الفصل الثاني
لقد دقَّ آخِرُ جرس. وقد غادر كلُّ مَن سيُغادرون على الشاطئ. وتجمع حشودٌ من البشر على نهاية الرصيف وعند أبواب المخزن الكبيرة المفتوحة عند مَرْسى السفينة. وبينما أخذَت السفينةُ البخارية الكبيرة تتحرَّك، كان هناك تلويحٌ بالمناديل من الجمع الموجود على الرصيف، وردٌّ بالتلويح من هؤلاء الذين تكدَّسوا بطولِ أسوار السفينة. سحب المركب القاطر ببطءٍ مقدمةَ السفينة، وبدأت محركاتُ السفينة في النهاية الاهتزازَ بصوتٍ عالٍ، وهو ما ستفعله لعدة أيام حتى تصل السفينةُ إلى القارَّة العجوز. وأصبح الجمعُ على الرصيف غيرَ مرئيٍّ أكثرَ فأكثرَ لمن هم على متن السفينة، ونزل العديد من الركاب إلى الدور السفلي؛ فقد كان الهواء شديدَ البرودة، وكانت السفينة تتحرك بصعوبةٍ وسط كتلٍ ضخمة من الثلج.
كان هناك راكبان، على الأقل، لم يكترثا كثيرًا بمسألة الرحيل؛ فهما لم يتركا أيَّ أصدقاء خلفهما، وكان كلٌّ منهما يتطلع لرؤية أصدقائه في وطنه.
قال ونتوورث لكينيون: «لننزل إلى أسفلَ ونتأكَّدْ من الحصول على مقعدَين متجاورَين على الطاولة قبل أن تُشغَل كلُّ المقاعد.»
ردَّ رفيقه: «هيا بنا.» ونزَلا إلى القاعة الكبيرة، التي كانت توجد بها بالفعل طاولتان طويلتان وعليهما كمٌّ كبير من أدوات ولوازم الطعام الفِضِّية والزجاجية الفخمة، التي جعلَت الكثيرين ممن نظروا إلى تلك الغابة من فوط الطاولات ببعض الحزن، يتمنَّون أن تمرَّ الرحلةُ بسلام رغم الاحتمالات العديدة لكونها بخلاف ذلك؛ نظرًا إلى أنها تنطلق في الشتاء. جلس مسئولُ الحسابات في السفينة واثنان من مساعديه على واحدةٍ من الطاولات القصيرة وأمامهم مخطَّط، يُحدِّد أسماء الركاب الذين أرادوا أن يجلسوا معًا أو أرادوا مكانًا معينًا على أيٍّ من الطاولات. لم تكن الطاولات الجانبية الأصغرُ حجمًا مغطاةً بعدُ لأن عدد الركاب في تلك الفترة من العام قليلٌ نسبيًّا. ونظرًا إلى أن الأماكن كانت محدَّدة، فقد أخذ أحدُ المساعدين يكتب أسماء الركاب على بطاقات صغيرة في حينِ كان الآخَرُ يضعُها على الطاولات.
وقفت امرأةٌ شابة، ترتدي رداءَ سفرٍ يُلائمها على نحوٍ رائع، كان من الواضح أنه حديثُ التفصيل والتصميم، بعيدًا قليلًا عن الجمع الذي أحاط بمسئول الحسابات ومساعديه. وأخذت تنظر بحماسٍ في كل الوجوه، وتستمع باهتمامٍ للأسماء التي تجري تلاوتُها. أحيانًا كانت لمحةٌ من خيبة الأمل تعلو حاجبَيها، كما لو أنها كانت تتوقع أن يكون لشخصٍ معين اسمٌ محدد وهو الأمر الذي لم يحدث. وفي النهاية، لمعَت عيناها.
قال الرجل الشابُّ الذي جاء الدور عليه: «اسمي ونتوورث.»
سأله مسئول الحسابات بلطف، كما لو أنه كان يعرفه طَوال حياته: «حسنًا، هل تريد أيَّ مكان معين، يا سيد ونتوورث؟»
«لا، نحن لا تَعْنينا مسألةُ مكان جلوسنا؛ لكنني أنا وصديقي السيد كينيون نريد أن نجلس معًا أحدنا بجوار الآخَر.»
ردَّ مسئول الحسابات: «رائعٌ جدًّا؛ من الأفضل أن تأتيا إلى طاولتي. رقما ٢٣ و٢٤؛ السيد كينيون والسيد ونتوورث.»
أخذ المساعد البطاقتَين اللتين أُعطِيَتا له، ووضعهما بحيث يتَّفقان مع الرقمين اللذَين أعلن عنهما مسئولُ الحسابات. في تلك الأثناء، تحركت المرأةُ الشابة باتجاهه بخفَّة، كما لو أنها كانت مهتمةً بالاسمين الموضوعين على الطاولة. نظرَت إلى اسم ونتوورث للحظاتٍ، ورأت في المكان المجاور له اسم السيد براون. وألقَت بعد ذلك نظرةً سريعة وشاملة في أنحاء القاعة ولاحظَت أن الشابَّين اللذين حدَّدا مكان مقعدَيهما في طاولة الطعام يتحدثان الآن بارتياحٍ باتجاه الدرَج. أخذت البطاقة التي عليها اسم السيد براون، ووضعت مكانها أخرى مكتوبًا عليها «الآنسة جيني بروستر». ووضعت بطاقة السيد براون في المكان الذي أخذت منه بطاقتها.
قالت جيني لنفسِها: «آمُل ألا يكون السيد براون مهتمًّا بالجلوس في مكانٍ معيَّن، لكن على أي حال عليَّ أن آتيَ مبكرًا لتناول العشاء، وأن أتأكدَ أن السيد براون، أيًّا ما كان، لن يفتقر إلى التهذيب بحيث يُصِرُّ على الاحتفاظ بمكانه إذا علم أن بطاقته كانت هناك.»
أثبتَت الأحداثُ التالية صدقَ تخمينها بشأن عدم اكتراث السيد براون بمسألةِ مكانِ جلوسه على طاولة الطعام. لقد بحث هذا الشابُّ عن بطاقته ووجدها، وجلس على الكرسيِّ المقابل لكرسي السيدة الشابة التي كانت قد شغَلَته بالفعل، وكان في واقع الأمر أولَ كرسيٍّ يُشغَل في الطاولة. وعندما وجدَت أنه لن يوجد خلافٌ بشأن مكان الجلوس، بدأت تُخطط في ذهنها كيف ستجذب انتباه السيد ونتوورث. وبينما هي تُفكر في أفضلِ طريقة للاقتراب من ضحيتها، سمعَت صوته.
«هنا، يا كينيون؛ ها هما المكانان الخاصَّان بنا.»
قال كينيون: «أيهما يَخُصني؟»
ردَّ ونتوورث: «لا يُهم.» وحينها تسرَّب الخوف إلى قلب الآنسة جيني بروستر الرقيق. لم تُفكر في مسألة عدم اهتمام ونتوورث بالمقعد الذي سيجلس عليه، وخشيَت من احتمال أن تجد نفسَها تجلس بجانب كينيون وليس بجانبه هو. بدا أن تقديرها الأوليَّ لشخصية الرجلَين صحيح. لقد كانت تنظر إلى كينيون دائمًا على أنه بانيان، وباتت متأكدةً من أن ونتوورث سيكون الأسهلَ في التأثير عليه من بينِ الرجلين. في اللحظة التالية، تبدَّدَت مخاوفُها؛ إذ إن كينيون عندما ألقى نظرة سريعة على المرأة الشابة الأنيقة، اختار عن عمدٍ المقعدَ البعيدَ عنها، وجلس ونتوورث على الكرسيِّ المجاور لها بكل تهذيبٍ وأدب.
قالت جيني في نفسِها، وهي تتنفَّس الصُّعَداء: «الآن، تم تحديدُ أماكنِ تناول الوجبات على مدار الرحلة.» وأخذت تضعُ الخطط لبدء التعرف على الرجل الشاب، لكنها كلها تبدَّدت عندما أعطاها السيد ونتوورث المهذبُ قائمةَ الطعام.
قالت الفتاة: «أوه، شكرًا لك.» قالت ذلك بصوتٍ خفيض كان موسيقيًّا للغاية، لدرجة أن ونتوورث ألقى نظرةً ثانية عليها ورأى مدى رقتِها وجمالها وبراءتها.
قال الشاب التعيسُ الحظ لنفسه: «أنا محظوظ.» ثم قال بصوتٍ عالٍ: «ليس معَنا في هذه الرحلة العديدُ من السيدات.»
ردَّت الآنسة بروستر: «لا. أعتقد أن لا أحد يُسافر في هذا الوقت من العام إلا إذا كان مجبرًا على ذلك.»
«أستطيع أن أؤكِّد أن هذا صحيحٌ بالنسبة إلى راكبَين.»
«هل تقصد أنك أحدهما؟»
«نعم، أنا وصديقي.»
قالت الآنسة بروستر: «كم هو رائع السفرُ مع صديق! فحينها، لن تكون وحيدًا. لكنني للأسف أُسافر بمفردي.»
قال ونتوورث المهذَّب: «أعتقد أنه سيكون خطأَكِ بالكامل إذا كنتِ تشعرين بالوحدة وأنتِ على متن سفينة.»
ضحكت الآنسة بروستر ضحكةً رقيقة.
قالت: «أشكُّ في ذلك. إنني ذاهبةٌ إلى قِبلة الأمريكيِّين؛ باريس. أبي سيلتقيني هناك، وسنذهب بعدها معًا إلى منطقة الريفيرا.»
قال ونتوورث: «آه، سيكون هذا ممتعًا. إن الريفيرا في هذا الوقت بالطبع لَمكانٌ رائع.»
ردت: «هكذا سمعتُ أيضًا.»
«هل سافرتِ على متن رحلة بحرية من قبل؟»
«لا، هذه هي أولُ رحلة لي. أعتقد أنك سافرتَ عدة مرات؟»
ردَّ الرجل الإنجليزي: «أوه، لا، هذه هي رحلتي البحرية الثانية، وكانت الأولى هي التي أخذَتني إلى أمريكا.»
قالت الآنسة بروستر باندهاشٍ ظاهر: «آه، إذن أنت لستَ أمريكيًّا.»
تصورَت أن الرجل بوجهٍ عام يشعر بالإطراء عندما يحدث خطأٌ من هذا النوع. وبغضِّ النظر عن مدى فخرِ الرجل ببلده، فهو يسعد لمعرفة أنَّ ملامحه لا تَقصُره على بلدٍ معين، أو كما يقول الأمريكيون: «تُفصح عن هُويَّته.»
قال ونتوورث: «أعتقد أنني بوجهٍ عام لا أبدو سوى ما أنا عليه بالفعل؛ رجل إنجليزي.»
قالت المرأة الشابة التي تدَّعي البراءة: «لقد قابلتُ عددًا قليلًا جدًّا من الإنجليز؛ مما يجعلني في الواقع غيرَ قادرة على معرفتهم.»
«أعرف أن هناك اعتقادًا شائعًا بين الأمريكيِّين بأن الرجل الإنجليزي يُسقِط حرف الهاء من كلامه، وأنه يمكن التعرُّف عليه من خلال ذلك.»
ضحكَت جيني مرة ثانية، واعتقد جورج ونتوورث أن ضحكتها من أجملِ الضحكات التي سمعها في حياته.
لقد كان كينيون المسكينُ متجاهَلًا من جانب صديقه طَوال العشاء. وقد شعر ببعض الكآبة عندما قُدِّمَت أطباق الطعام، وتمنَّى لو كان معه صحيفةٌ مسائية. وفي تلك الأثناء، كان ونتوورث والفتاة الأنيقة الجالسة بجواره منسجمَين معًا. وفي نهاية العشاء، بدا أنها تجدُ بعض الصعوبة في الخروج من كرسيِّها، وأوضح لها ونتوورث السبيلَ إلى ذلك، تاركًا إياها تنهض بنفسها. وشكَرَته هي بلطف.
قالت وهي تلتفتُ للذَّهاب: «سأصعد على سطح السفينة. إنني شديدةُ القلق من أن أُلقِيَ أول نظرة لي على المحيط بالليل من أعلى سطحِ سفينةٍ بخارية.»
ردَّ ونتوورث الشاب: «أرجو أن تجعَليني أصحَبُكِ. إن أسطُحَ السفن زلقةٌ بعض الشيء، وحتى عندما لا يكون هناك تمايلٌ من جانب السفينة، فليس من الأمان تمامًا لسيدةٍ غيرِ معتادة على حركة السفن أن تسير بمفردها في الظلام.»
ردَّت الآنسة بروستر بنعومة: «أوه، أشكرك شكرًا جزيلًا. هذا بالتأكيد لطفٌ كبير منك؛ وإذا وعدتَني بألا تدَعني أحرمك من متعة تدخينِ سيجارِ ما بعد العشاء، فسأكون في منتهى السعادة لاصطحابك إيايَ على سطح السفينة. سأقابلك بأعلى الدرَج في خلال خمس دقائق.»
قال كينيون، بينما المرأة الشابة تتوارى عن الأنظار: «أرى أنكما انسجمتُما معًا.»
قال ونتوورث: «ما فائدة أن تكون على متن سفينة إذا لم تستغلَّ الفرصةَ لتكوينِ معارف؟ إن هناك عدمَ تقليديةٍ في الحياة على متن السفينة، وهو الأمر الذي له جمالُه، وذلك كما ستكتشف ربما قبلَ نهاية الرحلة يا جون.»
«إنك فقط تُحاول إراحة ضميرِك بسبب تجاهلك القاسي لي.»
انتظر جورج ونتوورث بأعلى الدرَج لأكثرَ من خمسِ دقائق بقليل حتى ظهرَت الآنسة بروستر، وهي ملتحفةٌ بعباءةٍ حوافُها من الفِراء، مما أعطى سحرًا إضافيًّا لبشَرتِها، التي زاد من جاذبيتها قبعةٌ ثقيلة أنيقة. ذهبا إلى سطح السفينة، ووجَدا أنْ ليس هناك ظلامٌ دامس كما توقَّعا. لقد كانت هناك كُراتٌ صغيرة من الإضاءة الكهربية موضوعةٌ على مسافاتٍ منتظمة على أسوار السطح. وكان يوجد فوقهما نوعٌ من السقف المصنوع من قماش القِنَّب، الذي كانت تتدفَّق عليه الأمطار الثلجية. أحدُ البحارة، الذي كان معه مِمسحةٌ مطَّاطية، كان يدفع إلى فتحة الصرف الموجودة بجانب السفينة الماءَ الموجود على السطح. كان الليل حالِكَ السواد في كلِّ ما حول السفينة، فيما عدا في بعض الأحيان حين كانت تظهر موجةٌ كبيرة بيضاءُ لامعة للحظات.
أصرَّت الآنسة بروستر على أن يُشعل ونتوورث سيجاره وهو الأمر الذي فعله، بعد عدة محاولاتٍ لإقناعه. وبعد ذلك، أخذ بيدها ووضَعها على نحوٍ مريح تحت ذراعه، وعدلَت خطوتها لتُناسب خطوته. وأخذا يتمشَّيان بمفردهما تمامًا؛ فلم يكن ليلُ الشتاء المطيرِ مشجعًا لمعظمِ الركاب بالمقارنة بالغرف المريحة بالأسفل. ومع ذلك، صعد كينيون واثنان آخَران إلى سطح السفينة وجلسوا على الكراسيِّ التي كانت مربوطةً بقضيب نُحاسي يمتدُّ بطول سور السطح. رأى بريق سيجار ونتوورث بينما كان الرفيقان يلتفتان في أقصى نهايةِ سَيرهما، وعندما مرَّا به، سمع همهمةَ حديثٍ منخفضةَ النَّبرة، وجزءًا من ضحكٍ خفيف بين الحين والآخر. لم يكن شعور كينيون بعدم الراحة والضيق بسبب ترك ونتوورث له؛ فهو نفسُه لم يكن يعرف السبب، لكن تملَّكَه هاجسٌ غريب غيرُ مريح. وبعدَ بعضِ الوقت، نزل إلى القاعة وحاول أن يقرأ، لكنه لم يستطِع، ولذلك، سار بطول الممرِّ الضيق الذي بدا أنه لا نهاية له، والمؤدِّي إلى غرفته (التي كانت أيضًا غرفةَ ونتوورث) التي دخلَها في النهاية. ولم يَعُد رفيقه إلى الغرفة إلا متأخرًا.
سأله الآخر: «هل نمتَ يا كينيون؟»
كانت الإجابة: «لا.»
«يا إلهي! إنها يا جون واحدةٌ من أجمل الفتيات التي رأيتُها في حياتي. كما أنها بارعة جدًّا؛ فهي تجعل الرجلَ يشعر بجوارها وكأنه أحمق. لقد قرأَتْ تقريبًا في كل الموضوعات. ولديها آراء عن كلِّ كتَّابنا، الذين لم أسمع بالكثيرِ منهم قط. أتمنى من أجلك، يا جون، أن تكونَ لديها أختٌ على متن السفينة.»
قال كينيون: «شكرًا، أيها العجوز؛ إن هذا لطفٌ شديد منك. ألا تشعر أنه قد حان الوقت لتتوقَّفَ عن هذا الهذَيان وتذهبَ إلى سريرك وتُطفئَ هذا الضوء القوي؟»
«حسنًا، أيها المتبرِّم، سأفعل.»
في تلك الأثناء، كانت الآنسة جيني بروستر تنظر في غرفتها إلى انعكاس صورتها في المرآة. وبينما بسطَت شعرها الطويل حتى انسدلَ مموَّجًا على ظهرها، ابتسمت برقَّةٍ وقالت لنفسها:
«يا لك من مسكين يا سيد ونتوورث! في أول ليلة لنا معًا وأخبرَني بأن اسمه جورج.»