجاهل العناصر العارضة، هو أعدل
من العلاقات الاجتماعية العينية التي تتولَّد عنها اللامساواة والحظ وغيرها من المظالم؛
فالقانون على الأقل مبنيٌّ على عواملَ أساسيةٍ قليلة مشتركة بين الأفراد جميعًا …
(وينبغي أن نذكُر أن المِلكية الخاصة واحدة من تلك «العوامل الأساسية» في نظر هِيجِل،
وأن المساواة الإنسانية تعني في نظره أيضًا حق الجميع على قدَم المساواة في الملكية)
…
والقانون؛ إذ يتمسك بمبدأ في المساواة الأساسية، يستطيع تصحيح بعض المظالم الصارخة دون
أن يُحدِث تغييرًا في ذلك النظام الاجتماعي الذي يقتضي استمرار الظلم بوصفه عنصرًا
مكوِّنًا لوجوده.
هذا، على الأقل، هو البناء الفلسفي، الذي لا يصح إلا بقَدْر ما يعطي حكم القانون
ضمانًا وحمايةً للضعيف، أعظم مما يعطيه النظام الذي حلَّ منذ ذلك الحين محلَّه، وهو حكم
السلطة الآمرة … فنظرية هِيجِل ثمرةٌ للعصر الليبرالي، وهي تنطوي على مبادئه التقليدية
… وهو يقول إن إطاعة القانون تستلزم معرفة الجميع به، مشيرًا في هذا الصدد إلى أن
الطغيان «يعلِّق القوانين في مكان يبلغ من الارتفاع حدًّا يعجز معه أي مواطن عن
قراءتها». وهو يستبعد، لهذا السبب نفسه، التشريع ذا الأثر الرجعي … كما يذكُر أن من
الواجب أن تقيَّد سلطة القاضي في الحكم، بقَدْر الإمكان، بواسطة نصوصٍ صريحة في القانون
ذاته … فالمحاكمة العلنية مثلًا ضرورية بوصفِها وسيلةً من وسائل هذا التقييد، ومبرِّرها
هو أن القانون يقتضي ثقة المواطنين، وأن الحق، من حيث هو كليٌّ شامل في أساسه، ينتمي
إلى الجميع.
٨٩
وتنطوي فكرة هِيجِل على الرأي القائل إن الكيان القانوني هو ما يُشيِّده الناس
الأحرار أنفسهم بعقولهم الخاصة. وهو يفترض، تمشيًا مع تراث الفلسفة السياسية
الديمقراطية، أن الفرد الحر هو المشرِّع الأصلي الذي أعطى القانون لنفسه، ولكن هذا
الافتراض لا يمنع هِيجِل من القول إن القانون يتجسَّد في «حماية الملكية عن طريق ممارسة
العدالة.»
٩٠
هذا الاستبصار بالارتباط المادي بين حكم القانون وحكم الملكية يُرغم هِيجِل، على
خلاف
لوك وأتباعه اللاحقين، على تجاوز النظرية الليبرالية؛ فبسبب هذا الارتباط، كان من
المستحيل أن يكون القانون هو النقطة النهائية للتكامل بالنسبة إلى المجتمع المدني، أو
أن يمثِّل الشمول الحقيقي في هذا المجتمع؛ فحكم القانون لا يجسِّد إلا «الحق المجرَّد»
في الملكية … «ووظيفة الهيئة القضائية تقتصر على تحقيق الجانب المجرَّد من الحرية
الشخصية في المجتمع المدني وجَعْل هذا الجانب ضرورةً من ضروراته … ففيها لا تكون
الضرورة العمياء لنظام الحاجات قد ارتفعَت بعدُ إلى مرتبة الوعي بالكلي، ولا تكون قد
طُبقَت من وجهة النظر هذه.»
٩١ لذلك كان من الواجب إكمال القانون، بل الاستعاضة عنه، بقوةٍ أشدَّ منه
فعاليةً وصرامةً بكثير، تحكُم الأفراد على نحوٍ أقرب إلى الطابع المباشر المحسوس … وهنا
تظهر الشرطة.
تظهر في مفهوم الشرطة عند هِيجِل كثيرٌ من سمات النظرية التي كان الحكم المطلَق
يستخدمها في تبرير التنظيم الذي يقيِّد به الحياة الاجتماعية والاقتصادية؛ فالشرطة لا
تتدخَّل فقط في عملية الإنتاج والتوزيع، ولا تقيِّد فقط حرية التجارة والربح وتراقب
الأسعار والفقراء والمشرَّدين، بل هي أيضًا تُشرِف على الحياة الخاصة للأفراد كلما كان
لها تأثير في الصالح العام … غير أن هناك فارقًا هامًّا بين الشرطة التي فعلَت ذلك كله
خلال فترة نشأة الحكم المطلَق الحديث، والشرطة في عهد عودة المَلَكية
٩٢ … ويمكن القول إن كتاب «فلسفة الحق» يعبِّر عن النظرية الرسمية لهذا العهد
الأخير إلى حدٍّ بعيد … فالمفروض أن الشرطة تمثِّل مصلحة الكل ضد القوى الاجتماعية التي
ليست أضعف ولا أقوى من أن تضمن حُسْن سَيْر العملية الاجتماعية والاقتصادية دون أن
يُعكِّر صفوها شيء … ولم يعُد على الشرطة أن تنظِّم عملية الإنتاج نظرًا إلى عدم وجود
قوةٍ ومعرفةٍ خاصة تحقِّق ذلك … بل إن مهمة الشرطة هي مهمةٌ سلبية، وأعني بها صون «أمن
الشخص والمِلكية» في ذلك المجال العارض الذي لا تسري عليه النصوص الشاملة للقانون.
٩٣
على أن أقوال هِيجِل عن وظيفة الشرطة توضِّح أنه تجاوز النظرية التي كانت سائدةً
في
وقت عودة المَلَكية، ولا سيَّما حين أكَّد أن ازدياد التعارض والتشاحن داخل المجتمع
المدني يجعل الكائن العضوي والاجتماعي، على نحوٍ متزايد، مجموعةً متخبطة عمياء من
المصالح الأنانية، ويحتِّم إيجاد نظامٍ قوي للسيطرة على هذه الفوضى … ومما له دلالتُه
البالغة، أن هِيجِل يقدِّم، في مناقشته هذه للشرطة، بعضًا من أقوى ملاحظاته وأوسعها
مدًى، عن الاتجاه الهدام الذي كُتب على المجتمع المدني أن يسير فيه. وهو يختم كلامه
بقوله إن «المجتمع المدني مدفوع، بواسطة جدَله الخاص، إلى تجاوز حدوده الخاصة بوصفه
مجتمعًا محدَّد المعالم مكتفيًا بذاته.» فلا بد له أن يبحث عن أسواقٍ جديدة تستوعب
الإنتاج الفائض المتزايد، وأن يتبع سياسة توسُّعٍ اقتصادي واستعمارٍ منظَّم.
٩٤
وتختفي الصعوبات المتعلقة بالربط بين الشرطة وبين السياسة الخارجية للدولة، إذا أخذنا
في اعتبارنا أن الشرطة عند هِيجِل نتاجٌ للتعارضات المتزايدة داخل النظام المدني، وهي
نظامٌ استُحدث لكي يتصدَّى لهذه المتناقضات؛ ومِن ثَمَّ فإن الخط الفاصل بين الشرطة
وبين الدولة (التي تُكمِل ما تبدؤه الشرطة) ليس حادًّا. ويتصور هِيجِل وضعًا نهائيًّا
يكون فيه «عمل الكل خاضعًا لتنظيمٍ إداري.»
٩٥ هذا الوضع يؤدي، كما يقول، إلى «تقصير أجل القلاقل الخطيرة» التي يتعرَّض
لها المجتمع المدني، وتخفيفها. وبعبارةٍ أخرى فإن التنظيم الاجتماعي الشمولي لن يدَع
إلا وقتًا أقل «للمنازعات لكي تسوِّي نفسها بقوة الضرورة اللاواعية وحدها.»
٩٦
غير أن الشرطة ليست هي العلاج الوحيد؛ فهناك نظامٌ آخر يمكِن بواسطته كبح جماح
المجتمع المدني، هو نظام النقابات
Corporation، الذي
يتصوَّره هِيجِل على مثال نظام الطوائف الحِرفية القديم، مع إضافة بعض سمات النقابات
الحديثة … إن النقابة وحدةٌ اقتصادية، فضلًا عن كونها سياسية، لها الوظيفة المزدوجة
الآتية: (١) بعث الوحدة في المصالح وأوجه النشاط الاقتصادي المتنافسة بين الفئات
المختلفة، (٢) والدفاع عن المصالح المنظمة للمجتمع المدني في مقابل الدولة. وتتولى
الدولة الإشراف على النقابة،
٩٧ ولكن النقابة تهدف إلى صيانة المصالح المادية للتجارة والصناعة … ففي
النقابة يلتقي رأس المال والعمل، والمنتِج والمستهلِك، والربح والمصلحة العامة، وفيها
تُنقَّى المصالح الخاصة للمشتركين في الحياة الاقتصادية من الأنانية البحتة؛ بحيث
يُمكِنهم الدخول في النظام الشامل للدولة.
ولا يشرح هِيجِل كيف يكون ذلك ممكنًا. ويبدو أن النقابة تختار أعضاءها تبعًا
لمؤهلاتهم الفعلية، وأنها تضمن عملَهم ومواردهم، ولكن يظهر أن هذا كل ما في الأمر؛
فالنقابة تظل قبل كل شيء هيئةً أيديولوجية، وكيانًا يحثُّ الفرد على العمل من أجل مثلٍ
أعلى لا يُوجَد بعدُ، هو «الغاية غير الأنانية للكل.»
٩٨ وفضلًا عن ذلك فإن النقابة تجعله عُضوًا مُعترَفًا به داخل جماعة … ولكن
حقيقة الأمر أن العملية الاقتصادية هي التي تقوم بالاعتراف، لا الفرد … ولذلك فإن الفرد
لا يحصُل إلا على خيرٍ أيديولوجي، والتعويض الذي يناله هو «شرف» الانتماء إلى النقابة.
٩٩
ويؤدي البحث في النقابة إلى الانتقال من الجزء الخاص بالمجتمع المدني إلى الجزء الخاص
بالدولة … والدولة منفصلة ومتميزة أساسًا عن المجتمع، وعلى حين أن السمة الأساسية في
المجتمع المدني هي «ضمان المِلكية والحرية الشخصية وصيانتها»، وأن «مصلحة الفرد» هي
هدفها النهائي، فإن للدولة وظيفةً مختلفة كل الاختلاف، كما أنها ترتبط بالفرد على نحوٍ
آخر … «إن الاتحاد في ذاته هو المضمون الحقيقي والغاية الفعلية» للدولة … والعامل الذي
يؤدي إلى التكامل والتماسك هو الكلي، لا الجزئي … ففي الدولة يستطيع الفرد أن «يقضي
حياة كلية»، وفيها تنظَّم ميوله وأوجه نشاطه وأساليب حياته الخاصة وفقًا للصالح العام
…
فالدولة ذاتٌ بالمعنى الدقيق للكلمة؛ أي إنها هي التي تصب فيها وتنتهي إليها كل الأفعال
الفردية التي تخضع الآن «للقوانين والمبادئ الكلية».
١٠٠
إن قوانين الدولة ومبادئها هي التي توجِّه نشاط الرعايا ذوي الفكر الحر؛ بحيث إن
العنصر الذي تتألف منه ليس الطبيعة، بل الروح، والمعرفة العقلية، وإرادة الأفراد
المجتمعين … وهذا هو معنَى تسمية هِيجِل للدولة باسم «الروح الموضوعية»؛ فالدولة تخلق
نظامًا لا يتوقف استمراره — كما كانت الحال في المجتمع المدني — على العلاقة المتبادلة
العمياء بين الحاجات والخدمات … بل إن «نظام الحاجات» يتحول إلى نظامٍ واعٍ للحياة التي
تسيطر عليها قرارات الإنسان المستقلة المستهدفة للصالح العام … ومِن ثَمَّ فإن من
الممكِن أن تُوصَف الدولة بأنها «تحقق الحرية.»
١٠١
لقد ذكَرنا أن المهمة الأساسية للدولة في نظر هِيجِل هي تحقيق الاتفاق بين المصلحة
الخاصة والعامة، من أجل المحافظة على حق الفرد وحريته … ومع ذلك فإن هذا المطلب يفترض
مقدمًا التوحيد بين الدولة والمجتمع، لا الفصل بينهما؛ ذلك لأن حاجات الفرد ومصالحه
تُوجَد في المجتمع، وأيًّا كانت الطريقة التي تؤدي بها مقتضيات الصالح العام إلى
تعديلها، فإنها تنشأ في العمليات الاجتماعية التي تحكُم الحياة الفردية، وتظل مرتبطة
بها … وهكذا فإن المطالبة بتحقيق الحرية والسعادة تقع آخر الأمر على عاتق المجتمع، لا
على الدولة؛ ففي رأي هِيجِل أن الدولة ليس لها من هدفٍ سوى «التجمُّع بما هو كذلك».
وبعبارةٍ أخرى فلن يكون لها هدفٌ على الإطلاق حين يكون النظام الاجتماعي والاقتصادي
«تجمُّعًا حقيقيًّا» … عندئذٍ تؤدي عملية تحقيق التآلف بين الفردي والكلي إلى «ذبول»
الدولة، لا إلى إنعاشها.
على أن هِيجِل فصل النظام المعقول للدولة عن العلاقات المتبادلة العارضة للمجتمع؛
لأنه كان ينظر إلى المجتمع على أنه مجتمعٌ مدني، وهذا الآخر ليس «تجمُّعًا حقيقيًّا».
ولقد كان الطابع النقدي لجدَله هو الذي أرغمه على أن ينظر إلى المجتمع كما فعل؛ ذلك لأن
المنهج الجدَلي يفهم ما هو وجود من خلال السلب الذي ينطوي عليه، وينظر إلى الوقائع في
ضوء تغيُّرها … والتغيُّر مقولةٌ تاريخية.
١٠٢ فالروح الموضوعية التي يعالجها كتاب «فلسفة الحق» تتكشَّف في الزمان،
١٠٣ وينبغي أن يسترشد التحليل الجدَلي لمضمونها بالأشكال التي اتخذَها هذا
المضمون في التاريخ … وهكذا تبدو الحقيقة إنجازًا تاريخيًّا؛ بحيث إن المرحلة التي
بلغَها الإنسان بالمجتمع المدني تتحقق فيها كل الجهود التاريخية السابقة … وقد يظهر في
المستقبل شكلٌ آخر للتجمُّع، غير أن الفلسفة، بوصفها علم المتحقق الفعلي، لا تحاول
التكُّهن بهذا الموضوع؛ فالأساس الذي ينبغي أن يُبنى عليه العقل هو الواقع الاجتماعي،
بما يسود فيه من منافسة وأنانية واستغلال، وثروةٍ مُفرِطة وفقرٍ مُدقِع … إن الفلسفة
لا
تستطيع أن تسبق التاريخ؛ لأنها بنتُ زمانها، أعني «زمانها مفهومًا في الفكر».
١٠٤
أمَّا هذا الزمن، فهو زمن مجتمعٍ مدني وضع فيه الأساس المادي لتحقيق العقل والحرية،
غير أن هذا عقلٌ تشوِّهه الضرورة العمياء للعملية الاقتصادية، وحرية يفسدها تنافس
المصالح الخاصة المتعارضة … ومع ذلك فإن هذا المجتمع ذاته ينطوي على عناصرَ كثيرة
تمهِّد الطريق للتجمع الحر العاقل بحق؛ فهو يحمي الحق المطلَق للفرد، ويزيد من حاجات
الناس ووسائل إشباعها، وينظِّم تقسيم العمل، ويشجِّع حكم القانون … هذه العناصر ينبغي
أن تحرَّر من المصالح الخاصة وتخضع لقوة تعلو على نظام المجتمع المدني، القائم على
التنافُس؛ بحيث يكون لها مركزها الرفيع الخاص. هذه القوة هي الدولة. وينظر هِيجِل إلى
الدولة على أنها «قوةٌ مستقلة متحكِّمة في ذاتها» لا يكون الأفراد فيها إلا «مجرد
لحظات»، وعلى أنها «مسيرة الله في العالم.»
١٠٥ ولقد كان يعتقد أن هذه هي ماهية الدولة ذاتها، ولكنه في الواقع إنما كان
يصف النمط التاريخي للدولة، الذي يناظر المجتمع المدني.
ونستطيع أن نصل إلى هذا التفسير للدولة عند هِيجِل إذا وضعنا تصوُّر الدولة عنده
في
الإطار الاجتماعي التاريخي الذي قال به هو ذاته ضمنًا في وصفه للمجتمع المدني … ففكرة
هِيجِل عن الدولة تنبثق من فلسفةٍ أوشك فيها الفهم الليبرالي للدولة والمجتمع على
الانهيار … ولقد رأينا أن تحليل هِيجِل أدَّى إلى إنكاره أيَّ انسجامٍ «طبيعي» بين
المصلحة الخاصة والعامة، وبين المجتمع المدني والدولة … وهكذا هُدمَت الفكرة الليبرالية
عن الدولة … ولكيلا يتحطَّم إطار النظام الاجتماعي القائم، كان من الضروري أن يُركز
الصالح المشترك في هيئة تمتع بالاستقلال الذاتي، وأن تُوضع سلطة الدولة فوق ساحة القتال
الذي يدور بين الجماعات المتنافسة … ومع ذلك فإن دولة هِيجِل «المؤلهة» لا توازي الدولة
الفاشية بأية حال … فهذه الأخيرة تمثِّل نفس مستوى التطور الاجتماعي الذي يُفترض أن
دولة هِيجِل تتجنَّبه، وأعني به السيطرة الشمولية المباشرة للمصالح الخاصة على الكل …
ففي الفاشية يحكُم المجتمع المدني الدولة، أمَّا عند هِيجِل فالدولة تحكُم المجتمع
المدني … وباسمِ مَن تحكُم؟ في رأي هِيجِل أنها تحكُم باسم الفرد الحر ولمصلحته
الحقيقية … «إن ماهية الدولة الحديثة هي أنها اتحاد الكلي بالحرية الكاملة للجزئي،
وبمصلحة الأفراد.»
١٠٦ والفارق الأساسي بين العالم القديم والحديث، ينحصر في أن المسائل الكبرى
للحياة الإنسانية لا تقرِّرها، في العالم الحديث، سلطةٌ عليا، وإنما تقرِّرها الإرادة
الفردية الحرة للإنسان. «هذه الإرادة الفردية … ينبغي أن يكون لها مكانها الخاص في
البناء الهائل للدولة.»
١٠٧ فالمبدأ الأساسي لهذه الدولة هو النمو والتحقيق الكامل للفرد.
١٠٨ ودستورها وجميع نُظمها السياسية ينبغي أن تعبِّر عن «معرفة أفرادها
وإرادتهم».
ومع ذلك فإن هذه هي النقطة التي يؤدِّي فيها التناقض التاريخي الكامن في فلسفة هِيجِل
إلى تحديد مصير هذه الفلسفة … فالفرد الذي يعرف أن مصلحته الحقيقية تكمُن في المصلحة
العامة، ويرغبها على هذا الأساس — هذا الفرد، ببساطة، لا وجود له … ذلك لأن الأفراد لا
يُوجَدون إلا بوصفهم أصحاب مِلكياتٍ خاصة، خاضعين للعمليات الوحشية التي تدور داخل
المجتمع المدني، منفصلين عن المصلحة العامة نتيجة للأنانية وكل ما يترتَّب عليها …
وبقَدْر ما يمتد المجتمع المدني، فإن أحدًا لا يمكن أن يكون متحرِّرًا من
متاعبه.
ومع ذلك فإن الطبيعة موجودة خارج المجتمع … فإذا أمكن أن يُوجَد شخصٌ يمتلك فرديته
بفضل وجوده الطبيعي لا الاجتماعي، ويكون ما يكونه بالطبيعة فحسب، لا بفعل الأجهزة
الآلية، فقد يكون هو النقطة الثابتة التي يمكِن أن تحكم منها الدولة. ويجد هِيجِل مثل
هذا الشخص في الملك، الذي هو إنسانٌ يُختار لمركزه «بحكم مولده الطبيعي.»
١٠٩ في هذا الشخص يمكِن أن ترتكز الحرية القصوى؛ إذ إنه خارج عن عالم الحرية
الباطلة السلبية، وهو «يرتفع فوق كل ما هو جزئيٌّ مشروط.»
١١٠ إن الأنا، لدى كل شخصٍ آخر، يفسَد بفعل النظام الاجتماعي الذي يشكِّله،
أمَّا الملك فهو وحده الذي لا يتأثر على هذا النحو؛ ومِن ثَمَّ فهو قادر على أن يتخذ
من
«أناه» الخالص مصدرًا لكل أفعاله ويقرِّرها تبعًا له … إنه يستطيع أن يُلغي كل جزئية
في
«اليقين البسيط لذاته».
١١١
ونحن نعلم ما يعنيه «اليقين الذاتي للأنا الخالص» في مذهب هِيجِل؛ فهو الصفة الأساسية
«للجوهر من حيث هو ذات»؛ ومِن ثَمَّ فهو مميزٌ للوجود الحق.
١١٢ والواقع أن استخدام هذا المبدأ تاريخيًّا من أجل إنتاج الشخص الطبيعي للملك
يدل مرةً أخرى على إفلاس المثالية … فالحرية تصبح في هُوية مع الضرورة المحتومة
للطبيعة، والعقل ينتهي إلى مصادفةٍ عارضة متعلقة بالمولد … ومرةً أخرى تتحول فلسفة
الحرية إلى فلسفة للضرورة.
لقد وصف علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي المجتمع الحديث بأنه «نظامٌ طبيعي» بدت
قوانينه وكأنها تتصف بضرورة القوانين الفيزيائية … وسرعان ما فقدَت وجهة النظر هذه
سِحْرها … فقد بيَّن ماركس كيف تتخذ القوى الفوضوية للرأسمالية طابع القوى الطبيعية
طالما أنها لم تصبح خاضعةً للعقل البشري، وأن العنصر الطبيعي في المجتمع ليس عنصرًا
إيجابيًّا بل هو عنصرٌ سلبي … ويبدو أن هِيجِل كان لديه نوعٌ من الإدراك الغامض لهذه
الحقيقة … فهو في بعض الأحيان يبدو كما لو كان يسخَر من تمجيده المثالي للملك، ويعلن
أن
قرارات الملك ليست إلا شكليات أو رسميات، فهو «إنسان يقول نعم، وبذلك يضع النقطة فوق
الحرف.»
١١٣ وقد لاحظ أن الملوك لا يتميَّزون بقوةٍ عقليةٍ أو جسميةٍ خاصة، وأن
الملايين، برغم ذلك، يسمحون لأنفسهم بأن يُحكَموا بواسطتهم.
١١٤ ومع ذلك فإن هِيجِل يشعر بأن الضعف العقلي للملك أفضل من حكمة المجتمع
المدني.
إن الخطأ الذي وقع فيه هِيجِل أبعَدُ غَورًا بكثير من تمجيده للملكية البروسية؛
فجريمته ليست في كونه ذليلًا، بقَدْر ما هي في كونه قد خان أرفَع أفكاره الفلسفية؛ ذلك
لأن نظريته السياسية تسلِّم المجتمع للطبيعة، والحرية للضرورة، والعقل للنزوة والهوى،
وهي في ذلك إنما تعكس النظام الاجتماعي الذي ينحدر، في سعيه وراء حريته، إلى حالةٍ
طبيعية أحط كثيرًا من العقل … لقد انتهى التحليل الجدَلي للمجتمع المدني إلى أن المجتمع
عاجزٌ عن إقامة العقل والحرية من تلقاء ذاته … لذلك اقترح هِيجِل دولةً قويةً تحقِّق
هذه الغاية، وحاول التوفيق بين تلك الدولة وبين فكرة الحرية، عن طريق إعطاء الملكية
طابعًا دستوريًّا قويًّا.
إن الدولة لا تُوجَد إلا من خلال وسيط القانون … «والقوانين تعبِّر عن مضمون الحرية
الموضوعية … فهي غايةٌ نهائية مطلَقة، وهي عملٌ كليٌّ شامل.»
١١٥ ومن هنا فإن الدولة مقيَّدة بقوانين هي عكس الأوامر التسلطية … فالكيان
الذي تؤلِّفه القوانين هو «عملٌ كليٌّ شامل» يضُم في ذاته عقل الأشخاص الداخلين في
المجتمع وإرادتهم … والدستور يعبِّر عن مصالح الجميع «وهو يعني الآن بالطبع مصالحهم
الحقيقية «النقية»)، وليست السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية سوى أدواتٍ أو
هيئاتٍ للقانون الدستوري … ويرفض هِيجِل الفصل التقليدي بين هذه السلطات؛ إذ يراه
ضارًّا بوحدة الدولة؛ فمن الواجب أن تعمل وظائف الحكومة الثلاث معًا في تعاونٍ فعليٍّ
دائم. ويبلغ اهتمامه بوحدة الدولة وتأكيده لها حدًّا من القوة يؤدي به أحيانًا إلى وضع
صِيَغٍ شبيهة بالنظرية العضوية للدولة … فهو يعلن مثلًا أن الدستور «وإن كان قد تولَّد
في زمانٍ معيَّن، فمن الواجب ألا يُنظَر إليه على أنه مصنوع بواسطة الإنسان، بل يجب أن
يُعَدَّ «إلهيًّا ودائمًا».
١١٦ مثل هذه التصريحات تصدُر عن نفس الدوافع التي أرغمَت معظم الفلاسفة البعيدي
النظر على أن يضعوا الدولة فوق أية شبهةٍ من شبهات النقد، وكانوا بذلك يدركون أن
الرابطة التي تجمع على أقوى نحوٍ ممكن بين الجماعات المتنازعة من الطبقة الحاكمة هي
الخوف من حدوث أيِّ انقلابٍ على النظام القائم.
ولسنا نودُّ أن نُضيع وقتًا في الكلام عن العرض الذي قدَّمه هِيجِل للدستور؛ إذ إنه
لا يكاد يضيف شيئًا ذا بالٍ إلى كتاباته السابقة في الموضوع نفسه، وإن كانت بعض السمات
الهامة لمذهبه تستحق إشارةً موجَزة … فهو يغيِّر الثالوث التقليدي للسلطات السياسية
بحيث يتألف من السلطة المَلكية، والإدارية، والتشريعية. وهذه السلطات تتداخل بحيث تكون
السلطة التنفيذية في يد الأُوليَين، وتشمل القضائية، على حين أن السلطة التشريعية
تُمارِسها الحكومة ومعها الطوائف المختلفة … ويتجه النظام السياسي بأكمله مرةً أخرى نحو
فكرة السيادة، التي تظل هي المسيطرة على بنائه الفكري بأَسْره، وإن كانت جذورها ترجع
الآن إلى الشخص «الطبيعي» للملك … وإلى جانب سيادة الدولة على المنازعات والمتناقضات
التي تسود المجتمع المدني، يؤكد هِيجِل الآن سيادتها على الشعب
Volk. والشعب هو «ذلك الجزء من الدولة الذي لا يعرف
ما يريد»، والذي تكون «حركته وسلوكه فطريَّين، خاليَين من العقل، عنيفَين، فظيعَين»
١١٧ إذا لم يُنظَّما. وهنا أيضًا قد يكون ما في ذهن هِيجِل هو «الحركة الشعبية
Volksbewegung» في عصره. ومن الجائز جِدًّا أن
المَلَكية البروسية بدت ملاذًا للعقل إذا قيست بتلك الحركة التيوتونية الآتية من
«أسفل». ومع ذلك فإن تحبيذ هِيجِل لوجود قبضةٍ قوية تحكُم الكتل الجماهيرية هو جزء من
اتجاهٍ عام، يهدِّد البناء الدستوري لدولته بأَسْره.
إن الدولة هي التي تكفُل وحدة المصلحة الخاصة والعامة … ويختلف رأي هِيجِل في هذه
الوحدة عن الرأي الليبرالي، من حيث إن دولته مفروضة على الأجهزة الاجتماعية والاقتصادية
للمجتمع المدني، ولديها سلطاتٌ ونُظمٌ سياسية مستقلة. «إن الإرادة الموضوعية هي في
ذاتها عقلية في فكرتها ذاتها، سواء كانت موضوعًا لمعرفة الأفراد أم لرغبتهم ونزواتهم.»
١١٨
ومع ذلك فإن تمجيد هِيجِل للسلطة السياسية للدولة يتسم ببعض السمات النقدية الواضحة
…
فهو في مناقشته للعلاقة بين الدين والدولة، يشير إلى أن «الدين يُثنَى عليه ويُلتجأ
إليه في الأوقات التي يشيع فيها الحزن العام والاضطراب والظلم أساسًا، وهو يُلقَّن لكي
يكونَ فيه عزاءٌ من الظلم وأملٌ في التعويض في حالة الخسارة.»
١١٩ وهو يلاحِظ الوظيفة الخطيرة للدين في اتجاهه إلى صرف أنظار الإنسان عن
السعي إلى حريته الفعلية، وإلى تقديم تعويضٍ خيالي إليه عن مظالمَ حقيقية. «من المؤكَّد
أن أولئك الذين يعانون من مظالم أي حكمٍ مطلَق، لو أُحيلوا إلى الدين لكي يقدِّم إليهم
العزاء، لكان ذلك أمرًا يدعو إلى السخرية المريرة، كذلك ينبغي ألا يغرُب عن البال أن
الدين قد يتخذ صورةَ خرافةٍ مهينة، تنطوي على أشد أنواع العبودية إذلالًا، وتنحَط
بالإنسان إلى ما دون مستوى البهائم.» فلا بد من تدخُّل قوةٍ ما لإنقاذ الفرد من الدين
في هذه الحالة … وهنا تأتي الدولة لنصرة «حقوق العقل والوعي الذاتي» … «ليست القوة، بل
الضعف، هو الذي جعل من الدين في وقتنا هذا نوعًا من التقوى يناضل دفاعًا عن نفسه»، وليس
الصراع من أجل التحقيق التاريخي للإنسان صراعًا دينيًّا، بل هو صراعٌ اجتماعي وسياسي،
ولو نُقل هذا الصراع إلى مكمنٍ باطن في النفس، وأصبح متعلقًا بالإيمان والأخلاق، لكان
معنى ذلك العودة إلى مرحلةٍ انقضَت منذ عهدٍ بعيد.
ومع ذلك فإن هذه السمات النقدية تتضاءل إلى جانب الاتجاهات الاستبدادية الكامنة في
كل
نزعةٍ تسلُّطية، وهي الاتجاهاتُ التي تتجلى بكل قوة في نظرية السيادة الخارجية عند
هِيجِل … وقد بَيَّنَّا من قبلُ كيف رفع هِيجِل المصالح القومية للدولة المعيَّنة إلى
مرتبة السلطة العليا التي لا يتطرَّق إليها أي شك في العلاقات الدولية … وتقوم الدولة
بحماية مصالح أفرادها وتأكيدها عن طريق ضمِّهم في مجتمع، وبذلك تحقِّق حريتهم وتفي
بحقوقهم وتحوِّل قوة المنافسة الهدامة إلى كلٍّ موحَّد … فالسلطة الداخلية المطلَقة
للدولة شرطٌ ضروري للمنافسة الناجحة، وهذه الأخيرة تُفضي بالضرورة إلى السيادة الخارجية
… فهناك صراعٌ بين الدول ذات السيادة، يُناظِر صراع الحياة والموت بين الأفراد في
المجتمع المدني من أجل الاعتراف المتبادل، وهذا الصراع بين الدول يتخذ شكل الحرب …
فالحرب هي النتيجة الحتمية لأي اختبارٍ للسيادة … وهي ليست شرًّا مطلَقًا، وليست أمرًا
عارضًا، بل هي «عنصر أخلاقي»؛ إذ إن الحرب تحقِّق تكامُل المصالح الذي لا يستطيع
المجتمع المدني أن يحقِّقه بذاته … «لقد حالت الحروب الناجحة دون وقوعِ قلاقلَ مدنية،
ودعمَت السلطة الداخلية للدولة.»
١٢٠
وهكذا لم يكن هِيجِل يقلُّ عن «هبز» في انحيازه للدولة البورجوازية بلا خجل، حتى
إنه
انتهى إلى رفض القانون الدولي رفضًا قاطعًا … فالدولة، وهي الذات النهائية التي تحفظ
المجتمع القائم على المنافسة، لا يمكن أن تقيَّد بقانونٍ أعلى؛ إذ إن مثل هذا القانون
يعني فرض قيدٍ خارجي على السيادة، وتحطيم أساس حياة المجتمع المدني
١٢١ … وليس هناك عقدٌ يسري بين الدول … فالسيادة لا يمكِن أن تُحد بمعاهداتٍ
تنطوي في طبيعتها ذاتها على اعتمادٍ متبادَل بين الأطراف الذين تَسْري عليهم هذه
المعاهدات … والدول ذات السيادة تقف خارج عالم الاعتماد المدني المتبادل؛ فهي تُوجَد
في
«حالة طبيعية».
وهنا نلاحظ مرةً أخرى أن الطبيعة العمياء تتدخل، وتقف جنبًا إلى جنب مع المعقولية
الواعية بذاتها للروح الموضوعية:
«إن الدول تجد نفسها في علاقةٍ طبيعية، أكثر منها قانونية، بعضها ببعض … ومِن
ثَمَّ كان هناك صراعٌ مستمر بينها … وهي توقِّع معاهدات، وتُقيم بذلك علاقةً
قانونية بعضها مع بعض … ولكنها من جهةٍ أخرى مستقلةٌ معتمدة على نفسها … وإذن
فلا يمكِن أن يكونَ الحق فيما بينها حقيقيًّا … ففي إمكانها خرق المعاهدات حسب
مشيئتها، ولا بد أن تجد نفسها دائمًا وقد انعدمَت الثقة فيما بين الواحدة
والأخرى … ولمَّا كانت في حالةٍ طبيعية، فإنها تسلُك بالعنف … وهي تحفَظ حقوقها
وتحصُل عليها بقوَّتها الخاصة، ولا بد لها بالضرورة أن تنغمس في الحرب.»
١٢٢
وهكذا وصلَت مثالية هِيجِل إلى نفس النتيجة التي وصلَت إليها مادية «هبز»؛ فحقوق
الدول ذات السيادة «لا تكون لها حقيقة في إرادةٍ عامة تؤسَّس بوصفها قوةً عليا، وإنما
في إرادتها الخاصة.»
١٢٣ ومِن ثَمَّ فإن المنازعات بينها لا يمكن أن تُحلَّ إلا بالحرب … وما
العلاقات الدولية إلا ساحة «تدور فيها مباراةٌ وحشية بين الشهوات الخاصة والمصالح
والغايات والمواهب والفضائل والخطأ والرذيلة والعرضية الخارجية»؛ بحيث إن الغاية
الأخلاقية ذاتها، وهي «الاستقلال الذاتي للدولة، تصبح نهبًا للصُّدفة.»
١٢٤
ولكن هل تُعَد دراما الصدفة والعنف هذه نهائية بحق؟ … وهل يُفضي العقل إلى الدولة،
وإلى ذلك الصراع الذي لا يرحم بين القوى الطبيعية، الذي تُضطَر الدولة حتمًا إلى خوضه؟
… لقد فنَّد هِيجِل أمثال هذه النتائج طَوال كتاب «فلسفة الحق»؛ فحق الدولة، وإن لم يكن
مقيَّدًا بالقانون الدولي، ليس مع ذلك هو الحق النهائي، بل يجب أن يكون مُطابقًا «لحق
الروح العالمية التي هي المطلَق غير المشروط.»
١٢٥ والمضمون الحقيقي للدولة هو التاريخ
العالمي
Weltgeschichte أو عالم الروح العالمية، التي تحتفظ «بالحقيقة المطلَقة العليا».
١٢٦ وفضلًا عن ذلك فإن هِيجِل يؤكِّد أن أية علاقة بين الدول المستقلة «ينبغي
أن تكون خارجية؛ فلا بد أن يكون هناك طرفٌ ثالث يعلو عليها ويوحِّد بينها» … «هذا الطرف
الثالث هو الروح التي تتجسَّد في التاريخ العالمي، وتنصِّب نفسها قاضيًا مطلَقًا بين
الدول.»
١٢٧ وما الدولة، بل القوانين والواجبات ذاتها، إلا «واقعٌ متعين» فحسب، وهي
كلها تفضي إلى مجالٍ أعلى، وترتكز عليه.
١٢٨
فما هو إذن هذا المجال الأخير للدولة والمجتمع؟ وعلى أي نحوٍ ترتبط الدولة والمجتمع
بالروح العالمية؟ هذه أسئلةٌ لا يمكِن الإجابة عنها إلا إذا انتقلنا إلى تفسير «فلسفة
التاريخ» عند هِيجِل.