الفصل التاسع عشر
الاحتمال الأكبر، بغضِّ النظر عن الظروف التي التقى فيها لونجوورث الشاب وكينيون لأول مرة، هو أن الأول سيكرهُ الثاني. وعلى الرغم من أن صداقاتٍ قويةً قد تكوَّنَت بين أشخاصٍ مختلِفين في الطبائع، فلا يجب أن يُنسى أن عداواتٍ قويةً مماثلة قد نشأت بين أناس فقط لأنهم ذَوو طبائعَ متباينة. لا يمكن أن يكون هناك شابَّان مختلفان كلٌّ منهما عن الآخر مثل هذَين الشابَّين؛ وعندما تذكر لونجوورث اللقاءات المختلفة التي جرَت بينه وبين كينيون، اعترف بينه وبين نفسه بأنه يُكِنُّ بُغضًا شديدًا لهذا المهندس. وقد أضافت الصداقة الواضحة التي كانت تجمع بين كينيون وابنةِ عمه مرارةً لهذا البُغض الذي كان يتحول بسرعة إلى كراهية. لكنه هدَأ كثيرًا، في أثناء الرجوع للمنزل بالعربة، وأصبح مقتنعًا بأنه من الأفضل ألا يقول شيئًا عن لقائها بكينيون ما لم تذكر هي الموضوع. ففي النهاية، العربة مِلكُها وليست مِلكَه، وقد كان يُدرك هذه الحقيقة. وقد تساءل عن مقدار ما قاله كينيون عن اللقاء الذي جرى بينهما في مكتب عمه. ولكنه أثنى على نفسه بأنه كان يعرف الكثيرَ عن النساء بحيث يتأكد من أنها سرعان ما تذكرُ الأمر، ثم تمنَّى معرفةَ مقدارِ ما قد قيل على وجه التحديد. ولدهشته، لم تقُل ابنةُ عمه شيئًا على الإطلاق عن الأمر، لا في ذلك المساء ولا في صباح اليوم التالي، ومن ثم ذهب إلى مكتبه في حالةٍ مزاجية متحيرة بعض الشيء.
عند وصوله إلى غرفته في حي السيتي، وجد ميلفيل بانتظاره.
صافح ميلفيل لونجوورث الشاب، وأخرج عينة معدنية من جيبه ووضعها على مكتب الرجل الشاب وقال:
«أعتقد أنك تعرفُ من أين أتَت هذه؟»
نظر لونجوورث إليها في حيرة جعلَت ميلفيل يعتقد أنه يعرف القليل جدًّا عن الأمر.
«أنا ليست لديَّ أدنى فكرة، في واقع الأمر.»
«كيف؟ لقد قيل لي إنك مهتمٌّ بالمنجم التي أُخِذَت هذه منه. لقد زارني السيد ونتوورث أمس، وأعطاني اسمك باعتبارك أحدَ المهتمين بأمر المنجم.»
«آه، نعم، فهمت؛ نعم، نعم، أنا لدي … بعض الاهتمام بالمنجم.»
«حسنًا، هذا ما جئتُ لأتحدث معك بشأنه. أين يقع المنجم؟»
«إنه بالقرب من نهر أوتاوا، على ما أعتقد، فوق مونتريال بمسافة كبيرة. أنا لستُ متأكدًا من مكانه بالضبط، لكنه في مكانٍ ما في تلك المنطقة.»
«ظننتُ من خلال ما قاله ونتوورث أنه في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد ذكر شخصًا آخرَ باعتباره شريكَه في هذا الأمر؛ لقد نسيتُ اسمه.»
«جون كينيون، على الأرجح.»
«كينيون! نعم، أعتقد أن هذا هو الاسم. نعم، أنا متأكد أنه كذلك. والآن، هل لي أن أسألك عن علاقتك بهذا المنجم؟ هل أنت شريك ونتوورث وكينيون فيه؟ هل أنت المالك الأساسي للمنجم، أو أن المنجم مملوكٌ لهما؟»
«بادئَ بَدْء، سيد ميلفيل، أود أن أعرف لماذا تسألني هذه الأسئلة؟»
ضحِك ميلفيل.
«حسنًا، سأخبرك. نحن نودُّ معرفةَ فرصةِ حصولنا على حصةٍ غالبة في هذا المنجم. لقد أوضحتُ لك ما أريد بصراحة شديدة، أليس كذلك؟»
«بلى، لقد فعلتَ. لكن مَن تقصد بكلمة «نحن»؟ مَن مهتمٌّ بالأمر غيرك؟»
«بكلمة «نحن» أقصد شركةَ الخزف التي أنتمي إليها. تلك المادة مفيدة في صناعة الخزف. أعتقد أنك تعرف هذا.»
رد لونجوورث: «نعم، أنا على علم بهذا.» رغم أنه قد سمع بالأمر في ذلك الوقت للمرة الأولى.
«رائع جدًّا، إذن؛ أود أن أعرف مالك المنجم.»
«مالك المنجم في الوقت الراهن شخص أجنبي لا أعرف اسمه أو عنوانه. الشابان اللذان تتحدث عنهما لديهما عقدُ حقِّ شراءٍ على هذا المنجم لمدة محددة؛ لكنني لا أعرف ما هي. لقد كانا يحثَّاني على الانضمام إليهما لتأسيس شركة لطرح هذا المنجم للبيع بمبلغ مائتي ألف جنيه في سوق لندن.»
قال ميلفيل: «مائتا ألف جنيه!» ثم أردف: «يبدو هذا لي مبلغًا ضخمًا للغاية.»
«هل تعتقد ذلك؟ في واقع الأمر، الاعتراض الذي أبديته على الأمر كان أنه كان صغيرًا جدًّا.»
«لا بد أن هذين الرجلين لديهما فكرةٌ مُبالغ فيها فيما يتعلق بقيمة هذه المادة عندما ظنَّا أنه سيُدِر أرباحًا على المائتي ألف جنيه.»
«إن تلك المادة هي ليست المادةَ الوحيدة الموجودة في المنجم. في الواقع، إنه يُدِر أرباحًا بالفعل على خمسين ألف جنيه أو نحو ذلك، بسبب الميكا الموجودة به. إنه يجري التنقيب فيه عن الميكا فقط. وفي الحقيقة، أنا لا أعرف الكثير عن المادة الأخرى.»
«وهل تعتقد أن المنجم يستحق مائتي ألف جنيه؟»
«بصراحة، لا.»
«إذن، لماذا لك علاقة به؟»
«أنا ليست لي علاقة به؛ على الأقل، ليست لي علاقة محددة به. إني أضع الأمر قيدَ الدراسة. بالطبع، إن كان هناك أيُّ شيء يقترب من كونه احتيالًا فيه، فأنا لن تكون لي أيُّ علاقة به. ستعتمد علاقتي به من عدمها على نحوٍ كبير على الأرقام التي سيُريني إياها الرجلان.»
«فهمت؛ لقد فهمت موقفَك.» ثم مال باتجاه لونجوورث وقال بصوتٍ منخفض: «أنت رجل أعمال. والآن، أريد أن أسألك عن فرصة حصولنا على المنجم بمبلغ يقترب من قيمة عقد الخيار الأصلية، التي، بالطبع، تقلُّ كثيرًا عن المائتي ألف جنيه. نحن لا نريد أن يكون هناك الكثيرُ من الأطراف في الأمر. في واقع الأمر، إن استطعتَ أن تحصل عليه لنا بسعرٍ معقول، ولا تريد أن تزعج نفسك بشأن المنجم نفسِه، فسنحصل عليه بأكمله لنا.»
فكَّر لونجوورث الشابُّ للحظات، ثم قال لميلفيل:
«هل تقصد استبعاد الرجلين الآخرين، كما يقولون في أمريكا؟»
«أنا أعرف شيئًا عن مسألة الاستبعاد هذه؛ لكن، بالطبع، مع وجود هذين الشخصين، لن يكون هناك ربحٌ كبير يمكن اقتسامه. نود التعامل مع أقلِّ عدد ممكن من الأشخاص.»
«تمامًا. أفهم ما تقصد. وأعتقد أن هذا يمكن تنفيذُه. هل أنتم في عجَلة شديدة من أمركم فيما يتعلق بتملُّك المنجم؟»
«ليس تمامًا. لماذا؟»
«حسنًا، إذا سارت الأمور على ما يُرام، فأعتقد أن بإمكاننا الحصولَ عليه بنفس مقابل عقد خيار الشراء الأصلي. وسيعني هذا، بالتأكيد، الانتظارَ حتى انتهاء مدة هذا العقد.»
«ألن تكون هناك بعضُ المخاطرة في هذا؟ إنهما ربما يؤسِّسان شركتهما في غضون ذلك، وحينها، سنفقد كل شيء. إننا كما نسعى للحصول على المنجم لأنفسنا نسعى بالقدر نفسه لمنع أيِّ أحد غيرنا من فعل ذلك.»
«أفهم ذلك. لقد فكرت مليًّا في الأمر. وأعتقد أن هذا يمكن تحقيقه دون مخاطرة كبيرة؛ لكن، بالطبع، سيكون علينا أن نتكتَّم بعض الشيء على الأمر.»
«أقدِّر ضرورةَ ذلك.»
«رائع للغاية. سأراك ثانيةً بعد أن أكون قد فكَّرت في المسألة، ويُمكننا التوصل إلى اتفاقٍ ما.»
«يجب أن أقول إن مديرنا قد كتب رسالة إلى ونتوورث، يقول له فيها إن تلك المادة ليست ذاتَ فائدةٍ بالنسبة إلينا.»
قال لونجوورث الشاب، بنظرة تنمُّ عن الذكاء: «رائع.»
«لذا، بالطبع، عند الحديث مع ونتوورث عن المنجم، من الأفضل أيضًا ألا تذكرنا بأيِّ نحو.»
«أنا لن أفعل هذا.»
«رائع جدًّا. سأترك الأمر في يديك في الوقت الراهن.»
«نعم، افعل هذا. سأُمعِن التفكير في الأمر في عصر اليوم، وربما أرى ونتوورث وكينيون غدًا. لا داعي للعجَلة الشديدة؛ لأنني عرَفتُ مصادفة أنهما لم يفعلا أيَّ شيء حيال الأمر حتى الآن.»
وهنا، غادر السيد ميلفيل، وأخذ لونجوورث الشابُّ يذرع الغرفة ذَهابًا وإيابًا، وهو يُفكر في خُطة ستجلب له مالًا وفي نفس الوقت ستجعله يشعر بالرضا لإضاعةِ فرصةٍ مهمة على جون كينيون.
وعندما وصل لونجوورث البيت، انتظر أن تقول له ابنةُ عمه شيئًا عن كينيون؛ لكنه سرعان ما رأى أنها لم تكن تنوي الحديثَ عنه على الإطلاق. لذا، قال لها:
«إديث، هل تتذكَّرين كينيون وونتوورث؛ اللذين كانا على متن السفينة؟»
«أتذكرهما جيدًا.»
«أتعرفين أن لديهما منجمًا للبيع؟»
«نعم.»
«لقد كنتُ أفكِّر فيه؛ في الحقيقة، زارني كينيون في مكتبي منذ يوم أو اثنين، وفي ذلك الوقت، ودون أن أُخضع الموضوع لمزيدٍ من التفكير، لم أتحدَّث إليه على نحوٍ إيجابي؛ لكنني أخذتُ أفكِّر في الأمر منذ ذلك الحين، ووصلت إلى شبهِ قرار بمساعدتهما. ما رأيكِ؟»
«أوه، أعتقد أن هذه ستكون خطةً رائعة. أنا متأكدة أن المنجم جيد، وإلا ما كان كينيون ستكون له أيُّ علاقة به. سأكتب رسالةً لهما، إن رأيتَ أن هذا مناسب، أدعوهما فيها للمجيء إلى هنا للحديث معك عن الأمر.»
«لن يكون هذا ضروريًّا على الإطلاق. أنا لا أريد أن يأتيَ الناس إلى هنا للحديث بشأن أمور العمل. مكتبي هو المكان الملائم.»
«لكننا قابلناهما على نحوٍ ودي على متن السفينة، وأعتقد أنه سيكون من اللُّطف إن جاءا إلى هنا في مساء أحد الأيام وتحدَّثا في الأمر معك.»
«أنا لا أُحبِّذ مناقشة أمور العمل في البيت. سيكون هذا حديثَ عمل فقط، ويجب أن يتم في مكتبي أو في مكتب ونتوورث، إن كان لديه واحد، وأعتقد أن هذا هو الحال.»
«أوه، بالتأكيد؛ إن عنوانه هو …»
«أوه، إنك تعرفينه، أليس كذلك؟»
تورَّدَت إديث عندما أدركت ما قالته؛ ثم قالت:
«هل هناك أي مشكلة في معرفة عنوان العمل الخاص بالسيد ونتوورث؟»
«أوه، لا على الإطلاق … لا على الإطلاق. أنا فقط أتساءل كيف تأتَّى لكِ معرفةُ عنوانه، في حين أنني لا أعرفه.»
«حسنًا، لا يُهم كيف عرَفتُه. أنا مسرورة أنك ستنضم إليه، وأنا متأكدة أنك ستنجح. هل ستراهما غدًا؟»
«أعتقد ذلك. سأزور ونتوورث وأتحدَّث إليه عن الأمر. بالطبع، قد لا يكون بإمكاننا الوصولُ إلى اتفاق مناسب. وإن حدث ذلك، فإن هذا في واقع الأمر لا يُهم كثيرًا. أمَّا إن استطعتُ الوصول معهما إلى اتفاق مُرضٍ، فسأساعدهما في تأسيس شركتهما.»
عزيزي السيد كينيون
كنت متأكدةً أثناء حديثك معي أن ابن عمي ليس مَلومًا كثيرًا في مسألة نسيانه حديثَه معك كما كنت تظن. لقد تحدثنا الليلةَ عن المنجم، وعندما يزورك غدًا، كما ينوي أن يفعل، أريدك أن تعرف أنني لم أقل شيئًا على الإطلاق له عما ذكرتَه لي. لقد ذكَر الموضوعَ أولًا. وأريدك أن تعرف هذا لأنك قد تشعر بالإحراج عندما تُقابله عندما تظن أنني قد أرسلتُه إليك. ليس الأمر هكذا إطلاقًا. إنه سيأتي إليكَ بمحضِ إرادته، وأنا متأكدة أنك ستجد مساعدته في تأسيس الشركة قيِّمة جدًّا. وأنا مسرورة لفكرةِ أنكما ستصبحان شريكَين.
أعطت الرسالةَ لخادمها كي يُرسلها، وقابل لونجوورث الشاب الخادم في البهو والرسالة في يده. وقد كان لديه شكٌّ على نحوٍ ما، بعد الحوار السابق، بشأن الشخص المرسلة إليه الرسالة.
«إلى أين أنت ذاهب بهذا؟»
«إلى صندوق البريد، يا سيدي.»
«إنني خارج؛ ولأوفر عليك العناء، سآخذه معي.»
بعد أن تجاوز المنعطف، نظر إلى العنوان الموجود على الظرف؛ ثم أخذ يُطلق اللعنات في نفسه لبعض الوقت. ولو كان شخصية شريرة في مسرحية، لفتح الرسالة؛ لكنه لم يفعل. لقد أسقطها فقط في أول صندوقِ بريد عمومي صادفه، وقد وصلت الرسالة في النهاية إلى جون كينيون.