الفصل الثامن

أسس النظرية الجدَلية للمجتمع

(١) نفي الفلسفة

يُعد الانتقال من هِيجِل إلى ماركس، من جميع النواحي، انتقالًا إلى مجالٍ مختلف أساسًا من مجالات الحقيقة. ومن الواجب ألا يُفسَّر من خلال الفلسفة؛ فسوف نرى أن جميع التصوُّرات الفلسفية للنظرية الماركسية هي مقولاتٌ اجتماعية واقتصادية، على حين أن مقولات هِيجِل الاجتماعية والاقتصادية هي كلها مقولاتٌ فلسفية. وحتى كتابات ماركس المبكِّرة لم تكن فلسفية، بل إنها تعبِّر عن نفي الفلسفة، وإن كانت لا تزال تفعل ذلك بلغةٍ فلسفية. صحيحٌ أن كثيرًا من تصوُّرات هِيجِل الأساسية قد ظلت قائمة خلال التطور المؤدي من هِيجِل إلى فويرباخ إلى ماركس، ولكن من المستحيل أن نتفهَّم النظرية الماركسية بالكشف عن التحوُّل الذي طرأ على المقولات الفلسفية القديمة؛ فكل تصورٍ منفرد في النظرية الماركسية له أساسٌ مختلف ماديًّا، مثلما أن النظرية الجديدة لها بناءٌ وإطارٌ تصوريٌّ جديد لا يمكن أن يُستمَد من النظريات السابقة.

ونستطيع أن نقول، على سبيل المحاولة الأولى لخوض المشكلة وفهمها، إن كل المقولات، في مذهب هِيجِل، تُفضي إلى النظام القائم وتنتهي إليه، على حين أنها في مذهب ماركس تشير إلى نفي هذا النظام وإنكاره؛ فهي تستهدف شكلًا جديدًا للمجتمع حتى حين تصف شكله الراهن. وهي أساسًا تستهدف حقيقةً لا يتم التوصل إليها إلا عن طريق إلغاء المجتمع المدني؛ فنظرية ماركس «نقد» بمعنى أن كل التصوُّرات تمثِّل إدانةً للنظام القائم في مجموعه.

ولقد نظر ماركس إلى فلسفة هِيجِل على أنها أكثر التعبيرات عن المبادئ البورجوازية تقدُّمًا وشمولًا. ولم تكن الطبقة الوسطى الألمانية في أيام هِيجِل قد بلغَت بعدُ مستوى القوى الاقتصادية والسياسية التي كانت تملكها الطبقات الوسطى في بلدان أوروبا الغربية؛ ومِن ثَمَّ فإن مذهب هِيجِل قد كشف وأكمل «في الفكر» كل المبادئ البورجوازية (التي أُكملَت «في الواقع» في سائر البلاد الغربية) والتي لم تكن قد أصبحَت بعدُ واقعًا اجتماعيًّا. وهو قد جعل من العقل المعيار الشامل الوحيد للمجتمع، واعترف بدور العمل المجرد في إدماج المصالح الفردية المتباينة في «نسقٍ موحَّد من الحاجات». وهو قد اكتشف المضامين الثورية لفكرتَي الحرية والمساواة الليبراليتَين، ووصف تاريخ المجتمع المدني بأنه تاريخُ الصراعات الحادة التي لا تخمد، والكامنة في هذا النظام الاجتماعي.

وقد أبدى ماركس اهتمامًا خاصًّا بالدور الحاسم الذي أسهَم به تصوُّر العمل عند هِيجِل؛ فقد ذكر هِيجِل أن تقسيم العمل والاعتماد العام المتبادل للعمل الفردي في نسق الحاجات يتحكَّم في نظام الدول والمجتمع معًا. وفضلًا عن ذلك فإن عملية العمل تتحكَّم أيضًا في تطوُّر الوعي. «فصراع الحياة والموت» بين السيد والعبد يفتح الطريق أمام الحرية الواعية بذاتها.

وفضلًا عن ذلك فمن الواجب أن نذكُر أن فلسفة هِيجِل ترتكز على تفسيرٍ خاص للعلاقة بين الذات والموضوع؛ فالتضاد الإبستمولوجي التقليدي بين الذات (الوعي) والموضوع، يتحول عند هِيجِل إلى انعكاس لتعارضٍ تاريخي محدد؛ ذلك لأن الموضوع يظهر أوَّلًا بوصفه موضوعًا للرغبة، وشيئًا ينبغي تجهيزه وتملُّكه من أجل إرضاء حاجةٍ بشرية. وخلال التملك، يتكشَّف الموضوع بوصفه «آخرية» الإنسان؛ فالإنسان لا يكون «مع ذاته» حين يتعامل مع موضوعات رغبته وعمله، بل يكون معتمدًا على قوةٍ خارجية، وعليه أن يتصدَّى للطبيعة، والاتفاق أو الصدفة، ومصالح المُلَّاك الآخرين. أمَّا التطور إلى ما وراء هذه النقطة في العلاقة بين الوعي والعالم الموضوعي فهو عمليةٌ اجتماعية. وهي تؤدي أوَّلًا إلى «الاغتراب» التام للوعي؛ إذ تطغى على الإنسان نفسُ الموضوعات التي صنَعها؛ ومِن ثَمَّ فإن تحقيق العقل يعني التغلُّب على هذا الاغتراب، وإيجاد وضعٍ تعرف فيه الذات نفسها وتمتلكها في جميع موضوعاتها.

وقد أعلن ماركس أن هذه البرهنة على دور العمل، ودور عملية التشيؤ reification، وإلغائها، هو أعظم إنجازات كتاب «ظاهريات الروح» لهِيجِل. ولكن قيمة البرهان قد ضاعت؛ ذلك لأن هِيجِل يزعم أن وحدة الذات والموضوع قد اكتملَت بالفعل، وأنه قد تم تجاوز عملية التشيؤ؛ ففي دولته المَلكية يتم تهدئة عداوات المجتمع المدني، ويتم التوفيق أخيرًا بين المتناقضات في عالم الفكر أو الروح المطلَقة.

فهل كانت «الحقيقة» تتفق بالفعل مع النظام الاجتماعي والسياسي القائم؟ وهل أعفى التاريخ الفكر النظري من أية حاجة إلى تجاوز نظام الحياة القائم في المجتمع؟ إن هِيجِل، حين أجاب عن هذا السؤال بالإيجاب، قد افترض أن الأشكال الاجتماعية والسياسية أصبَحَت مطابقة لمبادئ العقل؛ بحيث إن أعلى إمكانات الإنسان يُمكِن تنميتُها عن طريق تنمية الأشكال الاجتماعية السائدة. وكان استنتاجه ينطوي على تغيُّرٍ حاسم في العلاقة بين الواقع والنظرية؛ إذ نظر إلى الواقع على أنه يتفق مع النظرية؛ فالنظرية، التي هي المقَر الصحيح للحقيقة، تبدو — في الصورة التي أضفاها هِيجِل عليها أخيرًا — وكأنها ترحِّب بالوقائع كما هي، وتهلِّل لها على أساس أنها مطابقةٌ للعقل.

إن الحقيقة، حسب رأي هِيجِل، هي كلٌّ ينبغي أن يكون حاضرًا في كل عنصرٍ منفرد؛ بحيث إنه إذا لم يمكن ربط عنصرٍ مادي واحد أو واقعةٍ واحدة بعملية العقل أو مساره، كان في هذا قضاء على حقيقة الكل. وقد ذكر ماركس أن هناك بالفعل عنصرًا كهذا — هو الطبقة العاملة (البروليتاريا)؛ فوجود البروليتاريا يناقض الواقعية المزعومة للعقل؛ لأنه يعرض أمامنا طبقةً كاملة تقدِّم دليلًا على نفي العقل نفسه. إن المصير الذي تلقاه البروليتاريا ليس تحقيقًا للإمكانات الإنسانية، بل هو عكس ذلك. وإذا كانت المِلكية هي أول ما يتميز به الشخص الحر، فإن العامل (البروليتاري) ليس حرًّا وليس شخصًا؛ إذ ليست لديه ملكية. وإذا كانت أوجه النشاط التي تُمارِسها الروح المطلَقة، من فن ودين وفلسفة، هي التي تؤلِّف ماهية الإنسان، فإن هذا العامل يظل إلى الأبد منفصلًا عن ماهيته؛ إذ إن حياته لا تترك له وقتًا يمارس فيه أوجه النشاط هذه.

وفضلًا عن ذلك، فإن وجود البروليتاريا لا يقتصر تأثيره الضار على المجتمع العاقل الذي قال به هِيجِل في كتاب «فلسفة الحق»، بل هو يضُر بالمجتمع البورجوازي كله؛ فالبروليتاريا تظهر من خلال عملية العمل، وهي القائم الفعلي بالعمل أو الأداء في هذا المجتمع. غير أن العمل، كما بيَّن هِيجِل ذاته، يحدِّد ماهية الإنسان والشكل الاجتماعي الذي تتخذه. وإذن فإذا كان وجود البروليتاريا يشهد «بالضياع التام للإنسان»، وكان هذا الضياع ناجمًا عن طريقة العمل التي يؤسَّس عليها المجتمع المدني، فمعنى ذلك أن المجتمع شرِّير بأكمله، وأن البروليتاريا تعبِّر عن سلبية تامة؛ أي عن «عذابٍ شامل» و«ظلمٍ شامل».١ وبذلك تتحول واقعية العقل والحق والحرية إلى واقعية البطلان والظلم والعبودية.

وهكذا فإن وجود البروليتاريا شاهدٌ حيٌّ على أن الحقيقة لم تتحقَّق. ومعنى ذلك أن التاريخ والواقع الاجتماعي ذاتهما «ينفيان». ولا يمكن أن يتم نقد المجتمع على يد النظرية الفلسفية، بل هو مهمة الممارَسة العملية الاجتماعية التاريخية.

وقبل أن نعرض تطوُّر النظرية الماركسية، ينبغي أن نميَّزها من الأشكال المعاصرة الأخرى التي شيِّدَت على أساس «نفي الفلسفة»؛ فلقد كانت هناك موجة اقتناعٍ عميق بأن الفلسفة وصلَت إلى نهايتها، وانتشرَت هذه الموجة في العقود الأولى بعد وفاة هِيجِل. وذاع اعتقادٌ مؤكَّد بأن تاريخ الفكر قد بلغ مفرقَ طرقٍ حاسمًا، وأنه لم يتبقَّ إلا وسيطٌ واحد يمكن بواسطته الاهتداء إلى «الحقيقة» وتطبيقها فعليًّا، ألا وهو الوجود المادي العيني للإنسان. لقد كانت البناءات الفلسفية من قبلُ تتخذ مأوًى «للحقيقة»، وتعزلها عن مجال الصراع التاريخي للناس، على شكل كلٍّ معقَّد من المبادئ الترنسندنتالية المعقَّدة. أمَّا الآن فمن الممكن أن يصبح تحرُّر الإنسان هو نفسه عمل الإنسان، وهو هدف سلوكه العملي الواعي بذاته. ومن الممكِن تحويل الوجود الحقيقي، والعقل، والذات الحرة، إلى وقائعَ تاريخيةٍ متحققة؛ ومن هنا كان خلفاء هِيجِل يُمجِّدون «نفي الفلسفة» بوصفه «تحقيقًا لله» عن طريق تأليه الإنسان (فويرباخ) وبوصفه «تحقيق الفلسفة» (فويرباخ، ماركس) وتحقُّقًا للماهية الملكية للإنسان (فويرباخ، ماركس).

(٢) كيركجورد

مَن الذي سيحقِّق ماهية الإنسان، وما الذي سيحقِّقها؟ ومَن الذي سيحقِّق الفلسفة؟ إن الإجابات المختلفة عن هذه الأسئلة تستنفد اتجاهات الفلسفة التالية لهِيجِل. وفي وسعنا أن نميِّز من هذه الفلسفة نمطَين عامَّين؛ الأوَّل، ويمثله فويرباخ وكيركجورد، يركِّز جهوده على الفرد المنعزل، والثاني، ويمثِّله ماركس، يحاول الوصول إلى الأغوار البعيدة لأصول الفرد في عملية العمل الاجتماعي، ويبيِّن كيف أن هذه العملية هي أساس تحرُّر الإنسان.

لقد أثبت هِيجِل أن أكمل وجود للفرد يتحقق في حياته الاجتماعية. واتجه الاستخدام النقدي للمنهج الجدَلي إلى إظهار أن الحرية الفردية تفترض مقدمًا مجتمعًا حُرًّا، وأن التحرُّر الحقيقي للفرد يقتضي بالتالي تحرُّر المجتمع. ومعنى ذلك أن التركيز على الفرد وحدَه يدل على اتخاذ موقفٍ تجريدي من ذلك النوع الذي استبعَده هِيجِل. وهكذا فإن مادية فويرباخ ووجودية كيركجورد، وإن كانتا تنطويان على سماتٍ متعددة لنظريةٍ اجتماعيةٍ عميقة الجذور، لا تتجاوزان الأساليب الأقدم عهدًا، التي كانت الفلسفة والدين يتبعانِها إزاء هذه المشكلة. أمَّا النظرية الماركسية فإنها في أساسها نظريةٌ نقدية في المجتمع، تخرج عن إطار الصيغ والاتجاهات التقليدية.

ولقد كان من المحتَّم أن يتطوَّر تفسير كيركجورد الفردي «لنفي الفلسفة» إلى معارضةٍ عنيفةٍ للعقلانية الغربية؛ ذلك لأن العقلانية كانت في أساسها، كما بَيَّنَّا من قبلُ، اتجاهًا كُلي النزعة، فيه يكمُن العقل في الأنا المفكِّر وفي الروح الموضوعية معًا، ولكن الحقيقة لا تكمُن في «العقل الخالص» الكلي، الذي لا تؤثِّر فيه ظروف الحياة الفردية، ولا في الروح الكلية، التي يمكِنها أن تزدهر حتى مع معاناة الأفراد للألم والموت؛ ففي كلتا الحالتَين يتخلى المذهب عن السعادة المادية للإنسان، وذلك عن طريق نقل العقل إلى العالَم الباطن من جهة، وجعله مطابقًا للعالم كما هو، قبل الأوان، من جهةٍ أخرى.

إن الفلسفة العقلانية لم تكن، فيما يرى أصحاب النزعة الفردية، مهتمة بحاجات الإنسان وأمانيه الفعلية. وعلى الرغم من أنها زعمَت أنها تستجيب لمصالحه الحقيقية، فإنها لم تقدم إجابةً عن بحثه البسيط عن السعادة. ولم يكن في وسعها مساعدته في اتخاذ القرارات العينية التي يتعيَّن عليه دوامًا أن يتخذها، فإذا لم يكن الوجود المتفرد الحقيقي للفرد (الذي يمكِن أن يُرد إلى الكلي) هو الموضوع الرئيسي للفلسفة، كما ذهب العقلانيون، وإذا لم يكن من الممكن الاهتداء إلى الحقيقة في هذا الوجود المتفرد أو في ارتباطها به، فإن كل الجهود الفلسفية تصبح عقيمة، بل خطرة؛ ذلك لأنها تؤدي إلى صرف انتباه الإنسان عن العالَم الوحيد الذي يبحث الإنسان عن الحقيقة ويحتاج إليها فيه. وإذن فليس هناك سوى معيارٍ واحد للفلسفة الأصيلة، هو قدرتها على تحقيق الخلاص للفرد.

والفرد، عند كيركجورد، ليس هو الذات العارفة، بل هو «الذات التي لها وجودٌ أخلاقي». والحقيقة الوحيدة التي تهمُّه هي «وجوده الأخلاقي» الخاص.٢ فالحقيقة لا تكمُن في المعرفة؛ إذ إن الإدراك الحسي والمعرفة التاريخية ليسا إلا مظهرًا، والفكر «الخالص» ليس إلا شبحًا. والمعرفة لا تتعلَّق إلا بالممكن، وهي عاجزة عن جعل أي شيء واقعيًّا، أو حتى عن إدراك الواقع. ولا يمكِن أن تكمُن الحقيقة إلا في الفعل، ولا تمارَس إلا من خلال الفعل. ووجود الفرد هو الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن تُفهم فعليًّا، كما أن الفرد الموجود هو الوحيد الذي يمكنه القيام بهذا الفهم. إن وجود الفرد وجودٌ فكري، ولكن تفكيره يتحدد بحياته الفردية؛ بحيث تنشأ كل مشكلاته وتحلُّ في نشاطه الفردي.
إن كل فرد، في أعماق فرديته الباطنة، منعزل عن الآخرين جميعًا؛٣ فهو متفرد أساسًا. وليس ثمَّة اتحاد، أو اشتراك، أو شمول، ينازعه سيطرته. والحقيقة هي على الدوام نتيجة قرار يتخذه، ولا يمكن أن تتحقَّق إلا في الأفعال الحرة التي تنبثق عن هذا القرار. والاختيار الوحيد المتاح للفرد هو الاختيار بين الخلاص الأبدي واللعنة الأبدية.

ولقد تحوَّلَت النزعة الفردية عند كيركجورد إلى أشد النزعات المطلَقة قطعية؛ فليس ثمَّة إلا حقيقةٌ واحدة، هي السعادة الأبدية في المسيح، ولا يُوجَد إلا قرارٌ واحد، هو أن يحيا المرء حياةً مسيحية؛ ومن هنا فإن أعمال كيركجورد تمثِّل آخر محاولةٍ كبرى لاسترجاع الدين بوصفه الأداة النهائية لتحرير الإنسانية من التأثير الهدام لنظامٍ اجتماعي ظالم. وفلسفتُه تنطوي في كل جوانبها على نقدٍ قوي لمجتمعه، يُدينه بوصفه مجتمعًا يشوِّه الملَكَات الإنسانية ويحطِّمها. أمَّا العلاج فنجده في المسيحية، وفي تحقُّق طريقة الحياة المسيحية. ولقد كان كيركجورد يعلم أن مثل هذه الطريقة في الحياة تحتاج، في هذا المجتمع، إلى صراعٍ لا ينقطع، وتنتهي إلى المذلَّة والانهزام، وأن الحياة المسيحية في إطار الأشكال الاجتماعية الموجودة ستظل مستحيلة أبدًا؛ فقد كان من الواجب فصل الكنيسة عن الدولة؛ لأن أي اعتمادٍ على الدولة فيه خيانةٌ للمسيحية. والدور الحقيقي للمسيحية، بعد تحريرها من أية قوة تقيِّدها، هو إدانة الظلم والعبودية السائدَين، وإيضاح الطريق الذي تكمُن فيه المصلحة الحقيقية والخلاص النهائي للفرد.

لقد عاد كيركجورد إلى الوظيفة الأصلية للدين، وهي إهابته بالفرد المحروم المعذَّب. وهكذا أعاد للمسيحية قوَّتَها النضالية الثورية. وتتخذ عودة ظهور الإله مظهرًا مخيفًا، هو مظهر حدثٍ تاريخي يطرأ فجأة على مجتمعٍ منحل. كما تتخذ الأزلية مظهرًا زمنيًّا، على حين يصبح تحقيق السعادة مسألةً ذات أهميةٍ حيوية بالنسبة إلى الحياة اليومية.

على أن كيركجورد كان يتمسَّك بمضمونٍ لا يمكن أن يتخذ شكلًا دينيًّا؛ بحيث ينتهي الأمر بالدين حتمًا إلى أن يشارك الفلسفة مصيرها؛ ذلك لأنه لم يعُد من الممكن أن ينحصر خلاص الإنسانية في مجال الإيمان، لا سيَّما وأن القوى التاريخية المتقدِّمة تتحرك، وتحمل معها في حركتها تلك النواة الثورية للدين في صراعٍ عيني من أجل التحرُّر الاجتماعي. في هذه الظروف يصبح الاحتجاج الديني ضعيفًا عاجزًا، بل إن من الممكن أن تنقلب النزعة الفردية الدينية ضد الفرد الذي أخذَت على عاتقها أن تخلِّصه في البداية؛ فحين تقتصر «الحقيقة» على العالم الباطن للفرد، تنفصل عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي تنتمي إليه.

لقد أدَّى هجوم كيركجورد على التفكير المجرَّد؛ أدَّى به إلى مهاجمة تصوُّراتٍ كلِّية معيَّنة تتضمَّن دفاعًا عن المساواة والكرامة الأساسية للإنسان؛ فهو يرى أن الإنسانية الخالصة reine Menschheit هي «سلب»، وتجريدٌ محض من الفرد، وتسوية لكل القيم الوجودية.٤ كذلك فإن «الكلية» العقلية، التي رأى فيها هِيجِل اكتمال الحقيقة، هي بدورها «تجريدٌ محض».٥ والحق أننا لو تأملنا موقف كيركجورد من الحركة الاشتراكية، لاستطعنا أن ندرك على أفضل نحوٍ إلى أي حدٍّ كان تركيز الفلسفة هذا على تفرُّد الفرد أمرًا لا يتعلق بالفلسفة وحدها، وإلى أي مدًى يؤدي هذا التركيز على الفرد إلى انعزاله الاجتماعي والسياسي؛ فليس ثمَّة شك، في رأيه، في أن «فكرة الاشتراك والشيوع Gemeinschaft لا يمكِن أن تنقذ هذا العصر.»٦ فما الاشتراكية إلا محاولة ضمن محاولاتٍ أخرى متعدِّدة للحط من الأفراد عن طريق التسوية بين الجميع، من أجل «إزالة كل التنوُّعات والاختلافات العضوية العينية.»٧ وهي مرتبطة بالحسَد الذي تشعُر به الأغلبية نحو الأقلية التي تملكُ القيم العليا وتتمثَّل فيها هذه القيم. وهكذا فإن الاشتراكية جزء من الثورة العامة ضد الأفراد الممتازين.

•••

لقد أصبح هجوم الاتجاهات المضادة للعقلانية على الكليات أمرًا متزايد الأهمية في التطوُّر التالي للفكر الغربي. وكان من السهل أن يتحوَّل الهجوم على العقل الكلي إلى هجوم على المضامين الاجتماعية الإيجابية لهذا الكلي. وقد أوضَحنا من قبلُ أن تصوُّر العقل كان مرتبطًا بأفكارٍ تقدُّمية، مثل فكرة المساواة الأساسية بين الناس، وحكم القانون، ومعيار المعقولية في الدولة والمجتمع، وأن العقلانية في أوروبا الغربية قد ارتبطَت على هذا النحو ارتباطًا قاطعًا بالنُّظم الأساسية للمجتمع ذي النزعة الليبرالية. وقد بدأ الصراع ضد هذه الليبرالية، في الميدان الأيديولوجي، بالهجوم على العقلانية. وقام الموقف المُسَمَّى «بالوجودية» بدَورٍ هام في هذا الهجوم؛ فهو أوَّلًا قد أنكر مكانة الكُلي وحقيقته. وأدَّى ذلك إلى رفض أية معاييرَ عقليةٍ ذات صحةٍ شاملةٍ بالنسبة إلى الدولة والمجتمع. وفيما بعدُ، زعَم أصحاب هذا الموقف أنه لا تُوجَد رابطةٌ تجمَع الأفراد والدول والأمم في كلٍّ تؤلِّفه الإنسانية، وأن الأوضاع الوجودية الخاصة لكلٍّ منهم لا يمكِن أن تخضع لحكم العقل العام، فقيل إن القوانين ليست مبنية على أية صفاتٍ كلية للإنسان الذي يكمُن فيه العقل، بل هي تعبِّر عن حاجات أفرادٍ من الناس ينظِّمون حياتهم وفقًا لمتطلَّباتهم الوجودية. وأتاح لهم هذا الحطُّ من شأن العقل أن يرفعوا جزئياتٍ أو خصوصياتٍ معيَّنة، كالجنس أو الشعب Volk إلى مرتبة القيم العليا.

(٣) فويرباخ

بدأ فويرباخ بالحقيقة التي لم يعترف بها كيركجورد، ألا وهي أن المضمون الإنساني للدين لا يمكن المحافظة عليه في العصر الحاضر إلا بالتخلي عن القالب الديني الأخروي؛ فتحقيق الدين يقتضي نفيه. ولا بد أن يتحول مذهب الله (اللاهوت) إلى مذهبٍ للإنسان (أنثروبولوجيا). ولن تبدأ السعادة الأبدية إلا بتحوُّل مملكة السماء إلى جمهورية للأرض.

ويتفق فويرباخ مع هِيجِل على أن البشرية قد بلغَت عهد نضوجها؛ فالأرض تقف على استعداد للتحول، عن طريق السلوك الجماعي الواعي للناس، إلى عالم يسود فيه العقل والحرية؛ ومِن ثَمَّ فإنه رسم خطوط «فلسفة للمستقبل» نظر إليها على أنها التحقُّق المنطقي والتاريخي لفلسفة هِيجِل. «إن الفلسفة الجديدة هي تحقيق للفلسفة الهِيجِلية — بل للفلسفة السابقة بأَسْرها.»٨ وإذا كان نفي الدين قد بدأ بتحويل هِيجِل للاهوت إلى منطق، فإنه ينتهي بتحويل فويرباخ للمنطق إلى أنثروبولوجيا (علم للإنسان).٩ والأنثروبولوجيا عند فويرباخ هي الفلسفة، وهي تستهدف التحرير العيني للإنسان، وتضع لهذا الغرض الخطوط العامة للشروط والصفات اللازمة لحياةٍ إنسانيةٍ حرة بحق. مثل هذه الفلسفة لا يمكن أن تكون مثالية؛ إذ إن الوسائل أصبَحَت متوافرة لتحقيق حياةٍ إنسانيةٍ حرة عن طريق التحرُّر الفعلي. ولقد كان الخطأ الأكبر الذي وقع فيه هِيجِل هو أنه تمسَّك بالمثالية في وقتٍ أصبح فيه الحل المادي للمشكلة قريب المنال. فالفلسفة الجديدة ليس إذن تحقيقًا للفلسفة الهِيجِلية إلا من حيث هي سلب أو إنكار لها.
والواقع أن هِيجِل، بقبوله الحالة الراهنة للعالم بوصفها مطابقة لمعيار العقل، كان يناقض مبادئه الخاصة. وهو قد ربط الفلسفة بعجلة مضمونٍ معيَّن، هو المضمون الموجود في عصره. وليست التمييزات النقدية التي قام بها، آخر الأمر، إلا تمييزات في إطار هذا النظام القائم؛ ومن هنا فإن لفلسفته «دلالة نقدية»، ولكنها ليست دلالةً ناقدة للمنشأ أو الأصل genetico critical.١٠ مثل هذه الفلسفة الأخيرة لن تقتصر على فهم موضوعها وإثباته، بل تبحث في أصله، وبذلك تتساءل عن مدى أحقيته بالوجود؛ ذلك لأن الحالة السائدة للإنسان هي نتيجة مسارٍ تاريخيٍّ طويل صُبغَت فيه كل القيَم المتعالية بالصبغة «الدنيوية»، وأصبحَت غايات لحياة الإنسان التجريبية. ومن الممكن الآن أن تتحقق على الأرض تلك السعادة التي كان يلتمسها في السماء وفي الفكر الخالص؛ ومن هنا فإن التحليل الذي ينصَبُّ على الأصل أو المنشأ هو وحده الذي يمكِّن الفلسفة من تقديم الأفكار التي قد تساعد الإنسان في تحرُّره الحقيقي. ويؤكِّد فويرباخ أن هِيجِل لم يقُم بمثل هذا التحليل؛ فالتركيب التاريخي الذي قام به يفترض مقدمًا في كل جوانبه أن مراحل التطوُّر الراهنة، التي تم بلوغها في عصره، هي الغاية الباطنة لكل المراحل السابقة.

وفضلًا عن ذلك، فالتحليل الذي يرتد إلى الأصل أو المنشأ ليس أمرًا متعلقًا بفلسفة التاريخ وحدها، بل هو يتعلق أيضًا بالمنطق وعلم النفس. وهنا كان إخفاق هِيجِل أشد؛ إذ إنه لا يقوم بتحليلٍ لمنشأ الفكر في مذهبه؛ فهو يتصوَّر الوجود على أنه فكر منذ البداية. والوجود لا يظهر في المذهب على أنه «واقعة» العالم الخارجي، التي هي في البداية «معطاة» فحسب، ومغايرة للفكر، بل على أنه مفهوم. وفي العرض المفصَّل للمذهب يصبح الوجود طريقةً مشتقة من طرق الفكر، أو «محمول الفكر» على حد تعبير فويرباخ؛ ومن هنا فإن الطبيعة تُستمد من بناء الفكر وحركته — وهو عكس الواقع الفعلي على خطٍّ مستقيم.

وفي مقابل ذلك يبدأ تحليل فويرباخ المَنْشَئي genetic للفكر من حقيقةٍ واضحة، هي أن الطبيعة هي الحقيقة الأولية والفكر هو الحقيقة الثانوية. «إن العلاقة الصحيحة بين الفكر والوجود هي: أن الوجود موضوع، والفكر محمول؛ فالفكر ينبثق من الوجود، ولكن الوجود لا ينبثق من الفكر.»١١
إن الفلسفة ينبغي أن تبدأ بالوجود، لا الوجود المجرد في ذاته عند هِيجِل، بل الوجود العيني؛ أي الطبيعة. «إن ماهية الوجود بما هو وجود هي ماهية الطبيعة.»١٢ على أن الفلسفة الجديدة لا تستهدف أن تكون فلسفةً للطبيعة بالمعنى التقليدي؛ فالطبيعة لا تدخل في موضوع بحثها إلا بقَدْر ما تتحكَّم في الوجود الإنساني؛ لأن الإنسان هو الذي يؤلِّف مضمونها وموضوع اهتمامها الحقيقي. ويحتاج تحرير الإنسان إلى تحرير الطبيعة؛ أي وجود الإنسان الطبيعي. «فلا بد أن يؤسَّس كل علم على طبيعة. والنظرية تظل مجرد فرضٍ ما دام الأساس الطبيعي للنظرية لم يُبرهَن عليه. وهذا يصدُق بوجهٍ خاص على نظرية الحرية. وسوف تنجح الفلسفة الجديدة في صبغ الحرية بصبغةٍ طبيعية، وهي نفس الحرية التي كانت حتى الآن فرضًا مضادًّا للطبيعة ومتعاليًا عليها.»١٣
إن فويرباخ ينضم إلى التراث العظيم للفلاسفة الماديين الذين اتخذوا نقطة بداية آرائهم من حالة الإنسان الفعلية في الطبيعة والمجتمع، فأدركوا بناءً على ذلك أن الحلول المثالية باطلة؛ فالحقيقة الصلبة، التي تدُلنا على أن دوافع الإنسان الطبيعية لا يُتاح لها مخرجٌ يشبعها، تدُل على أن الحرية والعقل أسطورة، وذلك بقَدْر ما يتعلق الأمر بالوقائع الاجتماعية. وقد ارتكب هِيجِل جريمة لا تُغتفَر في حق الفرد؛ إذ شيَّد عالمًا للعقل على أساس من إنسانيةٍ مستعبدة. ويجهر فويرباخ بقوله إنه على الرغم من كل تقدُّم تاريخي، فإن الإنسان لا يزال محتاجًا، والحقيقة التي تصادفها الفلسفة في كل مكان هي «العذاب». هذا العذاب، لا المعرفة، هو الذي يحتل المكانة الأولى في علاقة الإنسان بالعالم الموضوعي. «إن الفكر يسبقه العذاب.»١٤ وليس لنا أن ننتظر أي تحقُّق للعقل ما لم ينمحِ العذاب.

ولقد ذكرنا من قبلُ أن «العذاب الشامل» الذي رآه ماركس في وجود البروليتاريا يسلب في نظره حقيقة العقل؛ ففي رأي ماركس أن «مبدأ العذاب» متغلغل في الشكل التاريخي للمجتمع، ويقتضي جهدًا اجتماعيًّا للقضاء عليه. وعلى عكس ذلك نجد فويرباخ يتخذ من الطبيعة أساسًا ووسيطًا لتحرير الإنسانية؛ فالطبيعة تسلب الفلسفة أو تنفيها وتحقِّقها. وعذاب الإنسان علاقة «طبيعية» بين الذات الحية وبيئتها الموضوعية؛ لأن الذات تقف في مقابل الموضوع الذي يطغى عليها. إن الطبيعة تشكِّل الأنا وتتحكَّم فيه من الخارج، وتجعله «سلبيًّا» أساسًا. وليس في وسع عملية التحرير أن تمحوَ هذه السلبية، ولكن تستطيع أن تحوِّلها من مصدر للحرمان والألم إلى مصدر للوفرة والمتعة.

ولقد كانت فكرة الأنا عند فويرباخ مضادة للفكرة التقليدية عنه، كما سادت الفلسفة الحديثة منذ ديكارت؛ فالأنا عند فويرباخ متلقٍّ أساسًا، وليس تلقائيًّا، وهو متحدد، وليس مستقلًّا بذاته، وهو ذاتٌ سلبية تتلقَّى الإدراك الحسي، وليس ذاتًا إيجابيةً تقوم بالتفكير. «إن التفكير الموضوعي الحق، والفلسفة الموضوعية الحقة، لا ينشآن إلا من سلب الفكر، ومن كونه متحددًا بواسطة الموضوع، ومن الانفعال الطاغي، الذي هو مصدر كل لذة وحاجة.»١٥ وهكذا فإن نزعة فويرباخ الطبيعية تذهب إلى أن الإدراك الحسي، والحساسية، والإحساس هي الأداة الصحيحة للفلسفة. «والموضوع، في معناه الحقيقي، لا يُعطى إلا بواسطة الحواس.»١٦ و«ليس ثمَّة شيءٌ مؤكَّد على نحوٍ مباشر لا يدع مجالًا للشك ما عدَا موضوع الحواس، والإدراك الحسي، والإحساس.»١٧
هذه هي النقطة التي يبدأ بها نقد ماركس لفويرباخ. وفي هذه النقطة يقف ماركس في صف هِيجِل ضد فويرباخ؛ فهِيجِل قد أنكر أن يكون اليقين الحسي هو المعيار النهائي للحقيقة، على أساس أن الحقيقة أوَّلًا كلية، لا تُكتسب في تجربة تأتينا بالجزئيات، كما أن الحقيقة، ثانيًا، تتحقَّق في عمليةٍ تاريخية تسير قُدمًا بفضل السلوك العملي الجماعي للناس. وهذه العملية الأخيرة هي الأساس، بينما اليقين الحسي والطبيعي معًا يُجتذبان في حركتها؛ بحيث يتغيَّر مضمونهما خلالها.١٨
ولقد كانت فكرة هِيجِل هي أن العمل يُدخل اليقين الحسي والطبيعة في إطار العملية التاريخية. أمَّا فويرباخ، فنظرًا إلى أنه تصوَّر الوجود البشري من خلال الحس، فإنه تجاهل هذه الوظيفة المادية للعمل تجاهلًا تامًّا. «إن فويرباخ، الذي لم يكن يرضيه الفكر المجرد، يُهيب بالإدراك الحسي، ولكنه لا يفهم طبيعتنا الحسية على أنها نشاطٌ عملي، وحسِّي بالمعنى الإنساني.»١٩
إن العمل يحوِّل الظروف الطبيعية للإنسان إلى ظروفٍ اجتماعية؛ وعلى ذلك فإن فويرباخ، حين أغفل عملية العمل في فلسفته في الحرية، قد أغفَل العامل الحاسم الذي يمكِن أن تصبح الطبيعة بواسطته وسيطًا لتحقيق الحرية. وهو، في تفسيره للنمو الحر للإنسان بأنه نموٌّ «طبيعي»، قد تجاهل الشروط التاريخية للتحرُّر، وجعل من الحرية حادثًا داخلًا في إطار النظام القائم. وهكذا فإن «مادية الإدراك الحسي» عنده لا تدرك إلا «أفرادًا منعزلين في المجتمع البورجوازي.»٢٠
أمَّا ماركس فقد ركَّز في نظريته على عملية العمل Labour process وبذلك احتفظ بمبدأ الجدَل الهِيجِلي — أعني المبدأ القائل إن بناء المضمون (الواقع) يتحكَّم في بناء النظرية — ووصل به إلى نقطة الاكتمال؛ فهو قد جعل من أسس المجتمع المدني أسسًا لنظرية المجتمع المدني. هذا المجتمع يسير على مبدأ العمل الشامل؛ بحيث تكون عملية العمل حاسمةً بالنسبة إلى المجموع الكلي للوجود الإنساني؛ فالعمل يتحكَّم في قيمة الأشياء جميعًا. ولمَّا كان التبادل الشامل المستمر لنواتج العمل هو الذي يبقي على المجتمع، فإن المجموع الكلي للعلاقات الإنسانية تحكمه القوانين الداخلية للاقتصاد. ويتوقف نمُو الفرد ونطاق حريته على مدى إشباع عمله لحاجةٍ اجتماعية. إن الناس جميعًا أحرار، ولكن آليَّات عملية العمل تحكُم حريتهم جميعًا؛ ومن هنا فإن دراسة عملية العمل لها، في نهاية المطاف، ضرورةٌ مطلقة من أجل كشف شروط تحقيق العقل والحرية بالمعنى الصحيح. وهكذا فإن التحليل النقدي لهذه العملية يكون الموضوع النهائي للفلسفة.

(٤) ماركس: العمل المغترب

تبحث كتابات ماركس فيما بين عامَي ١٨٤٤م و١٨٤٦م في شكل العمل في المجتمع الحديث من حيث إنه يشكِّل «الاغتراب» الكلي للإنسان. ويؤدِّي استخدام ماركس لهذه المقولة إلى الربط بين تحليله الاقتصادي وبين مقولةٍ أساسية في الفلسفة الهِيجِلية … وقد أعلن ماركس أن تقسيم العمل الاجتماعي لا يتم على أساس عمل أي حسابٍ لمواهب الأفراد ومصلحة الكل، بل يحدث وفقًا لقوانين الإنتاج الرأسمالي للسلع فحسب. وبمقتضى هذه القوانين يبدو أن ناتج العمل، وهو السلعة، يتحكَّم في طبيعة النشاط الإنساني وغايته. وبعبارةٍ أخرى فإن المواد التي ينبغي أن تخدم الحياة تصبح مسيطرةً على مضمونها وهدفها، ويصبح وعي الإنسان ضحيةً لعلاقات الإنتاج المادي تمامًا.

وهكذا فإن القضية المادية التي تُتخذ نقطة بداية في نظرية ماركس تقرِّر أوَّلًا واقعةً تاريخية، فتكشف الطابع المادي للنظام الاجتماعي السائد، الذي يقوم فيه اقتصادٌ غير موجَّه بالتشريع لكل العلاقات الإنسانية. وفي الوقت ذاته فإن قضية ماركس نقديةٌ أيضًا؛ إذ تعني أن العلاقة السائدة بين الوعي والوجود الاجتماعي هي علاقةٌ زائفة ينبغي تجاوُزُها وتركُها جانبًا قبل أن تظهر العلاقة الحقيقية إلى النور. وهكذا فإن حقيقة الموقف المادي تتحقَّق في سلب هذا الموقف ونفيه.

ولقد أكَّد ماركس مرارًا أن نقطة بدايته المادية قد فُرضَت عليه نتيجةً للطابع المادي للمجتمع الذي يحلِّله. وهو يذكُر أنه يبدأ «بواقعة»، هي واقعةٌ اقتصادية يعترف بها الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ذاته.٢١ فالمجتمع الحديث إذ يسير في طريقه «يصبح العامل فيه أفقر كلما أنتج ثروةً أعظم، وكلما ازداد إنتاجُه في قوِّته ومداه. والعامل يصبح سلعةً أرخص كلما زاد ما ينتجه من السلع. وهكذا فإن الحط من قَدْر العالم الإنساني يسير جنبًا إلى جنب مع استغلال العالم الموضوعي.»٢٢ ويعترف الاقتصاد السياسي التقليدي (وهنا يقتبس ماركس آراء آدم سمث و«سي J. E. Sey») بأن الثروة الاجتماعية الضخمة ذاتها لا تعني بالنسبة إلى العامل إلا «فقرًا مقيمًا.»٢٣ فهؤلاء الاقتصاديون قد بيَّنوا أن الفقر ليس على الإطلاق نتيجةَ ظرفٍ خارجي معاكس، بل نتيجةٌ لنوع العمل السائد ذاته. «إن تحطيم العامل وإفقاره في الوضع القائم للمجتمع، نتاجٌ لعمله ذاته، وللثروة التي أنتجَها هو ذاته. وهكذا فإن البؤس ينبثق من طبيعة طريقة العمل السائدة»، وتتغلغل جذوره في ماهية المجتمع الحديث ذاتها.٢٤
فما هي دلالة طريقة العمل هذه فيما يتعلق بتطوُّر الإنسان ونموِّه؟ بهذا السؤال تخرج النظرية الماركسية من «مجال الاقتصاد السياسي»؛٢٥ فمن الممكن أن يُعالج مجموعة العلاقات والقوانين والنظم الاقتصادية، لا على أنه مجرد تجمُّعٍ موضوعي منعزل للوقائع، بل على أنه يؤلِّف شكلًا تاريخيًّا يواصل الناس حياتهم في ظله. وحين تتحرَّر المقولات الاقتصادية من قيود العلم المتخصِّص، يتضح أنها عوامل تحدِّد الوجود الإنساني، حتى وإن كانت تدُل على وقائعَ اقتصاديةٍ موضوعية (كما هي الحال في السلعة، والقيمة، وإيجار الأرض).٢٦ وبدلًا من أن ننظر إلى العمل على أنه مجرد نشاطٍ اقتصادي، نجد أنه هو «النشاط الوجودي» للإنسان، وهو «نشاطه الحر، الواعي» — وهو ليس وسيلة لحفظ حياته، بل لتنمية «طبيعته الكلية»؛٢٧ فالمقولات الجديدة تقوم بتقدير للواقع الاقتصادي، وقد وضعَت نصب عينَيها ما صنعه هذا الواقع بالإنسان وبملَكَاته وقواه وحاجاته. ويلخِّص ماركس هذه الملَكَات الإنسانية عندما يتحدث عن «الماهية الكلية» للإنسان، وهو يدرس الاقتصاد وقد وضع في ذهنه على وجه التخصيص السؤال الآتي: هل حقَّق ذلك الاقتصاد الماهية الكلية للإنسان؟
هذه المصطلحات التي يستخدمها ماركس تذكِّرنا بفويرباخ وهِيجِل؛ فطبيعة الإنسان ذاتها تكمُن في كليته وشموله. وملَكَاته الذهنية والمادية لا يمكِن أن تتحقَّق إلا إذا كان الناس جميعًا يعيشون حياةً إنسانية، في ظل الثراء الزاخر لمواردهم الإنسانية. ولا يمكن أن يكون الإنسان حُرًّا إلا إذا كان الناس جميعًا أحرارًا، يُوجَدون بوصفهم «كائنات كلية». وعندما يتحقَّق هذا الشرط، ستكون إمكانات الجنس، أعني جنس الإنسان، هي التي تشكل الحياة؛ بحيث تكون هذه هي إمكانات كل الأفراد المنتمين إلى هذا الجنس. ويؤدي تأكيد صفة الكلية هذه إلى إشراك الطبيعة بدَورها في النمو الذاتي للإنسانية؛ فالإنسان يكون حُرًّا إذا كانت «الطبيعة هي عمله وحقيقته»؛ بحيث «يتعرَّف على نفسه في عالمٍ صنعه هو.»٢٨
كل هذا يشبه على نحوٍ ملحوظ فكرة العقل عند هِيجِل، بل إن ماركس يذهب إلى حد وصف التحقُّق الذاتي للإنسان من خلال الوحدة بين الفكر والوجود.٢٩ ولكن المشكلة بأَسْرها لا تعود مشكلةً فلسفية؛ إذ إن التحقُّق الذاتي للإنسان يقتضي الآن إلغاء طريقة العمل السائدة. وهي نتيجة لا تستطيع الفلسفة أن تحقِّقها. إن النقد يبدأ فعلًا في إطارٍ فلسفي؛ لأن استرقاق العمل وتحريره هما معًا شرطان يتجاوزان نطاق الاقتصاد السياسي التقليدي، ويؤثِّران في نفس أسس الوجود الإنساني (وهي الأسس التي تؤلِّف المجال الصحيح للفلسفة)، ولكن ماركس يتخلى عن المصطلح الفلسفي بمجرد أن يضع نظريته الخاصة؛ فالطابع النقدي، المتعالي، للمقولات الاقتصادية، الذي كانت تعبِّر عنه من قبلُ تصوُّراتٌ فلسفية، يُبرهن عليه فيما بعدُ، في كتاب «رأس المال»، بواسطة المقولات الاقتصادية ذاتها.

ويشرح ماركس اغتراب العمل كما يتمثَّل أوَّلًا في علاقة العامل بنتاج عمله، وثانيًا في علاقة العامل بنشاطه الخاص؛ فالعامل في المجتمع الرأسمالي ينتج سلعًا. ويقتضي الإنتاج الواسع النطاق للسلع رأسمالًا؛ أي أكداسًا ضخمةً من الثروة تُستخدَم خصوصًا في توسيع نطاق إنتاج السلع. وتنتَج السلع بواسطة أصحابِ أعمالٍ مستقلين لأغراض البيع بربح. ويشتغل العامل من أجل الرأسمالي، ويسلِّم إليه، عن طريق عقد الأجر، نتاج عمله. ويشكِّل رأس المال قدرةً على التصرُّف في منتجات العمل. وكلما ازداد ما ينتجه العامل، ازدادت قوة رأس المال، وتضاءلَت قدرة العامل ذاته على تملُّك منتجاته. وهكذا يصبح العمل ضحية قوةٍ خلقَها هو ذاته.

ويلخِّص ماركس هذه العملية على النحو الآتي: «إن الموضوع الذي ينتجه العمل؛ أي نتاجه، يُقابل بوصفه كيانًا غريبًا، وقوة أصبَحَت مستقلةً عن منتجها. وتحقُّق العمل هو تموضُع هذه القوة (اصطباغها بالصبغة الموضوعية). وفي ظل الأوضاع الاقتصادية القائمة، يظهر تحقُّق العمل هذا على أنه عكس التحقُّق، وسلبٌ للعامل. ويظهر التموضُع على هيئة فقدانٍ للموضوع واستعبادٍ بواسطته، كما يظهر التملك والاستحواذ appropriation على أنه اغترابٌ ونزعُ ملكية expropriation؛٣٠ فخضوع العمل لقوانين الإنتاج الرأسمالي للسلع يؤدي حتمًا إلى إفقاره؛ ذلك لأنه «كلما ازداد العامل كدحًا، ازدادت قوة عالم الموضوع الغريب الذي يُنتِجه على الوقوف في وجهه، وازداد هو نفسه فقرًا …»٣١ ويوضِّح ماركس أن تأثير هذه الآلية يظهر في حركة الأجور؛ فقوانين إنتاج السلع تؤدي، دون مساعدة أي عاملٍ خارجي، إلى حفظ الأجور في مستوى الفقر الثابت.٣٢
«ونتيجة لذلك» يظهر تحقُّق العمل على أنه سلب، إلى حد أن العامل يُسلب حتى مستوى الفقر المُدقِع. ويبدو التموضُع على أنه فقدانٌ للموضوعات إلى حدٍّ يحرم معه العامل من أكثر موضوعات حياته وعمله ضرورة. وفضلًا عن ذلك فإن العمل ذاته يصبح موضوعًا لا يمكِن أن يُسيطر عليه إلا بأعظم الجهود، وعلى نحوٍ غير منتظمٍ أو مستمرٍّ على الإطلاق. ويبدو الاستحواذ على الموضوع اغترابًا إلى حد أنه كلما ازداد ما ينتجه العامل قلَّ ما يملك، وازداد خضوعًا لسيطرة نتاجه، وهو رأس المال.٣٣
إن العامل المغترب عن نتاج عمله هو في الوقت ذاته مغترب عن ذاته. ولا يعود عمله ذاته منتميًا إليه، ويدل تملك غيره له على حدوث نزعٍ للملكية يمسُّ ماهية الإنسان ذاتها. إن العمل في شكله الصحيح وسيطٌ يستخدمه الإنسان في تحقيق ذاته على النحو الصحيح، وفي سبيل تنمية إمكاناته كاملة. ومن الواجب أن يكون الهدف من الاستخدام الواعي لقوى الطبيعة هو إرضاؤه وإمتاعه. أمَّا في صورته الراهنة فإنه يشلُّ كل الملَكَات الإنسانية ويحول دون إشباعها؛ فالعامل «لا يؤكِّد ماهيته بل يناقضها». وبدلًا من أن ينمي طاقاته الجسمية والذهنية الحرة، يكبت جسمه ويدمر ذهنه؛ ومن هنا فإنه لا يشعر أنه مع ذاته إلا عندما يتحرَّر من العمل، بينما يشعر بأنه منفصلٌ عن ذاته وهو يعمل. إنه يشعر بكيانه حين لا يعمل، ولا يشعر به حين يعمل. ومن هنا فإنه لا يقوم بعمله طوعًا، بل كرهًا. إنه عمل بالسخرة؛ ومِن ثَمَّ فإنه ليس إشباعًا لحاجة، بل هو مجرد وسيلة لإشباع رغباتٍ خارجة عنه.٣٤
وعلى ذلك فإن «الإنسان (العامل) لا يشعر بأنه يسلك بحرية إلا حين يؤدي وظائفه الحيوانية، كالأكل والشرب والتناسل … أمَّا في وظائفه الإنسانية فإنه ليس إلا حيوانًا؛ فالحيواني يصبح هو الإنساني، والإنساني يصبح هو الحيواني.»٣٥ وهذا يصدُق عن العامل (المنتِج المنتزَعة مِلكيته)، كما يصدُق على من يشتري عمله؛ فعملية الاغتراب تؤثِّر على كل مستويات المجتمع، بل إنها تشوِّه الوظائف «الطبيعية» للإنسان؛ فالحواس التي هي المصادر الأولى للحرية والسعادة في رأي فويرباخ، تُرد إلى «حاسة تملُّك» واحدة.٣٦ والحواس لا تنظر إلى موضوعها إلا من زاوية إمكان أو عدم إمكان تملُّكه، بل إن اللذة والمتعة ذاتهما تتحوَّلان من شروط ينمِّي الناس في ظلها «طبيعتهم الكلية» بحرية، إلى أحوالٍ للتملك والاقتناء «الأناني».٣٧
وهكذا كان تحليل ماركس للعمل في ظل الرأسمالية متعمقًا إلى حدٍّ بعيد، يتجاوز نطاق التركيب المميز للعلاقات الاقتصادية، ويصل إلى مضمونها الإنساني الفعلي؛ فهو ينظر إلى العلاقات التي تقوم بين رأس المال والعمل، وبين رأس المال والسلعة، وبين العمل والسلعة، وكذلك العلاقات بين السلع؛ ينظُر إلى هذه العلاقات على أنها علاقاتٌ إنسانية؛ أي علاقات في حياة الإنسان الاجتماعية، بل إن نظام المِلكية الخاصة ذاته يبدو على أنه «نتاج أسلوب العمل المغترب وحصيلته ونتيجته الضرورية»، ويستمد من آليات الطريقة الاجتماعية في الإنتاج؛٣٨ فاغتراب العمل يؤدي إلى تقسيم العمل المميز لكل أشكال العمل الطبقي. «إن لكل إنسان مجالًا خاصًّا، مميزًا، للنشاط، يُفرض عليه، ولا يستطيع أن يتهرَّب منه.»٣٩ — وهو تقسيم لا يمكن التخلُّص منه عندما تُعلن حرية الفرد المجرَّدة في المجتمع البورجوازي؛ فالعمل، منفصلًا عن موضوعه، هو في نهاية المطاف «اغتراب للإنسان عن الإنسان»، يُعزل فيه الأفراد بعضهم عن بعض، ويُوضَع بعضهم ضد بعض. ويكمُن أساس ارتباطهم في السلع التي يتبادلونها، لا في أشخاصهم؛ فاغتراب الإنسان عن ذاته هو في الوقت ذاته اغترابٌ عن أقرانه من الناس.٤٠
إن كتابات ماركس المبكِّرة هي أول تعبيرٍ صريح عن عملية التشيؤ Verdinglichung التي يُحيل فيها المجتمع الرأسمالي كل العلاقات الشخصية بين الناس إلى علاقاتٍ موضوعية بين أشياء. ويعرض ماركس هذه العملية في كتابه (رأس المال) تحت عنوان: فتيشية السلع Fetishism of Commodities؛ فالنظام الرأسمالي يربط الناس سويًّا من خلال السلع التي يتبادلونها. وقيمة السلع التي يُنتِجها الأفراد هي التي تحدِّد مركزهم الاجتماعي، ومستوى معيشتهم وإشباع حاجاتهم، وحريَّتهم، وقوَّتهم. أمَّا قدرات الفرد وحاجاته فلا شأن لها في التقدير، بل إن أكثر صفات الإنسان إنسانيةً تصبح مرتبطة بالمال، وهو البديل العام عن السلع. ولا يشارك الأفراد في العملية الاجتماعية إلا بوصفهم مُلَّاكًا للسلع فحسب، كما أن العلاقات المتبادلة بينهم لا تعدو أن تكون هي العلاقات بين سلعهم.٤١ فالإنتاج الرأسمالي للسلع يؤدي إلى نتيجةٍ مذهلة، هي أنه يحوِّل العلاقات الاجتماعية بين الأفراد إلى «صفات … للأشياء (السلع) ذاتها، بل إنه يحوِّل علاقات الإنتاج المتبادلة ذاتها، على نحوٍ أصرح، إلى شيء (المال).»٤٢ وتنشأ هذه النتيجة المذهلة من الشكل الخاص للعمل في إنتاج السلع، بما ينطوي عليه من انفصال للأفراد الذين يعمل كلٌّ منهم مستقلًّا عن الآخر، والذين لا يُشبِعون حاجاتهم إلا من خلال حاجات السوق:

«إن أصل فتيشية السلع يرجع … إلى الطابع الاجتماعي الخاص للعمل الذي ينتج هذه السلع.»

«ويُمكِن القول بوجهٍ عام إن الأشياء ذات المنفعة لا تصبح سلعًا إلا لأنها عمل أفراد أو جماعات من الأفراد يقومون بعملهم كلٌّ مستقلًّا عن الآخر. ويؤلف مجموع عمل كل هؤلاء الأفراد الحصيلة الكاملة للعمل الاجتماعي. ولما كان المنتجون لا يتصلون بعضهم ببعض إلا حين يتبادلون منتجاتهم، فإن الطابع الاجتماعي الخاص لعمل كل منتجٍ لا يظهر إلا في عملية التبادل. وبعبارةٍ أخرى فعمل الأفراد لا يؤكِّد ذاته بوصفه جزءًا من عمل المجتمع إلا عن طريق العلاقات التي تقيمها عملية التبادل على نحوٍ مباشر بين المنتجات، وعلى نحوٍ غير مباشر، بين المُنتِجين من خلال منتَجاتهم. وهكذا فإن العلاقات التي تربط عمل فردٍ بعمل الباقين تبدو لهؤلاء المنتجين، لا على أنها علاقاتٌ اجتماعية مباشرة بين أفراد عاملين، بل على ما هي عليه في حقيقتها، أعني علاقات مادية بين أشخاص، وعلاقات اجتماعية بين أشياء.»٤٣ فما الذي يؤدي إليه هذا «التشيؤ»؟ إنه يظهر العلاقات الاجتماعية الفعلية بين الناس كأنها مجموع من العلاقات الموضوعية، وبذلك يُخفي أصلها، والآليات التي تعمل على حفظها، وإمكان تغييرها. وهو قبل ذلك كله يُخفي لُبها ومضمونها الإنساني؛ فلو كانت الأجور — كما قد يُفهم من عملية التشيؤ — تعبِّر عن قيمة العمل، لكان الاستغلال على أحسن الفروض حكمًا ذاتيًّا وشخصيًّا. ولو لم يكن رأس المال إلا مقدارًا من الثروة يُستخدَم في إنتاج السلع، لبَدَا رأس المال على أنه الحصيلة التراكمية للمهارة والمثابرة الإنتاجية. ولو كان خلق الأرباح هو السمة المميزة لرأس المال المستثمر، لظهَرَت هذه الأرباح في صورة مكافأة على مجهود صاحب العمل. وعندئذٍ لا يكون هناك ظلم ولا اضطهاد في العلاقة بين رأس المال والعمل، بل تكون تلك علاقةً موضوعية مادية خالصة، وتكون النظرية الاقتصادية علمًا متخصِّصًا شأنه شأن أي علمٍ آخر. وعندئذٍ تكون قوانين العرض والطلب، وتحديد القيمة والأسعار، والدورات الاقتصادية، وما إليها، خاضعةً للدراسة بوصفها قوانينَ ووقائعَ موضوعية، بغَضِّ النظر عن تأثيرها في حياة الإنسان. وتكون العملية الاقتصادية للمجتمع عملية طبيعية، كما أن الإنسان، بكل حاجاته ورغباته، يقوم فيها بدور الكَم الرياضي الموضوعي، لا بدَور الذات الواعية.
على أن النظرية الماركسية ترفض هذا العلم الاقتصادي، وتضع محله التفسير القائل إن العلاقات الاقتصادية علاقاتٌ وجودية بين الناس. وهي لا تفعل ذلك بدافع أية عاطفةٍ إنسانية، بل بفضل المضمون الفعلي للاقتصاد ذاته؛ فالعلاقات الاقتصادية لا تبدو موضوعية إلا بسبب الطابع الذي يتخذه إنتاج السلع. وما إن ينفُذ المرء إلى ما وراء هذه الطريقة في الإنتاج، ويحلِّل أصلها، حتى يستطيع أن يدرك أن موضوعيتها الطبيعية مجرد وهم، بينما هي في الواقع شكلٌ تاريخي محدد للحياة أعطاه الإنسان لنفسه. وفضلًا عن ذلك، فبمجرد أن ينكشف هذا المضمون، تتحول النظرية الاقتصادية إلى نظريةٍ نقدية. «إن المرء حين يتحدث عن المِلكية الخاصة، يظن أنه يبحث في شيءٍ خارج عن الإنسان. أمَّا حين يتحدث عن العمل، فإنه يجد لزامًا عليه أن يتعامل مع الإنسان ذاته مباشرة؛ فالصياغة الجديدة للمسألة تنطوي بالفعل على حلِّها.»٤٤ إن الأوضاع الاقتصادية، بمجرد أن يتكشف طابعها الغامض، تظهر على أنها السلب الكامل للإنسانية؛٤٥ فطريقة العمل تشوِّه كل الملكات الإنسانية، ويؤدِّي تراكُم الثروة إلى تضاعُف الفقر، كما يؤدي التقدُّم التكنولوجي إلى «سيطرة المادة الجامدة على العالم الإنساني.»٤٦ فالوقائع الموضوعية تبعث فيها الحياة وتقوم بإدانة المجتمع. والحقائق الاقتصادية تكشف عن سلبيتها الكامنة.
وهنا نصل إلى الأصول التي نبع منها الجدَل الماركسي؛ فالجدَل عند ماركس، كما هو عند هِيجِل، يتنبه إلى الحقيقة القائلة إن السلب الكامن في الواقع هو «المبدأ الخلَّاق المحرِّك». والجدَل هو «جدَل السلبية.»٤٧ ذلك لأن كل واقعة أكثر من مجرَّد واقعة، إنها سلبٌ وتقييدٌ لإمكاناتٍ فعلية؛ فالعمل بالأجر واقعة، ولكنه في الوقت ذاته قيدٌ على العمل الحر الذي يمكِنه أن يرضي حاجات الإنسان. والمِلكية الخاصة واقعة، ولكنها في الوقت ذاته سلبٌ لامتلاك الإنسان جماعيًّا للطبيعة.
إن العمل الاجتماعي للإنسان ينطوي على السلبية، كما ينطوي على قهرها؛ فسلبية المجتمع الرأسمالي تنحصر في اغتراب العمل فيه، وسلب هذه السلبية، أو نفي هذا النفي، سيأتي مع إلغاء العمل المغترب. ولقد كان أعم شكل اتخذه هذا الاغتراب هو المِلكية الخاصة، وسوف يتم إصلاح هذا الوضع بإلغاء المِلكية الخاصة. ومما له أهميةٌ قصوى أن ننتبه إلى أن ماركس ينظر إلى إلغاء المِلكية الخاصة على أساس أنه لا يعدو أن يكون وسيلة لإلغاء العمل المغترب، لا من حيث هو غاية في ذاته. أمَّا تأميم وسائل الإنتاج فهو ذاته مجرد واقعةٍ اقتصادية، شأنه شأن أي نظامٍ اقتصادي آخر. وأمَّا أحقيَّته بأن يكون بداية لنظامٍ اجتماعي جديد، فهذا أمرٌ يتوقَّف على ما يفعله الإنسان بوسائل الإنتاج المؤمَّمة؛ فإذا لم تُستخدَم هذه الوسائل في سبيل إنهاض الفرد الحر وإرضائه، فلن تكون عندئذٍ سوى شكلٍ جديد من أشكال إخضاع الأفراد لنوع من الشمول المتحجِّر، فلا يمكن أن يؤدي إلغاء الملكية الخاصة إلى بداية نظامٍ اجتماعي جديد في أساسه إلا إذا أصبح الأفراد الأحرار، لا «المجتمع»، هم المسيطرون على وسائل الإنتاج المؤمَّمة. وقد حذَّر ماركس صراحةً من أخطار مثل هذا «التشيؤ» الجديد للمجتمع: «على المرء قبل كل شيء أن يتجنَّب إقامة «المجتمع» مرةً أخرى بوصفه تجريدًا مضادًّا للفرد؛ فالفرد هو ذاته الكيان الاجتماعي؛ ومِن ثَمَّ فإن التعبير عن حياته … هو تعبيرٌ عن حياة المجتمع وتحقيقٌ لها.»٤٨
إن التاريخ الحقيقي للبشرية سيكون تاريخ أفرادٍ أحرارٍ بالمعنى الصحيح؛ بحيث إن مصلحة الكل سوف تكون ملتحمةً مع الوجود الفردي لكلٍّ منهم. وعلى حين أن مصلحة الكل كانت، في جميع الأشكال السابقة للمجتمع، تكمُن في نُظمٍ اجتماعية وسياسية منفصلة، تمثِّل حق المجتمع في مقابل حق الفرد، فإن إلغاء المِلكية الخاصة سوف يمحو هذا كله نهائيًّا؛ إذ إنه سوف يعني «عودة الإنسان من الأسرة، والعقيدة، والدولة … إلخ، إلى وجوده الإنساني؛ أي الاجتماعي.»٤٩

وإذن فالأفراد الأحرار، لا ظهور نظامٍ جديد للإنتاج، هم الذين يعبِّرون عن امتزاج المصلحة الخاصة والعامة. والفرد هو الهدف. والواقع أن هذا الاتجاه «الفردي» أساسي بوصفه هدفًا للنظرية الماركسية. وقد أوضحنا دور الكلي في النظريات التقليدية، التي تؤكِّد أن تحقُّق الإنسان، أو ما سمَّيناه بتجسُّد «الحقيقة»، لا يمكن تصوُّره إلا من خلال التصوُّر الكلي المجرد، ما دام المجتمع يظل محتفظًا بالشكل الذي كان سائدًا فيه؛ ذلك لأن استفحال الصراع بين المصالح الفردية على جميع المستويات، يجعل الأوضاع العينية للحياة الاجتماعية تهزأ من «الماهية الكلية» للإنسان والطبيعة. ولمَّا كان الواقع الاجتماعي القائم يُناقِض هذه الماهية؛ وبالتالي يناقض «الحقيقة»، فإن هذه الأخيرة لم يكن لها من ملجأ سوى الذهن؛ حيث كانت تتجسَّم بوصفها كليًّا مجرَّدًا.

ويفسِّر ماركس كيف نشأ هذا الوضع، موضحًا أصله الذي يرجع إلى تقسيم العمل داخل المجتمع الطبقي، ويرجع بوجهٍ خاص إلى ما يترتَّب على ذلك من انفصال بين القوى الذهنية والمادية للإنتاج.

«إن قوى الإنتاج، وحالة المجتمع، والوعي، لا بد أن ينتهوا إلى التناقض كلٌّ مع الآخر؛ لأن تقسيم العمل ينطوي بالقوة، بل بالفعل أيضًا، على القول بأن النشاط الذهني والمادي — أي الاستمتاع والعمل، والإنتاج والاستهلاك — يرجعان إلى أفرادٍ مختلفين … وتقسيم العمل … يتكشَّف أيضًا في الطبقة الحاكمة، بوصفه تقسيم العمل الذهني والمادي؛ بحيث يبدو فريقٌ في هذه الطبقة، على أنه يؤلِّف مفكِّري الطبقة … على حين أن الآخرين يتخذون من هذه الأفكار والأوهام موقفًا أقرب إلى السلبية والاستجابة، دون أن يكون لديهم الوقت الكافي لكي يصنعوا لأنفسهم أوهامًا وأفكارًا خاصَّةً بهم … ومن الأمور الواضحة بذاتها أن أشباحًا مثل «الموجود الأعلى» و«المفهوم» … هي مجرد تعبيرٍ مثالي، روحي، وهي على ما يبدو فكرة فردٍ منعزل، وصورة أغلالٍ وقيودٍ تجريبية إلى أبعد حد، تتحرك خلالها طريقة الإنتاج في الحياة، وشكل الاتصال المقترن بها.»٥٠
وكما أن إعادة تكوين الكل الاجتماعي، ماديًّا، كان نتيجة قوًى عمياء، تعجز قدراتُ الإنسان الواعية عن توجيهها، فكذلك ظهر الكلي، ذهنيًّا، على أنه واقعٌ يتسم بالاستقلال والإبداعية. واضطُرَّت الجماعاتُ التي تحكُم المجتمع إلى أن تُخفيَ الطابع الخاص لمصالحها، وذلك بأن تغلِّفها في إطار «المهابة التي يتسم بها الكلي الشامل.» «إن كل طبقةٍ جديدة تضع نفسها محل طبقة تحكُم قبلها، مضطَرة، لا لشيء إلا لكي تحقِّق هدفها، إلى أن تصوِّر مصلحتها على أنها هي المصلحة المشتركة لكل أفراد المجتمع … فهي تُضفي على أفكارها طابع الشمول، وتصوِّرها على أنها الأفكار الوحيدة المعقولة، التي تصدُق على نحوٍ شامل.»٥١ وهكذا فإن نسبة الشمول إلى أفكار أية طبقةٍ حاكمة هو جزءٌ من آليات الحكم الطبقي، ولا بد أن يؤدِّي نقد المجتمع الطبقي إلى القضاء على ادِّعاءاته الفلسفية أيضًا.
والتصوُّرات الكلية أو الشاملة التي تُستخدم في هذه الحالة، هي أوَّلًا تلك التي تجسِّد أشكالًا مرغوبًا فيها للوجود الإنساني — أعني تصوُّراتٍ مثل العقل، والحرية، والعدالة، والفضيلة، وكذلك الدولة والمجتمع، والديمقراطية. كل هذه التصوُّرات تفترض أن ماهية الإنسان الكلية متحققة؛ إمَّا في الأوضاع الاجتماعية السائدة، وإمَّا فيما وراءها؛ أي في عالم يعلو على التاريخ. كذلك يشير ماركس إلى أن هذه التصوُّرات يزداد نطاقها شمولًا بازدياد تقدُّم المجتمع؛ فأفكار الشرف والولاء وغيرهما مما كان مميزًا للعصور الوسطى، وهي الأفكار التي كانت هي المسيطرة بين الطبقة الأرستقراطية، كانت ذات نطاقٍ أضيق بكثير، وتطبَّق على أفرادٍ أقلَّ بكثير، من الأفكار البورجوازية عن الحرية والمساواة والعدالة، مما يدُل على أن قاعدةَ هذه الطبقة أوسعُ بكثير. وهكذا فإن تطوُّر الأفكار المسيطرة يتمشَّى مع زيادة التكامل الاجتماعي والاقتصادي ويعكس هذا التكامل. «إن أعم التجريدات لا تنشأ عادةً إلا حين يكون هناك أعلى مستوًى من التطور العيني، وحيث تبدو إحدى السمات مِلكًا للكثيرين معًا، ومشتركة بين الجميع. عندئذٍ لا يعود من الممكِن التفكير فيها من خلال أي شكلٍ جزئي محدد.»٥٢ وكلما ازداد المجتمع تقدُّمًا ازدادت «سيطرة الأفكار المجردة؛ أي الأفكار التي تتخذ شكل الشمول والكلية على نحوٍ متزايد.»٥٣
غير أن هذه العملية تتحول إلى عكسها بمجرد أن تُلغى الطبقات، وتتحقَّق مصلحة الكل في حياة كل فرد؛ فعندئذٍ «لا يعود من الضروري تصوير مصلحةٍ خاصة على أنها عامة، أو «المصلحة العامة» على أنها هي المتحكِّمة.»٥٤ ذلك لأن الفرد يصبح هو الصانع الفعلي للتاريخ؛ بحيث يكون هو نفسه الكلي، ويكشف عن «الماهية الكلية» للإنسان.
وهكذا فإن الشيوعية، «بإلغائها الإيجابي للمِلكية الخاصة»، هي بطبيعتها شكلٌ جديد من أشكال النزعة الفردية، وهي ليست مجرد نظامٍ اقتصاديٍّ جديدٍ مختلف، بل هي نظامٌ جديدٌ في الحياة. إن الشيوعية هي «التملُّك الحقيقي لماهية الإنسان بواسطة الإنسان ومن أجل الإنسان؛ ومن هنا فإنها عودة الإنسان الكاملة … إلى ذاته، بوصفه كائنًا اجتماعيًّا؛ أي إنسانيًّا». إنها هي «الحل الصحيح لصراع الإنسان مع الطبيعة ومع الإنسان، وللنزاع بين الوجود والماهية، وبين التشيؤ والاستقلال الذاتي، والحرية والضرورة، والفرد والنوع.»٥٥ ففي هذا الشكل الجديد للمجتمع ستُحل كل المتناقضات التي كانت كامنة من وراء فلسفة هِيجِل والفلسفة التقليدية كلها؛ ذلك لأن هذه متناقضاتٌ تاريخية ترجع جذورها إلى صراعات المجتمع الطبقي. وما الأفكار الفلسفية إلا تعبيرٌ عن أوضاعٍ تاريخيةٍ مادية، تنفضُ عن نفسها غِلالتها الفلسفية بمجرد أن تصبح موضوعًا لبحث النظرية النقدية، وتُدرك بواسطة العمل الاجتماعي الواعي.
لقد كانت فلسفة هِيجِل تدور حول شمول العقل أو كلِّيته، وكانت مذهبًا عقليًّا يندمج كل جزء فيه (أي المجال الذاتي فضلًا عن المجال الموضوعي) في كلٍّ شامل. وقد بيَّن ماركس أن المجتمع الرأسمالي قد وضع هذه الكلِّية أوَّلًا موضع التطبيق العملي؛ فقد طوَّرَت الرأسمالية قوى الإنتاج من أجل المجموع الكلي لنظامٍ اجتماعيٍّ متجانس. وأصبَحَت السيادة للتجارة الشاملة، والمنافسة الشاملة، والاعتماد المتبادل للعمل، فأدَّى ذلك إلى تحويل الناس إلى «أفرادٍ مندمجين في التاريخ العالمي، يتَّسمون بشمولٍ تجريبي.»٥٦
غير أن هذا الشمول، كما أوضحنا من قبلُ، شمولٌ سلبي؛ لأن القوى الإنتاجية تُستخدم، مثلما تُستخدم الأشياء التي ينتجها بها الإنسان، على نحوٍ يجعلها تبدو نواتجَ لقوةٍ غريبة لا يمكِن السيطرة عليها. وإنه لمن «الحقائق التجريبية أن الأفراد المنفصلين قد أصبَحوا بعد اتساع نطاق نشاطهم إلى الحد الذي أصبح معه تاريخيًّا عالميًّا، خاضعين على نحوٍ متزايد لاستعباد قوةٍ غريبة عنهم … قوة تتزايد ضخامتُها، ويتضح آخر الأمر أنها هي السوق العالمية.»٥٧ فتوزيع العرض supply في ظل إنتاج السلع الدولي هو عمليةٌ شاملةٌ فوضويةٌ عمياء، لا تُشبع فيه مطالب الفرد إلا إذا استطاع أن يفي بشروط التبادل. ويُسَمِّي ماركس هذه العلاقة الفوضوية بين العرض والطلب شكلًا «طبيعيًّا» للتكامل الاجتماعي، ويعني بذلك أنها تبدو كما لو كانت لها قوة القانون الطبيعي، بدلًا من أن تُمارَس — كما ينبغي — في ظل إشرافٍ يشترك فيه الناس جميعًا.

(٥) إلغاء العمل

يقتضي تحقيق الحرية والعقل أن يُقلَب هذا الوضع رأسًا على عقب. «إن الاعتماد الشامل، هذا الشكل الطبيعي للتعاون التاريخي العالمي بين الأفراد، سيتحوَّل بفضل هذه الثورة الشيوعية إلى إشرافٍ وسيطرةٍ واعية على تلك القوى التي تولَّدَت أصلًا من تأثير الناس بعضهم في بعض، وإن كانت قد ظلَّت حتى الآن تطغى على الناس وتحكُمهم بوصفها قوًى غريبة عنهم تمامًا.»٥٨
وفضلًا عن ذلك، فلما كان الوضع الذي ظل سائدًا «حتى الآن» هو سلبية شاملة، تؤثِّر في جميع مجالات الحياة، فإن تغييره يقتضي ثورةً شاملة؛ أي ثورة تقلب أوَّلًا كل الأوضاع السائدة، وتؤدي ثانيًا إلى الاستعاضة عنها بنظامٍ شاملٍ جديد. ولا بد أن تكون العناصر المادية للثورة الكاملة متوافرة، بحيث لا تمتد الانتفاضة إلى أوضاعٍ خاصة في المجتمع القائم، بل إلى نفس «إنتاج الحياة» السائد فيها، و«النشاط الكلي» الذي تُبنى عليه.٥٩ فهذا الطابع الكلي الشامل للثورة يحتِّمه الطابع الكلي الشامل لعلاقات الإنتاج الرأسمالية. «إن الاتصال المتبادَل الشامل الحديث لا يمكِن أن يسيطر عليه الأفراد … إلا حين يكون الجميع مسيطرين عليه.»٦٠
وتؤدي الانتفاضة الثورية التي تُنهي نظام المجتمع الرأسمالي إلى تحرير كل إمكانات النهوض التي ظهرَت في هذا النظام؛ ومِن ثَمَّ فإن ماركس يصف الثورة الشيوعية بأنها عملية «تملُّك Aneigung» ويعني بذلك أن إلغاء الملكية الخاصة يجعل الناس يصلون إلى امتلاكٍ حقيقي لكل الأشياء التي ظلَّت من قبلُ مسلوبةً منهم.
ويتحدد التملك بالموضوع المراد تملُّكه؛ أي «بالقوى الإنتاجية التي تطوَّرَت حتى أصبَحَت كُلًّا شاملًا، ولا تُوجَد إلا في إطار اتصالٍ وتبادُلٍ كلِّي؛ وعلى ذلك فإن التملُّك ينبغي أن يكون له، من هذه الناحية وحدها، طابعٌ كلِّي شامل …»٦١ ومعنى ذلك أن الشمول الذي يُوجَد في الحالة الراهنة للمجتمع سوف يُنقل إلى النظام الاجتماعي الجديد، ولكنه سوف يتخذ فيه طابعًا مختلفًا؛ فلن يعود الكلي يمارس تأثيره بوصفه قوةً طبيعيةً عمياء، بعد أن يكون الناس قد نجحوا في إخضاع القُوى الإنتاجية المتاحة «لقوة الأفراد متحدين». وعندئذٍ سيتمكَّن الإنسان، لأول مرة في التاريخ، من أن يعامل، على نحوٍ واعٍ، «جميع الموارد الطبيعية على أنها من خلقِ الناس.»٦٢ وسوف يسير صراعه مع الطبيعة حسب «خطة عامة» يضعها «أفرادٌ متَّحدون بحرية».٦٣

كذلك يتحدَّد التملك تبعًا للأشخاص الذين يتملكون؛ فاغتراب العمل يخلق مجتمعًا منقسمًا إلى طبقاتٍ متعارضة. ولا بد أن يؤدي أي تنظيمٍ اجتماعي يقوم بنوعٍ من تقسيم العمل دون أن يأخذ في اعتباره، عند إعطاء كل فرد دورَه الخاص به، قدراتِ الأفراد وحاجاتهم، إلى تقييد نشاط الفرد بقوًى اقتصاديةٍ خارجية؛ فطريقة الإنتاج الاجتماعي (أي الطريقة التي تُحفظ بها حياة الكل) تقيِّد حياة الفرد، وتسخِّر وجوده كله من أجل علاقاتٍ يفرضها الاقتصاد، دون اعتبار لقدراته أو حاجاته الذاتية. وقد أدَّى إنتاج السلع في ظل نظامٍ من المنافسة الحرة إلى زيادة هذا الوضع تفاقمًا؛ إذ كان المفروض أن تكون السلع التي تُعطى للفرد من أجل إشباع حاجاته معادلة لعمله. وبدَا أن المساواة قد ضُمنَت، في هذه الناحية على الأقل. ومع ذلك فإن الفرد لم يكن يستطيع اختيار عمله، بل كان هذا العمل مفروضًا عليه بحكم موقعه في عملية الإنتاج الاجتماعي، كما كان هذا الموقع بدوره مفروضًا عليه بواسطة التوزيع السائد للسلطة والثروة.

إن وجود الطبقات، من حيث هي واقعٌ فعلي، يناقض الحرية، أو على الأصح يحوِّلها إلى فكرةٍ مجردة؛ فالطبقة تحصُر النطاق الفعلي للحرية الفردية في إطار الفوضى العامة، وهي ساحة التصرُّف الحر التي لا تزال متاحةً أمام الفرد؛ فكل فردٍ يكون حرًّا بقَدْر ما تكون طبقته حرة، ونمو فرديَّته منحصرٌ في حدود طبقته، فهو يتكشَّف بوصفه «فردًا طبقيًّا».

إن الطبقة هي الوحدة الاجتماعية والاقتصادية الفعلية، لا الفرد. وهي «تحقِّق وجودًا مستقلًّا يعلو على الأفراد؛ بحيث إن هؤلاء الآخيرين يجدون أوضاع حياتهم مقدَّرة مقدَّمًا، ومن هنا فإن طبقتهم هي التي تحدِّد لهم مركزهم في الحياة ومقدار ارتقائهم الشخصي؛ بحيث يصبحون مندرجين تحت هذه الطبقة.»٦٤ ولا يستطيع الشكل الراهن للمجتمع أن يحقق نظامًا شاملًا إلا عن طريق سلبه للفرد؛ إذ يصبح «الفرد الشخصي» «فردًا طبقيًّا»،٦٥ وتصبح الخصائص المكوِّنة له خصائصَ كليةً شاملة يشترك فيها مع كل الأفراد الآخرين لطبقته. ولا يعود وجوده خاصًّا به، بل يصبح وجود طبقته. ولنعُد بأذهاننا في هذا الصدد إلى عبارة هِيجِل القائلة إن الفرد هو الكلي، وإنه يسلك تاريخيًّا، لا على أنه شخصٌ فردي، بل على أنه مواطن في دولته. وقد فهم ماركس أن هذا السلب للفرد هو النتاجُ التاريخي للمجتمع الطبقي، الذي يتم، لا عن طريق الدولة، بل بواسطة طريقة تنظيم العمل.
ويُعَد إدراج الأفراد ضمن طبقات، وإخضاعهم لتقسيم العمل، ظاهرةً واحدة.٦٦ وهنا يعني ماركس بتقسيم العمل، عمليةَ الفصل بين أوجه النشاط الاقتصادية المتعدِّدة في ميادينَ متخصصةٍ محدَّدة بدقة؛ فتنفصل الصناعة والتجارة أوَّلًا عن الزراعة، ثم تنفصل الصناعة عن التجارة، وأخيرًا تتشعَّب هذه الأخيرة إلى فروعٍ متباينة.٦٧ ويحدُث هذا التفرُّع بأكمله بموجب مقتضيات إنتاج السلع في صورته الرأسمالية، كما يؤدي تقدُّم التكنولوجيا إلى التعجيل بهذا التفرُّع. وتتسم هذه العملية بأنها عمياء «طبيعية». ويبدو العمل الكلي اللازم لحفظ المجتمع كأنه مجموع من العمل محدَّد مُقدَّمًا، ينظَّم على نحوٍ محدَّد. كما يبدو النوع الخاص السائد من تقسيم العمل كأنه ضرورةٌ محتومة، تجذب الأفراد إلى فلَكِها. ويصبح النشاط الاقتصادي الخاص كيانًا موضوعيًّا يعطي الناس مستوًى معيَّنًا للمعيشة، ومجموعةً من الاهتمامات، ونطاقًا من الإمكانات يتميَّزون به عن غيرهم ممن يقومون بنشاطٍ اقتصاديٍّ آخر. وتؤدي أحوال العمل إلى صَبِّ الأفراد في جماعات أو طبقات، وتصبح هذه الأحوال أوضاعًا طبقية ترتدُّ إلى التقسيم الأساسي إلى رأسمال وعمل بالأجر.

ومع ذلك فإن الطبقتَين الرئيسيتَين ليستا طبقتَين بنفس المعنى؛ فالطبقة العاملة (البروليتاريا) تتميَّز بأنها، من حيث هي طبقة، تعني نفي أو سلب الطبقات كلها؛ ذلك لأن اهتمامات جميع الطبقات الأخرى هي في أساسها ذات اتجاهٍ واحد، أمَّا اهتمام البروليتاريا فهو في أساسه كلي؛ فليس للبروليتاريا ملكيةٌ أو ربحٌ تدافع عنه، بل إن شاغلَها الوحيد، وهو إلغاءُ أسلوب العمل السائد، هو شاغلُ المجتمع ككل. وهذا ما يعبِّر عنه القول إن الثورة الشيوعية، على خلاف جميع الثورات السابقة، لا تستطيع أن تترك أية جماعةٍ اجتماعية في حالة عبودية؛ لأنه لا تُوجَد طبقةٌ أدنى من البروليتاريا.

كذلك فإن كلية البروليتاريا هي كليةٌ سلبية، تدُل على أن اغتراب العمل قد تضاعف إلى حد الهدم الذاتي الكامل؛ فجهد العامل أو عمله يحول دون أي تحقُّق ذاتي، وعمله يسلبُ وجوده الكامل. غير أن هذه السلبية القصوى تتحوَّل إلى اتجاهٍ إيجابي؛ فكونه محرومًا من كل مزايا النظام السائد، هو ذاتُه الذي يضعه خارج نطاق هذا النظام. إنه عضو في الطبقة «التي هي بالفعل متخلِّصة من العالم القديم كله، وتقف في الوقت ذاته في مواجهته.»٦٨ هذا «الطابع الكلي الشامل» للبروليتاريا هو الأساس النهائي للطابع الشامل للثورة الشيوعية.
إن البروليتاريا ليست سلبًا لإمكاناتٍ بشريةٍ جزئيةٍ معيَّنة فحسب، بل للإنسان بما هو كذلك؛ إذ إن جميع العلامات الخاصة التي يتميَّز بها الإنسان تفقد صلاحيتها بالنسبة إليها؛ فالملكية، والثقافة، والدين، والقومية … إلخ، أعني كل الأشياء التي قد تميِّز إنسانًا عن إنسان آخر، لا تُحدِث مثل هذا التأثير بين العمال، بل إن كلًّا منهم لا يعيش في المجتمع إلا بوصفه ممثلًا لقوة العمل؛ ومِن ثَمَّ فإن كلًّا منهم معادل لكل مَن عداه من طبقته. وليس اهتمامه بأن يوجد اهتمام جماعةٍ أو طبقةٍ أو أمةٍ معينة، بل هو اهتمام كلي، «تاريخي عالمي» بحق. «وهكذا فإن البروليتاريا لا يمكن أن تُوجَد إلا وجودًا تاريخيًّا عالميًّا …»٦٩ ومِن ثَمَّ فإن الثورة الشيوعية، التي هي حركتها، هي بالضرورة ثورةٌ عالمية.٧٠

وتتسم العلاقات الاجتماعية السائدة، التي تقضي الثورة عليها، بأنها سلبيةٌ كلها؛ لأنها تنتج دائمًا عن تنظيمٍ سلبي لعملية العمل التي تضمن استمرار هذه العلاقات. ولمَّا كانت عملية العمل ذاتها هي حياة البروليتاريا، فإن إلغاء التنظيم السلبي للعمل، أو العمل المغترب كما يسمِّيه ماركس، هو في الوقت ذاته إلغاء للبروليتاريا.

كذلك يؤدي إلغاء البروليتاريا إلى إلغاء العمل بما هو كذلك. وقد صاغ ماركس هذه الفكرة صياغةً صريحة عندما تحدَّث عن تحقيق الثورة؛ فلا بد من إلغاء الطبقات «نتيجة لإلغاء المِلكية الخاصة والعمل ذاته.»٧١ ويعبِّر ماركس عن هذا الرأي نفسه في موضعٍ آخر فيقول: «إن الثورة الشيوعية موجَّهة ضد طريقة النشاط السابقة، وهي تؤدي إلى القضاء على العمل.»٧٢ كما يقول: «إن المسألة ليست تحرير العمل بل إلغاؤه.»٧٣ ولا يمكن أن تكون المسألة هي تحرير العمل؛ لأن العمل أصبح بالفعل «حُرًّا»؛ فالعمل الحر هو الإنجاز الذي حقَّقه المجتمع الرأسمالي. ولن يكون في استطاعة الشيوعية أن تَشفيَ «أمراض» البورجوازي وتُداويَ جراح العامل البروليتاري إلا «بإزالة علتها، وهي العمل.»٧٤
هذه الصِّيَغ التي تدعو إلى الدهشة، والتي تُوجَد في كتابات ماركس الأولى، تحتوي كلها على لفظ Aufhebung الهِيجِلي؛ بحيث إن الإلغاء يحمل أيضًا معنى إعادة المضمون إلى صورته الصحيحة. غير أن ماركس تصوَّر أن شكل العمل في المستقبل سيكون مختلفًا عن شكله السائد إلى حد أنه تردَّد في استخدام نفس لفظ «العمل» للتعبير عن العملية المادية للمجتمعَين الرأسمالي والشيوعي معًا؛ فهو يستخدم لفظ «العمل» للدلالة على ما تعنيه به الرأسمالية حاليًّا في نهاية المطاف، أعني ذلك النشاط الذي يخلق فائضَ قيمة في إنتاج السلع، أو الذي «ينتج رأسمال.»٧٥ أمَّا الأنواع الأخرى من النشاط فليست «عملًا إنتاجيًّا»؛ ومِن ثَمَّ فهي ليست عملًا بالمعنى الصحيح. وهكذا فإن العمل يعني حرمان الشخص الذي يعمل من فرصة التقدُّم الحر الشامل، ومن الواضح أن تحرير الفرد هو في مثل هذا الوضع نفيٌ للعمل.

إن «تجمُّع الأفراد الأحرار» هو في نظر ماركس مجتمعٌ لا تعود فيه عملية الإنتاج المادية متحكمة في النمط الكامل للحياة الإنسانية؛ ففكرة ماركس عن المجتمع المرتكز على العقل تعني نظامًا لا يكون مبدأ التنظيم الاجتماعي فيه هو شمول العمل، بل يكون هو التحقيق الكامل لكل الإمكانات الفردية. وهو يتطلع إلى مجتمعٍ يعطي كل فرد حسب حاجته، لا حسب عمله. ولا يمكن أن يصبح البشر أحرارًا إلا عندما يكون حفظ الحياة، من الوجهة المادية، مرتبطًا بقدرات الأفراد المجتمعين وسعادتهم، ومتوقفًا عليها.

ونستطيع الآن أن ندرك أن النظرية الماركسية قد وصلَت إلى نقطة تتناقض فيها نقضًا كاملًا مع الفكرة الأساسية في الفلسفة المثالية؛ فقد حلَّت فكرة السعادة عندها محل فكرة العقل. والواقع أن هذه الفكرة الأخيرة كانت مرتبطة تاريخيًّا بمجتمعٍ انفصلَت فيه القوى الذهنية للإنتاج عن القوى المادية. وفي داخل هذا الإطار من المظالم الاجتماعية والاقتصادية، كانت حياة العقل حياةً ذات شرفٍ أرفع. وكانت هذه الحياة تحتِّم التضحية الفردية من أجل نوعٍ من الكلي الأرفع المستقل عن النزعات والدوافع «الوضيعة» للأفراد.

ومن جهةٍ أخرى فإن فكرة السعادة تتغلغل جذورها بعمق في المطلب الذي يدعو إلى تنظيمٍ اجتماعي يدع جانبًا البناء الطبقي للمجتمع. ولقد سبق لهِيجِل أن أنكر على نحوٍ قاطع أن يكون لتقدُّم العقل أي شأن بتحقيق السعادة الفردية. وحتى أكثر تصوُّرات الفلسفة الهِيجِلية تقدمًا ظلت، كما رأينا من قبلُ، تحتفظ بسلبية النظام الاجتماعي القائم، بل تؤازرها آخر الأمر؛ فمن الممكن أن يسود العقل حتى لو كان الواقع يئن من الإحباط والإخفاق الفردي، والدليل على ذلك هو الثقافة المثالية والتقدُّم التكنولوجي للمجتمع المدني. أمَّا السعادة فلا يمكِن أن تسودَ في واقعٍ من هذا النوع؛ فالمطلب الداعي إلى تحقيق الإرضاء للأفراد الأحرار يتعارض مع كل بناء الثقافة التقليدية؛ ومِن ثَمَّ فإن النظرية الماركسية قد رفضَت حتى الأفكار التقدُّمية في المذهب الهِيجِلي. وكانت مقولة السعادة مظهرًا واضحًا للمضمون الإيجابي للمادة، بل إن المادية التاريخية ظهَرَت في أول الأمر على أنها تنديد بالمادية السائدة في المجتمع البورجوازي، وكان المبدأ المادي في هذا الصدد أداةً نقدية للعرض، موجَّهة ضد مجتمع جعل الناس مستعبَدين للآليات العمياء للإنتاج المادي. وفي مقابل ذلك كانت فكرة التحقيق الحر الشامل للسعادة الفردية تعبِّر عن ماديةٍ إيجابية؛ أي كانت تأكيدًا إيجابيًّا للإرضاء المادي للإنسان.

لقد أطلنا إلى حدٍّ ما في عرض كتابات ماركس الأولى؛ لأنها تؤكِّد اتجاهاتٍ خفَّفَت حدَّتها في تطور نقد المجتمع بعد ماركس، وأعني بها عناصر النزعة الفردية الشيوعية، والتنديد بأية «فتيشية Fetishism» متعلقة بتأميم وسائل الإنتاج أو نُمو القوى الإنتاجية، وإخضاع هذه العوامل كلها لفكرة التحقيق الحر للفرد. ومع ذلك، فلو نظرنا إلى كتابات ماركس الأولى من جميع أوجُهها، لبدت مجردَ مراحلَ تمهِّد لنظريته الناضجة، وهي مراحلُ لا ينبغي أن يبالغ المرء في تأكيد أهميتها.

(٦) تحليل عملية العمل

ترتكز نظريات ماركس على الافتراض القائل إن عملية العمل تتحكَّم في الوجود الإنساني كله، وبذلك تُضفي على المجتمع نمطه الأساسي. وبقي عليه أن يقدِّم تحليلًا دقيقًا لهذه العملية؛ فقد نظرَت الكتابات الأولى إلى العمل على أنه الشكل العام لصراع الإنسان مع الطبيعة. «إن العمل أوَّلًا عمليةٌ تحدث بين الإنسان والطبيعة، عملية يكون فيها الإنسان وسيطًا ومنظِّمًا وموجِّهًا للتفاعلات المادية بينه وبين الطبيعة، بواسطة فعله الخاص.»٧٦ وفي هذا الصدد يُعَد العمل أساسيًّا بالنسبة إلى كل أشكال المجتمع.

ويصف ماركس التنظيم الرأسمالي للعمل في مقالاته الأولى بأنه «اغتراب»، ومِن ثَمَّ فهو شكل «غير طبيعي»، متدهور، من أشكال العمل. وهنا يُثار السؤال: كيف أصبح هذا التدهور ممكنًا؟ وهذا السؤال ليس سؤالًا عن أمرٍ واقع فحسب، ما دام العمل المغترب لا يبدو واقعًا إلا إذا نُظر إليه في ضوء إلغائه؛ فتحليل الشكل السائد للعمل هو في الوقت ذاته تحليلٌ للمقدمات المؤدية إلى إلغائه.

وبعبارةٍ أخرى فإن ماركس ينظر إلى الأوضاع القائمة للعمل وفي ذهنه نفيها أو إلغاؤها في مجتمعٍ حر بالفعل؛ فمقولاته سلبية، وهي في الوقت ذاته إيجابية؛ إذ إنها تعرض أمرًا واقعًا سلبيًّا في ضوء حله الإيجابي، وتكشف الحالة الحقيقية في المجتمع القائم بوصفها مقدمة لانتقاله إلى شكلٍ جديد. والواقع أن كل التصوُّرات الماركسية تمتد في هذَين الاتجاهَين، اللذَين يمثِّل أولهما العلاقات الاجتماعية القائمة في تعقُّدها، ويمثِّل ثانيهما مجموعة العناصر الكامنة في الواقع الاجتماعي، والمؤدية إلى تحويله إلى نظامٍ اجتماعيٍّ حر. هذا المضمون المزدوج يتحكَّم في كل تحليل ماركس لعملية العمل. وسوف نقدِّم الآن عرضًا للنتائج التي ينتهي إليها في هذا التحليل.٧٧
في النظام الاجتماعي السائد ينتج العمل سلعًا، والسلع قيمٌ انتفاعية use-values تُتبادل في السوق. وكل نتاج للعمل قابل للتبادل، من حيث هو سلعة، بكل نتاجٍ آخر للعمل؛ فله قيمةٌ تبادلية تجعله معادلًا لكل السلع الأخرى. هذا التجانس الشامل، الذي تتعادل به كل السلع فيما بينها، لا يمكن أن يُعزى إلى القيمة الانتفاعية للسلع؛ إذ إنها لا تُتبادل، من حيث هي قِيمٌ انتفاعية، إلا بقَدْر ما تكون مختلفةً بعضها عن البعض. أمَّا قيمتها التبادلية فهي «علاقة كمية خالصة». «إن القيمة التبادلية لنوعٍ معيَّن من القيم الانتفاعية تعادل قيمة أي نوعٍ آخر؛ إذا أُخذ بنسبته الصحيحة؛ فالقيمة التبادلية لقصرٍ يُمكِن أن يعبَّر عنها بعددٍ معيَّن من عُلب طلاء الأحذية (الورنيش)، وبالعكس فإن صانعي طلاء الأحذية في لندن قد عبَّروا عن القيَم التبادلية لعُلب الطلاء العديدة التي ينتجونها على شكل قصور. وهكذا فإن السلع بغَض النظر تمامًا عن أشكالها الطبيعية، ودون اعتبار للنوع الخاص من الحاجات الذي تُستخدم هذه السلع قيمًا انتفاعيةً له، يمكن أن تتساوى بمقاديرَ معيَّنة، ويحل بعضها محلَّ بعض في التبادل، وتُعامل على أنها متعادلة»، وتكون كلها نوعًا واحدًا «بالرغم من تنوُّع مظهرها.»٧٨ أمَّا سبب هذا التجانس فينبغي أن يُلتمس في طبيعة العمل.
إن السلع جميعًا نواتج للعمل الإنساني، وهي «عملٌ متموضِع أو متجسِّد». والسلع جميعًا، من حيث هي تجسيد للعمل الاجتماعي «هي تبلوُرٌ لجوهرٍ واحد.»٧٩ وفي البداية يبدو هذا العمل معادلًا في تنوُّعه للقيم الانتفاعية التي ينتجها؛ فالعمل الذي يُبذَل في إنتاج القمح مختلفٌ تمامًا عن ذلك الذي يُستخدَم في إنتاج الأحذية أو المدافع. «وما يبدو في الواقع على أنه اختلاف في القيم الانتفاعية، هو — في عملية الإنتاج — اختلاف في العملِ الذي ينتج هذه القيم الانتفاعية.»٨٠ وإذن، فإذا كانت السمة المشتركة بين السلع هي العمل، فلا بد أن يكون ذلك عملًا جرِّد من التمييزات الكيفية. وبذلك لا يتبقَّى إلا العمل من حيث هو مقدار قوة العمل التي تُبذَل في إنتاج سلعة. هذه القوة «سيَّان عندها شكل العمل ومضمونه وفرديته»؛ ومِن ثَمَّ فإنها تقبل القياس الكمِّي الخالص، الذي ينطبق على كل أنواع العمل الفردي بقدْرٍ متساوٍ. ومعيار هذا القياس يعطيه لنا الزمن. «فكما أن الوجود الكمي للحركة هو الزمن، فإن الوجود الكمي للعمل هو بالمثل زمن العمل»، فإذا جرَّدنا العمل من كل تخصصٍ مميز، فإن الفعل الواحد من أفعال العمل لا يتميز عن الآخر إلا بالمدة التي يستغرقها؛ في هذا الشكل «المجرد، الكلي»، يمثِّل العمل السمة المشتركة بين كل السلع، وهي السمة التي تؤلِّف قيمتها التبادلية. إن العمل الذي يخلق القيمة التبادلية هو … عمل مجرد، عام.»٨١
ولكن حتى هذا القياس الزمن للعمل يظل منطويًّا على عنصر فردي؛ فكمية زمن العمل الذي يقضيه عمالٌ مختلفون في إنتاج نوعٍ واحد من السلع تختلف تبعًا لحالتهم الجسمية والذهنية، وحسب استعدادهم الفني. ومن الممكن أن تُلغى هذه الفروق الفردية في خطوةٍ أخرى من خطوات الرد أو التجريد؛ إذ يُحسب زمن العمل على أساس المعيار الفني المتوسط السائد في الإنتاج، وبذلك يكون الزمن الذي يحدِّد القيمة التبادلية هو «زمن العمل اللازم اجتماعيًّا»؛ فزمن العمل الذي تنطوي عليه سلعةٌ هو زمنُ العمل الضروري لإنتاجها؛ أي إنه زمن العمل اللازم لإنتاج قطعةٍ أخرى من نفس السلعة في نفس الظروف العامة للإنتاج.»٨٢
وهكذا يصل ماركس إلى أن ظاهرة العمل تشتمل على نوعَين مختلفَين كل الاختلاف من العمل: (١) العمل العيني المحدد، الذي يناظر قيمًا انتفاعيةً عينية محددة (كالنجارة، وصناعة الأحذية، والعمل الزراعي … إلخ). (٢) والعمل المجرد الكلي، كما تعبِّر عنه القيَم التبادلية المختلفة للسلع.٨٣ وكل فعلٍ واحد من أفعال العمل في إنتاج السلع يشتمل على العمل المجرد والعمل العيني معًا — مثلما أن أي إنتاجٍ للعمل الاجتماعي يمثِّل قيمةً تبادلية وقيمةً انتفاعية معًا. غير أن العملية الاجتماعية للإنتاج، عندما تحدِّد قيمة السلع، تدع جانبًا اختلافات العمل العيني، ولا تحتفظ بمعيارٍ للقياس سوى مقدار العمل المجرد الضروري الذي تتضمَّنه السلعة.
والنتيجة التي ينتهي إليها ماركس، من أن قيمة السلع تتحدَّد بمقدار العمل المجرَّد، اللازم اجتماعيًّا لإنتاجها، هي القضية الأساسية في «نظرية القيمة المبنية على العمل» عنده. وهو لا يقدِّم هذه النتيجة على أنها نظرية، بل على أنها وصفٌ لعمليةٍ تاريخية؛ ذلك لأن إرجاع العمل العيني إلى العمل المجرَّد «يبدو كما لو كان تجريدًا، ولكنه تجريد يحدث يوميًّا في عملية الإنتاج الاجتماعية.»٨٤ ولما كانت نظرية القيمة المبنية على العمل هي فهمٌ نظري لعمليةٍ تاريخية، فإنها لا يُمكِن أن تُعرض على أنها نظريةٌ خالصة.
ومن الحقائق المعروفة أن ماركس كان يرى أن اكتشافه للطابع المزدوج للعمل هو الإسهام الأصيل الذي أضافه إلى النظرية الاقتصادية. وهو محور أي فهمٍ واضح للاقتصاد السياسي.٨٥ فقد أتاح له تمييزه بين العمل العيني والعمل المجرد أن يتوصل إلى استبصارات كان من الضروري أن تغيب عن أنظار الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، الذي لم يكن يستخدم إلا أدواتٍ تصوُّريةً نظرية؛ فالاقتصاديون الكلاسيكيون كانوا يرَونَ أن «العمل» هو المصدر الوحيد لكل ثروةٍ اجتماعية، وفاتَهُم أن العمل المجرَّد، الكلي، هو وحده الذي يخلق القيمة في المجتمع المنتج للسلع، على حين أن العمل العيني المحدد يقتصر على حفظ القيَم الموجودة من قبلُ، وتحويلها؛ ففي إنتاج القطن مثلًا تقتصر مهمة الغزل، وهو النشاط العيني للعامل الفرد، على تحويل قيمة وسائل الإنتاج إلى الناتج نفسه؛ أي إن النشاط العيني لا يزيد من قيمة الإنتاج، ولكن الناتج يظهر في السوق بقيمةٍ جديدة تُضاف إلى قيمة وسائل الإنتاج. هذه القيمة الجديدة ناتجة عن إضافة مقدارٍ معيَّن من العمل المجرَّد؛ أي من قوة العمل بغَضِّ النظر عن شكلها العيني، في عملية إنتاج موضوع العمل. ولما كان العامل لا يقوم بجهدٍ مزدوج في الوقت الواحد، فإن النتيجة المزدوجة (حفظ القيمة، وخلق قيمةٍ جديدة) لا يمكِن تفسيرها إلا بالطابع المزدوج لعمله. «إن مجرد إضافة مقدارٍ معيَّن من العمل يؤدي إلى إضافة قيمةٍ جديدة، ونتيجةً لنوع هذا العمل المضاف، فإن القيَم الأصلية لوسائل الإنتاج تظل محفوظة في الناتج.»٨٦
والعملية التي تُصبِح فيها قوة العمل وحدةً كميةً مجردة، تميِّز «شكلًا اجتماعيًّا على التخصيص للعمل»، وهو شكل ينبغي التفرقة بينه وبين ذلك الشكل الذي هو «الوضع الطبيعي للوجود الإنساني.»٨٧ وأعني به العمل من حيث هو نشاطٌ منتج يستهدف تسخير الطبيعة واستغلالها. هذا الشكل الاجتماعي على التخصيص للعمل هو الشكل السائد في الرأسمالية.

ففي ظل الرأسمالية، ينتج العمل سلعًا؛ أي نواتج للعمل تبدو على هيئة قيَمٍ تبادلية. ولكن كيف يتجه نظام الإنتاج الشامل للسلع هذا، الذي لا يستهدف مباشرةً إشباع حاجات الفرد، إلى تحقيق هذه الحاجات؟ وكيف يعرف المنتجون المستقلون أنهم ينتجون قيمًا انتفاعية فعلية؟

إن القيَم الانتفاعية وسائلُ لإشباع الحاجات البشرية. ولمَّا كان كل شكلٍ من أشكال المجتمع ينبغي أن يُشبِع حاجات أفراده بقدْرٍ ما، لكي يحفظ حياتهم، «فإن القيمة الانتفاعية للأشياء تظل شرطًا ضروريًّا» لإنتاج السلع. وفي ظل نظام السلع تكون حاجة الفرد جزءًا من «الحاجة الاجتماعية» التي تظهر في السوق. ويحدث توزيع القِيَم الانتفاعية وَفقًا للتوزيع الاجتماعي للعمل. ويفترض إشباع حاجةٍ من الحاجات أن تكونَ القِيَم الانتفاعية متوافرةً في السوق، على حين أن هذه القِيَم لن تظهر في السوق إلا إذا كان المجتمع راغبًا في تخصيص قدْرٍ من وقت عمله لإنتاجها؛ فلا بد من قدْرٍ معيَّن من السلع الإنتاجية والاستهلاكية للمحافظة على المجتمع بمستواه السائد. «وهنا تبدو الحاجة الاجتماعية؛ أي القيمة الانتفاعية على نطاقٍ اجتماعي، على أنها عاملٌ متحكِّم في كمية العمل الاجتماعي الذي ينبغي على مختلف المجالات الخاصة للإنتاج أن تقدِّمه.»٨٨ فهناك نسبةٌ معيَّنة من وقت العمل تُنفق في إنتاج الآلات والمباني والطرق والمنسوجات والقمح والمدافع والعطور … إلخ. ويقول ماركس إن «المجتمع» هو الذي يوزِّع وقت العمل المتوافر، على أنواع الإنتاج هذه. ولكن المجتمع ليس ذاتًا واعية. والمجتمع الرأسمالي لا يأخذ بنظام التضامن أو التخطيط الكامل، فكيف إذن يُوزع وقت العمل على مختلف أنواع الإنتاج وفقًا للحاجات الاجتماعية؟
إن الفرد «حر»، ولا يجوز لأية سلطة أن تعرِّفه الطريقة التي ينبغي عليه أن يعيش بها؛ فلكل شخصٍ أن يختار العمل الذي يروق له. وقد يقرِّر شخص أن ينتج أحذية، وشخصٌ آخر أن ينتج كتبًا، وثالث أن ينتج البنادق، ورابع أزرارًا ذهبية، ولكن المنتجات التي ينتجها كلٌّ منهم سلع؛ أي قِيمٌ انتفاعية ليست له، بل لأفرادٍ آخرين. ولا بد أن يبادل كل شخص منتجاته بالقِيَم الانتفاعية الأخرى التي تُشبِع حاجاته. وبعبارةٍ أخرى، فإشباع حاجاته الخاصة يفترض مقدمًا أن منتجاته سوف تسُد حاجةً اجتماعية، ولكن لا يستطيع أن يعرف ذلك مقدمًا، بل إنه لن يعلم إن كان الوقت الذي أنفَقه هو وقت عملٍ اجتماعي إلا عندما يجلب منتجاتِ عمله إلى السوق، وسوف تكشف له القيمة التبادلية لمنتجاته إن كانت تسدُّ حاجةً اجتماعية أم لا، فإذا استطاع أن يبيعها بتكلفة إنتاجها، أو بسعر يزيد على هذه التكلفة، كان معنى ذلك أن المجتمع على استعداد لتخصيص مقدارٍ من وقت عمله لإنتاجها، وإلا لكان مضيعًا لوقت عمله عبثًا، أو لم يكن ينفق وقتَ عمل ضروريًّا من الوجهة الاجتماعية؛ فالقيمة التبادلية لسلعه هي التي تحدِّد مصيره الاجتماعي. و«الصورة التي يطبَّق بها هذا التوزيع النسبي للعمل، في حالة للمجتمع يظهر فيها الارتباط المتبادل للعمل الاجتماعي على شكل تبادلٍ شخصي لمنتجات العمل الفردية، هي بعينها القيمة التبادلية لهذه المنتجات.»٨٩ وهي بذلك تحدِّد نسبة تحقيقها للحاجة الاجتماعية.
ويُسمِّي ماركس هذه الآلية التي يوزِّع بها المجتمعُ المنتج للسلع وقتَ العمل المتاح له بين مختلف فروع الإنتاج باسم قانون القيمة. وعن طريق السوق تتكامل الفروع المختلفة التي ظهَرَت مستقلة في تطوُّر المجتمع الحديث؛ إذ إن القيمة التبادلية للسلع المنتَجة تمثِّل، في السوق، مقدار الحاجة الاجتماعية التي تسُدُّها هذه السلع.
وهكذا فإن تزويد المجتمع بقيمٍ انتفاعية هو أمرٌ يحكُمه قانون القيمة، الذي حل محل حرية الفرد؛ فالفرد يعتمد في إشباع حاجاته على السوق؛ لأنه يشتري الوسائل التي تحقِّق هذا الإشباع على شكل قِيمٍ تبادلية. وهو يجد أن القِيَم التبادلية للمنتَجات التي يرغب فيها هي مقدارٌ محدَّد مقدمًا، ليس له هو ذاته، من حيث هو فرد؛ أيُّ سلطانٍ عليه.
وفضلًا عن ذلك فإن الحاجة الاجتماعية التي تظهر في السوق ليست هي ذاتها الحاجة الحقيقية، بل هي «الحاجة الاجتماعية السوية» فحسب؛ فالمطالب المختلفة تتوقف على القوة الشرائية للأفراد؛ وبالتالي على «العلاقات المتبادلة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة ومركزها الاجتماعي النسبي.»٩٠ ويؤدي مركز الطبقة التي ينتمي إليها الفرد إلى تشكيل رغباته وحاجاته، وإلى تقييدها في حالة الأغلبية الساحقة؛ بحيث لا يستطيع الفرد التعبير عن حاجته الحقيقية. ويُلخِّص ماركس هذا الوضع بقوله: «إن الحاجة إلى السلع في السوق؛ أي الطلب، تختلف كميًّا عن الحاجة الاجتماعية الفعلية٩١
وحتى لو كانت السوق تعبِّر عن الحاجة الاجتماعية الفعلية، لظل قانون القيمة ساريًا بوصفه آليةً عمياء خارج نطاق السيطرة الواعية للأفراد، ولظل يمارس ضغطًا أشبه بضغط قانونٍ طبيعي Naturgesetz٩٢ تؤدي الضرورة التي يتسم بها إلى تأكيد حكم الصُّدفة العشوائية على المجتمع، بدلًا من أن تؤدي إلى استبعاده. والواقع أن نظام ربط الأفراد المستقلين بعضهم ببعض عن طريق وقت العمل الضروري المتضمَّن في السلع التي يتبادلونها — هذا النظام قد يبدو متصفًا بأكبر قدْرٍ من المعقولية، ولكنه لا ينظِّم في حقيقة الأمر سوى التبديد وانعدام التناسب.
«إن المجتمع يشتري السلع التي يطلبها بأن يخصِّص لإنتاجها قدْرًا من وقت عمله المتوافر. وهذا يعني أن المجتمع يشتريها بإنفاق مقدارٍ محدَّدٍ من وقت العمل الذي يتحكَّم فيه. أمَّا ذلك الجزء من المجتمع، الذي يكلِّفه نظام تقسيم العمل بمهمة استخدام عمله في إنتاج السلعة المطلوبة، فلا بد أن يُعطَى ما يعادله من عملٍ اجتماعيٍّ آخر، يتجسَّد في سلعٍ يريدها هذا الجزء. غير أنه لا يُوجَد ارتباطٌ ضروري، بل يُوجَد ارتباطٌ عرضي فقط، بين حجم الطلب الاجتماعي على سلعةٍ معيَّنة، والحجم الذي يمثِّله إنتاج هذه السلعة في الإنتاج الكلي، أو مقدار العمل الاجتماعي الذي يُنفق على هذه السلعة … صحيحٌ أن كل سلعةٍ فردية، أو كل مقدارٍ محدَّد من أي نوعٍ من السلع، ربما لم تكن تحتوي إلا على العمل الاجتماعي اللازم لإنتاجها، وبذلك فإن القيمة السوقية لهذه الكتلة بأكملها من السلع المنتمية إلى نوعٍ معيَّن لا تمثِّل إلا العمل الضروري. ومع ذلك فإذا كانت هذه السلعة قد أنتجَت زيادة على الطلب المؤقت للمجتمع عليها، فإن العمل الاجتماعي يكون قد بدد بمقدار هذه الزيادة، وفي هذه الحالة تمثِّل تلك الكتلة من السلع مقدارًا من العمل في السوق أقلَّ بكثير مما هو متضمَّن فيها بالفعل.»٩٣

فمن وجهة نظر الفرد، لا يؤكِّد قانون القيمة ذاته إلا بعد أن يكون الضرر قد وقع فعلًا، ويكون تبديد العمل أمرًا لا مفرَّ منه، ولكن السوق تعمل على تقويم الحرية الفردية ومعاقبتها؛ إذ إن أي انحراف عن وقت العمل اللازم اجتماعيًّا يعني الهزيمة في الصراع الاقتصادي القائم على المنافسة، وهو الصراع الذي يحفظ الناسُ من خلاله حياتَهم في هذا النظام الاجتماعي.

لقد كان السؤال الموجَّه لتحليل ماركس هو: كيف يزوِّد المجتمع الرأسمالي أفراده بالقِيَم الانتفاعية الضرورية؟ وقد كشفَت الإجابة عن عمليةٍ تجتمع فيها الضرورة العمياء بالصدفة والفوضى والإحباط. ولقد كان إدخال مقولة القيمة الانتفاعية إدخالًا لعاملٍ منسي، أعني عاملًا نسيه الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الذي لم يكن يهتم إلا بظاهرة القيمة التبادلية. وهذا العامل يصبح، في النظرية الماركسية، أداةً تكشف النقاب عن التشيؤ reification الغامض المحيِّر لعالَم السلع؛ ذلك لأن وضع مقولة القيمة الانتفاعية في موقعٍ مركزي من التحليل الاقتصادي يعني التشكيك بقوة فيما إذا كانت العملية الاقتصادية تفي بالحاجات الحقيقية للأفراد، وفي كيفية وفائها بهذه الحاجات. وهو يكشف، من وراء علاقات التبادل السائدة في النظام الرأسمالي، عن العلاقات الإنسانية الفعلية التي تُشوَّه بحيث تصبح «كلًّا ذا طابع سلبي»، والتي تنظِّمها قوانينُ اقتصاديةٌ لا يسيطر عليها أحد.٩٤ وقد تبيَّن لماركس من تحليله أن قانون القيمة هو «الشكل العام للعقل» في النظام الاجتماعي القائم؛ فقانون القيمة كان هو الشكل الذي أكَّدَت به المصلحة المشتركة (أي المحافظة على المجتمع) ذاتَها من خلال الحرية الفردية. وقد تبيَّن أن هذا القانون، وإن كان يتكشَّف في السوق، يرجع أصله إلى عملية الإنتاج (إذ إن وقت العمل الضروري اجتماعيًّا، الذي يرجع أصله إليه، هو وقت الإنتاج)؛ ولهذا السبب فإن تحليل عملية الإنتاج هو وحده الكفيل بالإجابة عن هذا السؤال بنعم أو لا، فهل يستطيع هذا المجتمع في أي وقتٍ أن يفيَ بوعده، وهو تحقيق الحرية الفردية داخل كلٍّ يسوده العقل؟
يفترض تحليل ماركس للإنتاج الرأسمالي أن المجتمع الرأسمالي قد حرَّر الفرد بالفعل، وأن الناس يدخلون العملية الإنتاجية وهم أحرارٌ متساوون، وأن العملية تدور على أساس الحكمة الباطنة الكامنة فيها؛ فماركس ينسب إلى المجتمع المدني أفضل الأوضاع الممكنة، ويتجاهل كل المعوِّقات المعقَّدة. وتؤدي التجريدات التي يتضمَّنها المجلد الأوَّل من كتاب «رأس المال» (كالقول مثلًا إن السلع تُتبادل وفقًا لقِيَمها، وإن التجارة الخارجية مستبعَدة … إلخ.) إلى تصوير الواقع على نحوٍ «يتفق مع مفهومه.»٩٥ وهذا إجراءٌ منهجي يتمشَّى مع الفكرة الجدَلية؛ فعدم التطابق بين الوجود والماهية ينتمي إلى صميم الواقع. ولو اقتصر التحليل على الأشكال التي يظهر عليها الواقع، لما أمكَنه أن يصل إلى البناء الأساسي الذي ترجع إليه هذه الأشكال، والذي يرتَد إليه ما فيها من قصور؛ فالكشف عن ماهية الرأسمالية يقتضي القيام بتجريدٍ مؤقَّت لتلك العناصر التي يُمكِن أن تُعزى إلى شكلٍ عارض أو غيرِ كامل من أشكال الرأسمالية.
ومنذ البداية ينظر تحليل ماركس إلى الإنتاج الرأسمالي على أنه كلٌّ تاريخي؛ فطريقة الإنتاج الرأسمالية هي شكلٌ تاريخي خاص لإنتاج السلع، ظهر في ظل ظروف «التراكم الأوَّلي»، كطرد الفلاحين بالجملة من أراضيهم، وتحويل الأراضي الصالحة للزراعة إلى مراعٍ تقدِّم الصوفَ اللازمَ لصناعة المنسوجات النامية، وتراكُم مقادير كبيرة من الثروة عن طريق نهب المستعمَراتِ الجديدة، وانهيار نظام الطوائف الحِرفية عندما واجَه قوةَ التاجر وصاحب المصنع. وأدَّت هذه العملية إلى ظهور العامل الحديث، المتحرِّر من كل اعتماد على السادة الإقطاعيين و«المعلمين» الحرفيين، وإن كان بالمِثْل محرومًا من الوسائل والأدوات التي يمكِنه بها الانتفاعُ من قوة عمله لتحقيق أغراضه الخاصة.٩٦ لقد كانت لدى ذلك العامل حريةُ بيعِ قوَّة عمله لأولئك الذين يملكون هذه الوسائل والأدوات، ويملكون الأرض، وموادَّ العمل، والوسائل الصحيحة للإنتاج. وأصبَحَت قوة العمل ووسائل تحقُّقها المادي سِلعًا يحوزها ملَّاكٌ مختلفون. وقد حدثَت هذه العملية في القرنَين الخامسَ عشر والسادسَ عشر، وترتَّب عليها، مع توسُّع إنتاج السلع على نطاقٍ شامل، توزيعٌ جديدٌ للطبقات في المجتمع، فأصبَحَت هناك طبقتان رئيسيتان تُواجِه كلٌّ منهما الأخرى؛ المنتفعون من التراكُم الأوَّلي، والجماهير الفقيرة المحرومة من وسائل ارتزاقها السابقة.
لقد كان هؤلاء الأخيرون متحرِّرين بحق؛ فقد أُلغي الاعتماد «الطبيعي» والشخصي الذي كان سائدًا في النظام الإقطاعي. «إن تبادل السلع لا ينطوي، بذاته، على أية علاقات اعتماد سوى تلك التي تنتُج عن طبيعته ذاتها.»٩٧ كان كل شخصٍ حُرًّا في أن يتبادل السلع التي يملكها. وقد مارسَت الجماعة الأولى هذه الحرية عندما استخدمَت ثروتَها في تملُّك وسائل الإنتاج والانتفاع منها، على حين أن الجماهير تمتَّعَت بحرية بيع السلعة الوحيدة الباقية لديها، وهي قوة عملها.

وبذلك تحققت الشروط الأولية للرأسمالية؛ عملٌ مأجورٌ حر، وملكيةٌ خاصةٌ لوسائل الإنتاج. ومنذ هذه اللحظة، كان في إمكان الإنتاج الرأسمالي أن يسير في طريقه بقوَّته الخاصة وحدها؛ فالسلع تُتبادل بمحض إرادة مالكيها الذين يدخلون السوق متحرِّرين من كل قهرٍ خارجي، مستمتعين تمامًا بمعرفة أن سلعهم سوق تُتبادل على أساسٍ متكافئ، وأن العدالة الكاملة هي التي ستسود. كذلك فإن القيم التبادلية لكل سلعة تتحدد بواسطة وقت العمل الضروري، المطلوب لإنتاجها، وقياس وقت العمل هذا يبدو أكثر المعايير الاجتماعية حيادًا ونزاهةً. وفضلًا عن ذلك فإن الإنتاج يبدأ بعقدٍ حر يبيع فيه أحد الطرفَين قوَّة عمله للآخر. ووقت العمل اللازم لإنتاج قوة العمل هذه هو وقتُ العمل الذي يُنفق في صنع سلعٍ تكفي لإعاشة العامل. ويدفع المشتري ثمن هذه السلعة. وليس هناك شيء يتدخَّل في العدالة الكاملة لعقد العمل؛ إذ إن الطرفين معًا يُعاملان على قدم المساواة، بوصفهما مالكَين حرَّين للسلع. وهما «يتعاملان كلٌّ مع الآخر على أساس تساوي حقوقهما، مع فارقٍ واحد، هو أن أحدهما مشترٍ والآخر بائع؛ ومِن ثَمَّ فكلاهما متساوٍ في نظر القانون». وهكذا يبدو أن عقد العمل، وهو أساس الإنتاج الرأسمالي، هو تحقيق للحرية والمساواة والعدالة.

ولكن قوة العمل هي نوعٌ خاص من السلع؛ فهي السلعة الوحيدة التي تكون قيمتُها الانتفاعية «مصدرًا، لا للقيمة فقط، بل لقيمة أكثر مما فيها».٩٨ هذه «القيمة الفائضة»، التي يخلقها العمل الكلي المجرد المختفي وراء صورته العينية، تعود على مشتري قوة العمل دون أي مقابل، ما دامت لا تظهَر بوصفها سلعةً مستقلة؛ فقيمة قوة العمل المباعة للرأسمالي يحل محلَّها جزءٌ من الوقت الذي يشتغل فيه العامل فعلًا، أمَّا بقية هذا الوقت فلا يُدفع عنه أجر. ويمكِن تلخيص التعبير الذي قدَّمه ماركس لطريقة ظهور فائض القيمة على النحو الآتي: إن إنتاج السلعة؛ أي قوة العمل، يقتضي جزءًا من يوم عمل، على حين أن العامل يشتغل بالفعل يومًا كاملًا. فالقيمة التي يدفعها الرأسمالي جزء من القيمة الفعلية لقوة العمل المستخدمة، على حين أن الجزء الآخر من هذه القوة يعود على الرأسمالي دون أن يدفع عنه شيئًا، ولكن هذه الحُجَّة، لو عُزلَت عن نظرة ماركس الكاملة إلى العمل، لظلَّت منطوية على عنصرٍ عرضي. وواقع الأمر أن عرض ماركس لإنتاج القيمة الفائضة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحليله للطابع المزدوج للعمل، وينبغي أن يُفسَّر في ضوء هذه الظاهرة.
إن الرأسمالي يدفع القيمة التبادلية للسلعة، وهي قوة العمل، ويشتري قيمتها الانتفاعية، أعني العمل. «إن قيمة قوة العمل، والقيمة التي تخلقها قوة العمل هذه في عملية العمل، هما مقداران مختلفان كل الاختلاف.»٩٩ والرأسمالي يسوق قوة العمل التي اشتراها إلى العمل أمام جهاز الإنتاج؛ فعملية العمل تتضمَّن عنصرًا موضوعيًّا وعنصرًا ذاتيًّا؛ وسائل الإنتاج من جهة، وقوة العمل من جهةٍ أخرى. وقد اتضح من تحليل الطابع المزدوج للعمل أن العنصر الموضوعي لا يخلق قيمة جديدة — فقيمة وسائل الإنتاج تعود إلى الظهور ببساطة في الناتج. «ولكن الأمر يختلف في حالة العنصر الذاتي لعملية العمل؛ أي في حالة ممارسة قوة العمل؛ ففي الوقت الذي يقوم العامل فيه، بفضل الطابع الخاص، والغاية المحدَّدة التي يتخذها عمله، بالاحتفاظ بقيمة وسائل الإنتاج ونقلها إلى الناتج، يقوم هذا العامل نفسه، في الوقت ذاته، بخلق قيمةٍ جديدةٍ أو مُضافةٍ في كل لحظة، نتيجةً لمجرد ممارسته لعمله.»١٠٠ فصفة حفظ القيمة عن طريق إضافة قيمةٍ جديدة يمكِن أن تُعَد «موهبة طبيعية» لقوة العمل، «لا تكلِّف العامل شيئًا، ولكنها تجلب للرأسمالي نفعًا كبيرًا.»١٠١ وهذه الخاصية التي يملكها العمل الكلي المجرد، المختفي وراء أشكاله العينية، وإن تكن هي المصدر الوحيد للقيمة الجديدة، ليست لها هي ذاتها قيمةٌ خاصة. وهكذا فإن عقد العمل ينطوي بالضرورة على استغلال.

وإذن فالطابع المزدوج للعمل هو الشرط الذي يجعل فائض القيمة ممكنًا. ونتيجةً لاتخاذ العملِ هذا الشكلَ المزدوج، فإن التملك الخاص لقوة العمل يؤدي حتمًا إلى الاستغلال. وهذه النتيجة تنجم عن نفس طبيعة العمل كلما أصبَحَت قوة العمل سلعة.

على أنه لكي تصبح قوة العمل سلعة، ينبغي أن يكون هناك عملٌ «حر»؛ أي إن الفرد ينبغي أن يكون حرًّا في بيع قوة عمله لمن هو حرٌّ وقادرٌ على شرائها. ويُعَد عقد العمل رمزًا لهذه الحرية والمساواة والعدالة بالنسبة إلى المجتمع المدني. وهكذا فإن هذا الشكل التاريخي للحرية والمساواة والعدالة، هو الشرط الضروري للاستغلال. ويلخِّص ماركس المسألة كلها في فِقرةٍ رائعة:
««إن المنطقة» التي يجري داخلها بيعُ قوة العمل وشراؤها هي في واقع الأمر جنة عدن بالنسبة إلى حقوق الإنسان؛ ففيها وحدها تحكم الحرية والمساواة، والملكية، وبنتام. الحرية؛ لأن مشتري السلعة، أعني قوة العمل، وبائعها لا يخضعان إلا لإرادتهما الحرة؛ فهما يتعاقدان بوصفهما فاعلَين متمتعَين بالحرية، والاتفاق الذي يصلان إليه ليس إلا الشكل الذي يُضفِيان به تعبيرًا قانونيًّا مشروعًا على إرادتهما المشتركة. والمساواة؛ لأن كلًّا منهما يدخُل في علاقة مع الآخر، وكأنه مجرَّد مالك للسلع، وكأنهما يتبادلان شيئًا بما يعادله. والمِلكية؛ لأن كلًّا منهما لا يتصرَّف إلا فيما يملكه. وأخيرًا بنتام؛ لأن كلًّا منهما لا ينظر إلا إلى نفسه. والقوة الوحيدة التي تجمعهما سويًّا، وتجعلهما في علاقة كلًّا منهما بالآخر، هي الأنانية، والكسب، والمصالح الخاصة لكلٍّ منهما. إن كلًّا لا ينظر إلا إلى نفسه، ولا أحد يعبأ بالآخرين، ونظرًا إلى كونهم يفعلون ذلك فإنهم جميعًا — وفقًا للانسجام المقدَّر بين الأشياء، أو تحت رعاية العناية الواعية بكل شيء — يعملون معًا من أجل تحقيق منفعتهم المتبادلة، ومن أجل الصالح العام ونفع الكل.»١٠٢

إن عقد العمل الذي يستمدُّ منه ماركس الارتباط الأساسي بين الحرية والاستغلال، هو النموذج الأساسي لكل العلاقات في المجتمع المدني؛ فالعمل هو الطريقة التي ينمِّي بها الناس قدراتهم وحاجاتهم في الصراع مع الطبيعة والتاريخ، والإطار الاجتماعي المفروض على العمل هو الشكل التاريخي للحياة، الذي خلعَتْه البشرية على نفسها. وقد أدَّت المضامين التي ينطوي عليها عقد العمل بماركس إلى أن يدرك أن العمل يؤدي إلى استغلاله الخاص، ويُبقي على هذا الاستغلال. وبعبارةٍ أخرى، ففي المسار المستمر للمجتمع الرأسمالي، تُنتِج الحرية ضدَّها وتُبقي عليه. وعلى هذا النحو يكون التحليل نقدًا داخليًّا للحرية الفردية كما تظهر في المجتمع الرأسمالي، وكما تتطوَّر بخطواتٍ موازية لتطوُّر الرأسمالية؛ فالقوى الاقتصادية للرأسمالية، لو تُركَت تسير من تِلقاء ذاتها، لخلقَت الاستعباد والفاقة، وأدَّت إلى تفاقُم الصراع الطبقي. وهكذا فإن حقيقة هذا الشكل للحرية هي نفيها.

إن العمل «الحي»، أو قوة العمل، هو العامل الوحيد الذي يزيد من قيمة ناتج العمل إلى ما يتجاوز قيمة وسائل الإنتاج. وهذه الزيادة في القيمة تحوِّل نواتج العمل إلى عناصرَ مكوِّنة لرأس المال؛ ومِن ثَمَّ فإن العمل لا ينتج استغلاله الخاص، بل ينتج أيضًا وسائل استغلاله، أعني رأس المال.١٠٣
ومن جهةٍ أخرى فإن رأس المال يقتضي أن تُحوَّل القيمة الفائضة من جديدٍ إلى رأسمال. ولو كان الرأسمالي يستهلك فائض القيمة الذي يحصل عليه بدلًا من أن يستثمره من جديد في عملية الإنتاج، لما عاد الإنتاج يدرُّ عليه ربحًا، ولاختفَى الحافز من إنتاج السلع. «إن التراكُم يتمثَّل في عودة تكوين رأس المال على نطاقٍ يتزايد باطراد.١٠٤ وهذا بدَوره لا يكون ممكنًا إلا بالانتفاع على نحوٍ متزايد من قوة العمل في إنتاج السلع؛ فالإنتاج الرأسمالي على نطاقٍ متزايد الاتساع يُعَد مساويًا لازدياد الاستغلال على نفس المستوى. وتراكُم رأس المال يعني الفقر المتزايد للجماهير، و«زيادة البروليتاريا».١٠٥

ومع كل هذه السمات السلبية، فإن الرأسمالية تنمِّي القوى الإنتاجية بمعدلٍ سريع؛ ذلك لأن المقتضيات الكامنة في رأس المال تقتضي زيادة فائض القيمة عن طريق الزيادة في إنتاجية العمل (بالترشيد والتكثيف). ولكن التقدُّم التكنولوجي يقلِّل من كمية العمل الحي (أي العامل الذاتي) المستخدَم في عملية الإنتاج، بالنسبة إلى كمية وسائل الإنتاج (العامل الموضوعي)؛ فالعامل الموضوعي يزيد بقَدْر ما ينقص العامل الذاتي. وهذا التغيُّر في التركيب التكنيكي لرأس المال ينعكس في تغيُّر «تركيب القيمة» فيه؛ فقيمة قوة العمل تنقُص بازدياد قيمة وسائل الإنتاج. والحصيلة النهائية لهذا هي الزيادة في «التركيب العضوي لرأس المال». وتُصاحِب تقدُّم الإنتاج زيادةٌ في كمية رأس المال المتوافر في أيدي الرأسماليين الأفراد. ويعمل الأقوى منهم على إخراج الأضعف من مضمار المنافسة، وتقلُّ باستمرارٍ الفئةُ التي يتركَّز فيها رأس المال. وتتحول المنافسة الفردية الحرة ذات الطابع الليبرالي إلى منافسةٍ احتكارية بين مؤسَّساتٍ عملاقة. ومن جهةٍ أخرى فإن التركيب العضوي المتزايد لرأس المال يتجه إلى خفض معدل الربح الرأسمالي، ما دام استخدام قوة العمل، وهي المصدر الوحيد للقيمة الفائضة، يقل بالنسبة إلى استخدام وسائل الإنتاج.

ويؤدي خطر خفض معدَّل الربح إلى زيادة تفاقُم الصراع القائم على المنافسة، فضلًا عن الصراع الطبقي؛ فتظهر أساليبُ سياسية في الاستغلال تُكمل الأساليب الاقتصادية التي تبلغ بالتدريج آخر مداها. وتؤدي ضرورة استخدام رأس المال، والإنتاج لأجل الإنتاج، حتى في الظروف المثلى، إلى انعدام تناسبٍ محتوم بين مجالَي الإنتاج؛ مجال السلع الإنتاجية ومجال السلع الاستهلاكية، مما يترتَّب عليه فائضٌ دائم في الإنتاج.١٠٦ ويصبح الاستثمار المربح لرأس المال أمرًا متزايد الصعوبة. ويؤدي الصراع على الأسواق الجديدة إلى غرس بذور الحروب الدولية الدائمة.

لقد لخَّصْنا الآن بعضًا من النتائج الحاسمة التي انتهى إليها ماركس في تحليله لقوانين الرأسمالية؛ فالصورة التي يرسمُها هي صورةُ نظامٍ اجتماعي يتقدَّم عن طريق زيادة المتناقضات الكامنة فيه، ولكنه مع ذلك يتقدَّم؛ بحيث تكون هذه المتناقضات هي ذاتها الوسائل التي يحدُث بها تقدُّم هائل في إنتاجية العمل، وانتفاعٌ شامل من الموارد الطبيعية وسيطرةٌ كاملة عليها، وإطلاق قدراتٍ وبعث حاجاتٍ لم تُعرف من قبلُ بين الناس. إن المجتمع الرأسمالي وحدةٌ جامعة بين المتناقضات؛ فهو يحصل على الحرية عن طريق الاستغلال، وعلى الثروة عن طريق الفقر، والتقدُّم في الإنتاج عن طريق تقييد الاستهلاك. وهكذا فإن بناء الرأسمالية ذاته بناءٌ جدَلي؛ إذ إن كل شكل ونظام في العملية الاقتصادية يولِّد نفيه المحدد، وما الأزمة إلا الصورة المتطرِّفة التي يتم بها التعبير عن المتناقضات.

إن قانون القيمة، الذي يحكُم المتناقضات الاجتماعية، له قوة الضرورة الطبيعية. «فقانون القيمة لا يمارس تأثيره هنا، ولا يحفظ التوازن الاجتماعي للإنتاج في دوَّامة تقلباته العَفْوية، إلا بوصفه قانونًا داخليًّا، وقانونًا أعمى من وجهة نظر الفاعلين الأفراد.»١٠٧ وتتسم نتائج هذا القانون بنفس الطابع الأعمى؛ فهبوط معدَّل الربح، وهو الهبوط الكامن في بناء النظام الرأسمالي نفسه، يهدم أسس النظام ذاتها، ويكون حائلًا لا يستطيع الإنتاج الرأسمالي أن يتقدم بعده … وتزداد حدة التعارض بين الثراء الوافر والقوة الهائلة للقلة، وبين الفقر الدائم للجماهير الغفيرة. وتكون النقطة التي يبلغ فيها نمُو القوى الإنتاجية أقصى مداه، هي ذاتها التي يطفح فيها كيلُ الظلم والبؤس؛ فالعلاقات الاجتماعية التي يضعها الإنسان ذاته هي التي تقضي على أي إمكانٍ حقيقي في تحقيق السعادة العامة؛ بحيث يصبح الأمل الوحيد في التحرُّر منحصرًا في نفي هذا المجتمع وتغييره.

(٧) الجدَل الماركسي

نستطيع الآن أن نحاول تلخيص الصفات التي تميِّز الجدَل الماركسي عن الجدَل الهِيجِلي. فقد أكَّدنا من قبلُ أن هناك حقيقةً معطاةً واحدة كانت هي القوة الدافعة الأصلية للنظرة الجدَلية إلى الواقع عند كلٍّ من ماركس وهِيجِل، وأعني بها الطابع السلبي للواقع. هذه السلبية هي التي أدَّت، في العالم الاجتماعي، إلى ظهور متناقضات المجتمع الطبقي؛ ومِن ثَمَّ فقد ظلَّت هي المحرِّكة لمسار العملية الاجتماعية. وقد انجذبَت كل واقعةٍ وكل حالةٍ منفردة إلى هذه العملية؛ بحيث لم يعُد من الممكن الوصول إلى دلالتها إلا عندما يُنظر إليها في إطار هذه الكلية التي تنتمي إليها. «فالحقيقة»، عند ماركس وهِيجِل معًا، لا تكمن إلا في الكل، أو في «الكلية ذات الطابع السلبي».

ومع ذلك فإن العالم الاجتماعي لا يصبح كلًّا ذا طابعٍ سلبي إلا من خلال تجريد يفرضه على المنهج الجدَلي تركيبُ الموضوع الذي يطبَّق عليه هذا المنهج، وهو المجتمع الرأسمالي، بل نستطيع القول إن التجريد من عمل الرأسمالية ذاتها، وإن المنهج الماركسي إنما يكتفي بمتابعة هذه العملية؛ فقد بيَّن تحليل ماركس أن الإرجاع الدائم للعمل العيني إلى عملٍ مجرد هو الأساس الذي يُبنى عليه الاقتصاد الرأسمالي، وهو الذي يعمل على حفظ هذا الاقتصاد؛ ذلك لأن الاقتصاد الرأسمالي يبتعد خطوةً فخطوة عن المجال العيني للنشاط الإنساني والحاجات البشرية، ولا يحقِّق التكامل بين أوجه النشاط والحاجات الفردية إلا عن طريق مجموعةٍ معقَّدة من العلاقات المجرَّدة، التي لا يكون للعمل الفردي فيها من قيمة، إلا بقَدْر ما يمثِّل وقتَ عمل ضروريًّا من الوجهة الاجتماعية، والتي تظهر فيها العلاقات بين الناس على صورة علاقات بين أشياء (سلع)؛ فعالم السلع عالمٌ «مزيف» و«غامض» أو «مسحور»، ولا بد لكل تحليلٍ نقدي له أن يتابع أوَّلًا التجريدات التي تؤلِّف هذا العالم، ثم يتخذ من هذه العلاقات المجرَّدة نقطة بداية له، لكي يصل إلى مضمونها الحقيقي. وهكذا فإن الخطوة الثانية هي تجريد التجريد، أو التخلي عن عينيةٍ زائفة حتى يمكِن استرجاع العينية الحقيقية؛ ومِن ثَمَّ فإن النظرية الماركسية تعرض أوَّلًا العلاقات المجرَّدة التي تتحكَّم في عالم السلع (كالسلعة، والقيمة التبادلية، والنقود، والأجور) وتعود منها إلى مضمون الرأسمالية في كامل نمُوه (الاتجاهات التي يتسم بها بناء العالم الرأسمالي، والمؤدِّية إلى هدمه).

لقد ذكرنا أن الحقيقة، عند ماركس كما عند هِيجِل، لا تكمُن إلا في الكلِّية totality ذات الطابع السلبي. ومع ذلك فإن الكلية التي تتحرَّك فيها النظرية الماركسية مغايرةٌ لتلك التي عرفَتْها الفلسفة الهِيجِلية. وهذا التبايُن هو الذي يوضِّح الاختلاف الحاسم بين الجدَل الهِيجِلي والماركسي؛ فالكلية عند هِيجِل هي كليةٌ عقلية، وهي نسقٌ أنطولوجيٌّ مقفل، يصبح آخر الأمر في هُوية مع النسق العقلي للتاريخ. وهكذا كان المسار الجدَلي عند هِيجِل مسارًا أنطولوجيًّا شاملًا، يتخذ فيه التاريخ نمط المسار الميتافيزيقي للوجود. أمَّا ماركس فقد فصل الجدَل عن هذا الأساس الأنطولوجي. وأصبَحَت سلبية الواقع في مؤلَّفاته وضعًا تاريخيًّا، لا يمكن تجميده بجعله حالةً ميتافيزيقية. وبعبارةٍ أخرى فقد أصبحَت وضعًا اجتماعيًّا، مرتبطًا بشكلٍ تاريخي خاص للمجتمع. والكلية التي يصل إليها الجدَل الماركسي هي كلية المجتمع الطبقي، كما أن السلبية التي تكمُن من وراء متناقضاته وتشكِّل مضمونه ذاته هي سلبية العلاقات الطبقية. وهنا أيضًا نجد أن الكلية الجدَلية تشمل الطبيعة، ولكن لا يكون ذلك إلا بقَدْر ما تدخُل هذه الأخيرة في العملية التاريخية للإنتاج الاجتماعي وتتحكَّم فيها. هذا الإنتاج يتخذ، في المسار المتقدم للمجتمع الطبقي، أشكالًا مختلفةً في المستويات المختلفة لتطوُّره، وهذه الأشكال هي الإطار الذي تندرج فيه كل التصوُّرات الجدَلية.
وهكذا أصبح المنهج الجدَلي، بطبيعته ذاتها، منهجًا تاريخيًّا. والمبدأ الجدَلي ليس مبدأً عامًّا ينطبق بنفس الطريقة على أي موضوع. صحيحٌ أن كل واقعة؛ أيًّا كانت، يمكِن إخضاعُها لتحليلٍ جدَلي، مثل كوب الماء مثلًا في مناقشة لينين المشهورة،١٠٨ ولكن كل هذه التحليلات تؤدي إلى تركيب العملية الاجتماعية التاريخية، وتبيِّن أن لها دورها في الوقائع المراد تحليلها؛ فالجدَل يأخذ الوقائع على أنها عناصرُ في كلٍّ تاريخيٍّ محدَّد لا يمكن فصلها عنه. وقد ذكَر لينين، في إشارته إلى مثال كوب الماء، أن «كل السلوك العملي الإنساني ينبغي أن يدخل في «تعريف» الموضوع.» وهكذا تزول الموضوعية المستقلة لكوب الماء؛ أي إن كل واقعة لا تخضع للتحليل الجدَلي إلا بقَدْر ما تكون متأثرة بالمنازعات والصراعات التي تنطوي عليها العملية الاجتماعية.

إن الطابع التاريخي للجدَل الماركسي يشمل السلبية السائدة فضلًا عن نفي هذه السلبية؛ فالحالة الراهنة سلبية، ولا يمكن أن تصبح إيجابية إلا بإطلاق الإمكانات الكامنة فيها. هذا الإطلاق أو التحرير، وهو نفي النفي، يتحقق بإقامة نظامٍ جديد للأشياء؛ فالسلبية ونفيها مرحلتان مختلفتان في نفس العملية التاريخية، يتحكَّم فيهما السلوك التاريخي للإنسان. والحالة «الجديدة» هي حقيقة القديمة، ولكن هذه الحقيقة لا تنشأ بصورةٍ مطَّردة وآليَّة من الحالة الأسبق منها، بل إنها لا يمكن أن تنطلق من عقالها إلا بعملٍ مستقلٍّ يقوم به الناس، ويُلغي الحالة السلبية القائمة بأَسْرها. وبالاختصار فإن الحقيقة ليست عالمًا قائمًا بذاته، منفصلًا عن الواقع التاريخي، وليست مجالًا للأفكار ذات الصحة الأزلية. صحيحٌ أنها تعلو على الواقع التاريخي القائم، ولكن لا يكون ذلك إلا بقَدْر ما تعبُر مرحلةً تاريخيةً معيَّنة لكي تنتقل إلى أخرى؛ فالحالة السلبية فضلًا عن نفيها، هي حدثٌ عينيٌّ داخلٌ في نطاق الكلية نفسها.

ويُعَد الجدَل الماركسي منهجًا تاريخيًّا بمعنًى آخر؛ فهو يتناول مرحلةً بعينها من مراحل المسار التاريخي. وينتقد ماركس الجدَل الهِيجِلي؛ لأنه عمَّم الحركة الجدَلية بحيث جعل منها حركة لكل الوجود؛ أي للوجود بما هو كذلك، وبذلك لم يستخلص منها إلا «التعبير المجرد، المنطقي، النظري، عن حركة التاريخ.»١٠٩ وفضلًا عن ذلك فإن الحركة التي عبَّر عنها هِيجِل على هذا النحو المجرَّد، والتي ظن أنها عامة، لا تميِّز بالفعل إلا مرحلةً بعينها في تاريخ الإنسان، وأعني بها «تاريخ انتقاله إلى النضج».١١٠ ولذلك فإن تمييز ماركس بين تاريخ مرحلة الانتقال إلى النضج، وبين «التاريخ الفعلي» للإنسانية، يُعَد تقييدًا لنطاق الجدَل؛ فتاريخ انتقال الإنسانية إلى النضج، الذي يسمِّيه ماركس بمرحلة ما قبل التاريخ بالنسبة إلى البشرية، هو تاريخ المجتمع الطبقي. أمَّا التاريخ الفعلي فسوف يبدأ بعد إلغاء هذا المجتمع؛ فالجدَل الهِيجِلي يقدِّم إلينا الشكل المنطقي المجرَّد للتطوُّر فيما قبل التاريخ، بينما يقدِّم الجدَل الماركسي حركته الحقيقية العينية؛ ومِن ثَمَّ فإن الجدَل الماركسي يظل بدوره مقيدًا بمرحلة ما قبل التاريخ.

إن السلبية التي يبدأ بها الجدَل الماركسي هي السلبية المميزة للوجود الإنساني في المجتمع الطبقي. والصراعات التي تزيد من حدة هذه السلبية وتؤدي آخر الأمر إلى القضاء عليها هي صراعات المجتمع الطبقي. وتنطوي ماهية الجدَل الماركسي ذاته على القول بأن الانتقال من مرحلة ما قبل التاريخ التي يمثِّلها المجتمع الطبقي، إلى تاريخ المجتمع اللاطبقي، سيؤدي إلى تغيير تركيب الحركة التاريخية بأكملها؛ فعندما تصبح البشرية هي صانعة تطوُّرها عن وعي، لن يعود من الممكن تلخيص تاريخها من خلال أشكالٍ تنطبق على مرحلة ما قبل التاريخ.

إن منهج ماركس الجدَلي يظل يعكس سيطرة القوى الاقتصادية العمياء على مجرى المجتمع؛ فالتحليل الجدَلي للواقع الاجتماعي من خلال متناقضاته الكامنة، ومن خلال تجاوز هذه المتناقضات، يبيِّن لنا أن هذا الواقع تطغى عليه آلياتٌ موضوعية تمارس تأثيرها بنفس الضرورة التي تتسم بها القوانين «الطبيعية» (الفيزيائية) — على هذا النحو وحده يمكن أن يكون التناقض هو القوة النهائية التي تجعل للمجتمع حركةً مستمرة. وتكون هذه الحركة جدَلية في ذاتها طالما أنها لم تخضع بعدُ لتوجيه النشاط الواعي بذاته للأفراد المجتمعين بحُريَّة؛ فالقوانين الجدَلية هي المعرفة النامية المتطوِّرة للقوانين «الطبيعية» للمجتمع؛ ومِن ثَمَّ فهي خطوة نحو إلغاء هذه القوانين الأخيرة، وإن كانت تظل مع ذلك معرفة بالقوانين «الطبيعية». صحيحٌ أن الصراع مع «عالم الضرورة» سيستمر مع انتقال الإنسان إلى مرحلة تاريخه «الفعلي»، وأن السلبية والتناقض لن يختفيا. ومع ذلك فعندما يصبح المجتمع هو الفاعل الحر في هذا الصراع، فإن هذا الصراع سيتخذ أشكالًا مختلفةً كل الاختلاف؛ لهذا السبب لم يكن من المقبول أن يُفرض التركيب الجدَلي لما قبل التاريخ على التاريخ المقبل للإنسانية.

والتصوُّر الذي يربط الجدَل الهِيجِلي، على نحوٍ قاطع، بتاريخ المجتمع الطبقي هو تصوُّر الضرورة؛ فالقوانين الجدَلية قوانينُ ضرورية، والصور المختلفة للمجتمع الطبقي تزول بالضرورة من جرَّاء متناقضاتها الداخلية. ويقول ماركس إن قوانين الرأسمالية تسير «بضرورةٍ محتومةٍ نحو نتائجَ لا مفَر منها». على أن هذه الضرورة لا تنطبق على التحوُّل الإيجابي للمجتمع الرأسمالي. صحيحٌ أن ماركس قد افترض أن نفس الآليات التي تؤدي إلى تركُّز رأس المال وتمركُزه، تؤدي أيضًا إلى «تأميم العمل». «فالإنتاج الرأسمالي يؤدي إلى نفي ذاته أو سلبها، وذلك بحتميةٍ مماثلة لحتمية القانون الطبيعي»، والمقصود بهذا النفي هو الملكية المبنية على «التعاون والاشتراك في تملُّك الأرض ووسائل الإنتاج.»١١١ ومع ذلك فإن المرء يشوِّه الدلالة الكاملة للنظرية الماركسية لو استدل من الضرورة المحتومة التي تحكُم تطوُّر الرأسمالية، على وجود ضرورةٍ مماثلةٍ في موضوع التحوُّل إلى الاشتراكية؛ فعندما تُنفى الرأسمالية، لا تعود العمليات الاجتماعية خاضعةً لحكم القوانين الطبيعية العمياء. وهذا بعينه هو ما يميِّز الجديد من القديم؛ فالانتقال من موت الرأسمالية المحتوم إلى الاشتراكية ضروري، ولكنه ليس ضروريًّا إلا بمعنى أن النمُو الكامل للفرد ضروري. كذلك فإن الاتحاد الاجتماعي الجديد للأفراد ضروري، ولكنه ليس ضروريًّا إلا بمعنى أنَّ من الضروري استخدام القوى الإنتاجية المتوافرة من أجل تلبية المطالب العامة لكل الأفراد؛ فتحقيق الحرية والسعادة هو الذي يجعل من الضروري إقامة نظامٍ يتحكَّم فيه الأفراد المجتمعون في تنظيم حياتهم. وقد أكَّدنا من قبلُ أن سمات المجتمع المقبل تنعكس في القوى الراهنة التي تعمل على تحقيقه. ولا يمكن أن تكون هناك ضرورةٌ عمياء في الاتجاهات التي تُفضِي إلى مجتمعٍ حرٌّ واعٍ بذاته؛ فنفي الرأسمالية يبدأ داخل الرأسمالية ذاتها، ولكن حتى في المراحل التي تسبق الثورة يظهر التأثير الفعَّال للتلقائية العاقلة التي ستشيع في مراحلِ ما بعد الثورة. والواقع أن الثورة تتوقَّف على مجموعة من الظروف الموضوعية، فهي تقتضي بلوغ مستوًى معيَّن من الثقافة المادية والعقلية، وطبقةً عاملة منظَّمة واعية بذاتها على نطاقٍ عالمي، وصراعًا طبقيًّا حادًّا. على أن هذه الظروف لا تصبح ظروفًا ثوريةً إلا إذا استُغلَّت ووجِّهَت بنشاطٍ واعٍ يرمي إلى تحقيق الهدف الاشتراكي؛ فليس هناك أدنى قَدْرٍ من الضرورة الطبيعية أو الحتمية الآلية يضمن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
ولقد عملَت الرأسمالية ذاتها على توسيع نطاق وقدرات العمليات العقلية إلى حدٍّ كبير. على أن «القوانين الطبيعية»، التي تحدِّد مسار الرأسمالية، قد ظهَرَت في مقابلها اتجاهات من نوعٍ آخر، عملَت على تعويق تأثير العمليات الضرورية، وبذلك أطالت من أجَل النظام الرأسمالي.١١٢ ففي مجالاتٍ معيَّنة استحدثَت الرأسمالية تنظيماتٍ سياسية وإدارية واسعة النطاق. مثال ذلك أن التخطيط ليس سمةً ينفرد بها المجتمع الاشتراكي؛١١٣ فالضرورة الطبيعية للقوانين الاجتماعية التي عرضَها ماركس تتضمَّن إمكان مثل هذا التخطيط في ظل الرأسمالية، وذلك عندما أشارت هذه القوانين إلى التفاعل بين النظام والفوضى، وبين الفعل الواعي والآليَّات العمياء. وبطبيعة الحال فإن إمكان التخطيط الرشيد في النظام الرأسمالي لا يقلِّل من صحة القوانين الأساسية التي اكتشَفها ماركس في هذا النظام — وهي القوانين التي تؤدي حتمًا إلى فَناء هذا النظام، ولكن العملية يمكن أن تحتاج إلى فترةٍ طويلة من الوحشية والبربرية. ولا يمكن منع حدوث هذه الوحشية إلا بالعمل الحر. إن الثورة تقتضي نضوج قوًى متعدِّدة، ولكن أعظم هذه القوى هي القوى الذاتية، أعني الطبقة الثورية ذاتها؛١١٤ فتحقيق الحرية والعقل يقتضي توافر المعقولية الحرة في أولئك الذين سيحقِّقونها.

وإذن فالنظرة الماركسية منافية للحتمية القدَرية. صحيحٌ أن المادية التاريخية تتضمن مبدأً حتميًّا هو القائل إن الوعي يتحكَّم فيه الوجود الاجتماعي. على أننا قد حاولنا أن نبيِّن أن الاعتماد الضروري الذي يعبِّر عنه هذا المبدأ ينطبق على الحياة في فترة «ما قبل التاريخ»، أعني على حياة المجتمع الطبقي؛ فعلاقات الإنتاج التي تقيِّد إمكانات الإنسان وتشوِّهها، تتحكَّم حتمًا في وعيه، لا لشيء إلا لأن المجتمع لا يسلك بحرية ووعي. وما دام الإنسان عاجزًا عن السيطرة على هذه العلاقات واستخدامها في إشباع حاجات الكل ورغباتهم، فإنها ستتخذ شكل كيانٍ موضوعي مستقل. والوعي، الذي تسيطر عليه هذه العلاقات وتطغى عليه، يصبح بالضرورة أيديولوجيًّا.

وبطبيعة الحال فإن وعي الناس سيظل يتحدد بالعمليات المادية التي تُمِد مجتمعهم بالإنتاج اللازم له، حتى بعد أن يكون الناس قد توصَّلوا إلى تنظيم علاقاتهم الاجتماعية على نحوٍ من شأنه أن تُسهِم هذه العلاقة، على أفضل نحو، في النهوض الحر للجميع، ولكن عندما تصبح هذه العمليات المادية عاقلة، وتصبح عملًا واعيًا يقوم به الناس، فإن الاعتماد الأعمى للوعي على الظروف الاجتماعية لن يعود له وجود؛ فالعقل، حين تتحكَّم فيه ظروفٌ اجتماعيةٌ عاقلة، لا يكون قد خضع إلا لذاته. والحرية الاشتراكية تضُم طرَفَي العلاقة بين الوعي والوجود الاجتماعي. وهكذا فإن مبدأ المادية التاريخية يؤدي إلى نفي ذاته.

•••

إن عملية العمل، التي تظهر على أنها أساسية في التحليل الماركسي للرأسمالية ومنشَئها، هي الميدان الذي تدور فيه مختلف فروع التفكير النظري والسلوك العملي في المجتمع الرأسمالي؛ ومِن ثَمَّ فإن فهم عملية العمل هو في الوقت ذاته فهم لمصدر التفرقة بين النظر والعمل، وللعنصر المؤدي إلى إعادة الربط بينهما؛ ذلك لأن النظرية الماركسية هي بطبيعتها نظرية في المجتمع تتصف بالتكامل وتعمل على تحقيق التكامل. والعملية الاقتصادية للرأسمالية تمارس تأثيرًا كليًّا شاملًا على كل تفكيرٍ نظري وسلوكٍ عملي. والتحليل الاقتصادي، حين يرفع النقاب الذي تختفي وراءه الرأسمالية، وينفُذ من وراء «التشيؤ»، لا بد أن يصل إلى التربة العميقة المشتركة بين كل تفكيرٍ نظري ومسلكٍ عملي في هذا المجتمع.

إن الاقتصاد الماركسي لا يدع مجالًا لفلسفةٍ مستقلة، أو علم نفسٍ أو علم اجتماعٍ مستقل. «فالأخلاق والدين والميتافيزيقا، وباقي مظاهر الأيديولوجية وأشكال الوعي المناظرة لها، لا تعود محتفظة بمظهر الاستقلال … ذلك لأنه عندما يكون الأمر متعلقًا بتصوير الواقع، فإن الفلسفة بوصفها فرعًا مستقلًّا للنشاط، تفقد وسيط وجودها. وعلى أحسن الفروض فإن مكانها لا يُمكِن أن يُشغَل إلا بتلخيصٍ لأعم النتائج والتجريدات التي تنشأ من ملاحظة التطوُّر التاريخي للناس.١١٥
وبانفصال النظرية عن العمل، أصبَحَت الفلسفة مقرًّا للنظرية الصحيحة. واضطُر العلم إمَّا إلى الخضوع «لخدمة رأس المال»،١١٦ وإمَّا إلى الانحطاط إلى مستوى النشاط الذي يُمارَس على سبيل الترفيه وإضاعة الوقت، دون أي اهتمام بالصراعات الفعلية للبشر، على حين أن الفلسفة تولَّت، بواسطة الفكر المجرَّد، حماية الحلول التي أتى بها الإنسان لمشكلته من الحاجات والمخاوف والرغبات. وأصبح «العقل الخالص»؛ أي العقل مطهرًا من العوارض التجريبية، هو المقَر الصحيح للحقيقة.

ولقد أثار «كَانْت»، قرب نهاية كتابه «نقد العقل الخالص»، الأسئلة الثلاثة التي هي أكثر الأسئلة أهميةً بالنسبة إلى العقل البشري، وهي: كيف أستطيع أن أعرف؟ ما الذي ينبغي علَيَّ عمله؟ ما الذي يجوز لي أن آمله؟ هذه الأسئلة، والمحاولات التي بُذلَت للإجابة عنها، تشمل بالفعل صميم الفلسفة، وتمثِّل اهتمامها بالإمكانات الأساسية للإنسان وسط مظاهر الحرمان التي يراها حوله في الواقع. وقد وضع هِيجِل هذا الاهتمام الفلسفي في السياق التاريخي لعصره؛ بحيث أصبح من الواضح أن أسئلة «كَانْت» قد انتقلَت إلى مجال المسار التاريخي الفعلي؛ فمعرفة الإنسان، وسلوكه، وأمله، كلها قد وجهَت نحو إقامة مجتمعٍ عاقل. أمَّا ماركس فقد أخذ على عاتقه إيضاح القوى والاتجاهات العينية التي تحول دون تحقيق هذا الهدف، وتلك التي تساعد على ذلك. وقد كان الارتباط المادي لنظريته بشكلٍ تاريخي محدد للعمل الاجتماعي — كان هذا الارتباط مؤديًا إلى إنكار الفلسفة، بل وعلم الاجتماع أيضًا؛ فالوقائع الاجتماعية التي حلَّلها ماركس (كاغتراب العمل، و«فتيشية» عالم السلع، وفائض القيمة، والاستغلال) ليست مشابهة لوقائع علم الاجتماع، كالطلاق والجريمة وتنقُّل السكَّان والدورات الاقتصادية. والعلاقات الأساسية للمقولات الماركسية ليست داخلةً في نطاق علم الاجتماع أو أي علمٍ يهتم بوصف الظواهر الموضوعية للمجتمع وتنظيمها، بل إنها لا تظهر على هيئة وقائع إلا بالنسبة إلى نظريةٍ تتأملها مستهدفةً نفيها مقدمًا؛ فالنظرية الصحيحة، في نظر ماركس، هي الوعي بمسلكٍ عملي يستهدف تغيير العالم.

على أن تصوُّر الحقيقة عند ماركس بعيدٌ كل البعد عن النسبية؛ فليست هناك إلا حقيقةٌ واحدة، ومسلكُ عملٍ واحد قادر على تحقيقها. وقد أوضحَت النظرية الاتجاهات التي تساعد على بلوغ نظامٍ عقلي للحياة، وشروط إيجاد هذا النظام، والخطوات الأولى الواجب اتخاذها. كما وضعَت صيغة الهدف النهائي للسلوك العملي الاجتماعي الجديد؛ وهي إلغاء العمل، واستخدام وسائل الإنتاج المؤمَّمة من أجل النهوض الحر بالأفراد جميعًا. وما بَقيَ بعد ذلك هو مهمة النشاط المتحرِّر للإنسان ذاته. وتظل النظرية تُصاحِب المسلك العملي في كل لحظة، فتحلِّل الموقف المتغيِّر وتصوغ تصوُّراته تبعًا لذلك. صحيحٌ أن الشروط العينية المؤدية إلى بلوغ الحقيقة قد تتباين، ولكن الحقيقة تظل واحدة، والنظرية هي التي تحميها آخر الأمر. وسوف تصونُ النظرية الحقيقة حتى لو انحرف المسلك العملي الثوري عن طريقه الصحيح؛ فالمسلك العملي يسير وراء الحقيقة، لا العكس.

هذه النظرة المطلَقة إلى الحقيقة تُكمل التراث الفلسفي للنظرية الماركسية، وتفصل النظرية الجدَلية على نحوٍ قاطع عن الأشكال التالية للوضعية والنسبية.

١  ماركس، «نقد فلسفة الحق الهِيجِلية Zur Kritik der Hegelschen Rechtsphil» في «المؤلفات الكاملة لماركس وإنجلز»، الناشر: معهد ماركس-إنجلز، موسكو، المجلد الأوَّل، فرانكفورت (مين)، ١٩٢٧م، ص٦١٩.
٢  كيركجورد، حاشية ختامية غير علمية Abschliessende unwissenschaftliche Nachschrift في مجموعة الأعمال Werke، يينا، ١٩١٠م، المجلد السابع، ص١٥.
٣  المرجع نفسه، ص٢١.
٤  «نقد العصر الحاضر Zur Kritik der Gegenwart»، أنزبروك، ١٩٢٢م، ص٣٤.
٥  المرجع نفسه، ص٤٢.
٦  ص٦١.
٧  ص٦٤.
٨  المبادئ الرئيسية لفلسفة المستقبل Grundsätze der Philosophie der Zukunft في الأعمال الكاملة Sämmtliche Werke، ليبتسج، ١٨٤٦م، المجلد الثاني، القسم ٢٠، وانظر أيضًا القسم ٣١.
٩  آراء تمهيدية في إصلاح الفلسفة Vorläufige Thesen zur Reform der Philosophie، المرجع المشار إليه، المجلد الثاني، ص٢٤٧.
١٠  نقد الفلسفة الهِيجِلية Kritik der Hagelschen Philosophie في المرجع المذكور، ص٢٢١-٢.
١١  «آراء تمهيدية في إصلاح الفلسفة»، ص٢٦٣.
١٢  الموضع نفسه.
١٣  المرجع نفسه، ص٢٦٧.
١٤  ص٢٥٣.
١٥  ص٢٥٨.
١٦  المبادئ الأساسية لفلسفة المستقبل، القسم ٣٢.
١٧  المرجع نفسه، القسم ٣٧.
١٨  يناقش فويرباخ نقد هِيجِل لليقين الحسي في «نقد الفلسفة الهِيجِلية»، المرجع المذكور من قبلُ، ص٢١١–١٥. وهو يعزل وجهة نظر اليقين الحسي من الطرق الأشمل في الفهم، التي يرتبط بها اليقين الحسي نفسيًّا وتاريخيًّا. وهو يدافع عن سلطة الموقف الطبيعي في مقابل حقيقة لا تظهر إلا حين يكون هناك تحرُّر من هذه السلطة.
١٩  ماركس، قضايا عن فويرباخ Theses on Feuerbach، القضية الخامسة. انظر: الأيديولوجية الألمانية The German Ideology، نشره ر. باسكال R. Pascal International Publishers، نيويورك، ١٩٣٩م، ص١٩٨؛ وسيدني هوك، من هِيجِل إلى ماركس Sidney Hook: From Hegel to Marx، نيويورك، ١٩٣٦م، ص٢٩٣.
٢٠  ماركس، «قضايا فويرباخ»، القضية التاسعة. وانظر: الأيديولوجية الألمانية، المرجع المذكور، ص١٩٩؛ وسيدني هوك، المرجع المذكور، ص٢٩٩.
٢١  «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية Oekonomisch-Philosophische Manuskripte» (١٨٤٤م) في «المؤلفات الكاملة لماركس وإنجلز»، نشرها معهد ماركس وإنجلز، المجلد الثالث، برلين، ١٩٣٢م، ص٨٠-٨١، ٨٩-٩٠.
٢٢  المرجع نفسه، ص٨٢.
٢٣  ص٤٣.
٢٤  ص٤٥.
٢٥  ص٤٥.
٢٦  مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي A Contribution to the Critique of Political Economy، ترجمة N. I. Stone، الناشر Charles Kerr and Co.، شيكاجو، ١٩٠٤م، ص٣٠٢.
٢٧  «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية»، ص٨٧-٨.
٢٨  ص٨٩.
٢٩  ص١١٧.
٣٠  ص٨٣.
٣١  الموضع نفسه.
٣٢  ص٣٩–٤٤.
٣٣  ص٨٣.
٣٤  ص٨٥-٦.
٣٥  ص٨٦.
٣٦  ص١١٨.
٣٧  ص١١٩.
٣٨  ص٩٠-٩١. وانظر أيضًا «الأيديولوجية الألمانية»، ص٤٤.
٣٩  الأيديولوجية الألمانية، ص٢٢.
٤٠  «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية»، ص٨٩.
٤١  «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»، ص٤١.
٤٢  رأس المال، المجلد الثالث، ترجمة E. Untermann، الناشر: Charles H. Kerr and Co.، شيكاغو، ١٩٠٩م، ص٩٦٢، وقارن ص٩٦٦.
٤٣  رأس المال، ترجمة E. Aveling and S. Moore، المجلد الأوَّل، شيكاغو، ١٩٠٦م، ص٨٣-٤.
٤٤  «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية»، ص٩٣.
٤٥  إن اتصاف أي شكلٍ خاص من أشكال الحياة الاجتماعية بأنه «سلبي» لا يحول دون اتصافه بصفاتٍ تقدمية. وقد أكَّد ماركس مرارًا أن الشكل الرأسمالي للعمل كان له طابعٌ تقدمي مميز، بمعنى أنه أتاح للإنسان أن يستغل جميع أنواع الموارد المادية استغلالًا رشيدًا، وأدَّى باستمرار إلى زيادة إنتاجية العمل، وحرَّر عددًا كبيرًا من الملَكَات الإنسانية التي لم تكن معروفةً من قبلُ. غير أن التقدُّم في المجتمع الطبقي لا يعني زيادة السعادة والحرية؛ فما لم يُلغَ الشكل المغترب للعمل، فإن كل تقدُّم سيظل تكنيكيًّا بدرجاتٍ متفاوتة؛ بحيث يدُل على ازدياد اصطباغ أساليب الإنتاج بصبغة الترشيد، وعلى مزيدٍ من الترشيد في السيطرة على الإنسان والطبيعة. وحين يتصف التقدُّم بكل هذه الصفات، فإنه لا يؤدي إلا إلى زيادة الطابع السلبي للنظام الاجتماعي تفاقمًا، مما يشوِّه قوى التقدُّم التكنيكي ويقيِّدها. وهنا أيضًا كانت فلسفة هِيجِل على حق؛ إذ إن تقدُّم العقل ليس تقدُّمًا في السعادة.
٤٦  المرجع نفسه، ص٧٧.
٤٧  ص١٥٦.
٤٨  ص١١٧.
٤٩  ص١١٥.
٥٠  الأيديولوجية الألمانية، ص٢١، ٣٩-٤٠.
٥١  ص٤٠-٤١.
٥٢  «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»، ص٢٩٨-٩.
٥٣  الأيديولوجية الألمانية، ص٤٠.
٥٤  المرجع نفسه، ص٤١.
٥٥  المخطوطات الاقتصادية الفلسفية، ص١١٤.
٥٦  الأيديولوجية الألمانية، ص٢٥.
٥٧  المرجع نفسه، ص٢٧.
٥٨  المرجع نفسه، ص٢٧-٨.
٥٩  ص٢٩.
٦٠  ص٦٧.
٦١  ص٦٦.
٦٢  ص٧٠.
٦٣  ص٧٢.
٦٤  ص٤٩.
٦٥  ص٧٧.
٦٦  ص٤٩.
٦٧  ص٨ و٤٨.
٦٨  ص٥٧. وانظر أيضًا ص٦٧.
٦٩  ص٢٦.
٧٠  ص٢٥.
٧١  ص٤٩.
٧٢  ص٦٩.
٧٣  القديس ماكس Sankt Max في «المؤلفات الكاملة لماركس وإنجلز»، المرجع المذكور، المجلد الخامس، ص١٨٥.
٧٤  المرجع نفسه، ص١٩٨.
٧٥  نظريات في فائض القيمة Theorien über den Mehwert، الناشر كارل كاوتسكي Karl Kautsky شتتجارت، ١٩٠٥م، المجلد الأوَّل، ص٢٥٨ و٢٦٠ وما يليها.
٧٦  رأس المال، المرجع نفسه، المجلد الأوَّل، ص١٩٧.
٧٧  يُعد أفضل شرح للاتجاهات الأساسية في النظرية الاقتصادية الماركسية هو ذلك الذي قدَّمه هنريك جروسمان Henryk Grossmann في كتابه «قانون التراكم والانهيار في النظام الرأسمالي Das Akkumulations und Zusammenbruchgesetz des Kapitalistischen Systems»، ليبتسج، ١٩٢٩م.
٧٨  «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»، ص٢١.
٧٩  المرجع نفسه، ص٢٢.
٨٠  ص٢٢.
٨١  ص٢٣.
٨٢  ص٢٦.
٨٣  ص٣٣.
٨٤  ص٢٤.
٨٥  رأس المال، المجلد الأوَّل، ص٤٨.
٨٦  المرجع نفسه، ص٢٢٣.
٨٧  مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، ص٢٢.
٨٨  رأس المال، المجلد الثالث، ص٧٤٥.
٨٩  ماركس، «رسائل إلى الدكتور كوجلمان»، الناشر: International Publishers، نيويورك، ١٩٣٤م، رسالة بتاريخ ١١ يوليو ١٨٦٨م، (ص٧٣-٤).
٩٠  رأس المال، المجلد الثالث، ص٢١٤.
٩١  المرجع نفسه، ص٢٢٣.
٩٢  رسائل إلى كوجلمان، ١١ يوليو ١٨٦٨م.
٩٣  رأس المال، المجلد الثالث، ص٢٢٠-٢١.
٩٤  عندما أعلن ماركس أن القيَم الانتفاعية تقع خارج نطاق النظرية الاقتصادية، كان في البداية يصف الوضع الفعلي القائم في علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي. أمَّا تحقيقه الخاص فيبدأ بقَبوله، وتفسيره، للحقيقة القائلة إن القِيَم الانتفاعية لا تظهر في النظام الرأسمالي إلا بوصفها «المستودع المادي للقِيَم التبادلية» (المرجع المذكور، المجلد الأوَّل، ص٤٣). وبعد ذلك يعمل نقده على تفنيد الطريقة الرأسمالية في النظر إلى القِيَم التبادلية، ويحدِّد هدفه بأنه «اقتصاد تُلغى فيه هذه العلاقة تمامًا».
٩٥  انظر مثلًا: رأس المال، المجلد الثالث، ص١٩٦، ص٢٠٦، ٢٢٣.
٩٦  المجلد الأوَّل، ص٦٣٢-٣.
٩٧  المجلد الأوَّل، ص١٨٦.
٩٨  ص٢١٦.
٩٩  ص٢١٥-١٦.
١٠٠  ص٢٣١.
١٠١  ص٢٣٠.
١٠٢  ص١٩٥.
١٠٣  ص٦٣٣.
١٠٤  ص٦٣٦.
١٠٥  ص٦٧٣.
١٠٦  قارن هنريك جروسمان H. Grossmann، في المرجع المشار إليه، ص١٧٩ وما يليها.
١٠٧  رأس المال، المجلد الثالث، ص١٠٢٦.
١٠٨  «أعمال مختارة»، نيويورك، ١٩٣٤م، الناشر International Publishers، المجلد التاسع، ص٦٢ وما يليها.
١٠٩  «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية»، المرجع المشار إليه، ص١٥٢-٣.
١١٠  المرجع نفسه، ص١٥٣.
١١١  رأس المال، المجلد الأوَّل، ص٨٣٧.
١١٢  المرجع نفسه، المجلد الثالث، ص٢٧٢–٨١.
١١٣  نقد برنامج جوتا Critique of the Gotha Program، ١٨٩١م، نيويورك، ١٩٣٨م.
١١٤  عقم الفلسفة The Poverty of Philosophy ترجمة H. Quelch، شيكاغو، ١٩١٠م، ص١٩٠.
١١٥  الأيديولوجية الثقافية، ص١٤-١٥.
١١٦  رأس المال، المجلد الأول، ص١١٧–٣٩٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤