الفصل السابع

فلسفة التاريخ

الوجود، في نظر المنطق الجدَلي مسارٌ من خلال المتناقضات، يحدِّد مضمون وتطوُّر كل واقع. وقد عرض كتاب «المنطق» البناء اللازماني لهذا المسار، ولكن الارتباط الباطن بين «المنطق» وبقية أجزاء المذهب، وكذلك النتائج التي ينطوي عليها المنهج الجدَلي بوجهٍ خاص، تؤدي إلى القضاء على نفس فكرة اللازمانية؛ فقد بيَّن «المنطق» أن الوجود الحق هو الفكرة، ولكن الفكرة تتكشَّف «في المكان» (بوصفها طبيعة) و«في الزمان» (بوصفها روحًا).١ والروح تتأثر، في ماهيَّتها ذاتها، بالزمان؛ إذ إنها لا تُوجَد إلا في المسار الزماني للتاريخ. وتتجلى صور الروح في الزمان؛ بحيث يكون تاريخ العالم عرضًا للروح في الزمان.٢ وهكذا يتحوَّل الجدَل إلى تأمُّل الواقع زمانيًّا، ويبدو «السلب»، الذي كان في «المنطق» يتحكَّم في مسار الفكر، على أنه القوة الهدَّامة للزمان، وذلك في كتاب «فلسفة التاريخ».

وإذا كان «المنطق» قد أثبت تركيب العقل، فإن «فلسفة التاريخ» تعرض المضمون التاريخي للعقل. أو يمكِننا القول إن مضمون العقل هنا هو نفسه مضمون التاريخ، وإن لم نكن نعني بلفظ «المضمون» الوقائع التاريخية المتباينة، بل نعني ما يجعل التاريخ كُلًّا عقليًّا، والقوانين والاتجاهات التي تشير إليها الوقائع وتتلقَّى منها معناها.

«العقل سيد العالم»٣ — هذا في رأي هِيجِل فرض، وهو الفرض الوحيد في فلسفة التاريخ. وهذا الفرض، الذي يميِّز الطريقة الفلسفية في بحث التاريخ من أية طريقةٍ أخرى، لا يعني أن للتاريخ غايةً محددة؛ فالطابع الغائي للتاريخ (إن كان للتاريخ مثل هذا الطابع) لا يمكن إلا أن يكون استنتاجًا من دراسةٍ تجريبية للتاريخ، ولا يمكن أن يُفترض قَبْليًّا. ويقول هِيجِل بتأكيدٍ قاطع إنه «في التاريخ، ينبغي أن يكون الفكر خاضعًا لما هو معطًى، ولحقائق الواقع؛ فهذا هو أساسه ومرشده.»٤ وعلى ذلك «فعلينا أن نقبل التاريخ كما هو. ومن الواجب أن نمضي في بحثنا تاريخيًّا — أي تجريبيًّا»، وهو موقفٌ شاذٌّ بالنسبة إلى فلسفةٍ مثالية للتاريخ.
إن من الواجب البرهنة على قوانين التاريخ في الوقائع ومنها — وإلى هذا الحد يكون منهج هِيجِل تجريبيًّا. ولكن هذه القوانين لا يمكن أن تُعرف ما لم تكن هناك نظريةٌ صحيحة توجِّه البحث أوَّلًا؛ فالوقائع لا تكشف شيئًا بذاتها، وإنما تقتصر على الإجابة عن أسئلةٍ نظرية ملائمة. والموضوعية العلمية الحقيقية تقتضي تطبيقَ مقولاتٍ سليمة تنظِّم المعطَيات في دلالتها الفعلية، لا تلقِّي الوقائع المعطاة سلبيًّا. «وحتى المؤرخ العادي، «المحايد»، الذي يؤمن ويجهر بأنه يقف موقف التلقِّي البحت — ويستسلم تمامًا للمعطَيات المقدَّمة إليه — ليس سلبيًّا على الإطلاق فيما يتعلق بممارستِه قدراتِه الفكرية؛ فهو يأتي بمقولاته معه، ويرى الظواهر … من خلال هذه الوسائط وحدها.»٥

ولكن كيف يتعرَّف المرء على المقولات السليمة والنظرية الصحيحة؟ هذا أمرٌ تقرِّره الفلسفة؛ فهي تضع المقولات العامة التي توجِّه البحث في كل الميادين الخاصة. غير أن صحتها في هذه الميادين ينبغي أن تحقَّق بالوقائع، ويكون التحقيق قد تم عندما تستطيع النظرية احتواء الوقائع المعطاة على نحوٍ يجعلها تبدو مندرجة تحت قوانينَ محدَّدة، وتظهر على أنها لحظاتٌ في اتجاهاتٍ محدَّدة المعالم، تفسِّر تعاقُبها واعتمادها المتبادَل.

والواقع أن القول بأن الفلسفة ينبغي أن تقدِّم المقولات العامة لفهم التاريخ، ليس قولًا اعتباطيًّا، ولم يكن هِيجِل أول من قال به؛ فكل النظريات الكبرى في القرنِ الثامنَ عشر اتخذَت موقفًا فلسفيًّا مفادُه أن التاريخ تقدُّم. ولقد كان مفهوم التقدُّم هذا — الذي سرعان ما تدهوَر بعد ذلك إلى استسلامٍ سطحي — كان في الأصل يوجِّه نقدًا حادًّا إلى نظامٍ اجتماعي عقيم. وقد استخدمَت الطبقة الوسطى الصاعدة مفهوم التقدُّم وسيلةً لتفسير التاريخ الماضي للبشرية على أنه التاريخ الممهِّد لعهدها الخاص، وهو عهدٌ كُتب عليه أن ينتقل بالعالم إلى مرحلة النضوج. وهكذا قالوا إنه عندما تصل الطبقة الوسطى الجديدة إلى تشكيل العالم وفقًا لقواها الخاصة، فسوف يحدث تقدمٌ لا نظير له، في القوى المادية والعقلية، يجعل الإنسان سيِّد الطبيعة ويبدأ بذلك التاريخ الحقيقي للإنسانية. وما دام هذا كله لم يتحقق، فإن التاريخ يظل في حالة صراعٍ من أجل الحقيقة؛ ففكرة التقدُّم، وهي جزء لا يتجزأ من فلسفة عصر التنوير الفرنسي، قد فسَّرت الوقائع التاريخية على أنها علاماتٌ في الطريق المؤدي بالإنسان إلى العقل. أمَّا الحقيقة فلا تزال تكمُن خارج مجال الواقع — في حالة سوف تأتي فيما بعدُ. وهكذا كان التقدُّم يعني أن الحالة الراهنة سوف تُنفَى أو تُنكَر، ولن تستمر.

هذا النمط يظل سائدًا في «فلسفة التاريخ» عند هِيجِل؛ فالفلسفة هي الشرط القَبْلي المادي، وكذلك المنطقي، للتاريخ، طالما أن التاريخ لم يصل بعدُ إلى المستوى المطابق للإمكانات البشرية. غير أننا نعلم أن هِيجِل ظن أن التاريخ قد بلَغ هدفه، وأن الفكرة والواقع قد وجدَا أرضًا مشتركة. وهكذا فإن كتاب هِيجِل هذا يمثِّل قمة الكتابة الفلسفية النقدية للتاريخ ونهايتها. ولقد كان هِيجِل لا يزال يستهدف صالح الحرية في معالجته للوقائع التاريخية، وكان لا يزال ينظر إلى الصراع من أجل الحرية على أنه المضمون الوحيد للتاريخ. ولكن هذا الاهتمام فقَد قوَّته، ووصَل الصراعُ إلى نهايته.

إن تصوُّر الحرية، كما أوضح كتاب «فلسفة الحق»، يسير تبعًا لنمط الملكية الحرة. ونتيجةً لذلك فإن تاريخ العالم الذي يتطلع إليه هِيجِل يرفَع مكانة تاريخ الطبقة الوسطى، التي ارتكزَت حياتُها على هذا النمط، ويمجِّده. إن هناك حقيقةً بالغة في ذلك القول الذي أكَّده هِيجِل بطريقةٍ غريبة — وأعني به أن التاريخ قد بلغ نهايته، ولكن هذا القول يعلن موت طبقة، لا موت التاريخ. وإنَّا لنجد هِيجِل يكتب في نهاية الكتاب، بعد وصف عهد عودة الملَكية، قائلًا: «هذه هي النقطة التي بلغها الوعي.»٦ وهذا قول ليس له وقع النهاية على الإطلاق؛ فالوعي هو الوعي التاريخي، وحين نقرأ في «فلسفة الحق» أن «شكلًا معيَّنًا للحياة قد أصابه الهرَم»، يكون المقصود هنا شكلًا واحدًا، لا كل أشكال الحياة. ولقد كان لدى هِيجِل تبصُّر كامل بوعي طبقته وأهدافها، ورأى أن هذه الأهداف لا تنطوي على مبدأ جديد يعيد حيوية العالم وشبابه؛ فإذا كان هذا الوعي هو الشكل النهائي للروح، فعندئذٍ يكون التاريخ قد دخل مجالًا ليس بعده تقدُّم.
إن الفلسفة تقدِّم إلى كتابة التاريخ مقولاتها العامة، وهذه هي ذاتها التصوُّرات الأساسية للجدَل. وقد لخَّصَها هِيجِل في المحاضرات التي قدَّم بها للموضوع.٧ وسوف نعرض لها فيما بعدُ، ولكن علينا أن نناقش أوَّلًا التصوُّرات التي يسمِّيها مقولاتٍ تاريخية على التخصيص.

إن الفرض الذي يرتكز عليه كتاب «فلسفة التاريخ» قد تم تحقيقه من قبلُ في «المنطق»، فالوجود الحق هو العقل، الذي يتجلى في الطبيعة ويصل إلى التحقُّق في الإنسان. ويحدث هذا التحقُّق في التاريخ، ولمَّا كان العقل متحققًا في التاريخ وهو الروح، فإن فكرة هِيجِل تنطوي على القول بأن الذات الفعلية أو القوة الدافعة للتاريخ هي الروح.

وبطبيعة الحال فإن الإنسان جزء من الطبيعة أيضًا، وميوله ودوافعه الطبيعية تقوم بدورٍ هام في التاريخ. وبالفعل نجد أن «فلسفة التاريخ» عند هِيجِل تعترف بهذا الدور إلى حدٍّ يفوق كثيرًا من الأساليب التجريبية في كتابة التاريخ؛ فالطبيعة، على شكل مجموع الشروط الطبيعية للحياة البشرية، تظل هي الأساس الأوَّل للتاريخ طَوال كتاب هِيجِل.

إن الإنسان، بوصفه كائنًا طبيعيًّا، مقيَّد بظروفٍ معيَّنة؛ فهو يُولَد في هذا المكان والزمان أو ذاك، ويكون فردًا في هذه الأمة أو تلك، ولا بد له من أن يشارك مصير الكل الخاص الذي ينتمي إليه. ومع ذلك فإن الإنسان، برغم كل هذا، هو أساسًا ذاتٌ مفكِّرة، والفكر، كما نعلم، هو أساس الكلية أو الشمول؛ فالفكر: (١) يرتفع بالناس إلى ما فوق التحديدات أو التعيُّنات الجزئية، (٢) كما أنه يجعل كثرة الأشياء الخارجية وسيطًا لنمو الذات وتطورها.

هذه الكلية المزدوجة، الذاتية والموضوعية، تميِّز العالم التاريخي الذي تتكشَّف فيه حياة الإنسان بالتدريج. والتاريخ، بوصفه تاريخ الذات المفكِّرة، هو بالضرورة تاريخٌ عالمي Weltgeschichte، لمجرد كونه «ينتمي إلى عالم الروح». ونحن ندرك مضمون التاريخ من خلال تصوُّراتٍ عامة، كالأمة والدولة، والمجتمع الريفي، والإقطاعي، والمدني، والاستبدادية والديمقراطية والمَلكية، والطبقة العاملة، والطبقة الوسطى، وطبقة النبلاء … إلخ. وقيصر وكرومويل ونابليون هم في نظرنا مواطنون رومان وإنجليز وفرنسيون، ونحن نفهَمهم بوصفهم أفرادًا في أمتهم، يستجيبون للمجتمع والدولة في عصرهم؛ فالكلي يؤكِّد ذاته فيهم. وتصوُّراتنا العامة تدرك هذا الكلي على أنه الفاعل الحقيقي في التاريخ؛ بحيث إن تاريخ البشرية، مثلًا، ليس حياة ومعارك الإسكندر الأكبر وقيصر والأباطرة الألمان والملوك الفرنسيين وأمثال كرومويل ونابليون، بل هو حياة ومعارك ذلك الكلي الذي يتكشَّف على صورٍ متباينة خلال مختلف الكلِّيات الحضارية.
وماهية هذا الكلي هي الروح، كما أن «ماهية الروح هي الحرية … فالفلسفة تعلِّمنا أن كل صفات الروح لا تُوجَد إلا بواسطة الحرية، وأنها كلها ليست إلا وسيلة لبلوغ الحرية، وكلها تبحث عن الحرية وتؤدي إليها هي وحدها.»٨ وقد ناقشنا من قبلُ هذه الصفات، ورأينا أن الحرية تُفضي إلى تلك الطمأنينة الذاتية التي يجلبها التملُّك التام، وأن العقل يكون حرًّا إذا كان يستحوذ على العالم ويعرفه بوصفه ملكًا له؛ ومِن ثَمَّ فإن من المفهوم تمامًا أن يختتم كتاب «فلسفة التاريخ» بدعم مجتمع الطبقة الوسطى، وأن تظهر فترات التاريخ على أنها مراحلُ ضرورية في تحقيق شكل الحرية الخاص به.
إن الموضوع الحقيقي للتاريخ هو الكلي، لا الفرد، ومضمونه الحقيقي هو تحقُّق الوعي الذاتي للحرية، لا مصالح الفرد وحاجاته وأفعاله. «ليس تاريخ العالم إلا تقدُّم الوعي بالحرية».٩ ومع ذلك فإن «أول نظرة إلى التاريخ تُقنِعنا بأن أفعال الناس تصدُر عن حاجاتهم وانفعالاتهم وطبائعهم ومواهبهم الخاصة، وتُقنِعنا بأن هذه الحاجات والانفعالات والمصالح هي المصادر الوحيدة للسلوك — وهي العواملُ الفعَّالة في ميدان النشاط هذا.»١٠ وتفسير التاريخ على هذا النحو يعني «تصوير انفعالات البشرية، وعبقريتها، وقُواها الفعَّالة.»١١ فكيف يرفع هِيجِل هذا التناقض البادي؟ ليس من شكٍّ في أن حاجات الأفراد ومصالحهم هي الدافعة إلى كل سلوكٍ تاريخي، وأن تحقيق الفرد هو الذي ينبغي أن يحدُث في التاريخ. ومع ذلك، فهناك شيءٌ آخر يؤكد ذاته — هو العقل التاريخي؛ فالأفراد يشجِّعون على تقدُّم العقل في سعيهم إلى تحقيق مصالحهم؛ أي إنهم يؤدون بذلك مهمةً كلية تساعد على تحقيق الحرية. والمثَل الذي يشير إليه هِيجِل في هذا الصدد هو صراع قيصر من أجل القوة؛ فقيصر حين قضى على الشكل التقليدي للدولة الرومانية، كان مدفوعًا دون شكٍّ بالطموح، ولكنه في إرضائه لدوافعه الشخصية قد حقَّق «مصيرًا ضروريًّا في تاريخ روما والعالم»؛ فمن طريق أفعاله، حقَّق شكلًا أعلى، وأكثر عقلانية، من أشكال التنظيم السياسي.١٢
وهكذا فإن هناك مبدأً كليًّا كامنًا في الأهداف الجزئية للأفراد — وهو مبدأ كلي لأنه «مرحلة ضرورية في تطوُّر الحقيقة».١٣ ويبدو الأمر كما لو كانت الروح تستخدم الأفراد، دون وعيٍ منهم، أداةً لها، فلنتأمل مثالًا من النظرية الماركسية، كفيلًا بأن يوضِّح الارتباط بين «فلسفة التاريخ» عند هِيجِل وبين التطور التالي للجدَل؛ فقد رأى ماركس أن الرأسماليين الأفراد يُضطَرون، أثناء وجود رأسماليةٍ صناعية متقدمة، إلى المواءمة بين أعمالهم وبين التقدُّم السريع للتكنولوجيا، لكي يضمنوا الحصول على أرباحهم ويتفوقوا على منافسيهم. وهم بذلك يقلِّلون من كمية القوى العاملة التي يستخدمونها. ولمَّا كانت القيمة الفائضة التي يحصلون عليها لا تُنتج إلا من القوى العاملة، فإنهم بذلك يخفِّضون معدل الربح الذي تحصل عليه طبقتهم. وعلى هذا النحو فإنهم يعجِّلون بانحلال النظام الاجتماعي الذي يريدون الإبقاء عليه.
غير أن العملية التي يمارس بها العقل فاعليته من خلال الأفراد لا تحدث بضرورةٍ طبيعية، كما أنه ليس لها اتجاهٌ متصل يسير في خطٍّ واحد. «فهناك عدة فتراتٍ طويلة في التاريخ يبدو فيها أن هذا التطوُّر قد انقطع، ويكاد المرء يقول بشأنها إن الكسب الهائل في الحضارة السابقة يبدو وكأنه قد ضاع تمامًا، وهي فترات يتعيَّن بعدها لسوء الحظ أن يبدأ التطوُّر بدايةً جديدة.»١٤ وهناك فترات من «التراجع» تتناوب مع فترات من التقدُّم المطرد. وحين يحدث هذا الانتكاس فإنه لا يكون «عارضًا خارجيًّا»، بل يكون — كما سنرى فيما بعدُ — جزءًا من ديالكتيك التغير الاجتماعي؛ فلِكَي يحدُث تقدُّم إلى مستوًى أعلى في التاريخ، ينبغي أوَّلًا أن تصبح الكلمة العليا للقوى السلبية الكامنة في كل واقع. ولكن لا بد من الوصول آخر الأمر إلى المرحلة الأعلى؛ فكل عقبة في الطريق إلى الحرية يمكِن تذليلها؛ إذا ما بذلَت الإنسانية الواعية بذاتها الجهود اللازمة.

هذا هو المبدأ الكلي الشامل للتاريخ. وهو ليس «قانونًا» بالمعنى العلمي للفظ، كالقوانين التي تحكُم المادة مثلًا؛ فالمادة لها في بنائها وحركتها قوانينُ ثابتة تظل سارية عليها دائمًا، ولكن المادة لا تكون أبدًا هي الفاعلة لعملياتها، وليست لها أية قدرة على التحكُّم فيها. ومن جهةٍ أخرى فإن الموجود الذي هو الموضوع الواعي الفعَّال لوجوده يخضع لقوانينَ مختلفة كل الاختلاف؛ فالسلوك الواعي بذاته يصبح جزءًا من نفس مضمون القوانين؛ بحيث إن هذه الأخيرة لا تمارِس عملها بوصفها قوانين إلا بقَدْر ما تأخذ بها إرادة الذات، ويكون لها تأثيرها في أفعالها. أو لنقُل في الصيغة التي عبَّر بها هِيجِل عن هذه الفكرة، إن القانون الكلي للتاريخ ليس مجرد تقدُّم للحرية، بل هو تقدُّم «في الوعي الذاتي للحرية». ولا يمكن أن تصبح أية مجموعة من الاتجاهات التاريخية قانونًا إلا إذا فهمها الإنسان ومارس تأثيرَه فيها. وبعبارةٍ أخرى فإن القوانين التاريخية لا تنبثق إلا من سلوك الإنسان العملي الواعي، ولا تتحقق إلا فيه؛ بحيث إنه إذا كان مثلًا قانون للتقدم إلى صورٍ للحرية تزداد عُلوًّا على الدوام، فإن هذا القانون لا يعود له تأثيره إذا لم يعترف به الإنسان ولم يُخرجه إلى حيز التنفيذ. وإذن، فإن كان من الممكن أن يُنظر إلى فلسفة التاريخ عند هِيجِل على أنها نظريةٌ حتمية، فإن العامل المؤدي إلى الحتمية هو على الأقل الحرية. ويتوقف التقدُّم على قدرة الإنسان على إدراك الاتجاه الكلي للعقل، وعلى رغبته في أن يجعل منه حقيقةً واقعة، والجهد الذي يبذله في سبيل ذلك.

ولكن إذا كانت الرغبات والاهتمامات الجزئية للناس هي الأصل الوحيد الذي ينبثق منه سلوكهم، فكيف يمكِن أن يكون الوعي الذاتي بالحرية دافعًا إلى الفعل الإنساني؟ لا بد، للإجابة عن هذا السؤال، من أن نتساءل مرةً أخرى: من هو الفاعل الحقيقي للتاريخ؟ ومن هو الذي يقوم بالعمل التاريخي؟ يبدو أن الأفراد ليسوا إلا وسائط لتحقيق التاريخ؛ فوعيهم تتحكَّم فيه مصلحتهم الشخصية، وهم يقومون بإدارة أعمالهم، لا بصنع التاريخ. غير أن هناك بعضَ الأفراد الذين يرتفعون فوق هذا المستوى؛ فأفعالهم لا تكرِّر الأنماط القديمة، بل تخلق أشكالًا جديدة للحياة. هؤلاء الأفراد هم رجال التاريخ العالمي Welthistorische Individuen، كالإسكندر وقيصر ونابليون.١٥ صحيحٌ أن أفعالهم بدورها تنبثق من مصالحَ شخصية، ولكن هذه المصالح، في حالتهم، تتوحَّد مع المصلحة الكلية، وتعلو هذه الأخيرة بكثيرٍ على مصلحة أية جماعةٍ بعينها؛ فهم يصوغون تقدُّم التاريخ ويتحكَّمون فيه. ولا بد أن تتعارض مصلحتُهم مع المصلحة الجزئية لنظام الحياة السائد. هؤلاء الأفراد التاريخيون هم رجال عصرٍ تنشأ فيه «مصادماتٌ جبَّارة» «بين الواجبات والقوانين والحقوق القائمة، المعترف بها، وبين تلك الإمكانات التي تتعارض مع هذا النظام الثابت، والتي تُزعزِع أسسه ووجوده، بل تهدمها».١٦ هذه الإمكانات تبدو للفرد التاريخي في صورة اختيارٍ مُتاح لقدرته الخاصة، ولكنها تنطوي على «مبدأ كلي»، من حيث إنها هي اختيار شكلٍ أعلى للحياة، نضج في داخل النظام القائم. وهكذا فإن الأفراد التاريخيين قد استبقوا «الخطوة التالية الضرورية للتقدُّم، التي كان يتعيَّن على عالمهم اتخاذها.»١٧ فالموضوع الذي كانوا يرغبونه ويناضلون من أجله هو «نفس حقيقة عصرهم وعالمهم». والأساس الذي انبنَى عليه سلوكُهم هو الوعي «بمقتضيات العصر»، وبما أصبح «ناضجًا للنمو والتطور».

ومع ذلك فحتى رجال التاريخ هؤلاء ليسوا هم الموضوعات الحقيقية للتاريخ بعدُ. إنهم ليسوا إلا منفِّذي إرادته، و«وسطاء الروح العالمية»، وهم ضحايا ضرورةٍ أعلى، تقوم بعملها الخاص من خلال حياتهم، فهم لا يزيدون عن أن يكونوا أدواتٍ للتقدم التاريخي.

أمَّا الموضوع الحقيقي للتاريخ فهو ما يسمِّيه هِيجِل بالروح العالمية Weltgeist. وحقيقة هذه الروح تكمُن في تلك الأفعال والاتجاهات والجهود والنُّظم التي تتجسَّد فيها مصلحة الحرية والعقل. وهي لا تُوجَد بمعزِل عن هذه الحقائق، وتسلُك من خلال هذه الوسائط. وهكذا فإن قانون التاريخ، الذي تمثِّله الروح العالمية، يمارس تأثيره من وراء ظهور الأفراد وفوق رءوسهم، على شكل قوةٍ مجهولة المصدر، لا يمكِن مقاومتُها؛ فالانتقال من الحضارة الشرقية إلى حضارة العالم اليوناني، وظهور الإقطاع، وإقامة المجتمع البورجوازي؛ كل هذه التغيُّرات لم تكُن عملًا قام به الإنسان بحُريَّته، بل هي النتائج الضرورية لقوًى تاريخية موضوعية. ويؤكِّد هِيجِل في فكرته عن الروح العالمية أن الإنسان لم يكُن، في هذه الفترات السابقة من التاريخ المدوَّن، سيِّدًا لوجوده واعيًا بذاته؛ ففيها بدت القوة الإلهية للروح العالمية في صورة قوةٍ موضوعيةٍ تتحكَّم في أفعال الناس.
إن سيادة الروح العالمية، كما يصوِّرها هِيجِل، تكشف عن السمات المظلمة لعالم تتحكَّم فيه قوى التاريخ بدلًا من أن يتحكَّم هو فيها. وعلى حين أن هذه القوى لم تُعرف بعدُ في ماهيتها الحقيقية، فإنها تجلب من ورائها البؤس والدمار. عندئذٍ يبدو التاريخ وكأنه «المذبح الذي تضحَّى عليه سعادة الشعوب وحكمة الدول وفضائل الأفراد.»١٨ ويُشيد هِيجِل في الوقت ذاته بتضحية الفرد وبالسعادة العامة التي تنجُم عنها. وهو يطلق عليها اسم «دهاء العقل»؛١٩ فالأفراد يحيَون حياةً تعِسة، ويشقَون ويَهلِكون، ولكن على الرغم من أنهم لا يبلغون هدفهم أبدًا، فإن الأسى والانهزام الذي يعانونه هو ذاته الوسيلة التي تستخدمها الحقيقة والحرية في سلوك طريقها. إن الإنسان لا يجني أبدًا ثمار جهده، بل إن الأجيال المُقبِلة هي التي تجني هذه الثمار دائمًا. ومع ذلك فإن حماسته واهتمامه لا يفتُران أبدًا؛ فهما الوسيلة التي تجعله يواصل عمله في خدمة قوًى أعلى واهتمامٍ أعلى. «من الممكن أن نطلق اسم دهاء العقل على تلك الصفة التي يُشعِل بها العقل الانفعالات لكي تعمل من أجله، على حين أن ذلك الذي تمضي حياته بفعل تلك القوة الدافعة يدفع العقوبة ويعاني الخسارة.»٢٠ إن الأفراد يُخفِقون ويَهلِكون، أمَّا الفكرة فتنتصر وتظل خالدة.
والواقع أن الفكرة لا تنتصر إلا لأن الأفراد يَهلِكون مهزومين. وليست «الفكرة هي التي تشتبك في الصراع والمعارضة، وتتعرَّض للخطر، بل إنها تظل في الخلف، دون أن يمسَّها أو ينال منها شيء»، على حين أن «الأفراد يُضحَّى بهم ويُنبذون. إن الفكرة تدفع عقوبة الوجود والفَناء، لا من ذاتها، بل من انفعالات الأفراد.»٢١ ولكن هل يظل من الممكن النظر إلى هذه الفكرة على أنها تجسُّد للحقيقة والحرية؟ لقد أكد «كَانْت» على نحوٍ قاطع أنه مما يناقض طبيعة الإنسان أن يُستخدَم على أنه مجرد وسيلة. ولم تَمضِ بضع عشراتٍ من السنين حتى أعلن هِيجِل أنه يؤيد «الفكرة القائلة إن الأفراد، ورغباتهم وإشباعهم لهذه الرغبات؛ كل هؤلاء … يُضحَّى بهم، وتُعطَى سعادتُهم قربانًا لإمبراطورية الصُّدفة والاتفاق، التي تنتمي إليها، أعني الفكرة القائلة إن الأفراد في عمومهم يندرجون تحت فئة الوسائل.»٢٢ وهو يعترف بأنه حين يكون الإنسان مجرد موضوعٍ لعملياتٍ تاريخية أعلى، فإنه لا يمكِن أن يكون غايةً في ذاته إلا في مجال الأخلاق والدين.
إن الروح العالمية هي الموضوع المتجسِّد للتاريخي، وهي بديلٌ ميتافيزيقي عن الذات الحقيقية، والإله الغامض المجهول، الذي يظل خفيًّا وقورًا، والذي تقول به إنسانيةٌ خابت آمالها، كإله الكالفينيين، وهي المحرِّك لعالَم يحدث فيه كل ما يحدث على الرغم من الأفعال الواعية للإنسان، وعلى حساب سعادته. «إن التاريخ … ليس مسرح السعادة. بل إن فترات السعادة صفحاتٌ خالية فيه.»٢٣

على أن هذا الموضوع الميتافيزيقي يتخذ صورةً عينية بمجرَّد أن يثير هِيجِل السؤال عن الطريقة التي تتجسَّد بها الروح العالمية. «من أي المواد تتشكَّل فكرة العقل؟» إن الروح العالمية تسعى إلى تحقيق الحرية، وهي لا تستطيع أن تتجسَّد إلا في عالم الحرية الحقيقي؛ أي في الدولة. هنا تتخذ الروح العالمية شكل نظامٍ مستقر، وهنا تهتدي إلى الوعي الذاتي الذي عن طريقه يمارس قانون التاريخ فعله.

إن كتاب «فلسفة التاريخ» لا يناقش فكرة الدولة (كما فعل كتاب «فلسفة الحق»)، بل هو يناقش أشكالها العينية التاريخية المتعدِّدة. ويفرِّق هِيجِل، في قائمته المشهورة، بين ثلاث مراحل تاريخية رئيسية في تطوُّر الحرية: المرحلة الشرقية، واليونانية الرومانية، والألمانية المسيحية.

«لم يصل الشرقيون إلى معرفة أن الروح — أو الإنسان بما هو إنسان — حرة، ونظرًا إلى أنهم لم يعرفوا ذلك، فإنهم لم يكونوا أحرارًا. وكل ما عرفوه هو أن شخصًا معيَّنًا حر، ولكن هذا السبب ذاته هو الذي يجعل حرية هذا الشخص مجرد نزوةٍ شخصية … لذلك فإن هذا الشخص ليس إلا طاغية، لا إنسانًا حرًّا. ولم يظهر الوعي بالحرية لأول مرة إلا عند اليونانيين؛ ومِن ثَمَّ فقد كانوا أحرارًا، ولكنهم، وكذلك الرومانيون، لم يعرفوا إلا أن البعض أحرار، لا الإنسان بما هو إنسان … لذلك كان لدى اليونانيين أرقَّاء، وكانت حياتُهم بأَسْرها، والاحتفاظ بتحرُّرهم الرائع، مرتبطًا بنظام الرِّق ارتباطًا وثيقًا … أمَّا الأمة الألمانية فكانت بتأثير المسيحية أول أمة تصل إلى الوعي بأن الإنسان، بما هو إنسان، حر، وأن حرية الروح هي التي تؤلِّف ماهيَّتها.»٢٤
وقد ميَّز هِيجِل بين ثلاثة أنماط لشكل الدولة، تُناظِر المراحل الثلاث الرئيسية في تطوُّر الحرية: «فالشرق لم يعرف، وما زال حتى اليوم لا يعرف، سِوى أن واحدًا هو الحر، والعالم اليوناني والروماني عرف أن البعض أحرار، أمَّا العالم الألماني فيعرف أن الكل أحرار؛ لذلك فالشكل السياسي الأوَّل الذي نلاحظه في التاريخ هو الطغيان، والثاني هو الديمقراطية والأرستقراطية، والثالث هو المَلَكية». هذا التقسيم لا يعدو في البداية أن يكون هو ذاته تقسيم أرسطو للدول إلى أنماط، مطبقًا على التاريخ العالمي. ويحتل النظام المَلَكي المرتبة الأولى بوصفه شكل الدولة الذي يتسم بالحرية الكاملة، بفضل حكم الحق والقانون الذي يسوده، في ظل ضماناتٍ دستورية. «ففي المَلَكية … يُوجَد سيدٌ واحد ولا يُوجَد أي عبد؛ لأنها تلغي العبودية. وفيها يُعترف بالحق والقانون، وهي مصدر الحرية الحقيقية. وهكذا ففي المَلكية تُقمع نزوات الفرد وأهواؤه، وتنشأ مصلحةٌ مشتركة في الحكم.»٢٥ هنا يرتكز حكم هِيجِل على نظرته إلى الدولة الحديثة، القائمة على الحكم المطلَق، بوصفها تقدمًا بالقياس إلى النظام الإقطاعي. والدولة التي يقصدها في هذا الصدد هي الدولة البورجوازية المركزية التي تغلَّبَت على الإرهاب الثوري لعام ١٧٩٣م. وقد بيَّن أن الحرية تبدأ بالمِلكية، وتتكشَّف في الحكم الشامل للقانون، الذي يعترف بتساوي الحق في المِلكية ويضمنه، وتنتهي بالدولة، التي تستطيع التصدي للمنازعات التي تدور حول حرية التملك؛ ومِن ثَمَّ فإن تاريخ الحرية يصل إلى منتهاه بظهور المَلكية الحديثة، التي حقَّقَت هذا الهدف في عصر هِيجِل.
كان كتاب «فلسفة الحق» قد انتهى بالقول إن حق الدولة خاضعٌ لحق الروح العالمية، ولحكم التاريخ العالمي. وفي «فلسفة التاريخ» يتوسَّع هِيجِل في هذه المسألة، فيحدِّد لمختلف أشكال الدولة مكانها خلال التاريخ؛ بحيث يربط أوَّلًا بين كل شكل وبين الفترة التاريخية الممثِّلة له. ولا يقصد هِيجِل أن العالم الشرقي لم يعرف إلا الحكم المطلَق، أو أن العالم اليوناني الروماني لم يعرف إلا الديمقراطية، والألماني لم يعرف إلا المَلكية، بل إن فكرتَه تعني أن الحكم المطلَق هو الشكل السياسي الأكثر تلاؤمًا مع الحضارة المادية والعقلية للشرق، وأن الأشكال السياسية الأخرى يلائم كلٌّ منها عصره التاريخي الخاص، ثم ينتقل إلى تأكيد أن وحدة الدولة تتحكَّم فيها الحضارة القومية السائدة؛ أي إن الدولة تتوقف على عوامل كالموقع الجغرافي والسمات الطبيعية والعنصرية والاجتماعية للأمة. وهذا هو معنى تصوُّر روح الأمة أو الشعب Volksgeist عنده.٢٦ هذه الأخيرة هي تكشُّف الروح العالمية في مرحلةٍ معيَّنة للتطور التاريخي، وهي صانعة التاريخ القومي بنفس المعنى الذي تكون به الروح العالمية صانعة التاريخ العالمي؛ فلا بد أن يُفهم التاريخ القومي من خلال التاريخ العالمي. «من الواجب النظر إلى عبقرية كل أمةٍ معيَّنة على أنها مجرَّد فرد في مسار التاريخ العالمي.»٢٧ ومن الضروري الحكم على تاريخ أية أمة تبعًا لإسهامها في تقدُّم البشرية كلها على نحو الوعي الذاتي للحرية.٢٨ ذلك لأنه ليس لكل الأمم نصيبٌ متساوٍ في الإسهام في هذا التقدُّم، بل إن البعض منها يساعد بقوة على تحقيق هذا التقدُّم، وهي الأمم التاريخية العالمية، وفي تاريخها تحدُث القفزات الحاسمة نحو أشكالٍ أحدثَ وأعلى للحياة، على حين أن الأمم الأخرى لا تقوم إلا بأدوارٍ ثانوية.

وفي وسعنا الآن أن نُجيب عن السؤال عن العلاقة بين دولةٍ معيَّنة وبين الروح العالمية؛ فكل شكلٍ للدولة ينبغي أن يُقدَّر تبعًا لكونه مطابقًا أو غير مطابقٍ لمرحلة الوعي التاريخي التي بلغَتها البشرية. والحرية لا تعني، ولا يمكِن أن تعني، نفس الشيء في مختلف عصور التاريخ؛ إذ إن نوعًا معيَّنًا من الحرية هو الذي يكون صحيحًا في كل عصرٍ معيَّن. ولا بد أن تُبنى الدولة على أساس الاعتراف بهذه الحرية؛ فالعالَم الألماني أنتج خلال تاريخه، ومن خلال الإصلاح الديني، ذلك النوع من الحرية الذي اعترف بالمساواة الأساسية بين الناس. والمَلكية الدستورية هي التي تعبِّر عن هذا الشكل من أشكال المجتمع وتبعَث فيه التكامل؛ فهي في نظر هِيجِل أعلى مرحلة في تحقُّق الحرية.

فلنتأمل الآن البناء العام للجدَل التاريخي. كان التغيُّر التاريخي، منذ أرسطو، يُوضَع في مقابل التغيُّرات في الطبيعة. وقد ظل هِيجِل محتفظًا بهذا التمييز؛ فهو يقول إن التغيُّر التاريخي «تقدُّم إلى شيءٍ أفضلَ وأكمل»، على حين أن التحوُّل في الطبيعة «لا يكشف إلا عن دورة تُكرِّر ذاتها على الدوام».٢٩ وهذا واضحٌ في حالة الكائن الحي الذي تكون حياته كشفًا لإمكاناتٍ متضمَّنة في البذرة، وتحققًا دائمًا لها. أمَّا أعلى صور التطور فلا يتم بلوغها إلا حين يصبح الوعي الذاتي مسيطرًا على العملية بأكملها؛ فحياة الذات المفكِّرة هي الوحيدة التي يمكن أن تُسَمَّى تحققًا ذاتيًّا بالمعنى الدقيق؛ ذلك لأن الذات المفكِّرة «تنتج ذاتها، وتمتد بذاتها بحيث تصبح بالفعل ما كانت عليه دائمًا بالقوة.»٣٠ وهي تحقِّق هذه النتيجة بقَدْر ما يتم استبعاد كل وضعٍ وجوديٍّ خاص بواسطة الإمكانات الكامنة فيه، وبقَدْر ما يتم تحويله إلى وضعٍ جديد يحقِّق هذه الإمكانات، فكيف تتمثَّل هذه العملية في التاريخ؟

إن الذات المفكِّرة تحيا في التاريخ، والدولة تقدِّم جزءًا كبيرًا من الشروط الوجودية لحياتها التاريخية. وتُوجَد الدولة، بوصفها المصلحة الكلية الشاملة، وسط أفعالٍ ومصالحَ فردية. ويشعُر الأفراد بهذا الكلي على صورٍ متباينة، تُعَد كلٌّ منها مرحلةً أساسية في تاريخ كل دولة؛ فالدولة تظهر أوَّلًا بوصفها وحدةً «طبيعية» مباشرة. وفي هذه المرحلة لا تكون الخلافات والمنازعات قد اشتدَّت بعدُ، ويجد الأفراد في الدولة رضاءهم دون أن يضعوا فردياتهم عن وعيٍ ضد الصالح العام. وهذا هو عهد الشباب الذهبي لكل أمة، كما أنه عهد الشباب الذهبي للتاريخ العالمي. وفيه تسود حريةٌ لا واعية، ولكن نظرًا إلى كونها لا واعية، فإنها تُعَد مرحلةً من مراحل الحرية الممكنة فحسب، أمَّا الحرية الفعلة فلا تأتي إلا مع الوعي الذاتي للحرية؛ فالإمكان السائد يجد لزامًا عليه أن يحقِّق ذاته، وهو إذ يفعل ذلك، يهدم المرحلة اللاواعية للتنظيم الإنساني.

وأداة هذه العملية ووسيلتها هي الفكر؛ فالأفراد يصبحون على وعيٍ بإمكاناتهم، وينظِّمون علاقاتهم وفقًا لعقلهم. والأمة المؤلَّفة من أمثال هؤلاء الأفراد تكون قد «أدركَت مبدأ حياتها وموقفها، وعرفَت قوانينها وحقها وأخلاقيتها، ونظَّمَت الدولة عن وعي.»٣١

هذه الدولة بدَورها تكون خاضعة للفكر، وهو العنصر الذي يؤدي آخر الأمر إلى هدمها، كما كان هو نفس العنصر الذي أضفَى عليها صورتها؛ فالواقع الاجتماعي والسياسي لا يمكِنه أن يظل طويلًا متمشيًا مع مقتضيات العقل؛ إذ إن الدولة تسعى إلى الاحتفاظ بالمصالح الموجودة بالفعل؛ ومِن ثَمَّ فهي تقيِّد القوى التي تتجه نحو شكلٍ تاريخيٍّ أعلى. ولا بد أن تدخل العقلانية الحرة للفكر، عاجلًا أو آجلًا، في صراعٍ مع تبريرات نظام الحياة السائد.

ولقد رأى هِيجِل في هذه العملية قانونًا عامًّا للتاريخ، لا رجوع فيه، شأنه في ذلك شأن الزمان ذاته؛ فليس في وسع قوة؛ أيًّا كانت، أن تُوقِف في المدى البعيد مسيرةَ الفكر. والواقع أن الفكر لم يكن نشاطًا لا ضرر منه، بل كان نشاطًا خطيرًا يؤدي بالمواطنين، بمجرد انتشاره بينهم وتحكُّمه في سلوكهم، إلى التشكُّك في الأشكال التقليدية للثقافة، بل إلى الانقلاب عليها. وقد ضرب هِيجِل مثلًا يوضِّح هذه الدينامية الهدامة للفكر بأسطورةٍ قديمة:
ففي البدء كان الإله كرونوس يتحكَّم في أرواح الناس، وكان حكمه يعني عصرًا ذهبيًّا عاش فيه الناس في وحدةٍ مباشرة بعضهم مع البعض، ومع الطبية. ولكن كرونوس كان إله الزمان، وقد التهَم الزمان أبناءَه أنفسَهم، فدمَّر كل شيءٍ أنجزه الإنسان، ولم يتبقَّ شيء. ثم جاء زيوس، وهو قوةٌ أعظم من الزمان، والتهم كرونوس نفسه. وزيوس هو الإله الذي انبثق عنه العقل وشجَّع الفنون، وهو «الإله السياسي» الذي خلَق الدولة وجعلها من عمل أفرادٍ أخلاقيين واعين بأنفسهم. هذه الدولة ولدَها العقل والأخلاق وعملَا على حفظها، ولقد كانت شيئًا يمكِنه البقاء والدوام — أي إن القوة المنتجة للعقل بدت وكأنها تُوقِف مسيرة الزمان. غير أن نفس القوة التي خلقَت هذا المجتمع الأخلاقي العاقل هي التي هدمَته؛ فمبدأ الفكر والاستدلال والمعرفة قد حطَّم ذلك العمل الفني الجميل الذي كانت تؤلِّفه الدولة، وابتلع زيوس ذاته، الذي كان قد وضع حدًّا للقوة الملتهمة للزمان؛ فالفكر هو الذي حطَّم عمل الفكر. وهكذا اجتذب الفكر إلى مسار الزمان، وتكشَّفَت القوة التي رأيناها في كتاب «المنطق» ترغم المعرفة على سلب كل مضمونٍ جزئي — تكشَّفَت في «فلسفة التاريخ» على أنها سلبية الزمان ذاته؛ ولذا يقول هِيجِل: «إن الزمان هو العنصر السالب في العالم المحسوس. والفكر هو هذه السلبية ذاتها، ولكنه أعمق صورها؛ أي صورتها اللامتناهية …»٣٢
وهكذا ربط هِيجِل بين الدينامية الهدَّامة للفكر وبين التقدُّم التاريخي نحو «الكلية أو الشمول»؛ فانحلال شكلٍ معيَّن للدولة هو في الوقت ذاته عبورٌ إلى شكلٍ أعلى للدولة، يتسم بأنه أكثر شمولًا من الشكل السابق؛ وعلى ذلك فإن النشاط الواعي بذاته للإنسان يؤدي من جهة إلى «تحطيم واقعية ودوام ما هو موجود، ولكنه من جهةٍ أخرى يقترب من الماهية، والمفهوم، والكلي.»٣٣ وفي رأي هِيجِل أن تقدُّم الفكر يسبق التقدُّم التاريخي ويوجِّهه؛ فبمجرد أن يتحرَّر الفكر من ارتباطه بالوضع السائد، يتجاوز القيمة الظاهرية للأشياء ويُحاوِل الوصول إلى مفهومها. غير أن المفهوم يحتوي على ماهية الأشياء، في مقابل مظهرها — أمَّا الأوضاع السائدة فتبدو كأنها جزئياتٌ محدودة لا تستنفد إمكانيات الأشياء والناس. ولو نجح أولئك الذين يلتزمون مبادئ العقل في إقامة أوضاعٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ جديدة، فإنهم سيحاولون، عن طريق معرفتهم النظرية الأعلى، أن يدمجوا مزيدًا من هذه الإمكانات في نظام الحياة. وقد رأى هِيجِل التاريخ يتقدَّم على الأقل إلى درجة الاعتراف المتزايد بالحرية والمساواة الأساسيتَين للناس، والتخلُّص على نحوٍ متزايد من القيود المفروضة على هذه الحرية والمساواة.
إن الفكر عندما يصبح أداة السلوك العملي، يُدرِك المضمون الكلي للأوضاع التاريخية القائمة عن طريق تحطيم صورتها الجزئية. وقد نظر هِيجِل إلى تطوُّر البشرية على أنه مسيرة نحو الكلية الحقيقية في الدولة والمجتمع. «إن تاريخ العالم هو خضوع الإرادة الطبيعية غير المقيَّدة للكلية والحرية الذاتية».٣٤ ولقد كان هِيجِل قد وصف المفهوم، في كتاب «المنطق»، بأنه وحدة الكلي والجزئي، وبأنه عالم الذاتية والحرية. وقد طبَّق هذه المقولات ذاتها في «فلسفة التاريخ» على الهدف النهائي للتطوُّر التاريخي؛ أي على دولة تكون فيها حرية الذات في وحدةٍ واعية مع الكل؛ فهو هنا قد ربط بين تقدُّم التفكير النظري؛ أي إدراك المفهوم، وبين تقدُّم الحرية. وهكذا فإن «فلسفة التاريخ» قدَّمَت مثلًا تاريخيًّا لهذا الارتباط الأساسي بين الحرية والمفهوم، وهو الارتباط الذي سبق أن فسَّره كتاب «المنطق». وقد أوضح هِيجِل هذا الارتباط بتحليله لعمل سقراط. وسوف نقوم الآن بمناقشة تحليل هِيجِل للدَّور الذي أسهَم به سقراط، بدلًا من أن نستعرض مضمون «فلسفة التاريخ».
يبدأ هِيجِل بوصف العهد المبكر لدولة المدينة اليونانية، وهو العهد الذي لم تكن فيه «ذاتية الإرادة» قد استيقظَت بعدُ داخل الوحدة الطبيعية لدولة المدينة؛ فقد كانت القوانين تُوجَد والمواطنون يطيعونها، ولكنهم كانوا ينظرون إليها على أن لها «ضرورة طبيعية».٣٥ ولقد كان هذا العصر هو عهد الدساتير الكبرى (طاليس، بياس Bias، سولون). وكان يُنظر إلى القوانين على أنها سارية ومشروعة لمجرد كونها قوانين، ولم تكن الحرية والحق يُوجَدان إلا على صورة عُرف Gewohnheit. وقد أدَّى الطابع المتصل، الطبيعي، لهذه الدولة إلى جعل «الدستور الديمقراطي … هو الدستور الوحيد الممكن هنا؛ فقد كان المواطنون لا يزالون غير واعين بالمصالح الخاصة، وبالتالي بوجود عنصرٍ مُفسِد …»٣٦ فعدَم وجود ذاتيةٍ واعية كان هو الشرط الذي جعل الديمقراطية تسير في طريقها دون أن يعترضها شيء. وكان من الممكن أن تُوكل مصلحة المجتمع «إلى إرادة المواطنين وتصميمهم»؛ لأن هؤلاء المواطنين لم تكن قد أصبحَت لديهم بعدُ إرادةٌ مستقلة تستطيع في أي وقتٍ أن تنقلب على المجتمع. وقد عمَّم هِيجِل هذه المسألة على كل شكلٍ من أشكال الديمقراطية؛ فالديمقراطية الحقة تعبِّر في رأيه عن مرحلةٍ متقدمة في التطور الإنساني، مرحلة أسبق من تلك التي يتحرَّر فيها الفرد، بل هي غير متمشِّية مع التحرُّر. وكان من الواضح أن تقديره مبنيٌّ على اقتناع بأن تقدُّم المجتمع سيولِّد بالطبيعة صراعًا بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة؛ فلا يمكن أن يقوم المجتمع بتحرير الفرد دون أن يفصله عن الجماعة ويضع رغبته في الحرية الذاتية في مقابل مطالب الكل. ومعنى رأي هِيجِل هذا هو أن السبب الذي أتاح لدولة المدينة اليونانية أن تكون ديمقراطية، هو أنها كانت تتألف من مواطنين لم يكونوا واعين بعدُ بفرديتهم الأساسية؛ فهِيجِل كان يرى أن المجتمع المؤلَّف من أفرادٍ متحرِّرين يتعارض مع التجانُس الديمقراطي.
ومِن ثَمَّ فقد بدَا أي اعتراف بالحرية الفردية مؤديًا إلى هدم الديمقراطية القديمة. «إن نفس الحرية الذاتية التي تؤلِّف مبدأ الحرية في عالمنا نحن وتحدِّد شكلها المميز — والتي تكون الأساس المطلَق لحياتنا السياسية والدينية، لم يكن من الممكن أن تظهر في اليونان إلا على صورة عنصرٍ هدَّام.»٣٧
هذا العنصر الهدَّام قد أُدخل في دولة المدينة اليونانية على يد سقراط، الذي دعا إلى نفس تلك «الذاتية» التي يسمِّيها هِيجِل بالعنصر الهدام بالنسبة إلى الديمقراطية القديمة. «ففي شخص سقراط … نجد التعبير الحر عن مبدأ الذاتية — أو الاستقلال المطلَق للفكر.»٣٨ لقد دعا سقراط إلى أن «على الإنسان أن يكتشف ما هو حقٌّ وخير ويعترف به في نفسه، وإلى أن هذا الحق والخير كليٌّ شامل بطبيعته.» ففي الدولة أشياءُ جميلة، وأفعالٌ طيبة وشجاعة، وأحكامٌ صادقة، وقضاةٌ عدول — ولكنَّ هناك شيئًا هو الجميل، والخير، والشجاع … إلخ، وهذا الشيء أكثر من كل هذه الجزئيات، وهو مشتركٌ بينها جميعًا. وتكون لدى الإنسان فكرة عن الجميل والخير … إلخ، في مفهوم الخير والجمال … إلخ، عنده؛ فالمفهوم ينطوي على ما هو جميل وخير حقيقة، وقد رأى سقراط أن من واجب الذات المفكِّرة أن تكتشف هذه الحقيقة وتتمسَّك بها ضد كل سلطةٍ خارجية. وهكذا جعل سقراط للحقيقة مكانًا مستقلًّا، من حيث هي كلي، وعزا معرفة هذا الكلي إلى الفكر المستقل للفرد. وهو إذ فعل ذلك، فقد «أعلن أن الفرد هو الذات التي تتخذ كل القرارات النهائية في مقابل الوطن والأخلاق العُرفية.»٣٩ وهكذا تدُل مبادئ سقراط على «معارضة ثورية للدولة الأثينية.»٤٠ وقد حُكِم على سقراط بالإعدام. وكان لهذا العمل ما يبرِّره من حيث إن الأثينيين كانوا يُعدِمون «عدوَّهم المطلَق»، ولكن حكم الإعدام كان، من جهةٍ أخرى، ينطوي على عنصر «تراجيدي بعمق»، وأعني به أن الأثينيين قد أدانوا بذلك مجتمعهم ودولتهم؛ ذلك لأن حكمهم كان يتضمَّن اعترافًا بأن «ما كانوا يأخذونه على سقراط قد تأصَّلَت جذوره بالفعل فيهم.»٤١

وهكذا ترتَّب على التحول في تطور الفكر، تحولٌ حاسم في التاريخ؛ فقد بدأَت الفلسفة تقدِّم مفاهيمَ كلية وتتوسَّع فيها، وكانت هذه مقدمة مرحلةٍ جديدة في تاريخ الدولة. غير أن التصوُّرات الكلية تصوُّراتٌ مجردة؛ ومن هنا كان «تشييد الدولة على أساسٍ تجريدي» مؤديًا إلى إحداث تغييراتٍ حاسمة في الأسس التي تقوم عليها الدولة الموجودة؛ فقد تحقَّق تجانس دولة المدينة عن طريق استبعاد الرقيق، والمواطنين اليونانيين الآخرين، و«البرابرة». وعلى الرغم من أن سقراط ذاته ربما لم يكن قد استخلص هذه النتيجة، فإن التصوُّرات الكلية المجرَّدة تنطوي بطبيعتها ذاتها على تجاوز لكل خصوصية، وعلى الوقوف في صف الذات الحرة، أو الإنسان بما هو إنسان.

وهكذا فإن نفس العملية التي جعلَت من الفكر المجرد مقرًّا للحقيقة، قد حرَّرَت الفرد بوصفه «ذاتًا» حقيقيةً؛ فلم يكن في وسع سقراط أن يعلِّم الناس التفكير بالطريقة المجردة دون أن يجعلهم متحرِّرين من المعايير التقليدية للتفكير والحياة؛ فالذات الحرة — كما ذهب هِيجِل في كتاب «المنطق» بحق — ترتبط ارتباطًا داخليًّا وثيقًا بالمفهوم. والذات الحرة لا تظهر إلا حين لا يعود الفرد يقبَل النظام القائم للأشياء، وإنما يتصدَّى له لأنه تعلَّم مفهوم الأشياء، وتعلَّم أن الحقيقة لا تكمُن في المعايير والآراء الشائعة. ومن المستحيل عليه أن يعرف ذلك إلا إذا كان قد خاض تجربة الفكر المجرد؛ إذ إن هذه التجربة تمنحه «التجرد» اللازم من الأوضاع السائدة، ولمَّا كانت تتخذ شكل تفكيرٍ نقدي معارض، فإنها تشكِّل الوسيط الذي تتحرك فيه الذات الحرة.

وعندما ظهر مبدأ الذاتية لأول مرة على يد سقراط، لم يكن من الممكن صبغُه بصبغةٍ عينية، وجعْلُه أساسًا للدولة والمجتمع، بل إن البداية الحقيقية لهذا المبدأ كانت في عهد المسيحية، وبذلك فإنه «ظهر لأول مرة في العقيدة».
«(إن إدخال هذا المبدأ في) مختلف العلاقات السائدة في العالم الفعلي، ينطوي على مشكلةٍ أخطر من مجرد غرس هذا المبدأ، وهي مشكلةٌ يحتاج حلُّها وتطبيقُها إلى عمليةٍ ثقافية قاسية طويلة الأمد. والدليل على ذلك أننا نستطيع أن نلاحظ أن الرِّق لم يتوقف بعد قبول المسيحية مباشرة. كذلك لم تسُد الحرية في الدول، ولم تتخذ الحكومات والدساتير تنظيمًا معقولًا، أو تعترف بالحرية أساسًا لها؛ فهذا التطبيقُ لمبدأ المسيحية على العلاقات السياسية، وتشكيلُ المجتمع بواسطته تشكيلًا تامًّا، أو جعْلُه يتغلغل في المجتمع، هو عملية تُعَد هي والتاريخ ذاته شيئًا واحدًا.»٤٢
ولقد كانت حركة الإصلاح الديني في ألمانيا تُعَد أول محاولةٍ ناجحة لإدخال مبدأ الذاتية في العلاقات الاجتماعية والسياسية المتغيرة؛ فقد أدت هذه الحركة إلى جعل الذات الحرة وحدها مسئولةً عن أفعالها، وتحدَّت نظام السلطة والامتيازات التقليدية باسم الحرية المسيحية والمساواة الإنسانية. «وإذن، فحين يعرف الفرد أنه ممتلئ بالروح الإلهية، فإن جميع «العلاقات الخارجية التي كانت سائدة حتى ذلك الحين» … تُلغَى نتيجةً لهذه المعرفة ذاتها، فلا نعود نجد طبقةً واحدةً تمتلك جوهر الحقيقة، وتستحوذ على كل الكنوز الروحية والزمنية للكنيسة.» فقد اعترف بالذاتية العميقة الباطنة للإنسان «على أساس أنها هي التي يمكِن، ويجب، أن تصبح مالكة للحقيقة، وهذه الذاتية ملكٌ مُشاعٌ للناس جميعًا.»٤٣

والحق أن الصورة التي قدَّمها هِيجِل لحركة الإصلاح الديني كانت باطلةً بطلانًا تامًّا، إلى حدٍّ لا يقل عن وصفه للتطور الاجتماعي التالي، الذي خلط فيه بين الأفكار التي مجَّد بها المجتمع الحديث نفسه عند ظهوره، وبين الواقع الفعلي لهذا المجتمع. وأدَّى به ذلك إلى تفسيرٍ للتاريخ قائمٍ على مبدأ الانسجام، يكون فيه العبور إلى شكلٍ تاريخي جديد هو في الوقت ذاته تقدُّم نحو شكلٍ تاريخي أعلى — وهو تفسيرٌ متهافت؛ إذ إن كل ضحايا الطغيان والظلم شهود على بطلانه، وكذلك كل الآلام والتضحيات العقيمة في التاريخ. ومما يزيد من تهافُت هذا التفسير أنه ينكر المعاني النقدية التي تترتَّب على الجدَل، ويؤكِّد وجود انسجام بين تقدُّم الفكر وبين مسار الواقع.

ومع ذلك فإن هِيجِل لم ينظر إلى التحقُّق التاريخي للإنسان على أنه تقدُّم يسير في خطٍّ مستقيم؛ فقد كان يرى أن تاريخ الإنسان هو في الوقت ذاته تاريخ اغتراب الإنسان.

«إن ما تصبو إليه الروح حقًّا هو تحقُّق مفهومها، ولكنها إذ تفعل ذلك، تُخفي هذا الهدف عن بصيرتها الخاصة، وتفخَر وتشعُر بالرضا الكامل بهذا الاغتراب عن ماهيتها الخاصة.»٤٤ إن النظام الذي يؤسِّسه الإنسان والحضارة التي يخلقها يضعان قوانينَ خاصة بهما. وعلى حرية الإنسان أن تمتثل لهذه القوانين؛ فالإنسان تطغى عليه الثروة المتزايدة لبيئته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وينتهي به الأمر إلى نسيان أنه هو ذاته، وتطوُّره الحر، هو الهدف النهائي لكل هذه الأعمال، وبدلًا من ذلك يستسلم لطغيانها. لقد كان الناس يصْبُون دائمًا إلى المحافظة على حضارةٍ قائمة، وكانوا بذلك إنما يحافظون على إحباطهم وخيبة أملهم؛ فتاريخ الإنسان إنما هو تاريخُ اغترابه من مصلحته الحقيقية، وهو في الوقت ذاته تاريخ تحقُّق هذه المصلحة. وليس إخفاء المصلحة الحقيقية للإنسان في عالمه الاجتماعي إلا جزءًا من «دهاء العقل»، وهو واحدٌ من تلك «العناصر السلبية» التي لا يكون بدونها تقدُّم إلى أشكالٍ أعلى. ولقد كان ماركس أول من فسَّر أصل هذا الاغتراب ودلالته، أمَّا هِيجِل فلم يكن لديه أكثر من حدْسٍ عام بمعناه.

•••

لقد توفِّي هِيجِل عام ١٨٣١م. وشهد العام السابق على وفاته أول ضربةٍ ثورية ضد النظام السياسي لعهد عودة المَلكية — وهو نفس النظام الذي ظن هِيجِل أنه يعني تحقُّق العقل في المجتمع المدني. وبدأَت الدولة تترنَّح. وانهار حكمة أسرة البوربون في فرنسا بفضل ثورة يوليو. وكانت الحياة السياسية الإنجليزية تشيع فيها مناقشاتٌ حامية لمشروع قانون الإصلاح الانتخابي، الذي نص على إدخال تغيراتٍ واسعة المدى في النظام الانتخابي الإنجليزي، وهي تغيُّراتٌ حدثَت لصالح بورجوازية المدن، كما نصَّ على تقوية البرلمان على حساب التاج. ولقد كان كل ما أدت إليه الحركتان الفرنسية والإنجليزية هو تعديل الدولة بحيث تتلاءم مع علاقات القوة السائدة، على النحو الكفيل بألَّا تتعدَّى عملية نشر الديمقراطية، التي كانت جاريةً عندئذٍ في شكلٍ سياسي، حدودَ النظام الاجتماعي للمجتمع المدني بأية حال. ومع ذلك فإن هِيجِل عرف بوضوحٍ تام الأخطار التي تنطوي عليها نفس هذه التغيُّرات البسيطة التي كانت تحدُث عندئذٍ؛ فقد عرف أن الدينامية الكامنة في المجتمع الألماني، ما إن تنطلق متحرِّرة من الأجهزة التي تحمي بها الدولة ذاتها، حتى تستطيع في أي وقتٍ أن تطلق قوًى تزعزع النظام بأكمله.

لقد كان أحد مؤلَّفات هِيجِل الأخيرة، وهو مؤلَّف نُشر في السنة التي مات فيها، بحثًا مطولًا عن مشروع قانون الإصلاح الانتخابي الإنجليزي. وكان يتضمن نقدًا قاسيًا للمشروع، زاعمًا أنه يُضعِف سيادة الملك عن طريق إقامة برلمان يضع «المبادئ المجرَّدة» للثورة الفرنسية في مقابل السلطة العينية للدولة. وهكذا أخذ يحذِّر قائلًا إن تقوية البرلمان لا بد أن تؤدي بمضي الوقت إلى إطلاق القوة المرعبة «للشعب»؛ ففي ظل الوضع الاجتماعي القائم، قد يتحول الإصلاح فجأة إلى ثورة. ولو نجح مشروع القانون «… لكان هناك خوفٌ من أن يزداد خطر الصراع استفحالًا؛ فلن يعود هناك وجودٌ لأية سلطةٍ عليا تتوسط بين مصلحة الامتياز الوضعي وبين المطالبة بمزيد من الحرية الحقيقية، أعني سلطة عليا يمكِنها أن تحدَّ من غُلَواء هذَين الطرفَين وتوفِّق بينهما؛ ففي إنجلترا ليس للعنصر المَلكي تلك السلطة التي تملكها الدول الأخرى، والتي يمكِنها بواسطتها أن تحقِّق الانتقال من التشريع المبني على الحقوق الوضعية فقط إلى التشريع المبني على مبادئ الحرية الحقيقية. لقد تمكَّنَت دولٌ أخرى من تحقيق تحوُّلات دون قلاقل أو عنف أو اغتصاب، أمَّا في إنجلترا فسيكون من الضروري أن يتم التحول على يد قوةٍ أخرى، هي الشعب؛ فالمعارضة التي ترتكز على برنامج لم يعرفه البرلمان من قبلُ، والتي تشعر بأنها عاجزة عن توسيع نطاق نفوذها بين الأحزاب الأخرى في البرلمان، قد تشعُر بما يُغريها على التماس القوة بين الشعب، وعندئذٍ فإنها بدلًا من أن تحقِّق إصلاحًا تؤدِّي إلى قيام ثورة.»٤٥
ولقد اعترف رودلف هايم Rudolf Haym الذي فسَّر هِيجِل على أساس الليبرالية الألمانية، بأن مقال هِيجِل وثيقة خوفٍ وقلق، لا وثيقة فلسفةٍ سياسية رجعية؛ إذ إن «هِيجِل لم يرفض اتجاه مشروع قانون الإصلاح النيابي ولا مضمونه، بل كان يخشَى من خطر الإصلاح في ذاته.»٤٦ والواقع أن إيمان هِيجِل باستقرار دولة عهد عودة المَلكية قد تزعزع بشدة؛ فقد يكون الإصلاح شيئًا مفيدًا، ولكن هذه الدولة لا تملك حرية الأخذ بهذا الإصلاح دون أن تعرِّض نظام السلطة الذي كانت ترتكز عليه للخطر؛ فمقال هِيجِل عن مشروع قانون الإصلاح ليس وثيقةً تعبِّر عن أي إيمان أو ثقة بأن الشكل الراهن للدولة سيظل باقيًا إلى الأبد، تمامًا كما لم يكُن تصديره لكتاب «فلسفة الحق» تعبيرًا عن مثل هذا الإيمان. وهنا أيضًا تنتهي فلسفة هِيجِل إلى الشك والاستسلام.٤٧
١  فلسفة التاريخ، ص٧٢.
٢  فلسفة التاريخ العالمي G. Lasson: Philosophie der Weltgeschichte، المرجع المذكور من قبلُ، ص١٣٤.
٣  فلسفة التاريخ، ص٩.
٤  المرجع نفسه، ص٨.
٥  المرجع نفسه، ص١١.
٦  ص٤٥٦.
٧  نشر «جيورج لاسون» هذه المقدمة، بصورها المختلفة، في طبعته لكتاب «فلسفة التاريخ العالمي»، ١٩٢٠–١٩٢٢م. انظر بوجهٍ خاص المجلد الأوَّل، ص١٠ وما يليها، وص٣١ وما يليها.
٨  فلسفة التاريخ، ص١٧.
٩  ص١٩.
١٠  ص٢٠.
١١  ص١٣.
١٢  ص٣٠.
١٣  ص٢٩.
١٤  ص٥٦.
١٥  ص٢٩.
١٦  الموضع نفسه.
١٧  ص٣٠.
١٨  ص٢١.
١٩  ص٣٣.
٢٠  الموضع نفسه.
٢١  الموضع نفسه.
٢٢  الموضع نفسه.
٢٣  ص٢٦.
٢٤  ص١٨، انظر أيضًا ص١٠٤–١٠.
٢٥  ص٣٩٩.
٢٦  ص٥٠–٥٤، وانظر أيضًا ص٦٤.
٢٧  ص٥٣.
٢٨  ينحصر الفارق الحاسم بين تصوُّر «روح الأمة» عند هِيجِل وبين استخدام «المدرسة التاريخية Historische Schule» لهذا التصور نفسه في أن المدرسة الأخيرة تصوَّرَت «روح الأمة» من خلال تطورٍ طبيعي لا عقلي، ووضعَتها في مقابل القِيَم العليا التي أُرسيَت خلال التاريخ العالمي، وسوف نرى فيما بعدُ أن فكرة «المدرسة التاريخية» تندرج ضمنَ ردِّ الفعل الوضعي على عقلانية هِيجِل.
٢٩  المرجع نفسه، ص٥٤.
٣٠  ص٥٥.
٣١  ص٧٦.
٣٢  ص٧٧.
٣٣  ص٧٧.
٣٤  ص١٠٤.
٣٥  ص٢٥٢.
٣٦  الموضع نفسه.
٣٧  الموضع نفسه.
٣٨  ص٢٦٩.
٣٩  ص٢٦٩-٢٧٠.
٤٠  ص٢٧٠.
٤١  الموضع نفسه.
٤٢  ص١٨.
٤٣  ص٤١٦.
٤٤  ص٥٥.
٤٥  حول مشروع قانون الإصلاح البريطاني Ueber die Englische Reformbill، في كتابات في السياسة وفلسفة الحق Schriften zur Politik und Rechtsphil، ص٣٢٦.
٤٦  هِيجِل وعصره Hegel und seine Zeit، برلين، ١٨٥٧م، ص٤٥٦.
٤٧  انظر رسائل هِيجِل إلى جوشل Göschel (١٣ ديسمبر ١٨٣٠م)، وإلى شولتز Schültz (٢٩ يناير ١٨٧١م)، وقارن: «روزنتسفيج، هِيجِل والدولة F. Rosensweig: Hegel und der Staat»، ميونيخ، ١٩٢٠م، المجلد الثاني، ص٢٢٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤