الفصل الرابع عشر
في النهاية، يجب الاعترافُ بأن جورج ونتوورث كان رجلًا ذا شخصيةٍ متقلِّبة بعضَ الشيء. على مدى آخرِ يومين أو ثلاثةِ أيام، كان مكتئبًا بشدةٍ مثل رجل يُفكر في الانتحار؛ أما الآن، فبينما الجميعُ حوله كانوا يتساءلون بقلقٍ عما سيحدث للسفينة، صار هو فجأةً أكثرَ الأشخاص تهلُّلًا على متن السفينة. أن يكون المرء متقلبَ المِزاج ومضطربًا في حالة الخطر الوشيك، فهذا أمر ليس مفاجئًا على الإطلاق؛ لكن أن يتهلَّل المرءُ فجأةً ويدخلَ في حالةٍ عامة من الابتهاج بعد أن كان يعيشُ في حالة من الحزن والاكتئاب، فهذا شيء غيرُ معتاد. ظن الناسُ أنها لا بد أن تكون حالةً من الاضطراب العقلي. لقد راقَبوا الشابَّ باهتمام بينما كان يمشي بخطًى نشيطة هنا وهناك على سطح السفينة. بين الحين والآخر، كانت ابتسامةٌ مضيئة تُنير وجهه، ثم كان يبدو أنه يشعر بالخجل من ملاحظة الناس لشعوره بالفرح الشديد. وعندما يكون بمفرده، كان لديه عادةُ ضربِ فخذه بقوة والانفجار في ضحكٍ طويل ومنخفض النبرة، وليس عاليَ النبرة وصاخبًا. لم يكن أحدٌ أكثرَ اندهاشًا من هذا التغيير من السياسيِّ فليمنج. لقد قابله جورج على سطح السفينة، ولدهشةِ هذا الرجل الكريم، ضرَبه برفقٍ على ظهره وقال:
«سيدي العزيز، عندما تحدثتَ إليَّ قبل بِضْعة أيام، أخشى أنني ردَدتُ عليك ببعضِ الغِلظة. أرجو منك المعذرة. تعالَ وتناول معي كأسًا.»
قال فليمنج بمرح: «أوه، لا عليك، كلنا نمرُّ بحالاتِ حزنٍ قليلة بين الحينِ والآخَر. أنا نفسي أمرُّ بها، عندما يكون الشراب سيئًا أو قليلًا! قد لا تصدق هذا، لكنني أشعر في بعض الأيام بعدم السعادة. صحيحٌ أن لديَّ وصفةً لرفع المعنويات ثانيةً، دائمًا ما أستخدمها. وهذا يُذكِّرني بما قاله حاكمُ نورث كارولينا لحاكم ساوث كارولينا، هل تتذكره؟»
قال ونتوورث: «أنا بالطبع لا أعرف؛ فكما ترى، أنا لستُ على درايةٍ كبيرة بعالم السياسة في الولايات المتحدة.»
«حسنًا، ليس للسياسة علاقةٌ كبيرة بهذه الملاحظة. لقد قال فقط: «إنه لوقت طويل بين كل كأس والأخرى.» فتعالَ وتناوَلْ شيئًا معي. يبدو لي أنك لم تشرب شيئًا في صُحبتي منذ بداية الرحلة.»
قال ونتوورث: «أعتقد أن هذه مقولةٌ صحيحة. دعنا نُعدلها في أسرعِ وقتٍ ممكن، فقط في هذه الحالة، دعني أدفَعْ ثمن الكئوس. أنا أدعوك للشرب معي.»
قال فليمنج: «أبدًا، أبدًا! ليس بينما أنا هنا. سيكون هذا على حسابي، ومن الغريب أن يقضيَ شخصٌ أسبوعًا مع شخص آخرَ دون أن يعرفه. في الواقع، كما ترى، أنا لم أعرفك حتى الآن.»
وهكذا، ذهب الرجلان الكريمان إلى غرفة التدخين ورنَّا الجرسَ الإلكتروني.
لكنَّ سعادة جورج ونتوورث كانت تبدو في أبهى صورها في غرفته. كان يُمسك بجون كينيون من كتفه ويهزُّ هذا الرجل الرزين، الذي كانت تبدو على وجهه بوجهٍ عام ابتسامةٌ جادة جدًّا عندما كان يلاحظ السعادةَ الشديدة لرفيقه.
صاح ونتوورث: «جون، لماذا لا تضحك؟»
رد رفيقُه: «حسنًا، يبدو لي أنك تضحكُ بالقدر الكافي لنا نحن الاثنين. من الضروريِّ أن يكون أحدُ عضوَي الشركة رزينًا وجادًّا. أنا أحاول الحفاظ على التوسُّط على نحوٍ صحيح. عندما كنتَ تمرُّ بحالةِ اكتئاب شديد، كان عليَّ أن أبدوَ مبتهجًا لنا نحن الاثنين. والآن حيث إنك مبتهجٌ بشدة، فأنا ألتزم حالةَ الكآبة، لأحصلَ على بعض الراحة بعد محاولاتي الحثيثة لأن أبدوَ مبتهجًا.»
«حسنًا، يا جون، يبدو لي أن ما حدث كان رائعًا لدرجةِ أنه لا يكاد يُصدَّق. يا لها من فتاة شجاعة بحيث تقومُ بهذا الأمر! مَن أدراها أن الوضيعة الشابَّة لم يكن معها مسدَّس وقد تُطلق الرَّصاص عليها منه؟»
«أعتقد أنها لم تُفكر في هذا على الإطلاق.»
«هل رأيتها منذ هذا الحدَث المثير؟»
«رأيت مَن؟ الآنسة بروستر؟»
«لا، لا؛ أقصد الآنسة لونجوورث.»
«لا، إنها لم تظهر بعد. أعتقد أنها تخاف أن تتعرَّض لموقف محرج، وهي تسعى لتجنُّبه.»
قال ونتوورث: «هذا هو الوضع على الأرجح.» ثم أضاف: «حسنًا، إذا رأيتَها، يُمكن أن تخبرها أنه لا يوجد أي خطر. تحدث صديقي المرِح، فليمنج، مع تلك الصحفية، هكذا قال لي، والطريقة التي وصف بها كيف سار الأمرُ رائعةٌ على نحوٍ كبير. لقد هددها بأن يُفصِحَ عن قصة حبسها من قِبَل فتاة إنجليزية لصحف نيويورك الأخرى، ويبدو أن الشيء الوحيد في هذا العالم الذي تخشاه الآنسة بروستر هو الصحف المنافسة. لذا، وعدَت بألا تتحدث على الإطلاق مرة أخرى عن تلك الحادثة.»
«إذن، أنت تتحدث مع فليمنج؟»
«بالتأكيد؛ كما أنه شخصٌ طيب ومرح. أنا أفعل ما هو أكثرُ من الحديث معه؛ أنا أشرب معه.»
«ومع ذلك، منذ يومٍ أو يومين، على ما أعتقد، كنتَ تُهدد بأنك ستضربه.»
«منذ يوم أو يومين، يا جون! كان هذا منذ دهور. ولم يكن منذ يومٍ أو يومين. لقد كان منذ عدةِ سنينَ أو قرون، كما يبدو لي. لقد كنتُ حينها رجلًا عجوزًا؛ أما الآن، فقد عدتُ شابًّا مرة أخرى، وكل هذا بفضل الفعل الشجاع الذي قامت به فَتاتُك التي تُشبه الملائكة.»
قال كينيون بجدية: «إنها ليست فتاتي؛ أتمنى أن تكون كذلك.»
«حسنًا، ابتهِج. كلُّ شيء سيُصبح على ما يُرام؛ كما ترى، إن هذا يحدث دائمًا. لا يوجد أسوأُ من هذا الأمر المتعلِّق بالرسالة منذ بضعة أيام، وانظر كيف اختلف الأمر الآن على نحوٍ رائع.»
لم يقل كينيون شيئًا. لم يُرد مناقشة الأمر حتى مع أفضلِ أصدقائه. صعد الاثنان معًا على السطح، وقاما ببعض الانعطافات بطوله، وكانت عينا كينيون أثناء مشيِه موجَّهتَين تجاه الجالسين على كراسيِّ السطح، لكنه لم يرَ الشخص الذي كان يبحث عنه. ترك كينيون صديقه ليستمرَّ في مشيه بمفرده، بعد أن أخبره بأنه سيذهب لأسفل للحظات، وعندما وصل إلى القاعة الرئيسية، تحدث إلى إحدى الخادمات.
«هل تعرفين إن كانت الآنسة لونجوورث في غُرفتها أم لا؟»
كان الرد: «نعم، يا سيدي، أعتقد أنَّها هناك.»
«هل لكِ أن تُعطي لها هذه الرسالة؟»
جلس جون منتظرًا الردَّ. لم يأتِ الرد في يد الخادمة. بل جاءت إديث نفسُها وراحت تنظر بوجَلٍ عبر القاعة، وعندما رأت كينيون بمفرده، دخلَتها. وهبَّ هو واقفًا ليُقابلها.
قال: «خشيتُ أن تكوني مريضة.»
ردت: «لا، أنا لست مريضة، ولكني كنتُ على وشك ذلك.» وأضافت: «أوه، يا سيد كينيون، لقد قمتُ بأفظعِ شيء في العالم! أنت لا تستطيع تخيُّلَ كم كنتُ جريئة وشريرة!» وهنا بدأَت الدموعُ تتجمع في عينَيها.
مد كينيون يدَه إليها، وأخذتها.
قالت: «أخشى المكوثَ معك هنا، خوفًا من …»
قال كينيون: «أوه، لقد عرَفتُ كلَّ شيء عن الأمر.»
«أنت لا يمكن أن تكون قد عرَفت بالأمر؛ أنت بالطبع لا تعرف ما فعلت، أليس كذلك؟»
«بلى، أنا أعرف تمامًا ما فعلتِ؛ وكلنا معجبون بشدةٍ بشجاعتكِ.»
«لم يصبح الأمر بالتأكيد مَثارَ حديثِ كلِّ مَن على متن السفينة، أليس كذلك؟»
«بلى، لم يُصبح كذلك؛ لكن الآنسة بروستر اتهمَتنِي بكوني شريكًا في الأمر.»
«وأنت بالطبع أخبرتَها بأنك لم تكن كذلك؟»
«لم أستطِع إخبارها بأيِّ شيء، لسبب بسيط وهو أنني لم تكن لديَّ أدنى فكرةٍ عما كانت تقوله؛ لكن تلك هي الطريقة التي عرَفتُ بها ما حدث، وأنا هنا لأشكرَك، آنسة لونجوورث، على الفعل الذي قمتِ به. أنا أعتقد بحقٍّ أنكِ أنقذتِ عقل صديقي ونتوورث. لقد أصبح رجلًا مختلفًا منذ وقوع الحادثة التي نتحدث بشأنها.»
«وهل رأيتَ الآنسة بروستر منذ ذلك الحين؟»
«أوه، نعم؛ كما كنتُ أقول لكِ، لقد قابلتها على سطح السفينة. يا إلهي! يا لغفلتي! لقد نسيتُ أنكِ تقفين. هلا تجلسين؟»
«لا، لا؛ لقد مكثتُ في غرفتي لمدة طويلة لدرجة أنني سعيدةٌ لوقوفي في أي مكان.»
«إذن، هلا تصعَد معي على سطح السفينة؟»
قالت: «أوه، أخشى … أخشى حدوثَ مواجهة علَنية؛ وأنا متأكدة، من خلال النظرة الأخيرة التي رأيتُها في عينَي الفتاة، أنها لن تتوانى عن عمل أيِّ فضيحة لتنتقم. أنا آسفة أن أقول إنني أخشى بشدةٍ لقاءَها. بالطبع، من وجهة نظرها، لقد ارتكبتُ خطأً شنيعًا في حقِّها. وربما الأمر كذلك من وجهة نظر الجميع.»
قال جون كينيون بود: «آنسة لونجوورث، يجب ألَّا تخافي على الإطلاق لقاءها. إنها لن تقولَ شيئًا.»
«كيف عرَفتَ ذلك؟»
«أوه، إنها قصة طويلة. لقد ذهبَت إلى القُبطان بشَكْواها، ولم تحصل على دعمٍ كبير هناك. سأخبركِ بالأمر كلِّه على سطح السفينة. احصلي على غِطاء وتعالَي معي.»
عندما أعطى كينيون هذا الأمر الحاسم، أدرك أنه كان يسمحُ لنفسه بحقٍّ لم يُتَح له بعد، واحمرَّ وجهه عندما تساءل في داخله عما إذا كانت إديث سترفض رفعَه للكُلفة في حديثه؛ لكنِ اكتفَت بالنظر إليه بابتسامةٍ مشرقة وقالت:
«سأفعل، يا سيدي، كما أمرت.»
قال كينيون: «لا، لا، إنه لم يكن أمرًا، رغم أنه بدا كذلك. إنه كان أمرًا متواضعًا؛ على الأقل، أردتُ أن يكون هكذا.»
«حسنًا، سأحصلُ على الغطاء.»
عندما تركَته لتذهبَ إلى غرفتها، سُمِع هُتاف كبير على سطح السفينة. توقفَت، ونظرَت إلى كينيون.
سألته: «ماذا يعني هذا؟»
كان الرد: «لا أعرف.» وأضاف: «رجاءً ضَعي الغِطاء عليكِ ودعينا نصعَدْ إلى السطح ونرَ ماذا حدث.»
عندما وصلا إلى السطح، رأَيَا الجميعَ في الجزء الأمامي من السفينة. وكان مرئيًّا في الأفق الشرقيِّ ثلاثةُ آثار من الدخان الأسود، التي كانت على ما يبدو تقتربُ منهم.
كان الجميع يتهامسون ويقولون: «إنها قواربُ السَّحْب. إنها آتيةٌ لمساعدتنا.»
القليل جدًّا ممَّن هم على متن السفينة كان يعرف أنَّ بقاءهم على قيد الحياة كان يرجع كلِّيةً إلى الطقس الجيد. لقد أثبت العملُ المستمرُّ للمضخَّات للجميع، الذين فكَّروا في الأمر، أن التسريب كان خطيرًا؛ لكن نظرًا إلى أن تدهوُرَ حال السفينة كان أمرًا غيرَ معروفٍ بالنسبة إلى الجميع ما عدا الخبراء منهم بالأمر، فلم يكن أحدٌ ما عدا الضبَّاط البحريِّين يعرف حقًّا الخطرَ الحقيقي الذي كانوا فيه. ورغم السعادة التي كان يشعر بها الركاب عندما رأَوا تلك القواربَ الثلاثة تقترب، فإن أكثر مَن سَعِد بالأمر كان هو الشخصَ الذي يعرف كلَّ شيء بشأن الكارثة وآثارِها، ألا وهو: القبطان.
اجتازت إديث لونجوورث وجون كينيون السطحَ معًا، ولم يتزاحما مع الآخَرين على الوجود في الجزء الأمامي في السفينة، لمشاهدة قواربِ السَّحْب التي كانت تقترب تدريجيًّا. وعن قصدٍ، جعل جون كينيون الفتاةَ التي كانت معه تقفُ أمام الآنسة جيني بروستر، وعلى الرغم من أن تلك الفتاة كانت تُحملق بغضبٍ شديد في إديث، التي احمرَّت وجنتاها من الخوف والاضطراب، فلم تَقُل أي شيء؛ وعرَف كينيون أن رفيقته بعد ذلك لن تشعر بقلقٍ شديد من لقاء المرأة التي دخلَت معها في مواجهة لمدة خمسِ دقائق عاصفة. وسرعان ما بدأَت قواربُ السَّحب تسحب السفينة الكبيرة، وأخذت الأربع المركبات تتقدم ببطءٍ باتجاه كوينزتاون، وقد تقرر إنزال كلِّ الركاب هناك، وسحب السفينة المعطَّلة إلى ليفربول، إن أثبتَ فحصُ هيكل السفينة أن هذا الخيار سيكون آمنًا. ودَّع الركابُ كلٌّ منهم الآخرَ بعد أن غادروا السفينة، والعديد ممن كانوا على متنها لم يرَ كلٌّ منهم الآخرَ مرةً أخرى. واحدةٌ على الأقل منهم لم تكن حزينةً على ترك السفينة أو لديها مَن تُودعه عليها، لكن كانت هناك مفاجأة بانتظارها. لقد وجدَت جيني بروستر برقيةً بانتظارها من نيويورك. وقد جاء فيها: «لا تُرسلي شيئًا بشأن المناجم. ستُرسل رسالةٌ بالتفاصيل.»