(١) الفلسفة الإيجابية والسلبية
دخل الفكر الأوروبي، في العقد التالي لوفاة هِيجِل، عهد «الوضعية». وقد اتخذَت
هذه الوضعية لنفسها اسم مذهب «الفلسفة الوضعية»، وهو مذهبٌ كانت له صورةٌ مختلفة كل
الاختلاف عن صورة الوضعية المتأخرة. وقد نُشر كتاب كُونت «دروس في الفلسفة الوضعية»
فيما بين عامَي ١٨٣٠م و١٨٤٢م، كما نُشرَت فلسفة «شتال Stahl» الوضعية في الدولة فيما بين عامَي ١٨٣٠م و١٨٣٧م، وبدأ شلنج
في عام ١٨٤١م محاضراته التي ألقاها في برلين عن «الفلسفة الوضعية positive Philosophie» وهي المحاضرات التي
كان يُعِدها منذ عام ١٨٢٧م.
وعلى حين أنه لا يُمكِن أن يكون ثمَّة شكٌّ في الدَّور الذي أسهَم به كُونْت في
الوضعية (مع ملاحظة أن كُونْت ذاته قد استمد المنهج الوضعي من أسس الفلسفة الوضعية
عند شلنج)، فقد يبدو من الخطأ الشديد أن نربط فلسفة شلنج و«شتال» الوضعية بهذه
الحركة. ألم يكن شلنج من دعاة الميتافيزيقا في أكثر صورها تعاليًا، وألم يقدِّم
«شتال» فلسفةً دينية للدولة؟ صحيحٌ أن شتال معروفٌ بوصفه ممثلًا للوضعية في الفلسفة
التشريعية، ولكن ما صلة فلسفة الأسطورة والوحي عند شلنج — وهي الفلسفة التي أمدَّت
نظرية شتال ببعض من تصوُّراتها الأساسية — بالوضعية؟
على أننا نجد، في «فلسفة
الوحي
Philosophie der Offenbarung» عند شلنج أن الميتافيزيقا التقليدية، نظرًا إلى أنها لا
تهتم إلا بمفهوم الأشياء وماهيتها الخالصة، لم تستطِع التوصُّل إلى الوجود الفعلي
للأشياء؛ ومِن ثَمَّ فإنها عجزَت عن تقديم معرفةٍ حقيقية. وفي مقابل ذلك تستهدف
فلسفة شلنج الوصول إلى ما هو فعليٌّ موجود، وتصف نفسها — لهذا السبب — بأنها
«وضعية». وقد أثار شلنج السؤال عن احتمال كون الميتافيزيقا العقلانية فلسفة «سلبية»
خالصة؛ بحيث يكون على الفلسفة الوضعية — مسايرةً منها لتفنيد كَانْت للميتافيزيقا —
أن «تنظِّم نفسها، متحرِّرة ومستقلَّة عن الأولى، فتصبح عالمًا قائمًا بذاته.»
٢
وفضلًا عن ذلك فإن شلنج أخذ على عاتقه في عام ١٨٢٧م، في ختام محاضراته في تاريخ
الفلسفة الحديثة، أن يبرِّر اهتمام الفلاسفة الإنجليز والفرنسيين بالتجربة، ودافَع
عن هذه التجريبية ضد خصومها الألمان. وقد ذهب إلى حدِّ أنه أعلن أنه «لو لم يكن
لدينا إلا الخيار بين التجريبية والقَبْلية الصارمة لمذهبٍ عقلانيٍّ متطرف، لما
تردَّد أي ذهنٍ حر في اختيار التجريبية.»
٣ وختم كلامه بقوله إن الرسالة العظيمة للفلسفة الألمانية ينبغي أن تكون
تجاوز الميتافيزيقا ذات النزعة القَبْلية عن طريق «مذهبٍ وضعي» يعمل على تحويل
الفلسفة، آخر الأمر، إلى «علمٍ حقيقي للتجربة».
ومن المؤكد أن فلسفة شلنج الوضعية مختلفة إلى حدٍّ بعيد، في جوانبها الأساسية، عن
فلسفة كُونْت؛ فالأمور «الوضعية»، عند كُونْت، هي الأمور الواقعة التي هي موضوعات
للملاحظة، على حين أن شلنج يؤكِّد أن التجربة لا تقتصر على وقائع الحس الخارجي
والداخلي. ويُولِّي كُونْت وجهَه شَطْر العلم الفيزيائي والقوانين الضرورية التي
تحكُم الواقع بأَسْره، على حين أن شلنج يحاول تقديم «فلسفة للحرية»، ويرى أن النشاط
الحر الخلَّاق هو الواقعة النهائية والأساسية للتجربة. ومع ذلك فهناك، برغم هذه
الاختلافات الأساسية، اتجاهٌ مشترك في كلتا الفلسفتَين إلى مقاومة طغيان
النزعة القَبْلية
a priorism واستعادة سلطة التجربة.
٤
هذا الاتجاه المشترك يمكن أن يُفهَم على أفضل نحوٍ إذا تأملنا الخصم الذي كانت
الفلسفة الوضعية تُحاربه؛ فالفلسفة الوضعية كانت ردَّ فعلٍ واعيًا على الاتجاهات
النقدية الهدامة للمذهب العقلاني الفرنسي والألماني، وهو ردُّ فعلٍ اتخذ طابعًا
مريرًا بوجهٍ خاص في ألمانيا. ونظرًا إلى الاتجاهات النقدية للمذهب الهِيجِلي، فقد
وُصِف بأنه «فلسفة سلبية». وأدرك معاصروه أن المبادئ التي أعلنها هِيجِل في فلسفته
أدَّت إلى «نقد لكل شيء كان يُعَدُّ حتى الآن حقيقةً موضوعية.»
٥ ففلسفته «نفَت» أي واقعٍ لا معقول ولا عقلي؛ أي فنَّدَتْه. ولكن رد
الفعل (الرجعي) رأى في محاولة هِيجِل قياس الواقع وفقًا لمعايير العقل المستقل —
رأى في ذلك — تحديًا للنظام القائم. وقيل إن الفلسفة السلبية (أو النافية) تبحث عن
إمكانات الأشياء، ولكنها عاجزة عن معرفة واقعها الفعلي؛ فهي تقتصر على «الصور
المنطقية» ولا تصل أبدًا إلى مضمونها الفعلي، الذي لا يمكن استنباطه من هذه الصور.
ونتيجةً لذلك فإن الفلسفة السلبية — كما يقول ناقدو هِيجِل — لا تستطيع تفسير
الأشياء على ما هي عليه، أو تبريرها. وأدَّى ذلك إلى أهم الاعتراضات جميعًا، وهو أن
الفلسفة السلبية، نظرًا إلى بنائها التصوُّري، «تنفي» (أو تنكر) الأشياء على ما هي
عليه؛ فالأمور الواقعة التي تؤلِّف الوضع القائم أو الحالة الراهنة، حين يُنظر
إليها في ضوء العقل، تصبح سلبية، محدودة، عارضة — أي تصبح صورًا زائلةً داخل عمليةٍ
شاملة تؤدي إلى تجاوزها. وهكذا نُظر إلى الجدَل الهِيجِلي على أنه أوضح أنموذج لكل
سلبٍ هادم لما هو معطًى؛ إذ إن كل شكلٍ معطًى ينتقل فيه مباشرةً إلى ضده، ولا يصل
إلى مضمونه الحقيقي إلا بهذا الانتقال. هذا النوع من الفلسفة، على حدِّ قول
النقَّاد، ينكر على المعطَى شرف الواقعية، وهو ينطوي على «مبدأ الثورة» (كما قال
شتال). وفُهِمَت عبارة هِيجِل القائلة إن الواقعي معقولٌ بأنها تعني أن المعقول
وحدَه هو الواقعي.
ولقد شنَّت الفلسفة الوضعية هجومَها المضادَّ على المذهب العقلاني النقدي في
جبهتَين؛ فقد حارب كُونْت ضد النمط الفرنسي من الفلسفة السلبية؛ أي ضد تراث ديكارت
وعصر التنوير. وفي ألمانيا، كان الصراع موجَّهًا ضد مذهب هِيجِل، فتلقَّى شلنج
تكليفًا صريحًا من الإمبراطور فريدرش فلهلم الرابع بأن «يحطِّم بذرة الأفعوان» في
المذهب الهِيجِلي، على حين أن شتال، وهو مفكِّر آخر من أعداء هِيجِل، أصبح المتحدث
الفلسفي بلسان الملكية البروسية في عام ١٨٤٠م. وأدرك الزعماء السياسيون الألمان
بوضوح أن فلسفة هِيجِل، بدلًا من أن تبرِّر الدولة في الشكل العيني الذي اتخذَته،
تتضمَّن الأداة المؤدية إلى هدمها؛ في هذا الموقف، تقدَّمَت الفلسفة الوضعية لتقوم
بدور المنقذ الأيديولوجي في الوقت المناسب.
هذا الهجوم المزدوج للفلسفة الوضعية، الذي لخَّصْناه الآن، هو الصفة المميزة
لتاريخ الفكر في الفترة التالية لهِيجِل.
٦ وقد اعتقد الناس أن الفلسفة الوضعية تغلَّبَت على الفلسفة السلبية في
كل جوانبها؛ أي إنها استطاعت أن تقضيَ على كل محاولة لإخضاع الواقع لعقلٍ متعالٍ.
وفضلًا عن ذلك فقد افترض أن هذه الفلسفة تعلِّم الناس كيف ينظرون إلى ظواهر عالمهم
ويدرُسونها على أنها موضوعاتٌ محايدة، تحكمها قوانينُ تسري على نحوٍ شامل. وأصبَحَت
لهذا الاتجاه أهميةٌ خاصة في الفلسفة الاجتماعية والسياسية؛ إذ كان هِيجِل قد نظر
إلى المجتمع والدولة على أنهما عملٌ تاريخي للإنسان، وفسَّرهما من خلال فكرة
الحرية، وفي مقابل ذلك درَسَت الفلسفة الوضعية الوقائعَ الاجتماعية مقتديةً بأنموذج
الطبيعة، ومن خلال فكرة الضرورة الموضوعية. وقد حرَصَت على الاحتفاظ باستقلال
الأمور الواقعة، وتوجيه الاستدلال إلى قَبول ما هو معطًى. وعلى هذا النحو استهدَفَت
الفلسفة الوضعية أن تتصدَّى للعملية النقدية التي ينطوي عليها «النفي» الفلسفي لما
هو معطًى، وأن ترُدَّ للوقائع شرفَ الوجود الإيجابي.
هذه هي النقطة التي يصبح فيها الارتباط بين الفلسفة الوضعية (في القرنِ التاسعَ
عشر) وبين الوضعية (بالمعنى الحديث) واضحًا؛ فالسمة المشتركة بينهما، إلى جانب
صراعهما المشترك ضد النزعة القَبْلية الميتافيزيقية، هي توجيه الفكر نحو الأمور
الواقعة، ورفع مكانة التجربة بحيث تصبح هي القول الفصل في كل معرفة.
ومن المؤكَّد أن المنهج الوضعي قد هدَم كثيرًا من الأوهام اللاهوتية
والميتافيزيقية، وساعد على تقدُّم مسيرة الفكر الحر، لا سيَّما في العلوم الطبيعية.
وقد أحرزَت هذه العلوم تقدُّمًا هائلًا في النصف الأوَّل من القرن الماضي، أدَّى
إلى تدعيم الهجوم الوضعي على الفلسفة المتعالية. وتحت تأثير المزاج العلمي الجديد
استطاعت الوضعية أن تدَّعي أنها — على حد تعبير كُونْت — التكاملُ الفلسفيُّ
للمعرفة الإنسانية، وكان المقصود هو أن يتحقَّق التكامل عن طريق تطبيق المنهج
العلمي تطبيقًا شاملًا، واستبعاد كل الأهداف التي لا يمكِن، في نهاية المطاف،
تحقيقُها بالملاحظة.
على أن معارضة الوضعية للمبدأ القائل إن الأمور الواقعة في التجربة ينبغي تبريرها
أمام محكمة العقل قد حالت دون تفسير هذه «المعطيات» من خلال نقدٍ شامل للمعطَى
ذاته؛ فمِثل هذا النقد ليس له مجالٌ في العلم. وهكذا فإن الفلسفة الوضعية، في نهاية
الأمر، يسَّرَت استسلام الفكر لكل ما هو موجود، ولكل ما لديه القدرة على الاستمرار
في التجربة. وقد ذكَر كُونْت صراحةً أن لفظ «الوضعي» الذي كان يصف به فلسفتَه
يتضمَّن تعليم الناس أن يتخذوا موقفًا إيجابيًّا من الوضع السائد؛ فالفلسفة الوضعية
تستهدف تأكيد النظامِ القائمِ ضد أولئك الذين أكَّدوا الحاجة إلى «نفيه». وسوف نرى
أن كُونْت وشتال قد أكَّدَا على نحوٍ قاطع هذا المعنى المتضمَّن في تفكيرهما. وهكذا
فإن الأهداف السياسية التي عبَّرا عنها على هذا النحو ربطَت الفلسفة الوضعية
بنظريات الثورة المضادة في فرنسا؛ إذ تأثَّر كُونْت
بدي ميستر De Maistre وشتال
ببيرك Burke.
لقد كانت الوضعية هي أعظم قوةٍ دافعة للنظرية الاجتماعية الحديثة خلال القرنِ
التاسعَ عشر؛ فمن هذه الوضعية ظهر علم الاجتماع، وبتأثيرها تحوَّل إلى علمٍ
تجريبيٍّ مستقلٍّ. على أن من واجبنا، قبل أن نُواصِل هذا الاتجاه في التحليل، أن
نبحث بإيجازٍ في اتجاه النظرية الاجتماعية الذي يتمثَّل في المجموعة المسمَّاة
بالاشتراكيين الفرنسيين الأوائل، الذين كانت لهم جذورٌ تختلف عن جذور الوضعيين،
والذين يقودنا تفكيرهم إلى اتجاهٍ آخر، وإن كانوا قد ارتبطوا في البداية بالموقف
الوضعي.
•••
كانت الدوافع الحاسمة لنظريات الاشتراكيين الفرنسيين الأوائل هي المنازعات
الطبقية التي تميَّز بها تاريخ الفترة اللاحقة للثورة الفرنسية؛ فقد أحرَزَت
الصناعة تقدُّمًا هائلًا، وظهَرَت أولى بوادر الحركات الاشتراكية، وبدأَت الطبقة
العاملة تدعم قواها. ورأى هؤلاء المفكِّرون أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية
القائمة تكون الأساس الحقيقي للمسار التاريخي. وركَّز سان سيمون
Saint-Simon وفورييه
Fourier جهودهما النظرية على مجموع هذه الأوضاع، وبذلك جعَلا من
المجتمع بالمعنى الحديث لهذه الكلمة الموضوع الذي ينصَب عليه تفكيرهما النظري.
وانتهى سيسموندي
Sismondi إلى أن الصراعات
الاقتصادية للرأسمالية هي القوانين البنائية للمجتمع الحديث، ورأى برودون
Proudhon في المجتمع نسقًا من المتناقضات. ومضت
مجموعةٌ من الكُتَّاب الإنجليز، ابتداءً من عام ١٨٢١م، في تحليلاتها للرأسمالية إلى
حدِّ أنها رأت أن الصراعات الطبقية هي القوة المحرِّكة للتطوُّر الاجتماعي.
٧
كل هذه المذاهب كانت تستهدف نقد الصور الاجتماعية السائدة، وتتخذ من تصوُّراتها
الأساسية أدواتٍ لتغيير النظام القائم، لا لتثبيته أو تبريره.
على أنه كانت هناك حلقةٌ رابطة بين التيَّارَين الوضعي والنقدي، هي المحاولة
المنظَّمة التي بُذلَت لإدماج مبدأ الصراع الطبقي مع فكرة علم الاجتماع العلمي
الموضوعي. وقد بُذلَت هذه المحاولة في كتاب فون شتاين: تاريخ الحركة الاجتماعية في فرنسا
من عام ١٧٨٩م حتى يومنا هذا
(١٨٥٠م) Von Stien: Geschichte dersozialen Bewegung in Frankreich von 1789 bis auf unsere
Tage وقد تصوَّر فون شتاين الصراعات الاجتماعية من خلال الجدَل
— فالصراع الطبقي هو المبدأ السلبي الذي ينتقل به المجتمع من شكلٍ تاريخي إلى آخر.
وكان فون شتاين يعُد نفسه هِيجِليًّا صميمًا، فوجد، بادئًا بتفرقة هِيجِل بين
الدولة والمجتمع، أن المضمون الفعلي للتقدُّم الاجتماعي قوامه تغيُّرات في البناء
الاجتماعي، وأن هدف الطبقات المتصارعة هو امتلاك قوة الدولة. ولكنه فسَّر هذه
الاتجاهات بأنها قوانينُ عامة في علم الاجتماع؛ بحيث يفترض أن المنازعات الطبقية
تؤدي، بحكم آليَّةٍ «طبيعية» معيَّنة، إلى النظام الاجتماعي، وإلى التقدُّم نحو
مستوياتٍ تزداد عُلوًّا. وهكذا انتزعَت عن الجدَل قوَّته. وجُعل جزءًا من نسقٍ
سوسيولوجي تكون فيه المنازعات الاجتماعية مجرد وسائل لتحقيق التوافق الاجتماعي.
وبذلك يتضح أن نظرية فون شتاين لا تبعُد في النهاية كثيرًا عن النظرية الاجتماعية
للفلسفة الوضعية.
وسوف نبدأ مناقشتنا لتطوُّر الفكر الاجتماعي بعد هِيجِل بعرضٍ موجز للاتجاهات
الرئيسية في أعمال سان سيمون، وفي التفكير النقدي الاجتماعي الذي تطوَّر في فرنسا.
وبعد ذلك سننتقل إلى تحليلٍ لأهم كتابَين أثَّرا في المدرسة الاجتماعية الوضعية،
وهما: «علم الاجتماع» لأوجست كُونْت، و«فلسفة الحق» من تأليف شتال، ونختتم بحثنا
بدراسة فون شتاين، التي توفِّق بين آراء هِيجِل الجدَلية وبين مذهب الفلسفة
الوضعية.
(٢) سان سيمون
يبدأ سان سيمون، مثل هِيجِل، بتأكيد أن النظام الاجتماعي الذي ولدَتْه الثورة
الفرنسية قد أثبَت أن البشرية بلغَت مرحلة النضج.
٨ على أنه وصَف هذه المرحلة، على عكس هِيجِل، من خلال الاقتصاد أساسًا؛
فالعملية الصناعية كانت هي العامل الوحيد المؤدي إلى التكامل في النظام الاجتماعي
الجديد. كذلك كان سان سيمون مقتنعًا، مثل هِيجِل، بأن هذا النظام الجديد يتضمَّن
التوفيق بين الفكرة والواقع؛ فالإمكانات الإنسانية لم تعُد تهمُّ التفكير النظري
وحده، بمعزل عن المجال العملي، بل إن مضمون النظرية قد نُقل إلى مستوى النشاط
العقلي الذي يقوم به أفراد متجمِّعون سويًّا على نحوٍ مباشر. «إن السياسة،
والأخلاق، والفلسفة، بدلًا من أن تنتهي إلى تأملٍ خالصٍ منعزلٍ عن المجال العملي،
قد وصلَت أخيرًا إلى مهمتها الحقيقية، وأعني بها تحقيق السعادة الاجتماعية. إنها
بالاختصار أصبَحَت على استعدادٍ لأن تدرك أن الحرية لم تعُد تجريدًا، وأن المجتمع
لم يعُد وهمًا.»
٩ والعملية التي يتحقَّق بها هذا الهدف عمليةٌ اقتصادية. إن أهم ما
يميِّز العصر الجديد أنه عصر التصنيع، مما يكفُل تحقيقَ كل الإمكاناتِ البشرية. «إن
المجتمع ككلٍّ مبنيٌّ على الصناعة. والصناعة هي الضامن الوحيد لوجوده، والمصدر
الوحيد لكل ثروة ورخاء؛ ومِن ثَمَّ فإن الوضع الأكثر ملاءمةً للصناعة هو الأكثر
ملاءمة للمجتمع. هذه هي نقطة بداية كل جهودنا، وكذلك هدفها.»
١٠ فتقدم الأحوال الاقتصادية يحتِّم أن تتحول الفلسفة إلى نظريةٍ
اجتماعية، وما النظرية الاجتماعية إلا الاقتصاد السياسي أو «علم الإنتاج».
١١
ولقد اكتفَى سان سيمون في البداية بالمناداة بمبادئ الليبرالية المتطرفة؛
فالأفراد قد تحرَّروا لكي يعملوا، على حين أن المجتمع هو نقطة التكامل الطبيعية
التي تجمع بين جهودهم المستقلة في كلٍّ متوافق. وتُعَد الحكومة شرًّا لا بد منه
لمواجهة خطر الفوضى والثورة التي تكمُن من وراء آليات الرأسمالية الصناعية. وقد بدأ
سان سيمون بنظرةٍ تفاؤليةٍ أساسًا إلى المجتمع الصناعي — فكان يعتقد أن التقدُّم
السريع لكل القوى الإنتاجية سرعان ما سيقضي على العداوات السائدة وعلى القلاقل
الثورية في هذا النظام الاجتماعي. وأهم ما يميِّز النظام الصناعي الجديد هو أنه
نظامٌ إيجابي، يمثِّل تأكيدًا لكل جهدٍ إنساني يهدف إلى تحقيق حياةٍ سعيدةٍ زاخرة،
ويمثِّل بلوغ هذا الجهد ثماره المرجوة؛ فلم يكن هناك ما يدعو إلى تجاوز ما هو
موجودٌ بالفعل، بل إن كل ما تحتاج إليه الفلسفة والنظرية الاجتماعية هو أن تفهَم
الوقائع وتنظِّمها. ومن هذه الوقائع، ومنها وحدها، تستمدُّ الحقيقة. وهكذا أصبح سان
سيمون مؤسِّس الوضعية الحديثة.
١٢
إن على النظرية الاجتماعية، في رأي سان سيمون، أن تستخدم «نفس المنهج المستخدم في
علوم الملاحظة الأخرى. وبعبارةٍ أخرى فلا بد أن يكون الاستدلال مبنيًّا على الوقائع
التي تُلاحَظ وتُناقَش، بدلًا من أن يتبع منهج العلوم التأملية، التي تردُّ كل
الوقائع إلى الاستدلال العقلي.»
١٣ وقد بُنيَ الفلك والفيزياء والكيمياء بالفعل على هذا «الأساس الوضعي»،
وحان الوقت الذي تنضَم فيه الفلسفة إلى هذه العلوم الخاصة، وتصبح فيه وضعيةً
تمامًا.
وقد جعل سان سيمون من هذه الوضعية المبدأ النهائي والحاسم لفلسفته: «في كل أقسام
مؤلَّفاتي، سوف أهتم بتقرير مجموعاتٍ من الوقائع؛ لأني مقتنعٌ بأن هذا هو الجزء
الوحيد الراسخ في معرفتنا.»
١٤ أمَّا اللاهوت والميتافيزيقا، وكذلك كل التصوُّرات والقِيَم
والترنسندنتالية، فمن الواجب اختبارها بمعيار المنهج الوضعي للعلوم الدقيقة. «ما إن
تؤسَّس معرفتُنا كلها على ملاحظات، حتى يصبح من الواجب أن يُعهَد بتوجيه أمورنا
الروحية إلى قوة العلم الوضعي.»
١٥
وهكذا وُضع «علم الإنسان» — وهو تعبيرٌ آخر عن النظرية الاجتماعية — على نمط
العلم الطبيعي، وكان لا بد من أن يُطبَع بطابعٍ وضعي «عن طريق بنائه على الملاحظة
ومعالجته بالمنهج المستخدَم في الفروع الأخرى للفيزياء.»
١٦ فالمطلوب إذن معاملة المجتمع كالطبيعة. وهذا موقفٌ ينطوي على أشد
انحراف عن نظرية هِيجِل الفلسفية، وأقوى معارضة لها؛ فقد أخرج سان سيمون هدف تحقيق
الحرية من مجال إرادة الفرد العاقلة، ووضعه في إطار القوانين الموضوعية للعملية
الاجتماعية والاقتصادية. إن ماركس كان ينظر إلى المجتمع على أنه يظل لا عقليًّا،
وبالتالي شريرًا، ما دام يحكم بقوانينَ موضوعية لا تتخلف؛ فالتقدُّم كان في نظره
معادلًا للقضاء على هذه القوانين، وهو ما يقوم الإنسان بتحقيقه خلال تطوُّره الحر.
أمَّا النظرية الوضعية في المجتمع فكانت تسير في الاتجاه المضاد؛ إذ كانت تُضفي على
قوانين المجتمع، على نحوٍ متزايد، طابع القوانين الطبيعية الموضوعية. «إن الناس
مجرَّد أدوات» أمام قانون التقدُّم ذي القدرة الشاملة، وهم عاجزون عن تغيير مساره
أو التحكُّم فيه.
١٧ وقد أتمَّت فلسفة كُونْت الوضعية عملية تأليه التقدُّم بحيث يصبح
قانونًا طبيعيًّا مستقلًّا.
ولقد كانت مؤلفات سان سيمون تتضمن بالفعل عناصرَ تسير في طريقٍ مضاد لاتجاهات
الرأسمالية الصناعية. وكان يعتقد أن تقدُّم النظام الصناعي يفترض مقدَّمًا أن يتحول
الصراع بين الطبقات إلى صراعٍ ضد الطبيعة، تتضافر فيه كل الطبقات الاجتماعية.
١٨ ولم يكن شكل الحكومة الذي استهدَفه شكلًا يسيطر فيه الحكَّام على
رعاياهم، بل كان شكلًا تُمارِس فيه الحكومة إدارةً تكنيكية على العمل الواجب أداؤه.
١٩ ويُمكِننا أن نقول إن فلسفة سان سيمون قد سارت في اتجاهٍ مضادٍّ تمامًا
لاتجاه هِيجِل؛ فقد بدأَت بالتوفيق بين الفكرة والواقع، وانتهَت إلى النظر إليهما
على أنهما طرفان يستحيلُ التوفيق بينهما.
ولقد ازدادت حدة الأزمات الاقتصادية والصراعات الطبقية في فرنسا باقتراب ثورة
١٨٣٠م. «وبحلول عام ١٨٢٦م كان من الواضح أن الأمة والقصر الملكي كانا يتحركان في
اتجاهَين متضادَّين؛ فالملك كان يُعِد العدة لإقامة حكمٍ مطلَق، على حين أن الأمة
كانت تندفع نحو الثورة.»
٢٠ وقد تحوَّلَت المحاضرات التي ألقاها بازار
Bazard تلميذ سان سيمون، في تلك السنوات، شارحًا فيها مذهب
أستاذه، تحوَّلَت إلى نقدٍ جذري للنظام الاجتماعي القائم.
أخذ «بازار»، في العرض الذي قدَّمه، بالفرض الأساسي القائل إن الفلسفة ينبغي أن
تكون في هُويَّة مع النظرية الاجتماعية، وإن البناء الاقتصادي للمجتمع هو الذي
يتحكَّم في المجتمع ذاته، وإن السلوك الاجتماعي العقلي وحده هو الذي سيؤدي بمضي
الوقت إلى شكلٍ اجتماعيٍّ أصيل يفي بحاجات الإنسان. وفي رأي «بازار» أن الشكل
القائم للمجتمع لم يعُد مؤديًا إلى التقدُّم والانسجام. وهو يندِّد بالنظام الصناعي
على أساس أنه نظامٌ استغلالي، وعلى أنه المثل الأخير — وإن لم يكن على الإطلاق هو
المثل الأقل أهمية — «لاستغلال الإنسان للإنسان»، وهو الاستغلال الذي ظل قائمًا
طَوال تاريخ المدنية. فالنظام الصناعي يتشكَّل، في جميع علاقاته، بالصراع الحتمي
بين الطبقة العاملة من جهة ومُلَّاك أدوات الإنتاج وآلاته من جهةٍ أخرى.
«إن الجماهير الغفيرة للعمال تعاني اليوم من استغلال أولئك الذين تستخدم
هذه الجماهير ممتلكاتهم … والعبء الكامل لهذا الاستغلال يقع على الطبقة
العاملة؛ أي على الأغلبية الساحقة التي يؤلِّفها العمال. وفي ظل هذه
الأوضاع أصبح العامل هو السليل المباشر للعبد ورقيق الأرض. إنه حرٌّ من حيث
هو شخص، ولم يعُد مُقيَّدًا بالأرض، ولكن هذه هي كل الحرية التي حصل عليها؛
فهو لا يستطيع أن يُوجَد في حالة الحرية القانونية هذه إلا وهو خاضع للشروط
التي تُمليها عليه تلك الطبقة الصغيرة التي اكتسبَت احتكار الثروة والقدرة
على التحكُّم في أدوات العمل بإرادتها ومشيئتها، وذلك بفضلِ تشريعٍ مستوحًى
من حق الغزو والسيطرة بالقوة.»
٢١
وهكذا تحوَّلَت وضعية سان سيمون إلى عكسها؛ فبينما كانت استنتاجاتها الأصلية
تمجِّد الليبرالية، نراها الآن تدرك أن النظام الكامن وراء هذه الليبرالية يحمل في
طياته بذور القضاء عليه. وقد أوضح بازار، كما فعل سيسموندي من قبله، أن تراكُم
الثورة وانتشار الفقر، وما يصحبهما من أزماتٍ واستغلالٍ متزايد، كل ذلك ينجم عن
التنظيم الاقتصادي الذي يكون فيه «الرأسماليون والملَّاك» هم الذين ينظِّمون
التوزيع الاجتماعي للعمل. «إن كل فردٍ يُترَك لكي يتصرَّف كيفما استطاع» في عملية
الإنتاج، ولا تُوجَد مصلحةٌ مشتركة أو جهدٌ جماعي للتوفيق بين الأعمال الكثيرة أو
تنظيم إدارتها. وحين يقوم «أفرادٌ منعزلون باستغلال أدوات العمل» وَفْقًا لقاعدة
الاتفاق والصدفة، وعلى أساس القوة من حيث هي أمرٌ واقع، فإن الأزمات الصناعية تصبح
شيئًا لا مفَر منه.»
٢٢
وإذن فالنظام الاجتماعي قد أصبح. كما قال «بازار»، فوضى عامة «نتيجة لمبدأ
المنافسة اللامحدودة».
٢٣ أمَّا الأفكار التقدُّمية، من ذلك النوع الذي برَّر به المجتمع
الرأسمالي تنظيمه الجديد في البداية، كفكرة الحرية العامة والسعي إلى تحقيق السعادة
في إطار تنظيمٍ معقول للحياة، فلا يمكن أن تصل إلى النضوج والإثمار إلا بثورةٍ
جديدة «تقضي أخيرًا على استغلال الإنسان للإنسان في جميع أشكاله البغيضة. هذه
الثورة حتمية، وإلى أن تتحقَّق ستظل كل العبارات البرَّاقة التي تتكرَّر على الألسن
عن نور المدنية ومجد العصر مجرَّد لغةٍ تُرضي الأنانيِّين المتمتِّعين بالامتيازات.
٢٤ ولا بد من إنهاء نظام الملكية الخاصة؛ لأنه «إذا أُريد للاستغلال أن
يختفي فلا بد أيضًا لنظام الملكية الذي يحفَظ للاستغلال كيانه من أن يختفيَ بدوره.»
٢٥
إن كتاب مذهب سان
سيمون
Doctrine Saint-Simonienne يعكس الاضطرابات الاجتماعية التي أحدثها تقدُّم التصنيع في
عهد عودة الملكية؛ ففي خلال هذه الفترة كانت الآلات تدخل في الصناعة على نطاقٍ يتسع
دوامًا (ولا سيَّما في مصانع النسيج)، وبدأَت الصناعة في التركُّز. ومع ذلك فإن
فرنسا لم تمُر فقط بتجربة النمو الصناعي والتجاري الذي أشادت به كتابات سان سيمون
الأولى، بل مرَّت أيضًا بالتجربة العكسية؛ فقد أدت الأزمات الفادحة إلى زعزعة
النظام بأكمله في فترة ١٨١٦-١٨١٧م وكذلك في فترة ١٨٢٥–٢٧م. وتجمَّع العمال في
عصابات لتحطيم الآلات التي سبَّبَت لهم كلَّ ما هم فيه من تعاسة وبطالة. «لا يمكن
أن يكون ثمَّة شكٌّ في أن ظهور الصناعة الواسعة النطاق كان له تأثيرٌ سيِّئ في وضع
العامل؛ فالعامل المنزلي في المناطق الريفية قد عانَى من منافسة المصانع. وأدَّى
إدخال الآلات إلى تشغيل النساء والأطفال بأجرٍ زهيد، وهذا بدَوره ساعد على خفضِ
الأجور. كما أن الهجرة إلى المدن أدَّت إلى ندرة المرافق السكنية، وهذا الوضع،
مصحوبًا بالنقص العام في التغذية الصحية، جعل من المدينة معملَ تفريخٍ لمرضى
الكُساح والسُّل. وكان الجانب الأكبر من ضحايا الأوبئة، كوباء الكوليرا عام ١٨٣٢م،
من العمال. وساعد البؤس على انتشار إدمان الخمور والبِغاء. وأصبح المستوى الأخلاقي
للمراكز الصناعية أدنى من المستوى العام بكثير، ولا سيَّما بين الأطفال.»
٢٦
وقد تدخَّلَت الحكومة، ولكن تدخُّلها كان على شكلِ تدابيرِ قمعٍ ضد العمال، فصدر
قانون لوشابلييه
Lex Le Chapelier عام ١٧٨٩م
بمنع تنظيم العمال. وأصبَحَت الإضرابات تُواجَه باستدعاء الجيش. وكانت تصدُر على
زعماء العمال أحكام بالسجن لمددٍ طويلة. وفُرضَت قيودٌ متزايدة على حرية العمال.
٢٧ «وفي الوقت الذي كانت فيه السلطات تستعين بسلطة الدولة الكاملة ضد
العمال، كانت متساهلة إلى أبعد حدٍّ مع أصحاب الأعمال»؛ ففي عام ١٨٢٩م اتحد أصحاب
السفن في «جرينوي» بُغيةَ خفض أجور ملَّاحيهم. وأعلنَت الهيئات القضائية ووزارة
البحرية أن إجراءهم هذا مخالف للقانون، ولكنها رفضَت اتخاذ أي تدبيرٍ قانوني ضدهم،
خشية أن «يؤدي ذلك إلى دفع الملاحين إلى التمرُّد.»
٢٨
أمثال هذه الحوادث أظهرت بوضوح أن العملية الاقتصادية، أو عناصر معيَّنة فيها، قد
أنشبَت مخالبها في مجموع العلاقات الاجتماعية، وأوقعَتْها في قبضتها. وكان آدم سمث
وريكاردو قد نظَرا إلى هذه العملية الاقتصادية على أنها علمٌ متخصِّص، تبدو فيه
الثروة، والفقر، والعمل، والقيمة، والملكية، وكل ما يتصل بها، على أنها ظروفٌ
وعلاقاتٌ اقتصادية خالصة، تُستمَد من القوانين الاقتصادية أو تُفسَّر بواسطتها. كما
كان سان سيمون قد جعل من القوانين الاقتصادية أساسًا لمسار المجتمع بأكمله. أمَّا
خلفاؤه الاشتراكيون في فرنسا فإنهم عندما كانوا يشيِّدون نظريةً اجتماعية على أساسٍ
اقتصادي، كانوا يغيِّرون من الطابع التصوُّري للاقتصاد السياسي؛ فلم يعُد هذا
العِلم عِلمًا «خالصًا» متخصصًا، بل أصبح قوةً عقلية تعمل على كشف متناقضات البناء
الاجتماعي الحديث، وعلى توجيه المحاولات الرامية إلى حل هذه المتناقضات. ونتيجةً
لهذا التغيير نفسه لم يعُد يُنظر إلى عالم السلع من خلال تشيُّئه؛ فمثلًا عندما
ردَّ سيسموندي على ريكاردو بأن «الاقتصاد السياسي ليس عِلمًا للحساب بل هو عِلمٌ
أخلاقي»، لم يكن يحبِّذ العودة من المعايير العلمية إلى المعايير الأخلاقية في
التفكير العقلي، بل كان يشير إلى أن المحور الذي تدور حوله النظرية الاقتصادية
ينبغي أن يكون الحاجات والرغبات الإنسانية.
٢٩ فعبارة سيسموندي تنتمي، في نهاية المطاف، إلى ذلك الاتجاه الذي ظهر
تأثيره عند هِيجِل حين جعل للنظرية الاجتماعية تركيبًا فلسفيًّا؛ ذلك لأن هِيجِل
كان يريد الوصول إلى النقطة القائلة إن المجتمع، الذي هو المرحلة التاريخية في
التطور الذاتي للناس، ينبغي تفسيره على أنه مجموع العلاقات الإنسانية، وذلك نظرًا
إلى دوره في تشجيع تحقيق العقل والحرية. والواقع أن هذا التفسير الفلسفي للنظرية
الاجتماعية هو بعينه الذي جعل منها نظريةً نقدية للاقتصاد السياسي؛ ذلك لأنه بمجرد
تأمُّل هذه النظرية في ضوء العقل والحرية، بدأ الشكل السائد للمجتمع على هيئة
مجموعة من المتناقضات الاقتصادية التي ينشأ عنها نظامٌ استعباديٌّ لا عقلي. ونظرًا
إلى ما كان ينطوي عليه التفسير الفلسفي للمجتمع من متضمَّنات فلسفية، فإن أي فصل
بينه وبين النظرية الاجتماعية كان يُنظر إليه على أنه إضعاف لتلك النزعات النقدية
التي تدفع التصوُّرات الفلسفية إلى أن تتجاوز الوضع الراهن، فرأى برودون أن سبب
الاستنتاجات التي كانت تنتهي إليها النظرية الاقتصادية، وتبرِّر بها الوضع القائم،
وما يترتَّب على ذلك من إحباط لأي مبدأ يدعو إلى العمل الثوري، هو «الفصل بين
الفلسفة والاقتصاد السياسي»، وقال: «إن الفلسفة هي علم الجبر بالنسبة إلى المجتمع،
والاقتصاد السياسي هو تطبيق علم الجبر هذا». وإذن فالفلسفة في نظره هي «نظرية العقل».
٣٠ واستكمالًا لهذه البداية، عرَّف برودون النظرية الاجتماعية بأنها
«الاتفاق بين العقل والعمل الاجتماعي».
٣١ وحين ذكر موضوع النظرية الاجتماعية، أكَّد بشدَّة ضرورةَ تطبيقها على
نحوٍ شامل؛ فهي تبحث في «حياة المجتمع بأَسْرها»، وفي «مجموع مظاهره المتعاقبة»،
٣٢ وبذلك كان نطاقها أوسعَ بكثير من نطاق علم الاقتصاد المتخصِّص.
على أن تأكيد الطبيعة الفلسفية للنظرية الاجتماعية لا يقلِّل من أهمية أساسها
الاقتصادي، بل إن هذا التأكيد، على العكس من ذلك، يؤدي إلى توسيع نطاق النظرية
الاقتصادية بحيث تتجاوز حدود العلم المتخصِّص، وهكذا يقول برودون إن «قوانين
الاقتصاد هي قوانين التاريخ.»
٣٣
لقد كان الاقتصاد السياسي الجديد مختلفًا كل الاختلاف عن العلم الموضوعي
الكلاسيكي الذي قال به آدم سمث وريكاردو. وكان موضع اختلافه عن هذا العلم الأخير هو
أنه أظهر أن الاقتصاد متناقض ولا عقلي في كل جوانب بنائه؛ بحيث تكون الأزمة هي
حالته الطبيعية والثورة هي نهايته المنطقية. وقد ظهر التضاد بين هذَين العلمَين
بوضوح في أعمال سيسموندي، وهي أول نقدٍ داخليٍّ دقيقٍ للرأسمالية؛ فهذه الأعمال قد
تمسَّكَت بمعيار النظرية النقدية الحقة للمجتمع: «سوف نتناول المجتمع في تنظيمه
الفعلي، بعماله المحرومين من الملكية، وأجورهم التي تحدِّدها المنافسة، وعملهم الذي
يستغني عنه أصحاب العمل بمجرد ألا يعودوا في حاجة إليه — إذ إن هذا التنظيم
الاجتماعي ذاته هو ما نعترض عليه.»
٣٤
أعلن سيسموندي أن كل أشكال التنظيم الاجتماعي تُوجَد لإشباع حاجاتٍ إنسانية؛
فالنظام الاقتصادي السائد يفعل ذلك في ظل أزمةٍ مستمرة وفقرٍ متزايد وسط ثراءٍ
متراكم. وقد عرض سيسموندي الآليات السائدة في المراحل الأولى من الرأسمالية
الصناعية، والتي أدت إلى هذه النتيجة.
٣٥ فذكر أن ضرورة الأزمات المتكرِّرة هي نتيجة لتأثير رأس المال في
العملية الإنتاجية. كما أن الاستغلال المتزايد، وانعدام التوازن المستمر بين
الإنتاج والاستهلاك هما نتائج لنظام تبادل السلع. وانتقل سيسموندي إلى رسم الخطوط
العامة للعلاقات الخفية من وراء القيمة التبادلية والقيمة الانتفاعية، ومختلف أشكال
الحصول على القيمة الفائضة. وأثبت الارتباط بين تركيز رأس المال، وفائض الإنتاج،
والأزمة. «فبسبب تركُّز الثروة بين عددٍ صغيرٍ من المُلَّاك، تستمر السوق الداخلية
في الانكماش، وتُضطَر الصناعة، على نحوٍ متزايد، إلى البيع في الأسواق الخارجية،
حيث تهدِّدها صدماتٌ أشد حتى من الصدمات الداخلية.»
٣٦ فالمنافسة الحرة عاجزة كل العجز عن تنمية كل القوى الإنتاجية إلى أقصى
مداها، وإلى الحد الذي يضمن أعظم إشباع للحاجات البشرية، وهي تؤدي إلى الاستغلال
على أوسع نطاق، وإلى هدمٍ متكرر لمصادر الثروة. صحيحٌ أن الرأسمالية جلبَت للمجتمع
تقدُّمًا هائلًا، ولكن التقدُّم أدَّى إلى «زيادةٍ مستمرَّة في عدد السكان من
العمال، وإلى زيادة العرض على الطلب في مجال العمل.»
٣٧ هذه المتناقضات ترجع المسئولية فيها إلى الآليات الاقتصادية للإنتاج
السلعي. ولو سُمح للاتجاهات الكامنة في النظام بأن تعبِّر عن نفسها أكمل تعبير،
لكانت النتيجة «تحويل الأمة إلى مصنعٍ هائل» «يجلب البؤس للجميع، بدلًا من أن ينتج الثروة.»
٣٨
وهكذا حدث، بعد ستِّ سنواتٍ فقط من إقامة سان سيمون لمذهبه الوضعي، أن قدَّمَت
النظرية الاجتماعية هذا التفنيد الجذري للنظام الاجتماعي الذي كان قد برَّر به
فلسفته الجديدة. وتبيَّن أن «نظام الصناعة» هو نظام الاستغلال الرأسمالي. وحلَّت
نظرية الأزمة الكامنة محلَّ نظرية التوازن المتوافق. وأُضفي معنًى جديد على فكرة
التقدُّم؛ فالتقدم الاقتصادي لا يعني بالضرورة التقدُّم الإنساني — بل إن هذا
التقدُّم الاقتصادي، في ظل الرأسمالية، يحدُث على حساب الحرية والعقل، وبذلك فنَّد
سيسموندي فلسفة التقدُّم، ومعها كل مظاهر التمجيد المتفائل، وطالب الدولة بأن تمارس
سلطتها من أجل حماية الجماهير المضطهدة. «لقد خطَت العقيدة الأساسية القائلة
بالتنافس الحر والعام خطواتٍ هائلةً في كل المجتمعات المتمدينة. وأدت إلى نموٍّ
هائل في القوة الصناعية، ولكنها جلبَت أيضًا آلامًا مخيفةً على معظم طبقات السكان.
لقد علَّمَتْنا التجربة ضرورة السلطة الحامية (للحكومة)، وهي الحماية اللازمة لكيلا
يُضحَّى بالناس من أجل زيادة ثروة لن يستمدوا منها أية منفعة.»
٣٩
ولكن لم يمضِ إلا عقدٌ واحد بعد نشر كتاب سيسموندي، حتى عادت الفلسفة الاجتماعية
إلى عقيدة التقدُّم، وتخلَّت عن الاقتصاد السياسي من حيث هو أساسٌ للنظرية
الاجتماعية — وهو أمرٌ له دلالته الواضحة. وكانت فلسفة كُونْت — التي سننتقل إلى
معالجتها الآن — هي التي استهلَّت عهد الانتكاس هذا.
(٣) فلسفة المجتمع الوضعية: أوجست كُونْت
فصَل كُونت النظرية الاجتماعية عن ارتباطها بالفلسفة السلبية، ووضعَها في فلَك
المذهب الوضعي (الإيجابي). وفي الوقت ذاته تخلى كُونْت عن الاقتصاد السياسي بوصفه
أصلًا للنظرية الاجتماعية، وجعل من المجتمع موضوعًا لعلمٍ مستقل، هو «علم
الاجتماع». والواقع أن الخطوتَين كانتا مترابطتَين؛ فعلم الاجتماع أصبح علمًا
نتيجةً لتخلِّيه عن وجهة النظر المتعالية التي يتخذها النقد الفلسفي. وأصبح ينظر
إلى المجتمع الآن على أنه مجموعٌ مركَّب من الوقائع، متحدِّد بدرجاتٍ متفاوتة،
تحكُمه قوانينُ عامة بدرجات متفاوتة — أي إنه مجال يُعامل كأي مجالٍ آخر للبحث
العلمي. ورأى كُونْت أن التصوُّرات التي تفسِّر هذا المجال يجب أن تُستمَد من
الوقائع التي يتكوَّن منها هذا المجال، أمَّا مضمونات التصوُّرات الفلسفية التي
تحاول أن تصل إلى أبعدَ من ذلك فينبغي استبعادها. وكان اسم «الوضعية» اسمًا خلافيًّا polemical يدُل على هذا التحول من نظريةٍ
فلسفية إلى نظريةٍ علمية. صحيحٌ أن كُونْت كان يريد وضع فلسفةٍ شاملة لكل شيء، كما
يدل على ذلك عنوان كتابه الرئيسي، ولكن من الواضح أن الفلسفة تعني، في سياق
الوضعية، شيئًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عما كانت تعنيه من قبلُ، إلى حد أنها تنبذُ
المضمون الحقيقي للفلسفة. والحق أن عبارة: الفلسفة الوضعية philosophie positive هي، في نهاية المطاف، تناقُض في الألفاظ؛ فهي
تشير إلى مركَّب من كل المعرفة التجريبية، منظَّم في نسق يتسلسل على نحوٍ متوافق،
ويسلُك طريقًا لا رجوع فيه. أمَّا أية معارضة للحقائق الاجتماعية الواقعة فتُمحَى
من المناقشة الفلسفية.
ويلخِّص كُونْت التضاد بين النظرية الوضعية والنظرية الفلسفية على النحو التالي:
يختص علم الاجتماع الوضعي ببحث الوقائع بدلًا من الأوهام المتعالية، وبالمعرفة
النافعة بدلًا من التأمل العقيم، وباليقين بدلًا من الشك والتردُّد، وبالتنظيم
بدلًا من السلب والهدم.
٤٠ في كل هذه الحالات ينبغي على علم الاجتماع الجديد أن يرتبط بحقائق
النظام الاجتماعي القائم. وعلى الرغم من أنه لن يرفض الحاجة إلى الإصلاح والتحسين،
فإنه يستبعد أية حركة ترمي إلى قلب هذا النظام أو نفيه. ونتيجةً لذلك فإن الاتجاه
الفكري لعلم الاجتماع الوضعي ينبغي أن يكون دفاعيًّا وتبريريًّا.
على أن هذا لا يصدُق على جميع الحركات الوضعية؛ ففي بداية عهد الفلسفة الحديثة،
وكذلك في القرنِ الثامنَ عشر، كانت الوضعية ثورةً مناضلة. وكانت إهابتها بالوقائع
عندئذٍ تعني الهجوم المباشر على التصوُّرات الدينية والميتافيزيقية التي كانت هي
الدعامة الأيديولوجية للنظام
القديم ancien legime. وقد نمت النظرة الوضعية إلى التاريخ عندئذٍ بوصفها دليلًا
قاطعًا على أن حقَّ الإنسان في تغيير أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية يتفق مع
طبيعة العقل وتقدُّمه. كذلك فإن فلاسفة عصر التنوير الفرنسيين قد استخدموا المبدأ
القائل بأن الإدراك الحسي أساس التحقيق، كوسيلة للاحتجاج على الحكم المطلَق القائم،
فرأَوا أنه لمَّا كانت الحواسُّ هي أداة الحقيقة، ولمَّا كان إشباع الحواس هو
الدافع الحقيقي للسلوك الإنساني، فإن تحقيق السعادة المادية للإنسان هو الغاية
الحقة التي ينبغي أن تسعى إليها الحكومة والمجتمع. على أن من الواضح أن الشكل
السائد للحكومة والمجتمع يتناقض مع هذه الغاية. تلك، في نهاية المطاف، هي «الواقعة»
التي يُهيب بها وضعيُّو عصر التنوير؛ فهم لم يكونوا يهدفون إلى مجتمعٍ محكم
التنظيم، بل دعَوا إلى الفاعلية الاجتماعية والسياسية، وظلُّوا عقلانيين بمعنًى
أصيل هو أنهم كانوا يقيسون العمل الإنساني أو الفاعلية الإنسانية بمقياس حقيقةٍ
تعلو على النظام الاجتماعي القائم، هو المقياس الذي يمثِّله تنظيمٌ اجتماعي لا
يُوجَد بوصفه واقعًا، بل يُوجَد بوصفه هدفًا. «فالحقيقة» التي رأَوها، أعني المجتمع
الذي يستطيع فيه الأفراد الأحرار أن يستخدموا قدراتهم ويفُوا بحاجاتهم، لم تكن
مستمدةً من أية واقعةٍ أو وقائعَ موجودة، بل نتجَت عن تحليلٍ فلسفي للموقف
التاريخي، كشَف لهم عن النظام الاجتماعي والسياسي الغاشم الموجود عندئذٍ؛ فعصر
التنوير قد أكَّد أن العقل يستطيع أن يحكُم العالم، وأن الناس يُمكِنهم تغيير أشكال
الحياة البالية التي يعيشون عليها، لو أنهم سلكوا على أساس معرفتهم وقدراتهم
المتحرِّرة من قيودها.
أمَّا فلسفة كُونْت الوضعية فتضع الإطار العام لنظريةٍ اجتماعية يُراد لها أن
تُبطِل تأثير هذه الاتجاهات «السلبية» في المذهب العقلاني؛ فهي تصل إلى دفاعٍ
أيديولوجي عن مجتمع الطبقة الوسطى، وتحمل أيضًا بذورَ تبريرٍ فلسفي للنزعة
التسلطية. كذلك فإن الارتباط بين الفلسفة الوضعية وبين النزعة اللاعقلية المميزة
للأيديولوجية التسلطية اللاحقة، وهو الارتباط الذي بدأ يظهر بانهيار الليبرالية،
كان واضحًا كل الوضوح في كتابات كُونْت؛ فتقييد الفكر بالتجربة المباشرة، يسير معه
جنبًا إلى جنب توسيعٌ دائمٌ لعالم التجربة؛ بحيث لا يعود مقتصرًا على مجال الملاحظة
العلمية، بل يضم إليه أيضًا شتى أنواع القوى التي تعلو على الحس، بل إنه ليتضح، آخر
الأمر، أن نتيجة الوضعية عند كُونْت هي مذهبٌ دينيٌّ يشتمل على عبادةٍ واسعة النطاق
لأسماء ورموز وعلامات. وقد قدَّم هو ذاته «نظرية وضعية في السلطة»، وأصبح الزعيم
المتسلط على طائفة من الأتباع الذين يطيعونه طاعةً عمياء. تلك كانت أولى ثمار
التشهير بالعقل في الفلسفة الوضعية.
لقد كانت المثالية مقتنعة اقتناعًا راسخًا بأن الحقيقة لا تُعطى للإنسان من مصدرٍ
خارجي، بل يرجع أصلها إلى عملية التفاعل بين الفكر والواقع، وبين النظر والعمل؛
فوظيفة الفكر لا تقتصر على جمع الوقائع وفهمها وتنظيمها، بل هي أيضًا أن يُسهِم
بصفة جعلَت مثل هذا النشاط ممكنًا؛ ومِن ثَمَّ فهي صفةٌ قَبْلية بالنسبة إلى
الوقائع. وهكذا رأى المثاليون أن جزءًا هامًّا كل الأهمية، من العالم الإنساني،
يتألف من عناصر لا يمكن تحقيقها بالملاحظة. أمَّا الوضعية فقد تخلَّت عن هذه
النظرية، وأخذَت تعمل ببطء على إحلال الوظائف التي تختص أساسًا بالتلقي، محل
التلقائية الحرة للفكر. ولم تكن هذه مسألةً متعلقةً بنظرية المعرفة فحسب؛ فنحن نذكر
أن الفكرة المثالية عن العقل كانت مرتبطة ارتباطًا لا ينفصم بفكرة الحرية، وأنها
كانت تعارض أي تصوُّر لضرورةٍ طبيعية تحكُم المجتمع. أمَّا الفلسفة الوضعية فقد
اتجهَت على العكس من ذلك إلى جعل دراسة المجتمع مساوية لدراسة الطبيعة؛ بحيث إن
العلم الطبيعي، ولا سيَّما البيولوجيا، أصبح أنموذج النظرية الاجتماعية. وكان هدفها
هو أن تجعل من الدراسة الاجتماعية علمًا يبحث في قوانينَ اجتماعيةٍ مشابهة، في
صحتها، للقوانين الفيزيائية. وهكذا فإن الضرورة المحتومة خنقَت العمل الاجتماعي،
ولا سيَّما حين يتعلق بتغيُّر النظام الاجتماعي. ونُظر إلى المجتمع على أنه محكوم
بقوانينَ عقلية تتحرك بضرورةٍ طبيعية. وكان هذا موقفًا يناقض بصورةٍ مباشرة الرأي
الذي قالت به النظرية الاجتماعية الجدَلية، والقائل إن المجتمع لا معقولٌ لا لشيء
إلا لأنه محكوم بقوانينَ طبيعية.
ويُطلِق كُونْت على «العقيدة الراسخة العامة، القائلة بثبات القوانين الفيزيائية»
اسم «الروح الحقة» للوضعية.
٤١ وقد اقترح تطبيق هذه العقيدة على النظرية الاجتماعية، كوسيلة لتحرير
هذه النظرية من اللاهوت والميتافيزيقا، ولإعطائها مكانة العلم. «إن الفلسفة
اللاهوتية والميتافيزيقية ليست لها في هذه الأيام سيطرة إلا في ميدان الدراسة
الاجتماعية. ولا بد من طردها من هذا الملجأ الأخير. والوسيلة الرئيسية لتحقيق ذلك
هي التفسير الأساسي القائل إن حركة المجتمع تخضع بالضرورة لقوانينَ فيزيائية لا
تتغير، بدلًا من أن يحكُمَها نوعٌ من الإرادة.»
٤٢ وهكذا فإن رفض الوضعية للميتافيزيقا قد اقترن برفضٍ لادِّعاء الإنسان
أنه قادر على تغيير نظمه الاجتماعية وإعادة تنظيمها وفقًا لإرادته العاقلة. هذا هو
العنصر الذي تشترك فيه وضعية كُونْت مع الفلسفات الأصلية للثورة المضادة، التي
تبنَّاها بونال
Bonald وديمستر
De Maistre؛ فقد أراد بونال أن يثبت أن «الإنسان لا
يستطيع أن يضفي تركيبًا معينًا على المجتمع الديني أو السياسي، تمامًا كما لا
يستطيع أن يعطي الجسم وزنًا أو المادة امتدادًا»،
٤٣ ورأى أن تدخُّل الإنسان لا يؤدي إلا إلى منع المجتمع من بلوغ «تركيبه
الطبيعي». كما أراد «ديمستر» أن يبيِّن أن «العقل الإنساني، أو ما يُسَمَّى
بالفلسفة، لا يزيد سعادة الدول أو الأفراد شيئًا.»
٤٤ وأن «الخلق يتجاوز نطاق قدرات الإنسان»،
٤٥ وأن عقله «لا جدوى منه على الإطلاق، ليس فقط بالنسبة إلى خلق أية
جماعةٍ دينية أو سياسية، بل أيضًا بالنسبة إلى المحافظة عليها.»
٤٦ فمن الواجب في رأيه قمع «الروح الثورية» بنشر تعاليمَ أخرى تقول إن
للمجتمع نظامًا طبيعيًّا ثابتًا ينبغي أن تخضع له إرادة الإنسان.
كذلك وضع كُونْت على عاتق علم الاجتماع مهمة ضمانِ نشرِ هذه التعاليم بوصفها
وسيلة لوضع «الحدود العامة لكل عملٍ سياسي.»
٤٧ ولا بد أن تؤدي الموافقة على مبدأ القوانين الثابتة في المجتمع إلى
إعداد الناس للنظام وطاعة النظام القائم، وتشجِّع على «استسلامهم» له.
والواقع أن لفظ «الاستسلام» لفظ رئيسي في كتابات كُونْت، مستمدٌّ مباشرةً من
قَبول قوانينَ اجتماعيةٍ ثابتة لا تتغيَّر. «إن الاستسلام الحقيقي؛ أي النزوع إلى
تحمُّل الشرور الضرورية بثبات ودون أي أمل في تعويضها، لا يمكن أن ينتج إلا عن
شعورٍ عميق بالقوانين الثابتة التي تحكُم الظواهر الطبيعية المتنوعة.»
٤٨ وهكذا يعلن كُونْت أن السياسة «الوضعية» التي يحبِّذها تتجه «بطبيعتها
ذاتها إلى دعم النظام العام»، حتى حين يكون الأمر متعلقًا بشرورٍ سياسيةٍ مستعصية،
وذلك بنشر روح «الاستسلام الحكيم.»
٤٩
ولا يمكن أن يتطرق إلى المرء الشك في الجماعات والأهداف الاجتماعية التي يدعو
كُونْت باسمها إلى الاستسلام. والحق أنه ندَر أن نجد في الماضي فلسفةً تطالب بمثل
هذا الإلحاح وبمثل هذه الصراحة، بأن تُستخدَم في حفظ السلطة القائمة، وحماية
المصالح الموجودة من كل هجومٍ ثوري. لقد بدأ كُونْت دعايتَه للوضعية بأن أعلن أن
العلم الأصيل ليس له من هدفٍ عام سوى «إقامة ودعم النظام العقلي الذي … هو الأساس
الضروري لكل نظامٍ حقيقي.»
٥٠ وهكذا يندمج النظام في العلم والنظام في المجتمع في كلٍّ لا ينفصم.
والهدف النهائي هو تبرير هذا النظام الاجتماعي ودعمه؛ فالفلسفة الوضعية هي السلاح
الوحيد القادر على محاربة «القوة الفوضوية للمبادئ الثورية الخالصة»، وهي وحدها
التي يمكِن أن تنجح في «امتصاص النظرية الثورية الشائعة.»
٥١ وفضلًا عن ذلك فإن «الدفاع عن النظام» سيجلب فوائد أعظم؛ إذ إن السياسة
الوضعية سوف تتجه تلقائيًّا إلى «تحويل الانتباه المبالَغ فيه للرأي العام، عن
مختلف القوى الموجودة … وعن كل ممثليها أو مندوبيها.»
٥٢ ونتيجة تحويل الانتباه هذا هي تركيز كل جهدٍ اجتماعي على «الإحياء
الأخلاقي». والواقع أن كُونْت قد أكَّد مرارًا وتكرارًا «الأخطار الفادحة المحيقة
التي تقترن «بسيادة الاعتبارات المادية الخالصة» في ميدان النظرية والعمل الاجتماعي.
٥٣ وكانت أعمق اتجاهات علم الاجتماع عنده أقوى معارضةٍ للاتجاه المادي
بكثيرٍ من مثالية هِيجِل. «إن الصعوبات الاجتماعية الرئيسية اليوم ليست في أساسها
سياسية بل أخلاقية»، ويقتضي حل هذه الصعوبات تغييرًا في «الآراء والأخلاق»، لا في
النظم؛ لذلك فإن المذهب الوضعي يشجِّع على «تحويل القلاقل السياسية إلى حملةٍ
فلسفية»، تؤدي إلى قمع الاتجاهات المتطرِّفة، على أساس أنها في نهاية الأمر، «غير
متمشية مع أي تصورٍ سليم للتاريخ.»
٥٤ وسوف تؤدي الحركة الفلسفية الجديدة، في الوقت المناسب، إلى تعليم الناس
أن نظامهم الاجتماعي يندرج تحت قوانينَ أزلية لا يجوز لأحدٍ أن يخالفها وإلا كان
مستحقًّا العقاب. ووفقًا لهذه القوانين تكون جميع أشكال الحكم «مؤقتة»، وهذا يعني
أنها سوف تتلاءم بلا مجهود مع تقدُّم البشرية الذي لا يُمكِن مقاومته. وفي ظل هذه
الظروف تكون الثورة أمرًا لا معنى له.
ويرى كُونْت أن «القوى المؤقتة» التي تحكُم المجتمع ستجد دون شكٍّ أنها ازدادت
أمانًا بفضل تأثير «السياسة الوضعية التي هي وحدها القادرة على أن تبُثَّ في الناس
الشعور بأنه ليس ثمَّة أهميةٌ حقيقية لأي تغيُّر سياسي في الحالة الراهنة لأفكارهم.»
٥٥ كذلك سيعلم سادة الأرض أن الوضعية تميل إلى «تركيز كل قوة في أيدي
أولئك الذين يملكون هذه القوة — أيًّا كانوا.»
٥٦ بل إن كُونْت يزداد صراحةً عن ذلك، فيحمل على النظريات والجهود
«الغريبة الشديدة الخطورة» الموجَّهة ضد نظام الملكية السائد؛ إذ إن هذه الجهود
والنظريات تشيِّد «يوتوبيا مستحيلة ممتنعة.»
٥٧ صحيحٌ أن من الضروري تحسين أحوال الطبقات الدنيا، ولكن هذا ينبغي أن
يتم دون أدنى تغيير في الحواجز الطبقية، ودون «تعكير للنظام الاقتصادي الذي لا غناء عنه.»
٥٨ وفي هذه النقطة بدَورها تقدِّم الوضعية شهادةً تنم بها عن نفسها؛ فهي
تَعِد «بتأمين الطبقات الحاكمة ضد كل غزوٍ فوضوي»،
٥٩ وببيان الطريقة الصحيحة لمعاملة الجماهير. وقد لخَّص كُونْت أسباب
تمسُّكه «بقضية النظام» فأكَّد أن فلسفته، بحكم طبيعتها ذاتها، «لا تهدفُ إلى
التدمير، بل إلى التنظيم» وأنها «لن تعلن أبدًا أي نفيٍ أو سلبٍ مطلَق.»
٦٠
لقد أطَلْنا إلى حدٍّ ما في الكلام عن الدور الاجتماعي والسياسي لعلم الاجتماع
عند كُونْت؛ لأن التطوُّر التالي للوضعية محا الارتباط القوي بين المبادئ
الاجتماعية والمبادئ المنهجية.
ونودُّ الآن أن نثير هذا السؤال: أي مبادئ الفلسفة الوضعية هو الذي يجعل منها
حارسًا أمينًا للنظام القائم ومدافعًا عنه؟ لقد أشرنا من قبلُ، عند إيضاحنا
للتضادِّ بين الروح الوضعية في عصر التنوير، وبين الآراء الوضعية اللاحقة،
٦١ إلى إنكار هذه الأخيرة للميتافيزيقا و«إخضاعها الخيال للملاحظة»،
٦٢ وبَيَّنَّا أن هذَين الاتجاهَين يعنيان الاتجاه إلى الرضا بالمُعطَى
والموجود؛ فهي تودُّ أن تُخضِع كل التصوُّرات العلمية للوقائع؛ فالمفروض من الأولى
أن تقتصر على إظهار الارتباطات الواقعية الفعلية بين الأخيرة. وتمثِّل الوقائع
وارتباطها نظامًا لا يتخلف، يشمل الظواهر الاجتماعية فضلًا عن الطبيعية. كذلك فإن
القوانين التي اكتشفَها العلم الوضعي، والتي تميِّزه عن التجريبية، كانت وضعية
(إيجابية) أيضًا بمعنى أنها أكَّدَت النظام القائم، وجعلَت من ذلك أساسًا لإنكار
الحاجة إلى تشييد نظامٍ جديد. وليس معنى ذلك أنها استبعدَت الإصلاح والتغيير — بل
إن الأمر على عكس ذلك؛ إذ كانت فكرة التقدُّم تحتل مكانةً هامة في علم الاجتماع عند
كُونْت — ولكن قوانين التقدُّم كانت جزءًا من جهاز النظام القائم؛ بحيث كان هذا
الأخير يتقدَّم بهدوء إلى مرحلةٍ أعلى دون أن يكون من الضروري هدمه أوَّلًا.
ولم يجد كُونْت صعوبةً كبيرة في الوصول إلى هذه النتيجة؛ إذ إنه نظر إلى المراحل
المختلفة للتقدُّم التاريخي على أنها مراحل في «حركة فلسفية»، لا في مسارٍ اجتماعي.
وقد أظهر قانون المراحل الثلاث هذه الحقيقة بوضوحٍ تام؛ فهو يقول إن التاريخ يتخذ
مسارًا حتميًّا، يبدأ أوَّلًا بالحكم اللاهوتي، ثم بالحكم الميتافيزيقي، وأخيرًا
بالحكم الوضعي. وقد أتاحت هذه النظرة لكُونْت أن يتخذ مظهر المحارب الشجاع ضد
«النظام القديم»، وذلك في وقتٍ كان فيه «النظام القديم» قد انهار منذ أمدٍ بعيد،
وكانت الطبقة الوسطى قد دعمَت قوَّتَها الاجتماعية والاقتصادية منذ مدةٍ طويلة. وقد
فسَّر كُونْت النظام القديم على أنه قبل كل شيء الأثَر الذي خلَّفَته الأفكار
اللاهوتية والميتافيزيقية في العِلم.
إن حلول الملاحظة محل التأمل، في علم الاجتماع عند كُونْت، يعني تأكيد النظام
بدلًا من أي خروج على النظام، وهو يعني سلطة القوانين الطبيعية بدلًا من الفعل
الحر، والتآزر بدلًا من اختلال النظام. والواقع أن فكرة النظام، التي كانت أساسيةً
في مذهب كُونْت الوضعي، لها مضمونٌ شمولي في معناها الاجتماعي، فضلًا عن المنهجي.
ولقد كان التأكيد المنهجي ينصَبُّ على فكرة علمٍ مُوحد، وهي نفس الفكرة التي تسيطر
على التطورات الأخيرة للوضعية. وقد أراد كُونْت بناء فلسفته على نسقٍ من «المبادئ
المعترَف بها اعترافًا شاملًا»، التي تستمد مشروعيتها النهائية من «الموافقة
الاختيارية التي يؤكِّد بها الجمهور أنها حصيلة مناقشةٍ كاملة الحرية»،
٦٣ فإذا ما سألناه عن الجمهور، اتضح أنه، تمامًا كما في الوضعية الجديدة،
هيئة من العلماء الذين لديهم العتاد الضروري من المعرفة والتدريب؛ فالمسائل
الاجتماعية، نظرًا إلى طبيعتها المعقَّدة، ينبغي أن تُعالَج بواسطة «مجموعةٍ قليلةٍ
من الصفوة المثقَّفة».
٦٤ وبهذه الطريقة تُسحب المسائل الأكثر حيوية، ذات الأهمية البالغة
للجميع، من ساحة الصراع الاجتماعي، وتُحوَّل لكي تُبحَث في ميدانٍ من ميادين
الدراسة العلمية المتخصِّصة. ووحدة الرأي مسألة اتفاقٍ بين العلماء، الذين تؤدي
جهودهم في هذا السبيل عاجلًا أو آجلًا إلى إيجاد «حالةٍ دائمةٍ محدَّدة من الوحدة
العقلية». ولا بد أن تصُبَّ العلوم كلها في نفس البوتقة، وتندمج في إطارٍ مُحكَم
التنظيم. كذلك لا بد أن تُوضَع كل التصوُّرات تحت اختبار «نفس المنهج الأساسي» حتى
تنبثق في النهاية «منظَّمة في تعاقُبٍ معقولٍ من القوانين المطَّرِدة».
٦٥ وهكذا فإن الوضعية ستعمل على «تنظيم تصوُّراتنا جميعها.»
٦٦
إن فكرة النظام الوضعية تشير إلى مجموعةٍ من القوانين، تختلف كلَّ الاختلاف عن
مجموعة القوانين الجدَلية؛ فالأولى في أساسها إيجابية تشيِّد نظامًا ثابتًا،
والثانية في أساسها سلبية تهدم الثبات. الأولى تنظر إلى المجتمع على أنه عالمٌ من
التوافق الطبيعي، والثانية تنظُر إليه على أنه نسقٌ من الأضداد المتنافرة. «إن فكرة
القوانين الطبيعية تجرُّ وراءها توًّا فكرةً مناظِرة، هي فكرة النظام التلقائي،
التي تقترن دائمًا بفكرة انسجامٍ ما.»
٦٧ وعلم الاجتماع الوضعي هو في أساسه «الدراسة السكونية للمجتمع
social statics»، وذلك تمشيًا مع النظرية
الوضعية القائلة إن هناك «توافقًا حقيقيًّا دائمًا بين مختلف الأوضاع الوجودية في المجتمع.»
٦٨ فالتوافق يسود؛ ولذلك فإن ما ينبغي عمله هو «تأمُّل النظام بقصد تصحيحه
على النحو الملائم، ولكن مع الامتناع التام، في أية حالة، عن محاولة خلق هذا النظام.»
٦٩
ولو تأمَّلْنا قوانين «الدراسة السكونية للمجتمع» عند كُونْت تأملًا فاحصًا،
لاكتشفنا تجريدها وهُزالها الذي يدعو إلى الدهشة؛ فهي تتركَّز حول قضيتَين؛ الأولى
أن الناس يحتاجون إلى أن يعملوا من أجل سعادتهم، والثانية أن كل الأفعال الاجتماعية
تُظهِر أن أهم الدوافع المتحكِّمة فيهم هي الدوافع الأنانية. والوظيفة الرئيسية
للعلم السياسي هي تحقيق التوازن الصحيح بين مختلف أنواع العمل الواجب أداؤها،
واستخدام حب الذات ببراعة من أجل الخير العام. وفي هذا الصدد يؤكِّد كُونْت الحاجة
إلى سلطةٍ قوية. «إن الناس يجدون، في المجال المعنوي فضلًا عن المادي، حاجةً ماسةً
إلى يدٍ عليا موجِّهة، قادرة على ضمان استمرار نشاطهم، بالجمع بين جهودهم التلقائية وتثبيتها.»
٧٠ وعندما تصل الوضعية إلى مركز السيطرة في العالم، خلال المرحلة الأخيرة
للتقدُّم الإنساني، تُغير أشكال السلطة التي كانت قائمةً من قبلُ. ويعرض كُونْت
الخطوط العامة «لنظرية وضعية في السلطة»،
٧١ متطلعًا إلى مجتمعٍ يقوم نشاطه كله على موافقة الإرادة الحرة. على أن
الطابع الليبرالي لهذه الصورة مشوَّه برغم ذلك؛ إذ إن غريزة الاستسلام تنتصر، حين
يُزجي مؤسِّس علم الاجتماع الوضعي المديحَ إلى الطاعة والخضوع للقيادة. «ما أجمل أن
نطيع عندما يُمكِننا الاستمتاع … بالسعادة التي يجلبها إعفاء القادة الحكماء
الجديرين لنا من المسئولية المُلحَّة المتعلقة بالبحث عن اتجاهٍ عام لسلوكنا.»
٧٢
إن السعادة هي الاحتماء بذراع قوية — هذه الفكرة، التي هي من أخصِّ مميزاتِ
المجتمعات الفاشيَّة في وقتنا الحالي، ترتبط بالمثل الوضعي الأعلى لليقين. والخضوع
لسلطةٍ شاملة يتيح أقصى درجة من الأمان. ويزعم كُونْت أن اليقين الكامل للنظر
والعمل من الإنجازات الأساسية التي حقَّقها المنهج الوضعي.
وبطبيعة الحال فإن فكرة اليقين لم تنبثق عن الفلسفة الوضعية، بل كانت سمةً قوية
من سمات المذهب العقلاني منذ ديكارت. غير أن الوضعية أعادت تفسير معناها ووظيفتها؛
فالعقلانية، كما أوضحنا من قبلُ، قد أكَّدَت أن أساس اليقين النظري والعملي هو حرية
الذات المفكِّرة. وعلى هذا الأساس شيَّدَت عالمًا كان معقولًا بقَدْر ما كانت تسوده
السلطة العقلية والعملية للفرد؛ فالحقيقة تنبثق من الذات، وهي تحمل طابع الذاتية
أيًّا كان الشكل الموضوعي الذي تتخذه. والعالم يُعَدُّ واقعيًّا بقَدْر ما يتفق مع
الاستقلال العقلي للذات.
لقد نقلت الوضعية مصدر اليقين من الذات المفكِّرة إلى الذات المدركة حسيًّا. وفي
هذا المجال تُمِدُّنا الملاحظة العلمية باليقين. وتتراجع الوظائف التلقائية للفكر،
على حين أن وظائفه السلبية المتلقِّية تصبح لها مكانة الصدارة.
إن علم الاجتماع عند كُونْت هو في أساسه «دراسة سكونية للمجتمع»، وذلك نتيجة
لسيادة تصوُّر النظام، ولكنه أيضًا «دراسة حركية أو ديناميكية للمجتمع» بفضل وجود
تصوُّر التقدم. وقد شرح كُونْت العلاقة بين التصورَين الأساسيَّين مرَّاتٍ كثيرة؛
فالنظام هو «الشرط الأساسي للتقدم»،
٧٣ و«كل تقدم يتجه آخر الأمر إلى دعم النظام.»
٧٤ والسبب الرئيسي في أن المتناقضات والعداوات الاجتماعية ما زالت سائدة
هو أن فكرة النظام وفكرة التقدُّم ما زالتا منفصلتَين، وهو وضعٌ أتاح للثوريين
الفوضويين أن يغتصبوا الفكرة الأخيرة. أمَّا الفلسفة الوضعية فتهدف إلى التوفيق بين
النظام والتقدُّم، وتحقيق «إشباعٍ مشترك للحاجة إلى النظام والحاجة إلى التقدم.»
٧٥ وهي تستطيع أن تفعل ذلك بأن تبيِّن أن التقدم هو في ذاته نظام — أعني
أنه ليس ثورة، بل تطوُّر.
ولقد كان تفسير كُونْت للتاريخ على أساسٍ مضاد للمادية، عاملًا على تيسير مهمته؛
فهو قد احتفظ بفكرة عصر التنوير القائلة إن التقدُّم هو قبل كل شيءٍ تقدُّم عقلي،
وهو النمو المستمر للمعرفة الوضعية.
٧٦ غير أنه أفرغ فكرة عصر التنوير هذه من مضمونها المادي بقَدْر ما
استطاع، وبذلك التزم بالوعد الذي قطعه على نفسه، وهو أن يستعيض «بحركة عقلية ضخمة
عن القلاقل السياسية العقيمة.»
٧٧ وهكذا فإن فكرة التقدم، حين تكون في خدمة الحاجة المُلِحَّة إلى
المحافظة على الوضع الراهن، تقف حجر عثرة في طريق التقدم المادي والمعنوي والذهني،
إلا إذا كان ذلك في الاتجاه الذي يسمح به «نسق الظروف» الموجودة.
٧٨ ففكرة التقدم عند كُونْت تستبعد الثورة، والتغيير الكلي «لنسق الظروف»
الموجودة. ولا يعود النمو التاريخي إلا تطورًا متوافقًا للنظام الاجتماعي في ظل
قوانين «طبيعية» ثابتة.
ومهمة «علم الاجتماع الحركي (الدينامي)» هي عرض آليات هذا التطور؛ فاتجاهه العام
يهدف أساسًا إلى «تصوُّر كل حالة للمجتمع على أنها النتيجة الضرورية للحالة
السابقة، والمحرك الذي لا غناء عنه للحالة اللاحقة.»
٧٩ ومهمة الدراسة الحركية للمجتمع هي البحث في القوانين التي تحكُم هذا
الاتصال، أو بعبارةٍ أخرى، «قوانين التعاقب»، على حين أن الدراسة السكونية للمجتمع
تبحث في «قوانين التواجد أو التعايش
co-existence».
٨٠ الأولى تُقدِّم «النظرية الصحيحة للتقدُّم»، والثانية تُقدِّم «النظرية
الصحيحة للنظام». وهو يجعل التقدم معادلًا لنموٍّ دائم للثقافة العقلية في التاريخ؛
فالقانون الأساسي في الدراسة الحركية للمجتمع هو أن هناك قوةً متزايدة تكتسبها تلك
المَلَكات العضوية التي تميِّز الإنسان في الطبيعة عن الكائنات العضوية الأدنى،
أعني «العقل والنزوع الاجتماعي
sociabilité».
٨١ وكلما تقدَّمَت المدنية، ازدادت بالتدريج اقترابًا من تحقيق الطبيعة
البشرية عينيًّا؛ فأعلى مراتب المدنية هي أكثرها تمشيًا مع «الطبيعة»؛
٨٢ أي إن العملية التاريخية عمليةٌ طبيعية، وهي على هذا الأساس محكومةٌ
بقوانينَ طبيعية؛
٨٣ فالتقدُّم هو النظام.
على أن عملية التوفيق بين النظرية الاجتماعية وبين الأوضاع القائمة لم تكتمل
بعدُ؛ إذ إنه لا يزال من الضروري استبعاد كل العناصر التي تتجاوز المجال الذي تصدُق
فيه الأمور الواقعة وتشير إلى ما وراءه، وهذا يقتضي جعل النظرية الاجتماعية نسبية.
ويذكُر كُونْت (وهو أمرٌ متوقَّع) أن الخطوة الحاسمة الأخيرة للوضعية هو اتجاهها
«في كل الأحوال إلى الاستعاضة بالنسبي عن المطلَق».
٨٤ وهو يستمد من «سيادة وجهة النظر النسبية على نحوٍ لا نزاع فيه»، رأيه
الأساسي القائل إن للتطوُّر الاجتماعي طابعًا متوافقًا بطبيعته؛ فكل مرحلةٍ تاريخية
للمجتمع تبلغُ من الكمال بقَدْر ما يسمح به «عصر الإنسانية» ونسَق الظروف المناظر لها.
٨٥ وهناك انسجامٌ طبيعي يسود بين الأجزاء الموجودة معًا للبناء الاجتماعي،
بل أيضًا بين إمكانات البشرية كما تتكشَّف فيها، وتحقيق هذه الإمكانات.
وفي رأي كُونْت أن النسبية لا تنفصل عن النظرة القائلة إن علم الاجتماع علمٌ دقيق
يبحث في القوانين الثابتة للمجتمع من الوجهَين السكوني والحركي. هذه القوانين لا
تُكتشَف إلا بالملاحظة العلمية، التي تقتضي بدورها تقدمًا مطَّردًا في التكنيك
العلمي، من أجل معالجة الظواهر الشديدة التعقيد التي يتعيَّن عليها تنظيمها.
٨٦ ويتفق بلوغ المعرفة الكاملة مع اكتمال التقدُّم العلمي ذاته، أمَّا قبل
هذا الاكتمال فلا مفَر من أن تكون كل معرفةٍ وحقيقةٍ جزئية، متناسبةً مع مستوى
التقدم العقلي الذي تم بلوغه.
إلى هذا الحد تُعد النسبية عند كُونْت منهجيةً فحسب؛ أي مبنية على قصورٍ ضروري في
مناهج الملاحظة، ولكنه لما كان يفسِّر النمو الاجتماعي أساسًا على أنه نموٌّ عقلي،
فإن نسبيَّته تفترض انسجامًا مُقدَّرًا بين الجانب الذاتي لعلم الاجتماع (المنهج)
وبين جانبه الموضوعي (المضمون)؛ فكل الأشكال والنُّظم الاجتماعية، كما ذكرنا من
قبلُ، مؤقَّتة، بمعنى أنها ستنتقل، بتقدُّم الثقافة العقلية، إلى أشكالٍ أخرى
تُناظِر القدرات العقلية لنمطٍ أكثر تقدُّمًا. على أن طابعها المؤقَّت، وإن كان
علامةً على نقصها، هو في الوقت ذاته علامةٌ على حقيقتها (النسبية)؛ فتصوُّرات
الوضعية نسبية لأن الواقع كله نسبي.
والعلم في نظر كُونْت هو ميدان النسبية النظرية، وهذا الأخير هو المجال الذي
تُستبعَد منه «أحكام القيمة»؛ فعلم الاجتماع الوضعي «لا يستحسن الوقائع السياسية أو
يستهجنها، بل ينظر إليها … على أنها مجرد موضوعات للملاحظة.»
٨٧ وحين يصبح علم الاجتماع علمًا وضعيًّا، ينفصل عن أي اهتمام «بقيمة» أي
شكلٍ اجتماعيٍّ معيَّن؛ فسعي الإنسان إلى السعادة ليس مشكلةً علمية، وكذلك الحال في
مسألة أفضل تحقيقٍ ممكن لرغباته ومواهبه. ويفخر كُونْت بأنه يستطيع بسهولة أن يعالج
مجال الفيزياء الاجتماعية بأكمله دون أن يستخدم لفظ «الكمال» مرةً واحدة، بل يحلُّ
محلَّه دائمًا لفظٌ علمي بحت، هو النمو أو
التطور
development.
٨٨ فكل مرحلةٍ تاريخية تمثِّل مرحلةً للتطور أعلى من السابقة عليها، نظرًا
إلى كون الأخيرة هي الحصيلة الضرورية للأسبق منها، وتنطوي على مزيد من الخبرة
والمعرفة الجديدة. على أن كُونْت يرى أن تصوُّر النمو أو التطور عنده لا يستبعد الكمال؛
٨٩ ذلك لأن من الأمور التي يستحيل إنكارها أن الأحوال والقدرات الأساسية
للناس قد تحسَّنَت مع التطور الاجتماعي، ولكن تحسُّن القدرات يحدث أساسًا في العلم
والفن والأخلاق وما شابهها، وهي كلها، كالتحسن في الأوضاع الاجتماعية، تتحرك
«بالتدريج، داخل حدودٍ ملائمة». وعلى ذلك فليس في مشروعه مكانٌ للجهود الثورية التي
ترمي إلى إيجاد نظامٍ جديد للمجتمع، بل إن من الممكن الاستغناء عن هذه الجهود.
«فالبحث العقيم عن حكومة أفضل» ليس ضروريًّا؛
٩٠ إذ إن كل شكل من الأشكال الموجودة للحكومة له حقه النسبي، الذي لا يمكن
أن ينازعه فيه سوى أولئك الذين يتخذون وجهة نظر مطلَقة، وهي وجهة نظر باطلة بحكم
تعريفها ذاته. وهكذا تنتهي نسبية كُونْت إلى «النظرية الوضعية في السلطة».
ولقد كان من السهل التوفيق بين احترام كُونْت للسلطة القائمة وبين التسامح
الشامل؛ فكلا الموقفَين يصدُق بنفس المقدار في إطار هذا النمط من النسبية العلمية؛
بحيث لا يكون هناك مجال للإدانة. إن الوضعية، «دون أدنى تبديل لمبادئها الخاصة»،
تستطيع أن «تُوفي كل المذاهب القائمة حقها بطريقةٍ فلسفية دقيقة»
٩١ — وهي فضيلة ستجعلها مقبولةً لدى «جميع الأحزاب والاتجاهات المختلفة الموجودة.»
٩٢
والواقع أن مضمون فكرة التسامح ووظيفتها قد تغيَّرا بتطور الوضعية؛ ذلك لأن
فلاسفة حركة التنوير الفرنسية، الذين كانوا يحاربون دولة الحكم المطلَق، لم يضعوا
مطلبهم في التسامح داخل إطارٍ نسبي، بل أكَّدوا هذا المطلب بوصفه جزءًا من جهودهم
العامة التي تهدف إلى إقامة شكلٍ أفضل من أشكال الحكم — أعني «أفضل» بنفس المعنى
الذي يرفضه كُونْت؛ فالتسامح لم يكن يعني العدالة لكل الأحزاب والاتجاهات الموجودة،
بل كان يعني في الواقع محوَ واحدٍ من أقوى الاتجاهات تأثيرًا، وهو اتجاه الكنيسة
المتحالفة مع النبلاء الإقطاعيين؛ ذلك الاتجاه الذي كان يستخدم عدم التسامح أداةً
للسيطرة.
وعندما ظهر كُونْت على المسرح، لم يكن «التسامح» شعارًا لخصوم النظام القائم، بل
كان شعارًا لخصوم هؤلاء الأخيرين. وكما اتخذ مفهوم التقدُّم طابعًا شكليًّا، كذلك
انفصل التسامح عن المعيار الذي كان يُضفي عليه مضمونه في القرنِ الثامنَ عشر؛ فمن
قبلُ كان المعيار الوضعي هو إيجاد مجتمعٍ جديد، على حين كان التسامح يعادل عدم
التسامح مع أولئك الذين يعارضون هذا المعيار. أمَّا بعد أن صُبغ التسامح بالصبغة
الشكلية، فقد أصبح يعني التسامح مع القوى الرجعية المتخلفة بدورها. وقد نشأَت
الحاجة إلى هذا النوع من التسامح نتيجةً لتخلِّي كُونْت عن جميع المعايير التي
تتجاوز الوقائع المعطاة — وهي معايير كانت في نظر كُونْت قريبةً من تلك التي تبحث
عن مطلَق؛ ففي فلسفة تبرِّر النظام الاجتماعي السائد، أصبَحَت الدعوة إلى التسامح
مفيدة على نحوٍ متزايد للمنتفعين من هذا النظام.
على أن كُونت لم يعامل كل الأطراف على قدَم المساواة؛ فقد قال مرارًا إن هنا
تشابهًا أساسيًّا بين الوضعية وبين جماعةٍ اجتماعية كبيرة، هي الطبقة العاملة
(البروليتاريا)؛ فلدى العمال نزوعٌ مثالي نحو الوضعية.
٩٣ وقد كرَّس كُونْت قسمًا كاملًا من كتابه «مذهب السياسة الوضعية» للقضية
القائلة إن «الفلاسفة الجدد سوف يجدون أشد حلفائهم تحمُّسًا بين عمالنا.»
٩٤
لقد كانت ظاهرة الطبقة العاملة شغلًا شاغلًا لعلم الاجتماع عند كُونْت، مثلما
كانت لنقيضه، أعني النقد الماركسي؛ فلم يكن من الممكن قيام نظريةٍ وضعية عن المجتمع
المدني إلا إذا أمكن التوفيق بين ظاهرة البروليتاريا وبين نظام التقدم المنسجم
المتآلف، الذي يتناقض مع هذه الظاهرة تناقضًا واضحًا؛ ذلك لأنه إذا كانت الطبقة
العاملة هي طبقة الأساس في المجتمع المدني، فإن قوانين تقدُّم هذه الطبقة هي قوانين
هدمها، ولا بد من أن تكون نظرية المجتمع سلبية. وإزاء ذلك يتعيَّن على علم الاجتماع
أن يقدِّم تفنيدًا للقضية الجدَلية القائلة إن تراكُم الثروة يقترن بازدياد وطأة
الفقر.
ولقد كان كُونْت ينظر إلى هذه القضية الأخيرة على أنها «خطأ لا أخلاقي مشئوم»،
٩٥ وهو خطأ يتعين على الوضعية أن تستأصله إذا شاءت أن تحافظ على «النظام
الصناعي» الذي يحتاج إليه المجتمع في أداء وظائفه. وكان يرى أن النظرية والتطبيق
الليبرالي لم يستطيعا حفظ النظام. «إن النزوع اللاعقلي العقيم، الذي لا يسمح إلا
بذلك القَدْر من النظام الذي يأتي من تلقاء ذاته» (أي الذي يأتي عن طريق التفاعل
الحر بين القوى الاقتصادية) يعني «التخلي الصريح» عن العمل الاجتماعي في مواجهة كل
طارئ من الطوارئ التي تحدُث في مسار العملية الاجتماعية.
٩٦
والواقع أن إيمان كُونْت بالقوانين الضرورية للتقدم لم يكن يستبعد بذل جهودٍ
عملية، من أجل تحقيق الإصلاح الاجتماعي، بالقَدْر الذي يضمن إزاحة أية عقبات في
طريق هذه القوانين؛ فبرنامج الإصلاح الاجتماعي في المذهب الوضعي فيه استباق لتحول
الليبرالية إلى نزعةٍ تسلطية. وفي مقابل هِيجِل، الذي ظهر في فلسفته اتجاهٌ مماثل،
نجد كُونْت يتغافل عن الحقيقة القائلة إن هذا التحوُّل يصبح ضروريًّا نظرًا إلى
البناء المتناقض للمجتمع المدني؛ فالطبقات المتعارضة، في رأيه، ليست سوى مخلَّفات
لنظامٍ عقيم، سرعان ما تقضي عليه الوضعية، دون أي تهديد «لنظام الملكية الأساسي».
٩٧
ويرى كُونْت أن سيادة الوضعية ستؤدي إلى تحسين وضع الطبقة العاملة، وذلك أوَّلًا
في التعليم، وثانيًا عن طريق «إيجاد العمل».
٩٨ والصورة التي تتطلع الوضعية إليها هي صورة دولة شاملة متدرجة المراتب،
تحكمها صفوة مثقفة مؤلفة من كل الجماعات الاجتماعية، تشيع فيها أخلاق جديدة تُوحِّد
بين كل المصالح المتباينة في كلٍّ حقيقي.
٩٩ وعلى الرغم من جميع التصريحات التي قال فيها كُونْت إن هذا النظام
المتدرج المراتب سوف يستمدُّ سلطته من موافقة أعضائه طوعًا، فإن دولة كُونْت تُشبِه
في نواحٍ كثيرة الدولة التسلطية الحديثة؛ إذ نجده يدعو مثلًا إلى «وحدةٍ تلقائية
بين المخ واليد».
١٠٠ ومن الواضح أن التنظيم من أعلى يقوم بدَورٍ هام في إيجاد مثل هذه
الوحدة. ويزيد كُونْت الأمر إيضاحًا فيقول إن النمو الصناعي قد بلغ بالفعل نقطة
يصبح من الضروري فيها «تنظيم العلاقة بين صاحب العمل والعامل في سبيل إيجاد توافقٍ
ضروري، لم يعُد من الممكن ضمانه في الصراع الطبيعي الحر بينهما».
١٠١
ويؤكد لنا كُونْت أن عملية الجمع بين أصحاب العمل والعمال لا يقصد منها أن تكون
خطوة نحو القضاء على المركز المتدهور حتميًّا للعامل؛ ففي رأي كُونْت أن نشاط
العامل هو بطبيعته أضيق نطاقًا وأقل مسئوليةً من نشاط صاحب العمل. وما المجتمع إلا
«نظام من التدرج الإيجابي»، والخضوع للتسلسل الاجتماعي أمرٌ لا غناء عنه في حياة الكل؛
١٠٢ ومِنْ ثَمَّ فإن الأخلاق الجديدة التي يدعو إليها لا بد أن تكون قبل كل
شيء أخلاق «واجب» إزاء الكل. وحتى المطالب المشروعة للطبقة العاملة ينظر إليها على
أنها واجبات بدورها؛ فالعامل سيتلقَّى «أوَّلًا التعليم، ثم العمل». ولا يفصِّل
كُونْت الكلام في «برنامج خلق العمل» هذا، ولكنه يتحدث عن نظامٍ تصبح فيه كل
الوظائف الخاصة وظائف عامة؛
١٠٣ بحيث يُنظم كل نشاط ويُمارس بوصفه خدمةً عامة.
وبطبيعة الحال فإن «تأميم» العمل هذا لا شأن له بالاشتراكية؛ فكُونْت يؤكد أنه في
«النظام الوضعي»، «يمكن أن يُعهد بكل المؤسسات العامة، على نطاقٍ متزايد، إلى
الصناعة الخاصة»، بشرط ألا يتعارض هذا «التغيُّر الإداري» مع «النظام الدقيق الضروري».
١٠٤ وهو يشير في هذا الصدد إلى هيئة أصبَحَت لها أهميةٌ متزايدة في حفظ
النظام الإيجابي — وهي الجيش. وهكذا تدفعه محاولته أن يُوفي كل الجماعات الاجتماعية
حقها، إلى أن يوصي بتقديم فلسفته إلى «الطبقة العسكرية»، مع التذكير بأن الوضعية،
وإن كانت توافق على اختفاء العمل العسكري تدريجًا، «تقدِّم تبريرًا مباشرًا للوظيفة
الهامة المؤقتة» التي يؤديها الجيش في «المحافظة الضرورية على النظام المادي»؛
١٠٥ فنظرًا إلى القلاقل الخطيرة التي يتعرض لها النظام الاجتماعي، فإن
«الجيش تقع على عاتقه مهمةٌ متزايدة الأهمية، هي الاشتراك إيجابيًّا … في المحافظة
على استمرار النظام العام».
١٠٦ وحين تختفي الحروب القومية، سنجد على نحوٍ متزايد أن الجيش تُعهد إليه
«برسالة
اجتماعية
une grande maréchaussée politique» هي أن يكون طائفة كبيرة من حفَظة الأمن السياسيين.
١٠٧
على أن مذهب كُونْت يحافظ، في جانبٍ حاسم منه، على وظيفة تحرير الإنسان، كما
عرفَتْها الفلسفة الغربية؛ إذ إن هذا المذهب يتجه إلى عبور الهُوة بين الأفراد
المنعزلين، وإلى الجمع بينهم في كليٍّ حقيقي. وقد حاولنا أن نبيِّن كيف أن المنهج
الوضعي قد تولَّد عنه البحث عن التوحيد، كما أكدنا النتائج السلبية لهذا المنهج،
ولكن فكرة النظام الوضعي الشامل دفعَت كُونْت إلى تجاوز فكرة العلم الموحد الفارغة،
والتطلع إلى حكومةٍ مستبدةٍ من كبار الكهنة الوضعيين. وهناك نوعٌ آخر من الشمول أو
الكلية يسود في مذهب كُونْت، وأعني به المجتمع. هذا المجتمع ينبثق بوصفه المجال
الوحيد الذي يعيش فيه الإنسان حياته التاريخية، ويصبح فيه، في الوقت ذاته، الموضوع
الوحيد للنظرية الاجتماعية. والواقع أن الفرد لا يكاد يقوم بدور في علم الاجتماع
عند كُونت، بل إن المجتمع يستوعبه كلية، وما الدولة إلا نتاجٌ جانبي للقوانين
الحتمية التي تحكُم العملية الاجتماعية.
في هذه النقطة، يتجاوز علم الاجتماع عند كُونْت حدود فلسفة هِيجِل الأساسية؛
فالنظرية الوضعية في المجتمع لا ترى سببًا لقصر التطور الإنساني على حدود الدول
القومية ذات السيادة. وفكرتها عن النظام الشامل لا تكتمل إلا بوحدة كل الأفراد في
البشرية، كما أن الثمرة التي تُجنى من هدم الوضعية للمعايير اللاهوتية
والميتافيزيقية هي الاعتراف بالإنسانية بوصفها الكائن الأعلى
être supreme؛ فالإنسانية، لا الدولة، هي الكلي الحقيقي، بل هي
الحقيقة الواقعة الوحيدة.
١٠٨ وهي الكيان الوحيد الجدير بالتبجيل الديني في عصر نضوج البشرية. «إن
تلك الفكرة العظيمة، فكرة الإنسانية، سوف تمحو فكرة الإله على نحوٍ لا رجعة فيه».
١٠٩
وهكذا يبدو كأن كُونْت قد أراد، بفكرة الإنسانية هذه، أن يمحو سيئات ذلك الجو
الاضطهادي، الذي كان يتحرك فيه علم الاجتماع الوضعي عنده.
(٤) فلسفة الدولة الوضعية: فريدرش يوليوس شتال
على الرغم مما اتسمَت به الوضعية عند كُونْت من سماتٍ قاتمة، واتجاه لا يتمشَّى
مع عصرها (إذ دعت إلى الصراع ضد «النظام
القديم ancien régime»، في وقتٍ كان قد حلَّ فيه محلَّه بالفعل نظام الطبقة
الوسطى الجديد، الذي كان حكم «الملك البورجوازي» لوي فيليب يرمز له بوضوحٍ كامل)،
فإنها عبَّرت عن وعي طبقةٍ اجتماعية سائرة في طريق التقدم، شقَّت بكفاحها طريقَها
الظافر من خلال ثورتَين؛ فقد أكدَت الفلسفة الوضعية أن مجرى التاريخ البشري يسير
نحو إخضاع العلاقات الاجتماعية، آخر الأمر، لمصالح الصناعة والعلم، وهذا يعني أن
الدولة سوف تُستوعب ببطءٍ داخل مجتمعٍ ينتظم العالم بأَسْره.
على أن الفلسفة الوضعية في ألمانيا كان لها طابعٌ مختلف كل الاختلاف عن طابعها في
فرنسا؛ إذ كانت الأماني السياسية للطبقة الوسطى الألمانية قد هُزمَت دون مقاومة.
«على حين أن الإقطاع في إنجلترا وفرنسا كان قد تحطم تمامًا، أو انكمش إلى
أشكالٍ قليلة لا أهمية لها، كما هي الحال في هذه الأخيرة، على يد طبقةٍ
وسطى قوية غنية مركَّزة في المدن الكبرى، ولا سيَّما العاصمة؛ فإن النبلاء
الإقطاعيين في ألمانيا ظلوا محتفظين بقَدْرٍ كبير من امتيازاتهم القديمة؛
فقد كان نظام الحيازة الإقطاعي سائدًا في كل مكان تقريبًا، بل لقد ظل سادةُ
الأرض محتفظين بحقوق الولاية على خدَمهم … وكان يُنظَر إلى طبقة النبلاء
الإقطاعية هذه — التي كانت عندئذٍ كبيرة العدد جِدًّا، وكان بعض أفرادها
ذوي ثراءٍ هائل — على أنها، من الوجهة الرسمية، «المَرتَبة» الأولى في
البلاد؛ فهي التي كانت تقدِّم كبار موظفي الحكومة، كما كان ضباط الجيش
ينتمون إليها وحدها تقريبًا.»
١١٠
ولقد أدَّت عودة الملكية إلى تقوية الحكم المطلَق إلى حدِّ أن البورجوازية وجدَت
الطريق أمامها مسدودًا في جميع مراحله.
١١١ واقتصر الصراع ضد هذا الحكم المطلَق، في مقابل كل حكمٍ مطلَق آخر
شهدَته ألمانيا منذ حروب التحرير، على مطالبة المَلكية بأن تمنح الشعب دستورًا ذا
شكلٍ نيابي. وبعد وقتٍ أمكن انتزاع وعدٍ من الملك فريدرش فيلهلم الثالث بأنه سيعترف
بنوع من السيادة الشعبية. على أن هذا الوعد لم يتحقَّق إلا بطريقة تدعو إلى
السخرية، متمثلًا في مجالس المقاطعات، التي علَّق عليها أحد المؤرخين بقوله: «كان
هذا نظامًا باليًا يمثل مصالحَ خاصة، ويسيطر عليه الفرسان سيطرةً لا نزاع فيها، ولا
سيَّما في المقاطعات الشرقية. وكان شرط عضوية المجالس هو ملكية الأرض! وحتى في
مقاطعات الراين (أي أكثر الأقاليم تصنيعًا) كان هناك ٥٥ نائبًا عن المناطق
الزراعية، في مقابل ٢٥ نائبًا عن المدن.»
١١٢ ففي كل هذه المجالس كانت الطبقة الوسطى أقليةً لا أمل لها.
ولقد كانت اهتمامات هذه المجالس المحلية مساوية للعجز والقصور الذي كانت تتسم به،
ويظهر الأمر كله بوضوح في مستوى المناقشات التي كانت تدور فيها؛ فقد قال عنها
يوهان ياكوبي Johann Jacoby، أحد زعماء
المعارضة الديمقراطية:
«من الصعب أن يجد المرء نظامًا أقل شعبية من مجالس المقاطعات — نظامًا يراه
الشعب، بحسه السليم، عبئًا لا جدوى منه. ولسنا بحاجة إلى أن نبذل أي جهد لكي نثبت
من مضابط الجلسات أنه لم يكن هناك قرارٌ واحد، من بين جميع القرارات التي اتُّخذَت،
يحمل طابع المصلحة العامة؛ فلم تحاول هذه المجالس القضاء على المخالفات الصارخة،
ولم تتخذ أية تدابير ضد الطغيان البيروقراطي. وكان عمل دوراتٍ كاملة يقتصر على
إنشاء إصلاحيات، ومؤسَّسات للصم البكم والمجانين، وشركات للتأمين ضد الحريق، وسن
قوانين عن الطرق الجديدة، وممرَّات العربات، ورسوم اقتناء الكلاب، وما إلى ذلك …»
١١٣
وعندما جاءت حكومة فريدرش فيلهلم الرابع إلى الحكم، تبخَّرت كل الأحلام التي كانت
تُراود النفوس عن تحقيق إصلاحٍ ليبرالي في الدولة؛
١١٤ فقد انتصر الحكم المطلَق، مقترنًا بتغيُّر كامل في الثقافة … «إن
بروسيا التي عرفَت إصلاحات فون شتاين
von Stein،
وحروب التحرير، وأماني هومبولت
Humboldt
وهاردنبرج
Hardenberg المتعلقة بالدستور، قد
تحوَّلَت إلى بروسيا التي لا تعرف إلا المَلكية الرومانتيكية، واللاعقلية
اللاهوتية، والفكرة المسيحية عن الدولة. ولم تعُد برلين هي جامعة هِيجِل
والهِيجِليين، بل أصبحَت تنتسب إلى فلاسفة الوحي، شلنج وشتال.»
١١٥
فلم يعُد من الممكن الاعتراف بالمذهب الهِيجِلي، الذي كان ينظر إلى الدولة
والمجتمع على أنهما «كلٌّ ذو طبيعةٍ سلبية». والذي أخضعَهما معًا للمسار التاريخي
للعقل، لم يعُد من الممكن الاعتراف به على أنه هو الفلسفة الرسمية. وكان العقل
والحرية هما أكثر الأمور إثارةً للشك في نظر الحكومة الجديدة، التي أصبَحَت الآن
تستلهم الوحي من قيصر روسيا والأمير مترنيخ.
١١٦ وكانت هذه الحكومة في حاجة إلى مبدأ وضعي (إيجابي) يحمي الدولة من قوى
التمرد، ويكون درعًا لها — على نحوٍ أقوى مما كان تفكير هِيجِل — ضد هجوم المجتمع.
وهكذا كان رد الفعل الوضعي الذي ظهر في ألمانيا فلسفةً للدولة — بالمعنى الدقيق —
لا فلسفةً للمجتمع. وقد حدث انقطاعٌ طفيف في هذا التطور عندما قام «لورنتس فون
شتاين»، بعد أن مزج التراث الهِيجِلي بالحركة الوضعية الفرنسية، بتحويل الاهتمام
إلى بناء المجتمع. غير أن تأثير فترة الانقطاع هذه على تطور النظرية الاجتماعية في
ألمانيا كان تأثيرًا لا قيمة له. وظلت الفلسفة الوضعية في الدولة مسيطرة، طَوال
عشراتٍ من السنين، على السياسة الألمانية نظرًا وعملًا.
ولقد كانت فلسفة شتال تمثل حلًّا وسطًا بين أولئك الذين كانوا يدعون إلى الحكم
المطلَق الشخصي، وبين المطالب الضعيفة للطبقة الوسطى الألمانية؛ فقد كان يدعو إلى
نظامٍ نيابيٍّ دستوري (وإن لم يكن يمثل الشعب بأكمله، بل يمثل المقاطعات)، وإلى
ضماناتٍ قانونية للحريات المدنية، وإلى عدم المساس بالحرية الشخصية، والمساواة أمام
القانون، وتطبيق نظامٍ قانونيٍّ رشيد. وقد بذل شتال جهودًا كبيرةً لتمييز نزعته
المَلكية المحافظة من أي دفاع عن الحكم المطلَق التعسُّفي.
١١٧
ومن الواضح أن محور فلسفة شتال يكمُن في اتجاهها إلى التوفيق بين النزعة التسلطية
اللاعقلية وبين التطور الاجتماعي للطبقة الوسطى. مثال ذلك أنه جمع بين نظرية
المِلكية القائمة على العمل وبين النظرية الإقطاعية القائلة إن كل مِلكية هي، في
نهاية المطاف، مِنحة من السلطات.
١١٨ وقد حبَّذ «دولة القانون
Rechtstaat»،
ولكنه أخضع ضمان الحرية المدنية فيها لسيادة الملك بوصفه سلطةً نهائية.
١١٩ ولقد كان معاديًا لليبرالية، ولكنه لم يقتصر على الدفاع عن الماضي
الإقطاعي، بل تحدث أيضًا عن تلك الفترة من المستقبل، التي ستصبح فيها الطبقة الوسطى
ذاتها معادية لليبرالية. ولم يكن عدوُّه اللدود هو الطبقة الوسطى، بل كان الثورة
التي تهدِّد هذه الطبقة، كما تهدِّد طبقة النبلاء والدولة المَلكية. وكان عداؤه
للعقلانية يخدم مصالحَ أرستقراطية حاكمة تقف عقبةً في وجه التقدم العقلي، كما كان
يخدم مصلحةَ كل حكمٍ لم يكن من الممكن تبريره على أسسٍ عقلية.
إن الثورة، كما أعلن شتال، هي «السمة المميزة لتاريخ العالم في عصرنا». هذه
الثورة تؤدي إلى تأسيس «الدولة كلها على إرادة الإنسان بدلًا من الأمر والإرادة الإلهيَّين.»
١٢٠ ومما له دلالته الواضحة، أن المبدأ القائل بأن الدولة ترتكز على إرادة
الإنسان كان هو بعينه ما أكَّدَته الطبقة الوسطى الصاعدة عندما شنَّت حملتَها على
الحكم المطلَق الإقطاعي؛ فنظرية شتال ترفض كل الفلسفة العقلانية الغربية
١٢١ التي اقترنَت بهذا الصراع. وقد حمل على العقلانية الحديثة على أساس
أنها هي التي تولِّد الثورة، وقال إن هذه الفلسفة هي «في العالم الديني الباطن
بمثابة الثورة في العالم السياسي الخارجي»،
١٢٢ أعني أنها هي «اغتراب الإنسان عن الله».
ولما كان هِيجِل هو أقوى معبِّر عن العقلانية الألمانية، فقد ركَّز شتال هجومه
عليه. وقد جرى على لسانه ذلك الردُّ الرسمي الذي كانت الدوائر الحاكمة في ألمانيا
تُجيب به عن الفلسفة الهِيجِلية؛ فقد كان لدى هذه الدوائر تبصُّر بالطابع الحقيقي
لفلسفة هِيجِل أعمقُ بكثير من تبصُّر أولئك الشرَّاح الأكاديميين الذين نظروا إليها
على أنها تمجيدٌ غير مشروط للنظام القائم؛ فنظرية هِيجِل في رأيه «قوة معادية»، وهي «هدَّامة»
١٢٣ في أساسها. وجدَله يُلغي الواقع المعطى، ونظريته «تحتل منذ البداية نفس
الأرض التي تحتلها الثورة».
١٢٤ ولما كانت فلسفته السياسية عاجزة عن إثبات «الوحدة العضوية» بين
الرعايا و«الشخصية الواحدة العليا (الله – الملك – السلطة)»،
١٢٥ فإنها تهدم أسس النظام الاجتماعي والسياسي السائد. ولن نقتبس المزيد من
تلك الفقرات التي لا حصر لها، والتي يدلِّل بها شتال على الصفات الهدامة
للهِيجِلية، بل سنحاول بدلًا من ذلك أن نحدِّد الأفكار التي اعترض عليها شتال،
والتي يرى أنها جديرةٌ باللوم والتنديد.
يحمل شتال على هِيجِل، ومعه أشهر ممثلي المذهب العقلاني الأوروبي منذ ديكارت —
وهو اتجاه يتكرر ظهوره في الهجمات الأيديولوجية للوطنية الاشتراكية
١٢٦ (النازية)؛ ذلك لأن العقلانية تتصور الدولة والمجتمع على نمط العقل،
وهي في ذلك تضع معايير تؤدي بها حتمًا إلى معارضة «كل حقيقةٍ معطاة وكل سلطةٍ
موجودة». وهي، على حد قوله، تتضمن مبدأ «الحرية الزائفة»، وقد «جرت وراءها كل
الأفكار التي تصل إلى اكتمالها النهائي في الثورة.»
١٢٧ فالعقل لا يرضى أبدًا بالحقيقة «المعطاة»، وهو «يعَضُّ اليد التي تُطعِمه».
١٢٨
ولقد رأى شتال أن أخطر تجسُّد للعقلانية هو نظرية القانون الطبيعي. ولخَّص هذه
النظرية بأنها «المذهب الذي يستمد القانون والدولة من طبيعة الإنسان (الفرد) أو عقله».
١٢٩ ووضع شتال في مقابلها الرأي القائل إن طبيعة الفرد وعقله لا يمكن أن
يصلُحا معيارًا للتنظيم الاجتماعي؛ إذ إن المطالبات المتطرِّفة بالثورة كانت دائمًا
تُقدَّم باسم عقل الفرد؛ فمن المستحيل علينا أن نجعل الحق الطبيعي متفقًا مع الحق
الوضعي المعطى، تمامًا كما يستحيل التوفيق بين الدولة العقلانية عند هِيجِل وبين
الشكل القائم للدولة. وقد أخذ شتال فكرة الحق الطبيعي بمعناها النقدي، وكان يرى
أنها تضفي على الفرد حقوقًا أكثر وأعلى من تلك التي أعطاه إياها الحق الوضعي. ومِنْ
ثَمَّ فقد وضع في مقابل فكرة القانون الطبيعي، الرأي القائل إن «الحق، والحق
الوضعي، تصوُّران مترادفان»، ووضع في مقابل الجدَل الهِيجِلي «السلبي»، فلسفةً
وضعية إيجابية مرتكزة على مبدأ السلطة.
ولقد عرضنا من قبلُ للطريقة التي تقلِّل بها الفلسفة الوضعية من شأن العقل،
وذكَرنا أن منهج هذه الفلسفة ينطوي على قبولٍ حقيقي للقوى الموجودة فعلًا. وقد
أيَّدَت أعمال شتال هذا الرأي؛ فهو يأخذ بالوضعية عن وعي،
١٣٠ وتدفَعه الرغبة إلى «إنقاذ قيمة الوضعي، العيني، الفردي، وقيمة الوقائع.»
١٣١ وهو يَعيب على فلسفة هِيجِل عجزَها المزعوم عن تفسير الوقائع الخاصة
التي تكون مجال الواقع.
١٣٢ فانشغال هِيجِل الدائم بالكلي لم يُتِحْ له أبدًا فرصة الوصول إلى
المضمونات الفردية للمعطى الموجود، التي هي مضموناته الحقيقية.
ويحبِّذ شتال «تحويلًا لطبيعة العلم»
١٣٣ يُقصد به التحوُّل إلى الوضعية — أو على وجه التحديد شكل معيَّن من
أشكالها، تمثِّله، في رأي شتال، فلسفة شلنج الوضعية.
١٣٤ وهو يمتدح شلنج لأنه أكد حق العنصر «التاريخي» ضد العنصر «المنطقي،
الذي هو لا زماني، خالٍ من الفاعلية.»
١٣٥ فكل ما نما في التاريخ، من باطن الحياة الأزلية للأمة، وكل ما يضمنه
التراث، له حقيقةٌ خاصة به، ليست مسئولةً أمام العقل. ويفسِّر شتال شلنج من خلال
«المدرسة التاريخية»، التي كانت قد استخدَمَت السلطة الخاصة للمعطَى من أجل تبرير
الحق الوضعي القائم. وكان سافيني
F. K. von Savigny قد كتب، في المقال الذي قدَّم فيه برنامج هذه «المدرسة
التاريخية» (١٨١٤م)، يقول: «لا يمكن أن يكون هناك اختيار بين الخير والشر، وكان
قبول ما هو موجود خيرًا، على حين أن رفضه شر، وممكن في الآن نفسه، بل الأصح أن رفض
ما هو موجود مستحيلٌ بمعنى الكلمة؛ فالموجود يسيطر علينا سيطرةً محتومة، وقد نكون
على خطأ بشأنه، ولكنا لا نستطيع أن نغيِّره.»
١٣٦ فالقانون السائد، وكذلك المجموعة الكاملة من الحقوق، هي جزء من
«الحياة العامة للشعب
Volk»، نما به الشعب
طبيعيًّا طوال التاريخ، ولا يمكن أن يصبح القانون والحق خاضعَين للمعايير النقدية
للعقل. وقد رفضَت النظرية التاريخية لسافيني، كما فعلَت الوضعية فيما بعدُ،
«الفلسفة السلبية» للمذهب العقلاني (ولا سيَّما نظرية القانون الطبيعي)، زاعمةً أن
هذه الفلسفة معاديةٌ للنظام القائم. كذلك فإنها شاركَت علم الاجتماع الوضعي اللاحق
ميله إلى تفسير العمليات الاجتماعية من خلال العمليات الطبيعية؛ فكل شيء في حياة
المجتمع كائنٌ عضوي، وكل كائنٍ عضويٍّ خيرٌ وحقٌّ في ذاته. وقد وصف شلنج النظام
القانوني بأنه «نظامٌ طبيعي»، وبأنه «طبيعةٌ ثانية»، إن جاز التعبير، وحمل على كل
محاولات تغييره تمشيًا مع صالح الحرية. «إن النظام القانوني ليس نظامًا أخلاقيًّا،
بل هو نظامٌ طبيعي ليس للحرية سلطة أو سلطان عليه، مثلما أنها لا تملك سلطة على
الطبيعة الحسية؛ لذلك فليس من المستغرب أن تظهر جميع المحاولات الرامية إلى جعل
النظام القانوني نظامًا أخلاقيًّا في صورةٍ ممتنعة، ويتجلى فيها أفظع أنواع الطغيان
الذي يترتب عليها مباشرةً.»
١٣٧ وهكذا كان المقصود من الزعم بأن الطبيعة تطغى على المجتمع، هو أن يكون
مقابلًا لدعوة «الإرادة العاقلة» إلى تغيير الأشكال الموجودة للمجتمع وَفقًا لمصلحة
الأفراد الأحرار.
وقد ضمَّن شتال مبادئ المدارس «الطبيعية» في فلسفته الوضعية، بغرضٍ صريح هو
استخدامها مبادئ للتبرير. ولم يتردَّد في أن يؤكد، في بداية كتابه، أن وظيفة فلسفته
هي حماية أوضاعٍ قائمة.
«لقد ظلت الفلسفة، طوال قرن ونصف، تقيم السلطة والزواج والملكية، لا على أساس
الأمر الإلهي، بل على أساس إرادة الإنسان وموافقته. وسارت الشعوب على هذه النظرية،
فتحدَّت حكامها، كما تحدَّت النظام التاريخي، وثارت آخر الأمر على نظام الملكية العادل.»
١٣٨ وهو يرى أن أية فلسفة «تستمد العالم الطبيعي والأخلاقي من العقل
البشري؛ أي من قوانين الفكر وصفاته»
١٣٩ تهدم النظام القائم وتستحق الفناء. أمَّا الفلسفة الوضعية التي ستحل
محلها فإنها «ستحرص على الامتثال للنظام والسلطة، كما دعا إليهما الله من أجل حكم
الناس، وكذلك لكل الحقوق والأوضاع التي أصبَحَت مشروعة بفضل إرادته الإلهية.»
١٤٠ وهكذا يعود لفْظَا النظام والسلطة، اللذان كانا أساسيَّين في وضعية
كُونْت، إلى الظهور في فلسفة شتال السياسية؛ فهو بدَوره قد عرض خدماته الأيديولوجية
على السلطات الحاكمة، على نحوٍ لا يقل إصرارًا عما فعل كُونْت.
ولقد كان شتال حساسًا بوجهٍ خاص في موضوع تبرير الملكية؛ فهو يتساءل: «هل ينبغي
أن نتخلى عن السؤال: ما المَلكية، لأنصار برودون؟»
١٤١ إن المَلكية لو لم تكن تستمد حقها إلا من إرادة الإنسان، كما تزعم
العقلانية، لترتَّب على ذلك بالضرورة «أن الشيوعية على حق في مقابل فلسفة الحق التي
وُضعَت منذ أيام جروتيوس حتى هِيجِل … ولكانت على حق أيضًا مقابل مجتمع اليوم.»
١٤٢ ولكن من الواجب إبعاد نظام المَلكية، وكل نسق العلاقات الاجتماعية
والسياسية، عن أية معالجةٍ عقلانية، وتبريره على أساسٍ أمتن. وهكذا تهدف فلسفة شتال
السياسية إلى أن تصوُّر معطيات النظام الاجتماعي القائم على أنها معطيات واقعٍ
حقيقي عادل، والمنهج الذي تتبعه هو إرغام العقل البشري والإرادة البشرية على إطاعة
سلطة هذه المعطيات.
ولن نطيل الكلام عن هذا المنهج؛ فقوامه أساسًا إرجاع النظام الاجتماعي والسياسي،
بطرقٍ مباشرة أو غير مباشرة، إلى الأمر الإلهي. وكلما كانت المسألة موضوع البحث
أشدَّ حيوية، كانت تُستمد من هذا الأمر على نحوٍ أقرب إلى الطابع المباشر؛ «فتوزيع
الثروة» هو شيء «قضى به الأمر الإلهي».
١٤٣ ونُظم المجتمع مبنية على «تنظيم الله لعالم البشر.»
١٤٤ واللامساواة الاجتماعية إرادة الله: «لا بد أن يكون هناك حقٌّ مختلف
لكل رجل وامرأة وطفل، وللعامل الجاهل الذي يمثِّل أمام القانون صاحب الأرض الذي لا
يخضع للمحاكمة. ولا بد أن يختلف الحق وفقًا لرسالة الجنس، والسن، والمركز أو الطبقة.»
١٤٥ وتضُم الدولة وسلطاتها «نظامًا إلهيًّا». وعلى الرغم من أن الناس أحرار
في أن يعيشوا في ظل هذا الدستور أو ذاك «فإن الدولة، بما هي كذلك، ليست أمر الله
فحسب، بل إن للدستور الخاص والسلطات الخاصة في كل مكان، بدَورهما، ضمانًا إلهيًّا.»
١٤٦
ويرتبط هذا المنهج بفلسفةٍ شخصانية
١٤٧ يزداد خبثها ظهورًا إذا أدركنا أنها تنطوي على الأفكار التقدمية
لعقلانية الطبقة الوسطى، مع تفسيرها في سياقٍ لا عقلي؛ فهو يمجِّد «الشخصية» بوصفها
«وجودًا أصليًّا» و«تصورًا أصليًّا».
١٤٨ والعالم المخلوق في رأيه يبلغ قمَّته في وجود الشخصية؛ فهذه الأخيرة
«غاية مطقة»، وهي صاحبة «الحق الأصلي».
١٤٩ هذا المبدأ يعطي شتال فكرته عن النزعة الإنسانية
humanitarianism، أعني أن «رفاهية كل فرد وحقه
وشرفه، حتى أدنى الأفراد مرتبة، أمر يجب أن يحرص عليه المجتمع، وأن كل شخص ينبغي أن
يُراعى، ويُحمى، ويُكرم، ويُعامل وفقًا لشخصيته، دونما تمييزٍ على أساس الأصل أو
العرق أو الطبقة أو الموهبة …»
١٥٠ على أن هذه الأفكار التقدمية تتخذ، في الإطار المضادِّ للعقلانية، الذي
تمثِّله فلسفة شتال، عكس معناها الأصلي؛ فإشعاع الشخصية يطغى على الوقائع القائمة
للنظام الاجتماعي، ويجعلها تبدو كأنها مجموع من العلاقات الشخصية التي تنبثق عن شخص
الإله، وتنتهي — على الأرض — في شخص الملك الحاكم؛ فالدولة والمجتمع، اللذان
تُسيطِر عليهما في الواقع علاقاتُ القوة وتحكُمهما القوانينُ الاقتصادية، يبدوان
مملكةً معنوية تحكمها قوانينُ وحقوقٌ وواجباتٌ أخلاقية. ويبدو عهد عودة المَلكية
كأنه عالم هدفه النهوض بالشخصية الإنسانية.
والحق أن شخصانية شتال غير الناضجة توضِّح حقيقةً حاسمة عن الفلسفة الحديثة، وهي
أن وجهة النظر العينية كثيرًا ما تكون أبعدَ عن الحقيقة من وجهة النظر المجرَّدة؛
فقد شهد رد الفعل على المثالية الألمانية اتجاهًا عقليًّا متزايد القوة إلى مزج
الفلسفة مع عينية الحياة الواقعية. وكان ردُّ الفعل هذا يطالب بأن يحلَّ الموقع
العيني للإنسان في الوجود محلَّ التصوُّرات المجردة في الفلسفة، ويصبح معيارًا
للفكر. ولكن عندما ينمُّ وجود الإنسان العيني عن نظامٍ لا عقلي، فإن التشهير بالفكر
المجرَّد، والاستسلام «للعيني»، يعني استسلام الدوافع النقدية في الفلسفة، وتهاوي
قدرتها على معارضة الواقع اللاعقلي.
لقد قدَّم شتال نظريته في «الشخصية العينية» بوصفها بديلًا عن الكلية التجريدية
عند هِيجِل؛ فجوهر العالم عنده هو الشخصية في وجودها العيني، لا العقل. ومع ذلك فقد
ظهرَت لديه نزعةٌ كلية
universalism أخطر بكثير من
نزعة هِيجِل؛ ذلك لأن مجموع مظاهر اللامساواة والفوارق الموجودة في الواقع
الاجتماعي والسياسي القائم قد وُضعَت وأُكدَت مباشرة في الشخصية؛ فللشخصية وجودها
العيني في علاقات الخضوع والسيطرة الخاصة التي تسري على الواقع الاجتماعي، على حين
أن الشخصية كانت، في تقسيم العمل الاجتماعي، شيئًا ينبغي أن يحكم. وفي رأي شتال أن
مظاهر اللامساواة هذه كلها تنتمي إلى طبيعة الشخصية، ولا يجوز الاعتراض عليها؛
فالمساواة بين الناس «لا تستبعد الفوارق والمراتب، واللامساواة في الحقوق الفعلية،
بل واللامساواة في المركز القانوني.»
١٥١
•••
وسوف نكتفي الآن بالإشارة إلى الاتجاهات الأساسية في فلسفة شتال الوضعية كما
طبَّقها على الدولة؛ فالمبدأ الشخصاني في الكون يتضمَّن أن كل سيطرة لها «طابعٌ
شخصي»؛ أي إن لها طابع السلطة الشخصية الواعية؛ ففي المجال المدني تتمثل السيطرة في
مختلف مظاهر القوة التي يملكها الكائن العضوي للدولة، والتي تنبثق عن «الشخصية
الطبيعية» للملك وتتركَّز حوله.
١٥٢ والدولة أساسًا مَلكية. صحيحٌ أنها قد تتخذ شكل حكومةٍ نيابية، ولكن
سيادة المَلِك، على أية حال، ينبغي أن تعلو على مختلف الطبقات.
١٥٣
ويقبل شتال الفصل الذي قال به هِيجِل بين الدولة والمجتمع، ولكنه يجعله أقلَّ
حدَّة بكثير؛ إذ يفسِّر كل العلاقات الاجتماعية على أنها علاقاتٌ «أخلاقية»، وهو
يحبِّذ أن تمارس الدولة تنظيمًا واسعَ المدى للاقتصاد، ويعارض إعطاء حريةٍ غيرِ
محدودة للتجارة الداخلية والخارجية.
١٥٤ فالدولة عنده «وحدةٌ للشعب في ظل سلطة».
١٥٥ والدولة بوصفها عالمًا أخلاقيًّا، لها هذا الهدف المزدوج: «فهناك، من
جهة، السيطرة بما هي كذلك، أعني غاية سيادة السلطة بين الناس»، ومن جهةٍ أخرى
«حماية الناس وتحسين أحوالهم، والنهوض بالأمة، وتنفيذ الأمر الإلهي.»
١٥٦
والدولة عنده لا تعود مقيَّدة بمصلحة الفرد، بل هي «قوة وذات تسبق أعضاءها
الأفراد وتعلو عليهم.» والسلطة هي القوة التي تربط العلاقات الاجتماعية والسياسية، في
نهاية
المطاف، بالكل. ويؤدي النظام كله عملَه عن طريق الطاعة، والواجب، والامتثال. «إن كل
سيطرة تنطوي على قَبولٍ لتفكير الحاكم وإرادته في حياة المحكومين.»
١٥٧ وهذا استباقٌ مُلفِتٌ للنظر، لنمط الشخصية الذي تدعو إليه الدولة
التسلطية الحديثة وتعمل على تشكيله. ولو كان هِيجِل قد اطَّلع على عبارة كهذه
لعدَّها شيئًا مخيفًا؛ إذ إن تسليم التفكير الفردي والإرادة الفردية لتفكير وإرادة
سلطةٍ خارجيةٍ ما، هو أمرٌ يتنافَى مع جميع مبادئ نزعته العقلانية المثالية.
ويفصل شتال الدولة تمامًا عن أي ارتباط بالاستقلال الذاتي لأفرادها؛ فالدولة
والمجتمع «لا يمكن أن ينشآ منهم أو يعتمدَا عليهم»، بل إن حفظها يقتضي قوةً ترتكز
على النظام الآمر وحده، وتكون مستقلة عن إرادة الأفراد، بل «متعارضة معها، تُفرض
عليها من الخارج.»
١٥٨ وهو يستعيض عن العقل بالطاعة، التي تصبح «الدافع الأوَّل الذي لا يُنكر
والأساس الأصلي، لكل أخلاق.»
١٥٩ وهكذا يتخلى عن الفلسفة الليبرالية حتى قبل أن يصبح الأساسُ الاجتماعي
والاقتصادي لليبرالية حقيقةً واقعة.
وعلى حين أن الاقتصاديين الاجتماعيين الفرنسيين استطاعوا أن يرَوا في تقدُّم
الرأسمالية الصناعية تحديًا يقتضي تغيير العلاقات الاجتماعية والسياسة القائمة،
وتحويلها إلى نظام يمكنه أن يُنمِّيَ إمكانات الفرد، فإن المفكرين من أمثال شتال
وجدوا لزامًا عليهم أن يشغلوا أنفسهم بإنقاذ نظامٍ متجه إلى الماضي، وإلى نوع من
التسلسل الأزلي الثابت في المراتب؛ ومِن ثَمَّ فإن شتال عندما ينقُد عملية العمل
السائدة — أي عندما يبدو، مثلًا، مرتاعًا من «مصيبة نظم المصانع والإنتاج الآلي»
١٦٠ — ويشير في هذا الصدد إلى سيسموندي، فإنه يعجز تمامًا عن استخلاص أية
نتائج من ملاحظاته هذه؛ فالدولة والمجتمع يظلان مقيَّدَين بالأمر الإلهي والتراث
التاريخي. وهما يُوجَدان على النحو الذي ينبغي أن يُوجَدا به.
١٦١ و«الشعب» طائفةٌ أقوى من كل تفاوتٍ طبقي؛ فالمجتمع الشعبي
Volksgemeinschaft حقيقةٌ واقعة،
والجماعة، لا الفرد، هي الموضوع النهائي للحق … «إن الشعب
Volk وحده هو الذي لديه وحدة النظرة إلى الحياة
Lebensanschauung وبذرة الإنتاج الخلَّاق.»
١٦٢ والتراث والعرف اللذان تأصَّلا في الشعب هما مصدرُ الحق. أمَّا سعي
الفرد إلى الحرية والسعادة، فإن شتال يحوِّله إلى مجرًى آخر، هو الجماعة اللاعقلية،
التي هي دائمًا على حق؛ فما نبت وحُفظ في النمو «الطبيعي» للتاريخ صحيحٌ في ذاته.
«إن الإنسان ليس كائنًا حُرًّا بالمعنى المطلَق، بل هو كائنٌ مخلوق ومحدود؛ ومن هنا
فهو معتمد على القوة التي أعطته الوجود، وعلى نظام الحياة القائم والسلطات القائمة
التي تسمح هذه القوة بوجودها من خلالها؛ لذلك فإن للسلطات قدرةً كاملة عليه، حتى
دون رغبته.»
١٦٣
إن فلسفة شتال تتجلى، في جميع مظاهرها، على صورة فلسفة تخلت عن الأفكار التقدمية
التي حاول مذهب هِيجِل أن يحتفظ بها للمجتمع الذي ظهرَت هذه الأفكار فيه، والذي
تنكَّر لها فيما بعدُ؛ فالسلطة أصبَحَت تحل محل العقل، والخضوع محل الحرية، والواجب
محل الحق. وأصبح الفرد يُوضع تحت رحمة الادعاءات المطلَقة لكل يتخذ صبغةً متجسدة،
وهكذا فإن فلسفة الحق عند شتال قد جمعَت بعضًا من الأفكار الأساسية التي كان لها
دور التوجيه في الإعداد للأيديولوجية الاشتراكية الوطنية (النازية)؛ تلك هي النتائج
التي تؤدي إليها «الفلسفة الوضعية» التي أرادت أن تحل محل الفلسفة السلبية عند
هِيجِل.
(٥) تحويل الجدَل إلى علم الاجتماع: لورنتس فون شتاين
ما زال أمامنا أن نبحث التأثير الهام الذي مارسَته الفلسفة الهِيجِلية على
النظرية الاجتماعية عند لورنتس فون
شتاين Lorenz von Stein. ولقد كانت أعمال شتاين معروفة لماركس وإنجلز، اللذَين
انتقداها في كتاباتهما السابقة على «البيان الشيوعي». وقد ثار بعض الخلاف حول مسألة
ما إذا كانا قد أخذا بأفكار شتاين في نظريتهما الخاصة، وإلى أي مدًى أخذا بها، على
أن هذه مشكلة لا تهمُّنا في هذا المجال؛ فهي تبدو غير ذات موضوع نظرًا إلى أن بناء
النظرية الماركسية وأهدافها مختلفان تمامَ الاختلاف عن بناء علم الاجتماع عند شتاين
وأهدافه.
لقد كان تأثير أعمال شتاين في تطور النظرية الاجتماعية طفيفًا؛ إذ كان يُنظر إليه
على أنه مؤرخ للثورة الفرنسية وللنظريات الاجتماعية الفرنسية، أكثر من كونه مفكرًا
نظريًّا. ولم تتضمن الطبعة الأولى لكتابه: «الاشتراكية والشيوعية في فرنسا اليوم
Der Sozialismus und Communismus des heutigen
Frankreichs»، التي نُشرت عام ١٨٤٢م إلا إشاراتٍ ضئيلة إلى
مفاهيمه السوسيولوجية. غير أن طبعة ١٨٥٠م، التي نُشرَت في ثلاثة مجلَّدات تحت عنوان
«تاريخ الحركة الاجتماعية في فرنسا من ١٧٨٩م حتى يومنا هذا
١٦٤Geschichte der sozialen Bewegung in Frankreich von 1789 bis aug
unsere Tage تقدِّم عرضًا مفصَّلًا لهذه المفاهيم. وتبحث
المقدِّمة الطويلة في «مفهوم المجتمع وقوانين الحركة الاجتماعية». وهي تمثِّل أول
دراسةٍ ألمانية في علم الاجتماع.
ونحن نستخدم لفظ «علم الاجتماع» بمعناه الدقيق، الذي يدُل على معالجة النظرية
الاجتماعية بوصفها علمًا خاصًّا، له موضوعه الخاص، وإطاره التصوُّري ومنهجه الخاص؛
فهنا يُنظر إلى النظرية الاجتماعية على أنها «عِلم المجتمع» الذي يبحث فيما بين
الناس من علاقاتٍ تحمل الطابع الاجتماعي على التخصيص، وفي القوانين أو الاتجاهات
التي تؤثِّر فيها.
١٦٥ وهذا يعني أن أمثال هذه العلاقات «الاجتماعية» يمكن أن تميَّز من
العلاقات المادية، أو الاقتصادية، أو السياسية، أو الدينية، وإن كان من الجائز أنها
لا تحدث أبدًا بدون هذه الأخيرة؛ فعلم الاجتماع، بوصفه علمًا خاصًّا، يترك عددًا
كبيرًا من المشكلات الاجتماعية لكي تعالجه العلوم الأخرى المتخصصة، وإن كان «يختص
بالدراسة العامة للمجتمع». «وهكذا فإن مشكلات مثل إنتاج الثروة وتوزيعها، والتعريفة
الجمركية والتجارة الدولية والاستثمار، تُعالَج بواسطة علم الاقتصاد».
١٦٦ وهناك مجموعةٌ أخرى من المشكلات الاجتماعية تُحوَّل إلى علومٍ أخرى
متخصصة، كالعلوم السياسية، والتربية. والأهم من ذلك كله أن الارتباط ينفصم تمامًا
بين علم الاجتماع وبين الفلسفة.
ومن الواجب عدم الخلط بين تحرُّر علم الاجتماع من الفلسفة وبين «إنكار الفلسفة»
و«إخراجها إلى حيز الواقع»، كما يحدث في النظرية الاجتماعية الماركسية؛ ذلك لأن علم
الاجتماع لا «ينكر» الفلسفة، بمعنى استيعاب المضمون الخفي للفلسفة ونقله إلى
النظرية الاجتماعية والعمل الاجتماعي، بل هو يجعل لنفسه مجالًا خاصًّا به، منعزلًا
عن الفلسفة، له نطاقه الخاص وحقيقته الخاصة. ولقد وُصف كُونْت عن حقٍّ بأنه أول من
استحدث هذا الفصل بين الفلسفة وعلم الاجتماع. صحيحٌ أن كُونْت ومفكِّرين آخرين من
نفس التراث قد أقاموا معادلةً شكلية بين نظريتهم الاجتماعية والفلسفة؛ فجون ستوارت
مل قد لخص نظرياته في منطق العلم الاجتماعي داخل إطار منطقٍ عامٍّ شامل، وسبنسر جعل
من مبادئ علم الاجتماع جزءًا من مذهبه في الفلسفة التركيبية، ولكن هذَين المفكرَين
غيَّرا من معنى الفلسفة لكي يجعلاها مختلفة كل الاختلاف عن تلك الفلسفة التي
تولَّدَت عنها النظرية الاجتماعية في الأصل؛ فالفلسفة كانت في نظر هذَين المفكرَين
مجرد مركبٍ جامع بين التصوُّرات والمبادئ الأساسية المستخدمة في العلوم المتخصِّصة
(وهي الرياضة والفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلم الاجتماع عند كُونْت،
والبيولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع والأخلاق عند سبنسر). والدراسة الجامعة
الرابطة لهذه العلوم كانت «فلسفية» بفضل طابعها الوضعي العام، وتفنيدها لكل الأفكار
الترنسندنتالية. وهكذا فإن مثل هذه الفلسفة كانت تعني في واقع الأمر تفنيدًا
للفلسفة.
وللاتجاه المعادي للفلسفة في علم الاجتماع دلالةٌ بالغة؛ فقد رأينا أن المجتمع،
عند كُونْت، أصبح موضوعًا لميدانٍ مستقل من ميادين البحث؛ فلم تعُد العلاقات
الاجتماعية والقوانين التي تحكمها تُستمد — كما كانت في مذهب هِيجِل — من ماهية
الفرد، ولم تعُد تحلَّل وفقًا لمعايير مثل العقل، والحرية، والحق، بل إن هذه
المعايير الأخيرة أصبحَت تبدو الآن غير علمية، وأصبح منهج علم الاجتماع موجهًا نحو
وصف الوقائع القابلة للملاحظة، وإيجاد تعميماتٍ تجريبية بينها. وعلى عكس النظرة
الجدَلية، التي كانت ترى العالم «كلًّا ذا طابعٍ سلبي»؛ وبالتالي كانت في أساسها
نقدية، كان منهج علم الاجتماع في أساسه محايدًا، يتأمل المجتمع على نفس النحو الذي
يتأمل عليه علم الفيزياء الطبيعية.
وقد أصبح علم الاجتماع، منذ كُونْت، يتخذ من العلوم الطبيعية أنموذجًا يُحاكيه.
وهو لا يُعد علمًا إلا بالقدْر الذي يكون به موضوعه قابلًا لنفس المعالجة المحايدة
التي تُعالج بها العلوم الدقيقة. ولا يزال وصف جون ستوارت مل لعلم المجتمع مميزًا
لتطوره التالي؛ فقد قال مل:
«هذا العلم تربطه بالكيان الاجتماعي نفس العلاقة التي تربط علم التشريح
وعلم وظائف الأعضاء بالجسم المادي؛ فهو يبيِّن ما هي المبادئ الموجودة في
طبيعة الإنسان، والتي تدفع الإنسان إلى الدخول في حالةٍ اجتماعية، وكيف أن
هذه السمة تؤثِّر في اهتماماته ومشاعره، وتؤثِّر من خلال هذه الأخيرة في
سلوكه، وكيف أن التجمع يتجه باطراد إلى المزيد من التوثُّق، والتعاون يمتد
إلى أغراضٍ متزايدة على الدوام، وما هي هذه الأغراض، وما أنواع الوسائل
التي يشيع استخدامها أكثر من غيرها في سبيل تحقيقها، وما العلاقات المختلفة
التي تقوم بين الناس بوصفها نتيجةً طبيعيةً للاتحاد الاجتماعي، وما
العلاقات التي تختلف باختلاف حالة المجتمع، وما تأثير كلٍّ منها في سلوك
الإنسان وشخصيته».
١٦٧
وتبعًا لهذا الوصف لا يجوز، من حيث المبدأ، التمييز بين علم المجتمع وبين العلم
الطبيعي. صحيحٌ أن الظواهر الاجتماعية لها درجةٌ أقل من «الدقة»، بالقياس إلى
الظواهر الطبيعية، وأنها أصعبُ منها تصنيفًا، ولكن من الممكن إخضاعها لمعيار الدقة
ولمبادئ التعميم والتصنيف؛ ولهذا السبب كانت نظرية المجتمع علمًا حقيقيًّا.
١٦٨ وفضلًا عن ذلك فإن علم الاجتماع يشترك مع العلوم الدقيقة الأخرى في أنه
ينتقل من جمع الوقائع إلى تصنيفها بنجاح؛ هذا هو المبدأ الذي يسير تبعًا له. «إن كل
معرفة لا تنظَّم منهجيًّا وفقًا لهذا المبدأ ينبغي أن تُستبعد من مجال علم المجتمع.»
١٦٩
على أن المبادئ التي تجعل من علم الاجتماع علمًا خاصًّا، هي نفسها التي تفصل بينه
وبين النظرية الجدَلية في المجتمع؛ ففي هذه الأخيرة يكون تعميم الوقائع وتصنيفها،
على أحسن الفروض، عملًا لا صلة له بالمطلوب. وكيف تكون لهذا الإجراء أية صلة
بالحقيقة، إذا كان ينظر إلى كل الوقائع على أنها تتكون عن طريق البناء الفريد للكل
الاجتماعي وحركته، وهما البناء والحركة اللذان قامت الاتجاهات المتغيرة للسلوك
الفعلي الإنساني طوال التاريخ بدورٍ أساسي فيهما؟ لقد أكَّدَت النظرية الجدَلية
للمجتمع الإمكانات والمتناقضات الأساسية داخل هذا الكل الاجتماعي، وأوضحَت بذلك ما
ينبغي عمله بالمجتمع، وكشفَت أيضًا عن نقص صورته الراهنة. ولم يكن الحياد العلمي
يتمشَّى مع طبيعة الموضوع ومع توجيهات السلوك الإنساني التي تُستمد من تحليلها.
وفضلًا عن ذلك فإن النظرية الاجتماعية الجدَلية لم يكن من الممكن أن تكون علمًا
خاصًّا بين بقية العلوم؛ لأنها كانت ترى أن العلاقات الاجتماعية تضُم كل مجالات
الفكر والوجود وتتحكَّم فيها؛ فالمجتمع هو المجموع السالب لكل العلاقات الإنسانية
القائمة (وضمنها العلاقات مع الطبيعة)، وليس أي جزء منها؛ لهذه الأسباب كان الجدَل
منهجًا فلسفيًّا لا سوسيولوجيًّا، أعني منهجًا تسري فيه كل فكرةٍ جدَليةٍ واحدة على
الكل السلبي بأكمله؛ ومِن ثَمَّ فهو يتعارض مع أي اقتطاعٍ لمجالٍ خاص من العلاقات
الاجتماعية.
ولقد كان لزامًا على أية محاولة لبناء علم الاجتماع أن تبدأ بتفنيد الادعاء
الجدَلي، كما فعل «شتال»، أو تعزل نفسها عن أساسه الفلسفي كما فعل فون شتاين، الذي
حوَّل القوانين والمفاهيم الجدَلية إلى قوانينَ ومفاهيمَ سوسيولوجية. وقد وصف فون
شتاين عمله بأنه «أول محاولة لإقامة مفهوم المجتمع بوصفه مفهومًا مستقلًّا، وللبحث
بالتفصيل عن مضمونه.»
١٧٠ ولقد كانت «فلسفة الحق» عند هِيجِل قد كشفَت المتناقضات الهدامة
الموجودة داخل المجتمع المدني (الأقسام ٢٤٣–٦) بوصفها نواتجَ حتميةً لهذا النظام
الاجتماعي. وبطبيعة الحال فإن اتجاه الاهتمام الهِيجِلي قد أضعف من قوة المتناقضات
الاجتماعية؛ إذ فسَّرها على أنها متناقضاتٌ أنطولوجية. ومع ذلك فإن الجدَل
الهِيجِلي قد وضع «قانونًا طبيعيًّا» لا يختلف للتاريخ، ولكنه أشار بوضوحٍ تامٍّ
إلى أن طريق العمل التاريخي للإنسان يكمُن في اتجاه الحرية. أمَّا الحركة الجدَلية
للمجتمع المدني في أعمال فون شتاين فتبدو أقربَ بكثير إلى أن تكون حركةً للأشياء
(رأس المال، الملكية، العمل) منها إلى أن تكون حركةً للناس؛ فالتطور الاجتماعي
محكوم بقوانينَ طبيعية، لا بالعمل الإنساني. ويرى فون شتاين أن هذا الوضع ليس
نتاجًا لعمليات التشيؤ الرأسمالية، بل هو الحالة «الطبيعية» للمجتمع الحديث. وهو
يفهم التشيؤ على أنه قانونٌ كلي، يتعيَّن على النظرية والعمل الاجتماعيَّين أن
يمتثلا له بالضرورة، وبذلك يصبح الجدَل جزءًا من دراسةٍ موضوعيةٍ محايدةٍ
للمجتمع.
على أنه، نظرًا إلى الظروف التي ظهرَت فيها أعمال فون شتاين، فإن هذه الاتجاهات
الحيادية قد عوض تأثيرها إلى حدٍّ بعيد؛ فقد كان شتاين على أية حال، يسترشد بدراسته
للصراع الاجتماعي في فرنسا بعد الثورة، وأبدى اهتمامًا كبيرًا بالنقاد والمفكرين
النظريين الفرنسيين الاجتماعيين في هذه الفترة. وقد دفعَته هذه النظرة التاريخية
العينية إلى القول بأن العملية الاقتصادية أساسيةٌ للعملية الاجتماعية والسياسية،
وأن الصراع الطبقي هو المضمون الحقيقي الذي يدور حوله المجتمع، فأدرك واعترف وقتًا
ما بأن المتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها في المجتمع الحديث هي المحرك
لتطوُّره، وبذلك انضم إلى التحليل الجدَلي الهِيجِلي للمجتمع، ولكن كان من الضروري
التخلي عن هذا التركيز على المتناقضات داخل العملية الاقتصادية إذا ما أُريد لعلم
الاجتماع أن يكون علمًا موضوعيًّا مأمونًا؛ ومن هنا فإن فون شتاين ذاته قد تخلَّى
عن موقفه السابق؛ فمنذ عام ١٥٨٢م كَفَّ عن محاولة بناء نظريةٍ اجتماعية على أساس
الاقتصاد السياسي.
«من المعروف أن علم المجتمع بأَسْره قد ظهر أصلًا من دراسة التعارض الاقتصادي
الذي أحدثه الاستغلال والتنافس بين الطبقة الرابعة بوجهٍ خاص؛ أي العمل المحروم من
رأس المال، وبين مالكي رأس المال. وقد أدَّت هذه الحقيقة إلى نتيجة بدت بالفعل
واضحةً كل الوضوح، ولكنها جلبَت بالضرورة خطرًا كبيرًا على الأسس الأعمق لهذا
العلم. ولا يستطيع كاتب هذه السطور أن ينكر أنه هو ذاته قد أسهم بدورٍ كبير في
الدعوة إلى قبول هذه النتيجة؛ ذلك لأنه كان يفترض أنه لما كان الشكل الحال
(للمجتمع) يتحدد أساسًا بالعلاقات الاقتصادية، فإن النظام الاجتماعي في ذاته لا
يمكن أن يكون إلا نسخةً من النظام الاقتصادي، إن جاز التعبير … وترتَّب على هذا
الرأي رأيٌ آخر يقول إن الحركة الكاملة للمجتمع لا تحكُمها بدورها إلا القوانين
التي تتحكَّم في الحياة الاقتصادية؛ بحيث يردُّ علم المجتمع بأكمله آخر الأمر إلى
مجرد انعكاسٍ للقوانين والتطوُّرات الاقتصادية.»
١٧١
هذا التصريح يتضمَّن القول بأن إقامة علم الاجتماع بوصفه علمًا حقيقيًّا تقتضي
إلغاء أساسه الاقتصادي. ومنذ ذلك الحين أخذ علم الاجتماع عند شتاين على عاتقه أن
يدافع عن الانسجام الاجتماعي في وجه المتناقضات الاقتصادية، وعن الأخلاق في وجه
الصراعات الاجتماعية.
وفي عام ١٨٥٦م نشر شتاين كتابه «نظرية
المجتمع
Gessellschaftslehre». وقد بدأ الكتاب بتأسيس «أخلاق اجتماعية»، وانتهى الأخير
«بمبادئ الانسجام الاجتماعي»، مبيِّنًا أن «المراتب والطبقات المختلفة للمجتمع
ترتبط سويًّا؛ بحيث يُكمل كلٌّ منها الآخر ويحقِّقه.»
١٧٢
على أننا، بدلًا من معالجة مذهب علم الاجتماع الأخير عن فون شتاين، سنقتصر على
تقديم عرضٍ موجز لأسس علم الاجتماع عنده،
١٧٣ كما عرضها في مقدمة كتابه: تاريخ الحركة
الاجتماعية في فرنسا
Geschichte der sozialen Bewegung in Frankreich؛
١٧٤ ففي مقدمة طبعة عام ١٨٥٠م يتقدم المؤلف بافتراضٍ أساسي بالنسبة إلى علم
المجتمع الجديد، هو أن الحركة (الدينامية) الاجتماعية يحكمها قانونٌ ضروري تنحصر
مهمة علم الاجتماع في اكتشافه. ويقول شتاين إن من الممكِن التعبير عن هذا القانون
في أعم صوره بالقول إنه صراعُ الطبقة الحاكمة من أجل اكتساب السلطة الكاملة في
الدولة، واستبعاد الطبقة الأولى من امتلاك هذه السلطة؛ فقوام العملية الاجتماعية هو
في أساسه الحرب الطبقية بين رأس المال والعمل من أجل السيطرة على الدولة.
١٧٥
والواقع أن التضاد بين الدولة والمجتمع هو الفكرة الأساسية في علم الاجتماع عند
شتاين؛ ففي الدولة والمجتمع تتجسَّد مبادئ مختلفة كل الاختلاف؛ ذلك لأن المجتمع هو
«الوحدة العضوية لحياة الإنسان كما يتحكم فيها توزيع الثروة، وكما ينظِّمها الطابع
العضوي للعمل، ويحرِّكها نسق الحاجات، وتربطها الأسرة وحقوقها بالأجيال المتعاقبة».
١٧٦ ونستطيع أن نلمس، في هذا التعريف، تأثير هِيجِل، وكذلك الاشتراكيين
الفرنسيين الأوائل. وقد استخلص شتاين هَيْكل الفكرة من هِيجِل، ثم كساه بمادةٍ
مستمدة من التحليل النقدي الفرنسي للمجتمع الحديث؛ فالمجتمع أساسًا مجتمعٌ طبقي.
«والعلاقة العامة التي لا تتبدل في المجتمع هي العلاقة بين طبقة مسيطرة وطبقة معتمدة.»
١٧٧ ووجود الطبقات «حقيقةٌ قائمة على نحوٍ لا مفَر منه.»
١٧٨ يرجع أصلها إلى عملية العمل. «إن أولئك الذين يملكون أدوات العمل
بوصفها ملكيةً لهم، يملكون بذلك ما يحتاج إليه مَن ليست لديهم ملكية من أجل
اكتسابها؛ فهؤلاء الأخيرون يعتمدون، في استخدامهم لقوة عملهم، على هذا الشرط
الضروري، وأعني به أدوات العمل، ولما كانت هذه المادة ملكيةً لا يمكن استخدامها إلا
بموافقة الملاك، فيترتَّب على ذلك أن كل مَن لا يملكون شيئًا سوى قوة العمل
معتمدون على أولئك الحائزين على هذه الملكية.»
١٧٩ وهكذا فإن النظام الاجتماعي هو بالضرورة نظامٌ طبقي، وأبرز سماته هي
الأنانية، والميل العام لدى كل فرد إلى اكتساب «وسائل استقلاله الخاص، ووسائل جعل
الآخرين معتمدين عليه.»
١٨٠
وعلى عكس المجتمع، فإن الدولة هي «تجمُّع الإرادات الفردية كلها مرفوعًا إلى
مستوى الوحدة الشخصية.» ومبدأ الدولة هو النمُو، والتقدم والثراء، والقوة، وسيادة
العقل بين الأفراد جميعًا «دون تمييز»؛ بحيث تنظر إلى كل الأفراد على أنهم أحرارٌ متساوون.
١٨١ فالدولة تحمي الصالح العام، والعقل، والحرية، من هجوم المصالح الخاصة
المتعارضة التي تسود المجتمع.
١٨٢
ومما له أهميةٌ قصوى بالنسبة إلى تطور علم الاجتماع، الطريقة التي أدَّى بها
الفصل بين الدولة والمجتمع عند شتاين إلى التخلص من المشكلة الفعلية للنظرية
الاجتماعية الحديثة؛ فالتناقض الطبقي، أوَّلًا، يُعد «قانونًا عامًّا ثابتًا»
للمجتمع، ويُقبل بوصفه «حقيقة حتمية». وعلى الرغم من احتفاظ شتاين بالمصطلح
الهِيجِلي، فإنه يستسلم للاتجاهات الوضعية التوكيدية التي تميَّز بها علم الاجتماع
في مراحله المبكرة. وهو ثانيًا يُلغي التناقضات الأساسية للمجتمع الحديث بتوزيعها
بين مجالَين مختلفَين، هما الدولة والمجتمع؛ فالحرية والمساواة يُحتفظ بهما للدولة،
على حين أن الاستقلال واللامساواة ينسبان إلى «المجتمع»، وبذلك يتحول التناقض
الكامن في المجتمع إلى تعارض بين الدولة والمجتمع. وهو يُعفي المجتمع الحديث من أي
التزام بتحقيق الحرية الإنسانية — إذ إن المسئولية في ذلك تقع على عاتق الدولة. ومن
جهةٍ أخرى فإن الدولة لا تُوجَد إلا بوصفها جائزةً تتصارع عليها الطبقات، وتكون
عاجزةً عن «مقاومة سلطات المجتمع ومطالبه».
١٨٣ وهكذا يبدو أن حل المتعارضات الاجتماعية يرتد إلى المجتمع مرةً
أخرى.
ويعلن شتاين أن عملية الاستعباد والتحرير هي بأَسْرها عملية اجتماعية،
وأن العبودية والحرية مفهومان ينتميان إلى علم الاجتماع؛
١٨٤ فالحرية تعني الاستقلال الاجتماعي، أو مِلكية وسائل كافية تتيح للمرء
أن يتحكم في عمل شخصٍ آخر. والحرية ترتبط ارتباطًا ضروريًّا بالعبودية، والنظام
الاجتماعي نظامٌ طبقي؛ ومِن ثَمَّ فهو متعارض مع الحرية. وهكذا يواجه شتاين المشكلة
الآتية: الدولة هي الميدان الصحيح لتحقيق التجمع الإنساني، ولكنها تقف عاجزة إزاء
المجتمع الطبقي؛ فهذا الأخير، وهو الميدان الفعلي الذي يحقِّق فيه الناس أنفسهم،
«لا يمكن أن يكون حُرًّا، نظرًا إلى مبدئه ذاته.» ومِن ثَمَّ فإن «إمكان التقدم
ينبغي أن يُلتمس في عامل «يعلو على الدولة والمجتمع، ويكون أقوى منهما معًا».»
١٨٥
ويقرر شتاين أن هذا العامل النهائي هو «الشخصية ومصيرها»؛ فالشخصية أقوى من
الدولة أو المجتمع، وهي «أساس التقدم نحو الحرية، ونقطة الارتكاز المؤدية إليها.»
١٨٦ هذه الفكرة هي التي يتمثل فيها تحول شتاين عن القول بوجود أسسٍ
اقتصادية للنظرية الاجتماعية وإنجازاتها؛ فهو يطلع علينا بنظريةٍ مثالية في
الأخلاق. وهو لا يقتصر على إعفاء المجتمع، الذي هو مفتقرٌ إلى الحرية في مبدئه
ذاته، من مسئولية الحرية، بل إنه يُعفِي الدولة بدورها؛ لأنها تقع حتمًا تحت سيطرة
المجتمع. وتؤدي عملية تحويل المفاهيم الفلسفية إلى مفاهيمَ سوسيولوجية إلى تسليم
وجود الإنسان التاريخي للآليات الجامدة للعملية الاجتماعية، على حين أن «مصيره»
وهدفه يصبحان وَقْفًا على شخصيته الأخلاقية. ويصبح الجو مهيَّأً لمعالجة المشكلات
الاجتماعية على طريقة العلم «المتحرِّر من القِيَم».
لقد رأينا أن شتاين ينظر إلى العملية الاجتماعية على أنها صراعٌ بين الدولة
والمجتمع، أو صراعٌ من جانب الطبقة الاجتماعية الحاكمة من أجل اكتساب سلطة الدولة؛
١٨٧ فمبدأ الدولة هو «رفع كل الأفراد إلى مستوى الحرية الكاملة»، ومبدأ
المجتمع هو «إخضاع بعض الأفراد للبعض الآخر.»
١٨٨ والتاريخ في حقيقته هو التجديد الدائم لهذا الصراع على مستوياتٍ
مختلفة، ويحدث تقدُّم التاريخ من خلال ما يترتَّب على ذلك من تغيُّرات في البناء
الاجتماعي.
وينتقل شتاين إلى وضع «القوانين الطبيعية» لهذا التغيُّر. وقد تحدثنا من قبلُ عن
القانون الأوَّل، وهو أن الطبقة الحاكمة تسعى بقدْر استطاعتها إلى تملُّك سلطة
الدولة والانفراد بها.
١٨٩ وبمجرد أن يتم بلوغ هذا الهدف، تبدأ ديناميةٌ جديدة، قوامها بذل
محاولات «لاستخدام سلطة الدولة من أجل تحقيق المصلحة الإيجابية للطبقة الحاكمة.»
١٩٠ ولهذا الاستخدام مراحل تاريخية مختلفة؛ ومِن ثَمَّ فإن هناك درجات
مختلفة، من السيطرة أو العبودية الاجتماعية؛ فالمرحلة الأولى تتميز «بالانتصار
المطلَق للمجتمع على الدولة» أو التوحيد الكامل بين الطبقة الحاكمة وبين «فكرة
الدولة». ويُسَمِّي شتاين هذه المرحلة باسم «المجتمع المطلَق.»
١٩١ وهي تبدأ بتملك طبقة لوسائل العمل، مقترنًا بإخضاعٍ متزايد للطبقات
المحرومة من هذه الوسائل؛ ومن هنا فإن «تطوُّر كل نظامٍ اجتماعي إنما هو حركة تسير
نحو العبودية.»
١٩٢
وكما أن البناء الطبقي للمجتمع هو مصدر العبودية بالضرورة، فإنه بالمثل مصدر تطور
في اتجاه الحرية. وتبدأ هذه العملية في كل مرة تُكمل فيها الطبقة الرأسمالية
تنظيمها للمجتمع وَفقًا لمصالحها الخاصة. ونحن نعلم أن الحرية «تصور اجتماعي»،
«يتوقف على الحصول على المقتنيات» اللازمة لنمو الفرد.
١٩٣ ويترتب على ذلك أن الطبقة الخاضعة ستبذل جهدها من أجل امتلاك الوسائل
اللازمة لإشباع حاجاتها المعنوية والمادية. وستطالب هذه الطبقة: (١) بعمومية
التعليم والمساواة فيه، (٢) وبالحرية المادية؛ أي فرصة الحصول على مِلكية.
١٩٤ وسوف يتعارض هذا المطلب الأخير مع مصلحة النظام القائم؛ أي مع المصلحة
المكتسبة للطبقة الحاكمة.
والهدف الذي تسعى إليه الطبقة المالكة هو، في نهاية المطاف، «إشباع حاجاتها
ورغباتها دون عمل.»
١٩٥ فالطبقة المالكة إذن طبقةٌ غير عاملة، والتقابل بين المِلكية والافتقار
إلى المِلكية هو في حقيقته تقابل بين الحصول على دخلٍ بلا عمل، وبين العمل.
١٩٦ ولما كان العمل وحده هو الذي يجعل المِلكية حقًّا وقيمة، ولما كان
الدخل بلا عمل هو «كمٌّ مُهمَل» لا يمكنه مقاومة هجوم العمل، ترتَّب على ذلك أن
الطبقة العاملة سوف تصبح على نحوٍ متزايد «المسيطرة على كل قيمة»؛ أي ستكتسب على
نحوٍ متزايد مِلكية وسائل الإنتاج، وتحل آخر الأمر محل الطبقة السابقة غير العاملة.
وعندما يحدث ذلك ستصبح النظم القانونية والسياسية، التي كانت قد صيغَت من أجل تحقيق
مصالح طبقةٍ حاكمةٍ غير عاملة، متعارضة تعارضًا صريحًا مع علاقات القوة الفعلية
الجديدة، ومع الضوابط الجديدة في المجتمع. «ويصبح تغيير نظام الحق (القانون) القائم
ضرورةً داخليةً باطنة — وسرعان ما يصبح أيضًا ضرورةً خارجية.»
١٩٧
وهناك نوعان ممكنان من التغيير؛ الإصلاح السياسي والثورة؛ ففي الحالة الأولى
يتعيَّن على سلطة الدولة أن تستسلم لمطالب الطبقة المعتمدة، وتحقِّق مطلب المساواة
الاجتماعية عن طريق الاعتراف بالمساواة القانونية. غير أن التغيُّرات الكبرى في
التاريخ قد حدثَت كلها نتيجةً للثورة؛ «فالطبقة العليا لا تُسلِّم بمطلب الطبقة
الدنيا، ولا تسمح بإعادةِ تنظيمٍ قانونيةٍ تتفق مع التوزيع الجديد للثروة الاجتماعية.»
١٩٨ وفي هذه الظروف تصبح الثورة أمرًا لا مفر منه.
ويؤكِّد شتاين بشدة أن الثورة تنطوي في مبدئها على تناقضٍ يتحكَّم منذ البداية في
الاتجاه الذي ستسير فيه؛ فكل ثورة تنادي بالمساواة العامة لكل الطبقة التي كانت من
قبلُ بعيدةً عن السلطة، ولكنها في واقع الأمر لا تقرِّر حقًّا متساويًا إلا لذلك
الجزء من الطبقة الذي امتلك بالفعل الثروة الاقتصادية. وإذن فعندما تنتصر هذه
الطبقة في ثورتها، تنقسم إلى مستويَين متصارعَين. «وليس في وسع أية حركةٍ ثورية أن
تتجنَّب هذا التناقض … فكل ثورة، بناءً على طبيعتها الثابتة التي لا تتبدَّل،
تستعين بطبقةٍ اجتماعية لن تخدم الثورة، ولا تستطيع أن تخدم مصالحها. وهكذا فإن كل
ثورة بمجرد أن تكتمل، تواجه عدوًّا في شخص نفس الجماهير التي ساعدَت على تحقيق النتيجة.»
١٩٩ وبعبارةٍ أخرى، فكل ثورة تفضي إلى صراعٍ طبقي جديد، وشكلٍ جديد للمجتمع
الطبقي. صحيحٌ أن امتيازات الدخل بلا عمل تُلغى، وأن الملكية المرتكزة على العمل
تصبح أساس النظام الاجتماعي الجديد، ولكن هذه الملكية ذاتها، التي تتخذ شكل رأسمال،
سرعان ما تقف في وجه وسيلة الاقتناء، وهي قوة العمل. وتصبح قدرة رأس المال على
الكسب متعارضة مع العمل المحروم من رأس المال.
٢٠٠ وعلى الرغم من أن هذا الوضع يبدو «منسجمًا انسجامًا كاملًا»، ويبدو
نتيجةً طبيعية لعملية الاقتناء الحر، فسرعان ما يتضح أنه مصدرُ شكلٍ جديد من أشكال
العبودية؛ إذ إن «العمل» في واقع الأمر، «يُحرَم من اكتساب رأس المال.»
٢٠١ ويتوقف المركز الاجتماعي للرأسمالي على مجموع رأسماله، كما يتوقف نمو
رأس المال على قيمة الناتج الزائدة على نفقات إنتاجه. وتقتضي المنافسة بين رءوس
الأموال صراعًا من أجل خفض تكاليف الإنتاج، وبذلك فإنه يؤدي بالضرورة إلى ضغطٍ دائم
للأجور؛ فتلك هي ماهية رأس المال. ولما كانت مصلحة رأس المال تتعارض مع مصلحة
العمل، فإن الانسجام الأصلي يضيع ويتحول إلى تناقض.
٢٠٢
وقد أكد شتاين أن آليات الثورة تمارس عملها في شكل قوانينَ طبيعية لا تتبدل؛ ومِن
ثَمَّ فإن السخط المعنوي أو ما شابهه من التقويمات أمرٌ لا محل له على الإطلاق.
وفضلًا عن ذلك فقد عرف شتاين أن المتناقضات التي وصل إليها بالتحليل مميزة لمجتمع
مبني على العمل الحر والاقتناء، وأن هذه المتناقضات قد لا تسري على الأشكال الأخرى
للتنظيم الاجتماعي. «إن نشاط أصحاب الملكية هو الذي يؤدي، باتخاذه شكل المنافسة،
إلى أن يصبح من المستحيل على أولئك الذين ليست لديهم ملكية، أن يحصلوا عليها.»
٢٠٣ وهو يمضي خطوةً أبعد من ذلك، فيعلن أن الطبقة العاملة (البروليتاريا)
ستحتاج إلى ثورتها الخاصة للتخلص من هذا المجتمع؛ فالطبقة العاملة هي الطبقة التي
حرمَتْها ثورة الطبقة الوسطى من كل قدرة على التملك؛ فلا عجب إذن أن كانت تطالب بحق
الحصول على هذه القدرة، وإعادة تنظيم المجتمع على أساس المساواة الاجتماعية
الحقيقية. هذا العمل البروليتاري، لو تحقَّق، لكان هو «الثورة الاجتماعية» متميزة
عن جميع الثورات السابقة، التي كانت «ثورات سياسية.»
٢٠٤
عند هذه النقطة يبتعد علم الاجتماع عند شتاين عن الاتجاه الجدَلي، ويساير أفكار
علم الاجتماع الوضعي؛ فالثورة العمالية، لو حدثَت، لكانت كارثة، وانتصار الطبقة
العمالية هو «انتصار العبودية».
٢٠٥ وعلة ذلك أن الطبقة العاملة ليست هي الجزء الأقوى أو الأفضل من المجتمع
ككل. وفضلًا عن ذلك، فهي تفتقر إلى حق السيطرة على الدولة لأنها «لا تملك العتاد
المادي والذهني اللازم للتفوق الحقيقي.»
٢٠٦ وعلى ذلك ففكرة الحكم البروليتاري هي فكرةٌ مناقضة لذاتها.
والبروليتاريا عاجزة عن الاحتفاظ بأي نوع من التفوق — وسرعان ما ستنتقم منها الطبقة
الحاكمة القديمة، وتقيم دكتاتوريةً مبنية على العنف. «إن الثورة الناجحة تؤدي
دائمًا إلى الدكتاتورية. وهذه الدكتاتورية تضع نفسها فوق المجتمع … وتعلن نفسها
سلطةً مستقلة في الدولة، وتستولي على حقوق الدولة، وتتخذ مظهرها وقداستها، فتكون
هذه نهاية الثورة الاجتماعية.»
٢٠٧
ولكن هل هذه نهاية العملية الاجتماعية أيضًا؟ إن فكرة «الشخصية» التي رُفعَت إلى
مرتبة العامل الحاسم في التطور الاجتماعي، قد مهَّدَت لانحراف شتاين المفاجئ عن
اتجاه التحليل النقدي. والمجتمع القائم على التملك والاقتناء يحفظ الشخصية؛ لأنه
يضع المبدأ القائل إن التقدُّم الحر للشخصية يقتضي تعميم فرصة الكسب، فإذا كانت هذه
الفرصة قد أصبحَت مقيَّدة في المجرى الفعلي الذي اتخذَته الرأسمالية، فلا يزال من
الممكن استرجاعُها «بالإصلاح الاجتماعي» السليم. والواقع أن رأس المال يعبِّر، في
المجتمع الحديث القائم على التملك والاقتناء، عن سيطرة الإنسان على حياته الخارجية.
«وإذن فمن الواجب التماس صفة الحرية الشخصية، في هذا المجتمع، في قُدرة أدنى مراتب
القوى العاملة على الاستحواذ على رأس المال.»
٢٠٨ كذلك يذكِّرنا شتاين بتحليله النقدي للمتناقضات الكامنة في مجتمع
الطبقة الوسطى. وهو يتساءل عما إذا كان من الممكن، في مجتمع قائمٍ على التملك
والاقتناء، تنظيم عملية العمل بحيث «إن العمل وحده يحقق امتلاكًا مناظرًا لمقداره ونوعه.»
٢٠٩ ويقدم عن هذا السؤال جوابًا بالإيجاب، مرتكزًا على الإهابة بمصلحة
الإنسان الحقيقية؛ فالإنسان يحتاج إلى الحرية، وسوف يحصل عليها، وإنه لمن مصلحة
الطبقة المالكة بالذات أن «تعمل من أجل الإصلاح الاجتماعي، من خلال جميع قواها
الاجتماعية، وبمساعدة الدولة وقوَّتها.»
٢١٠
وهكذا حوَّل لورنتس فون شتاين الجدَل إلى مجموعةٍ من القوانين الموضوعية التي
تُنادي بالإصلاح الاجتماعي، بوصفه الحلَّ السليم لكل المتناقضات، وشل حركة العناصر
النقدية للجدَل.