الفصل الحادي والثلاثون
«ما اسمكِ، من فضلك؟»
«أخبِر السيد ونتوورث أن سيدةً ترغب في رؤيته.»
تركَها الساعي وهو لا يعرف ماذا يفعل؛ لأنه كان يعلم أن تلك الرسالة كانت بلا شكٍّ غيرَ معتادة في أماكن العمل. لقد كان يعرف أن الناس يجب أن تُعطي أسماءها.
قال لونتوورث: «سيدة ترغب في رؤيتك، يا سيدي.» وحينها، وتمامًا كما توقَّع الساعي، أراد رئيسه أن يعرف اسم السيدة.
إن السيدات لسنَ من الزوار المعتادين في مكتبِ مراجعِ حسابات في حيِّ السيتي؛ لذا لمس ونتوورث ياقته ورابطةَ عنقه ليتأكَّد من أنهما في مكانهما الصحيح، وطلب من الساعي، وهو يسأل نفسه مَن تكون تلك السيدة، أن يُدخِلَها.
قالت بابتهاج، وهي تتقدَّم باتجاه مكتبه وتمدُّ يدها لتُسلِّم عليه: «كيف حالك، يا سيد ونتوورث؟»
التقطَ نفَسه، وأمسك بيدها الممدودة على نحوٍ رخوٍ بعض الشيء، ثم تمالك نفسه وقال:
«يا لها من مفاجأة سعيدة غيرِ متوقعة، آنسة بروستر!»
تورَّد وجه جيني على نحوٍ جميل للغاية، وضحكت ضحكةً ظنَّ ونتوورث أنها كانت تُشبه نغمةً عذبة من نايٍ رخيم.
وقالت: «قد تكون غيرَ متوقعة، لكنك لا تبدو على الإطلاق مثل شخصٍ يُعاني جَرعةً زائدة من السعادة الحقيقية. أنت لم تتوقَّع رؤيتي، أليس كذلك؟»
«بلى، لكن بما أنكِ هنا الآن، فهل لي أن أسألك كيف أساعدك؟»
«حسنًا، أولًا: يجب أن تطلب مني الجلوس، وثانيًا: يجب أن تجلس أنت أيضًا؛ لأنني جئتُ لأخوض حديثًا طويلًا معك.»
لم يَبدُ الأمر مُغريًا بشدةٍ لونتوورث كما قد يتوقع المرء، رغم أنه قد أتى من فتاةٍ جميلة للغاية، وترتدي ملابسَ شديدة الأناقة، لكن الشاب عرَض عليها على الفور الجلوس، ثم جلس هو، وكان بينهما المكتب. وضعَت مظلتها والأشياءَ القليلة التي كانت تحملها على المكتب، ورتَّبت تلك الأشياء ببعض الاهتمام؛ ثم، وبعد أن منحَته بعض الوقت ليتمالكَ نفسه بعد المفاجأة التي تعرَّض لها، رمَقَته بنظرة جعلَت كلَّ جسدِه ينتفض. لكن الخطر المعروف يسهل التغلبُ عليه؛ وونتوورث، بعد أن أخذ نفَسًا عميقًا على نحوٍ لا واعٍ، استجمعَ قُواه حتى لا يُعاوده شعورٌ كان يُحاول نسيانه، لكن دون تحقيق نجاح ملحوظ، ثم قال في نفسه بتجهُّم، ولكن على نحو غير مقنِع تمامًا:
«لن تخدعيني مرة ثانية، يا فتاتي، رغم جمالك الشديد.»
بدَت بوادرُ ابتسامة على الشفتين الحمراوين للفتاة، وهي ابتسامةٌ كانت بالكاد ظاهرة، لكنها ساهمت مع بشَرتِها الصافية في ترك انطباعٍ يُشبه دخولَ شعاع الشمس إلى الغرفة، وإضاءة انعكاسه لوجهِها.
وقالت في النهاية: «لقد أتيتُ للاعتذار، يا سيد ونتوورث.» ثم أضافت: «أجد ذلك شيئًا صعبًا للغاية، وحيث إنني لا أعرف على الإطلاق كيف أبدأ، فقد دلفتُ مباشرة إلى الموضوع.»
رد ونتوورث، ببرود شديد: «إنك لستِ بحاجةٍ إلى الاعتذار لي عن أيِّ شيء، يا آنسة بروستر.»
«أوه لا، عليَّ ذلك. لا تُصعب الأمر عليَّ أكثر بتعامُلِك معه بأدبٍ وبرود؛ لكن قل لي إنك قد قبلتَ اعتذاري، وإنك تشعر بالأسف … لا، أنا لا أقصد هذا … كان يجب أن أقول إنك متأكِّد أنني أشعر بالأسف وإنك تعرف أنني لن أفعل ذلك ثانيةً.»
ضحك ونتوورث، وانضمَّت إليه في ذلك الآنسة بروستر.
ثم قالت: «رائع، هذا أفضل بكثير. أعتقد أنَّ ثَمة أفكارًا سيئة للغاية كانت تُراودك عني منذ أن قابلتك آخر مرة.»
رد ونتوورث: «لقد حاولتُ أن أفعل ذلك.»
«هذا ما أُسميه صراحةً من جانبك؛ هذا بالإضافة إلى أنني أعجبَتني المجاملةُ المتضمَّنة فيه. أعتقد أن هذا رائعٌ للغاية بالفعل. أنا حقًّا آسفة جدًّا جدًّا على قيامي … سير الأحداث على النحو الذي سارت عليه. ما كنتُ سألومكَ لو استخدمتَ لغةً بذيئة بشدة للحديث عن الأمر في ذلك الوقت.»
«لا بد أن أُقِر بأنني فعلتُ هذا.»
ردت جيني، متنهدة: «آه! أنتم أيها الرجال لديكم العديد من وسائل السَّلْوى الممنوعةِ علينا نحن النساء. لكنني جئت إلى هنا لغرضٍ آخر؛ إن أردتُ فقط الاعتذار، أعتقد أنني كنت سأكتب إليك. أريد بعضَ المعلومات التي بإمكانك أن تُعطيَني إياها، إن أردت.»
أراحت الفتاةُ مرفقيها على المكتب، جاعلةً ذقنها بين يدَيها، وأخذَت تُحملق فيه بجدِّية وبراءة. شعر جورج المسكين بأنه سيكون من شبه المستحيل رفضُ أي شيء تطلبه تلك العينان المتضرعتان الواسعتان.
«أريدكَ أن تُحدثني عن منجمك.»
كلُّ الود الذي كان يبدو على نحوٍ تدريجي على وجه ونتوورث وسلوكه اختفى على الفور.
وقال: «إذن، هذا هو نفس الأمر القديم مرةً أخرى.»
ردَّت جيني بعتاب: «كيف أمكنَك أن تقول هذا؟!» وأردفت: «أنا أسألُ من أجل شيءٍ في نفسي، وليس من أجل صحيفتي. بالإضافة إلى ذلك، أنا أُخبرك بصراحةٍ بما أريد أن أعرِفَه، ولا أُحاول أن أصلَ إليه بطرقٍ غير مباشرة؛ بالخداع، كما قلتَ ذات مرة.»
«كيف يمكن أن تتوقَّعي أن أُعطيَكِ معلوماتٍ ليست خاصةً بي وحدي؟ ليس لي الحقُّ في الحديث عن أمرٍ يهمُّ آخَرين دون أخذِ إذنهم.»
قالت جيني بمرح: «آه، إذن، هناك على الأقل شخصان آخران مَعْنيَّان بأمر المنجم.» ثم أضافت: «كينيون الأول، بحسَب علمي؛ فمَن الآخر؟»
«آنسة بروستر، لن أخبرك بأيِّ شيء.»
«لكنك قلتَ لي شيئًا بالفعل. رجاءً استمِرَّ في الحديث، سيد ونتوورث — عن أي شيء تُريده — وسرعان ما سأتوصل إلى كلِّ ما أريد معرفته عن المنجم.»
سكتَت وبقي ونتوورث صامتًا، وهو الشيء، في واقع الأمر، الذي أدركَ الشاب المتحير أنه آمَنُ ما يمكن فِعلُه.
استمرَّت الآنسة بروستر في الحديث، كما لو أنها تتحدث إلى نفسها: «إنهم يتحدثون عن ثرثرة النساء، لكنه لا شيءَ بجانب ثرثرة الرجال. فقط اجعل الرجلَ يبدأ في الحديث، وستعرف كلَّ شيء يعلمه؛ هذا إلى جانب كلِّ ما لا يعلمه.»
تخلَّت الآنسة بروستر عن أسلوبها المثير للغاية، وما يقترحه من علاقةٍ قائمة على الثقة المتبادَلة، وأنزلَت مرفقيها من على المكتب، وأسندت ظهرها على كرسيِّها، وأخذت تُحملق على نحوٍ حالم في النافذة المغبرة التي كانت تُدخِل الضوء من الشارع المغبر. وبدا أنها نسيَت أن ونتوورث موجودٌ هناك، وقالت، لنفسها أكثرَ مما كانت تقول له:
«أتساءل إن كان كينيون سيُحدِّثني عن المنجم.»
«عليكِ أن تسأليه.»
قالت، وهي تهز رأسها برفق: «لا؛ هذا لن يُجدِيَ نفعًا.» ثم أردفَت: «إنه أحد الرجال الذين يُفضِّلون الصمت، وهم قليلون جدًّا في هذا العالم. ربما من الأفضل أن أذهبَ إلى ويليام لونجوورث نفسِه؛ إنه لا يشك فيَّ.»
بينما كانت تقول هذا، ألقت نظرةً سريعة على ونتوورث، ووجهُ الشاب التعيس وشَى على الفور بأنها قد أصابت الهدفَ. ثم مالت برأسها فوق المكتب، وضحكَت باستمتاعٍ واضح، الأمر الذي جعل ونتوورث، رغم غضبه العاجز، يبتسمُ بتجهُّم.
رفعَت جيني رأسها، لكن منظر وجهه المتحير كان كثيرًا عليها، ولم يسمح لها ابتهاجُها بالحديث إلا بعدَ بعضِ الوقت. وفي النهاية، قالت:
«ألا تودُّ أن تُمسك بي من كتفَيَّ وتطردَني من الغرفة، يا سيد ونتوورث؟»
«أودُّ أن أُمسك بكِ من كتفَيك وأهزَّك.»
«آه! هذا سيكون فعلًا غيرَ لائق، ولا يمكن أن يُسمَح به. يجب أن نترك العقابَ للقانون، كما تعلم، على الرغم من أنني أعتقد أن أي إنسانٍ يجب أن يُسمَح له بطرد أي زائر غير مرغوب فيه إلى الشارع.»
قال الشاب بجدِّية، وهو ينحني فوق المكتب باتجاهها: «آنسة بروستر، لماذا لا تتركين مهنتَكِ الاستقصائية المريعة، وتستغلِّين مواهبك التي لا جدال فيها في شيء آخر؟»
«ماذا، على سبيل المثال؟»
«أوه، أي شيء.»
أراحت جيني خدَّها الأبيض على راحة يدها المفتوحة مرة ثانية، ونظرت إلى النافذة المغبرة. كانت هناك فترة صمت طويلة بين الاثنين؛ انشغَل ونتوورث بمشاهدة جوانب وجهها الواضحة المعالم ورقبتها البيضاء، وكانت أنفاسُه تتسارع كلما تعمقَت عيناه في تأمُّلِ جمالها.
وقالت في النهاية، بصوت خفيض به رعشةُ تنهيدةٍ مكبوتة: «دائمًا ما يتملَّكُني الغضبُ عندما يقول الآخرون هذا لي؛ أتساءل لماذا شعرتُ فقط بالإهانة والألم عندما قلتَ أنت هذا. من السهل جدًّا القول: «أوه، أي شيء»؛ هذا سهلٌ للغاية، سهل للغاية. إنك رجل، ولديك قوةُ الرجال وإصرارُهم، ومع ذلك، صادفتَ خيباتِ أملٍ ومصاعبَ تطلبَت منك كلَّ شجاعتك للتغلب عليها. إن كل الناس حدث لهم هذا؛ وبالنسبة إلى معظم الناس، إنها معركة تستمرُّ حتى يشيبَ الرأس، ويُنهَك العقل من الصِّراع الذي لا يتوقف. إن العالم عديمُ الرحمة على الإطلاق؛ إنه سيدهسُك بقسوةٍ إن استطاع، وإن تراخَتْ يقظتُك للحظةٍ، فإنه سيسرق قوتك ويتركك تموت جوعًا. عندما أُفكر في هذا الصراع الكئيب الذي لا يتوقف، والذي لا مكان فيه للرحمة، أرتعدُ وأدعو الربَّ أن أموت قبل أن أقع تحت رحمة العالم القاسي. عندما أتيتُ إلى لندن، رأيت، لأول مرة في حياتي، المسيرةَ البائسة الحزينة لحاملي الإعلانات المتجولين؛ إنهم حُطامُ بشرٍ يسيرون بطول طرَفِ الشارع، كما لو أنهم قد طُرِحوا هناك من قِبَل المدِّ المندفع الكاسح خلفهم. إنهم … إنهم قد بدَوْا لي مثل حشدٍ مترنِّح من الموتى؛ وعلى ظهورهم كان هناك إعلانٌ عن مسرحية كانت تجعل كلَّ سكان لندن يموتون من الضحك. يا له من أمر مريع تمتزج فيه الكوميديا والتراجيديا! ببساطة، أنا لم أستطِع تحمُّلَه. وكان عليَّ أن أجري في شارعٍ جانبي وأبكي مثل الأحمق الصغير الذي أنا عليه، في وضحِ النهار.»
توقفَت جيني عن الكلام وحاولت أن تضحك، لكن المحاولة نتجَ عنها صوتٌ أشبهُ بنشيج. مرَّرَت بنفادِ صبرٍ شديدٍ يدَيها على عينيها، اللتين لم يُنزِل ونتوورث قط نظرَه عنهما، واللتين رآهما وقد أصبَحَتا مظلِمتَين، كما لو أن الضوء الآتيَ من النافذة كان شديدًا جدًّا عليهما، وفي النهاية امتلأَتا بالدموع عندما توقفَت عن الكلام. بحثَت جيني دون جدوى داخلَ ثوبها عن المنديل، الذي كان موجودًا بجانب مظلتها دون أن يُلاحظه أيٌّ منهما، ثم استمرت في الكلام ببعض الصعوبة، قائلة:
«في الواقع، تلك المخلوقاتُ المسكينة البائسة كانوا رجالًا؛ رجالًا انحدرَ بهم الحال؛ وإن كان العالم قاسيًا بشدة على الرجل رغم كل قوته وسَعةِ حيلته، ففكِّر … فكِّر كيف سيكون الحال بالنسبة إلى امرأةٍ مُلقاة في غَيابة هذا الاضطرابِ اللاإنساني — امرأة بلا أصدقاء وبلا مال — ووسَط تلك الذئاب العديمة الرحمة، وعليها أن تعيشَ إن استطاعت أو أن تموتَ إن كان بإمكانها كذلك.»
انقطع صوت الفتاة، وغطَّت وجهها بذراعيها، اللتين كانتا موضوعتين على المكتب.
قام ونتوورث واستدار متوجهًا إلى المكان الذي كانت تجلس فيه.
ثم قال، واضعًا يده على كتفها: «جيني.» أبعدَت الفتاة، دون أن تنظر إليه، اليدَ التي لمستها.
قالت بصوتٍ مخنوق: «عُد إلى مكانك.» ثم أردفت: «واتركني لشأني.»
قال ونتوورث مُصرًّا: «جيني.»
قامت الفتاة من كرسيِّها ووقفت قبالته، راجعةً للخلف خطوة.
«ألم تسمع ما أقول؟ ارجع مكانَك واجلس فيه. لقد أتيتُ إلى هنا لأتحدثَ في أمور العمل، وليس لأجعل من نفسي أضحوكة. إن الأمر كلَّه بسببك، وأنا أكرهك من أجل هذا؛ أكرهك أنت وأسئلتك السخيفة.»
لكن الشاب وقف حيث كان، رغم الشرارة الخطيرة التي ظهرَت في عينَي زائرته الدامعتين. وارتسم العبوس على جبينه.
وقال ببطء: «جيني، هل تعبثين معي ثانية؟»
إن الغضب السريع الذي توهَّج في وجهها، مُحمِّرًا خدَّيها، جفَّف الدموع.
وقالت بغضب: «كيف تجرؤ على أن تقول شيئًا كهذا لي؟!» ثم أردفَت: «لا تغترَّ بنفسك بحيث تظن، لأنني قد جئتُ إلى هنا لأتحدَّثَ في أمور العمل، أنني لديَّ أيضًا بعضُ الاهتمام الشخصي بك! بالتأكيد حتى غرورك لم يُبالغ بحيث يذهبُ بعيدًا إلى هذا الحد!»
وقف ونتوورث صامتًا، والتقطَت الآنسة بروستر مظلتَها، مبعثرةً، في تعجُّلِها، الأشياءَ الأخرى على الأرض. لو توقعَت أن يضَعها ونتوورث ثانيةً على المكتب، لكانت قد أُصيبَت بخيبةِ أمل؛ فرغم أن عينيه كانتا مثبتتان عليها، إلا أن أفكاره كانت هائمةً في عالم آخر.
صاحت في حَنق، معيدةً ثانيةً أفكارَ ونتوورث فجأة إلى لندن: «لن أبقى هنا حتى لا أُهان.» ثم أضافت: «إن استخدامك لمثل هذا التعبير معي كان غيرَ محتمل. أعبث معك، حقًّا؟!»
«أنا لم أقصد إهانتَكِ، آنسة بروستر.»
«ماذا يعني استخدامُ هذا التعبير سوى أن يكون إساءة؟ إنه يُشير ضِمنًا إلى أنني إما مهتمَّة بك وإما …»
«وهل أنتِ كذلك؟»
«هل أنا ماذا؟»
«هل أنتِ مهتمَّة بي؟»
بسَطَت جيني أطرافَ المظلة بيديها ثم مسدتها ببعض الدقة. كانت عيناها تُركزان على ما كانت تفعله؛ وبالتالي، لم تقابل عينَي سائلها.
ثم قالت في النهاية، وهي لا تزال تُولي اهتمامًا كبيرًا بالمظلة: «أنا مهتمةٌ بك كصديق، بالطبع.» ثم أردفت: «لو لم أكن أعتبرك صديقًا، لما كنتُ قد أتيت إلى هنا لأشاورك، أليس كذلك؟»
«أنتِ على حق. حسنًا، أنا آسفٌ على استخدامي الكلمات التي ضايقَتْك، والآن، إذا سمحتِ دعينا نَمضِ قُدمًا فيما جئتِ من أجله من استشارة.»
«لم يكن من اللائق أن تقولَ هذا.»
«أخشى أنني لا أُجيد قولَ الأشياء اللائقة.»
«لقد كنتَ كذلك.»
بعد أن رتَّبَت المظلة كما تريد، نظرَت إليه.
«مع ذلك، فقد قلتَ إنَّك آسف، وهذا كل ما يمكن لأي رجلٍ أن يقوله — أو امرأة أيضًا؛ إذ إن هذا هو ما قلتُه عندما دخلت إلى هنا. والآن، إن التقطتَ هذه الأشياء من على الأرض … شكرًا … فسنتحدَّث عن المنجم.»
جلس ونتوورث مرةً ثانية، وقال:
«حسنًا، ما الذي تُريدين معرفته عن المنجم؟»
«لا شيء على الإطلاق.»
«لكنكِ قلتِ إنكِ تُريدين معلومات.»
«يا له من مبرر مضحِك! أتعجَّب من تجاهل الرجال لكل النقاط المهمة في أيِّ حوار! لا؛ اعتقدتُ أنكَ ربما كنت ستعرف، فقط عندما قلتُ إنني أريد معلومات، أن هذا ليس ما أريده حقًّا.»
«أخشى أنني غبي جدًّا. أكره سؤالَكِ على نحوٍ صريح عما تُريدينه حقًّا، لكنني أودُّ أن أعلمه.»
«أردتُ أن أتعرف على مدى وثوقِكَ فيَّ. لقد قلتُ لكَ إنني آسفة بسبب حادثةٍ ما. ووددتُ معرفةَ إن كنتَ تثق فيَّ أم لا، ووجدتُ أنك لستَ كذلك. هذا هو الوضع!»
«أعتقد أن هذا لم يكن اختبارًا عادلًا. كما ترَين، الحقائق ليست خاصةً بي بمفردي.»
تنهدَت الآنسة بروستر، وهزت رأسها ببطء.
«ما كان لهذا أيُّ أهميةٍ لو كنتَ تثق بي بحق.»
«أوه، كيف هذا؟! لا يمكن أن تنتظري من رجلٍ أن …»
«بل يمكنني.»
«ماذا، من مجردِ صديق؟»
أومأت الآنسة بروستر برأسها.
قال ونتوورث ملاحظًا، وهو يضحك: «حسنًا، كل ما يمكنني قولُه هو أن الصداقة قد تطورَت في الولايات المتحدة أكثرَ بكثير مما فعلَت هنا في هذا البلد.»
قبل أن تستطيع جيني الرد، طرق الساعي البابَ ودخل بصينية شاي ووضعَها أمام سيدِه؛ ثم غادر في صمت، مغلقًا الباب وراءه في هدوء.
«هل لي أن أُقدِّم لكِ فنجانًا من الشاي؟»
«من فضلك. يا لها من عادة غريبة هذا التناول للشاي في مكاتب العمل! أعتقد أنني سأكتبُ مقالًا بعنوان «أُمَّةُ مدمِني الشاي». لو كنتُ عدوة لإنجلترا، بدلًا من كوني كُبْرى صديقاتها، لنزلتُ بجيشي على هذا البلد فيما بين الساعة الرابعة والخامسة عصرًا، وهكذا، سأُفاجئ الشعب في وقت شرب الشاي. ماذا كنتَ ستفعل لو هاجمَتك العدوة أثناء هذا الطقس القومي المقدس؟»
رد ونتوورث، موائمًا بين الفعل والعبارة: «كنتُ سأقدم لها فنجانًا من الشاي.»
قالت الفتاة بمكر: «سيد ونتوورث، إن أداءك يتطوَّر. إن تلك الملاحظة جيدةٌ على نحوٍ واضح. ومع ذلك، يجب أن تتذكر أنني قد جئتُ إليكَ صديقةً، وليس عدوة. هل قرأتَ من قبل «طفلان في الغابة»؟ إنه عمل أدبي تعليمي لكنه محزن. أنت تتذكر بالتأكيد العم الشرير؟ حسنًا، أنت والسيد كينيون تُذكِّراني ﺑ «الطفلين»، هذين الشيئين الصغيرين البريئين المسكينين! ولندن … هذا الجزء منها … هي الغابة المظلِمة غير المطروقة. أنا الطائر الذي يحوم حولَك، بانتظارِ تغطيتك بأوراق الشجر. أوراق الشجر، حتى تكون مفيدة، يجب أن تكون الشيكات التي تنهال عليك برِفقٍ من السماء، لكن، للأسف، أنا ليس لديَّ أيٌّ منها. لو كانت فقط الشيكات القابلة للتداول تنمو على الأشجار، لما كانت الحياة بتلك الصعوبة.»
أخذَت الآنسة بروستر ترشف شايَها بتأمُّل، وكان ونتوورث يستمع بسعادة إلى الهمهمة الموسيقيَّة لصوتها. لقد كان لهذا تأثيرٌ آسِر عليه لدرجة أنه لم يهتمَّ كثيرًا بما كانت تقوله كما هو مفترض من أي رجل عندما تتحدث إليه إحدى السيدات. لقد أضاف شربُ الشاي لمحةً من الأُلفة على الحوار بين الاثنين، الأمر الذي أربكَ الشاب. لقد أخذ يضمُّ يده ثم يفتحها دون أن تراه تحت المكتب، وشعر برطوبة راحةِ يده. وود لو أمكنه الاحتفاظُ بالتحكم في نفسه، لكن صعوبة المهمة كادت تتغلَّب عليه عندما كانت هي من آنٍ لآخَر تُنعم عليه بنظرةٍ أو إيماءة، وشعر كما لو أنه يجب أن يصيح قائلًا: «يا فتاتي، يا فتاتي، لا تفعلي هذا، إن أردتِ أن أبقى في مكاني.»
وقالت، وهي تضع الفنجان بعيدًا: «أرى أنك لا تنتبه على الإطلاق لما أقوله.» وأراحت ذراعيها على المكتب، ومالت للأمام قليلًا، وحوَّلت وجهَها بالكامل إليه ثم قالت: «أستطيع من خلال عينيك أن أقول إنك تُفكر في شيء آخر.»
قال جورج، وهو يأخذ نفسًا عميقًا: «أؤكد لك أنني أستمع باهتمامٍ شديد.»
«حسنًا، هذا صحيح؛ لأن ما سأقوله مهم. والآن، وحتى تعيَ الأمرَ جيدًا، سأخبرك أولًا بكل شيء عن منجمك؛ ستُدرك بعدها أنني لستُ بحاجةٍ إلى سؤال أي شخص عن معلومات بشأنه.»
وفي هذا الإطار، ولدهشة ونتوورث، أعطَت تصورًا سريعًا ودقيقًا للمفاوضات والترتيبات التي تمَّت بين الأطراف الثلاثة، والوضع الحاليِّ للأمور.
سألها: «كيف تسنَّى لكِ معرفةُ كل هذا؟»
«لا تشغَل بالك بهذا؛ ولا يجب أن تسأل كيف عرَفتُ ما سأقوله لك الآن، لكن يجب أن تُصدقه دون تردُّد، وتعمل بناءً عليه على الفور. إن لونجوورث يتلاعب بكَ أنت وكينيون. إنه يضيِّع الوقت حتى تنتهيَ مدة العقد الخاصِّ بكما؛ وحينها سيشتري عقد الخيار الخاص بالمنجم نقدًا بالسعر الأصلي، وستُترَك أنت وكينيون لتدفعا ثُلثَي الدَّين المستحَق. أين كينيون؟»
«لقد ذهب إلى أمريكا.»
«هذا جيد. أرسِل له برقيةً اطلب منه فيها تجديدَ عقد الخيار. ويُمكنكما بعد ذلك محاولةُ تأسيس الشركة بنفسيكما في لندن. وإن لم يستطِعْ تجديد العقد، فلديكما وقتٌ قليل للغاية للحصول على المبلغ النقدي المطلوب، وإن لم تستطيعا فعلَ هذا، فستفقدان كلَّ شيء. هذا ما جئتُ لأقوله لك، على الرغم من أنه قد مضى وقتٌ طويل قبل أن أفعل هذا. والآن، يجب أن أذهب.»
قامت، وجمعَت أشياءها من المكتب، ووقفت وهي تُمسك المظلة بذراعها. استدار ونتوورث وأتى إلى حيث كانت تقف، ووجهه أكثرُ شحوبًا من المعتاد، ربما بسبب الأخبار التي سمعها. وكانت إحدى يديه تُمسك بإحكامٍ برسغ اليد الأخرى أمامه. وشعر بأنه يجب عليه أن يشكرها على ما فعلَته، لكنَّ شفتَيه كانتا جافَّتين، وعلى نحوٍ ما، كانت الكلماتُ الملائمة عصيَّةً عليه.
كانت، وهي تُمسك مظلتها الضعيفة ذات الأطراف الشريطية بذراع واحدة، تضبط قفازها الطويلَ الملائمَ تمامًا لمقاسها، والذي كانت قد خلعَته قبل تناول الشاي. كان أحد أزراره الكثيرة صعبًا في قفله، وبينما حاولت جاهدةً وضعه في مكانه، وقع كمُّها، كاشفًا عن ذراع بيضاء ممتلئة فوق القفاز.
قالت، وهي تلهث قليلًا، وعيناها على قفازها: «كما ترى، إن الموقف خطير جدًّا، وعامل الوقت مهمٌّ للغاية.»
«أُدركُ ذلك.»
«سيكون من المحزن أن تفقد كلَّ شيء الآن، بعد كل ما صادفتَه من مشاكل وقلق.»
«هذا صحيح.»
«وأعتقد أن أيَّ إجراء سيجري اتخاذه يجب القيامُ به بسرعة. يجب أن تتصرف على الفور وبهمةٍ شديدة.»
«أنا مقتنعٌ أن هذا صحيح.»
«إنه بالطبع كذلك. إنك تثقُ بسرعةٍ في الآخرين؛ يجب أن تكون شكاكًا أكثر، وحينها لن تنخدعَ كما حدث.»
«لا. المشكلة أنني كنتُ شكاكًا بشدة، لكن هذا قد انتهى. لن أصبح كذلك ثانيةً.»
قالت، وهي ترفع بصرها إليه بسرعة: «ما الذي تتحدَّث عنه؟» ثم أردفَت: «ألا تعرف أنك ستفقد المنجمَ إذا …»
صاح، وهو يمد يده ويضمها إليه قبل أن تتحرك للوراء أو تترك مكانها: «فليذهب المنجم للجحيم! هناك شيءٌ أكثرُ أهميةً من المناجم أو المال.»
انكسرَت المظلة مُحدِثة صوتًا حادًّا، وهمهمت الفتاة قائلة: «أوه!» لكن الهمهمة كانت ضعيفة.
قال، مبعدًا المظلةَ من بينهما وملقيًا بها جانبًا: «لا تهتمِّي بشأن المظلة؛ سأشتري لك أخرى.»
قالت بصوتٍ لاهث: «يا لك من رجل متهوِّر! إنك لا تعرف شيئًا عن ثمنها، وأعتقد، كما تعرف، أنني يجب أن يُؤخَذ رأيي … في … في … شيء كهذا … يا جورج.»
«لم يكن هناك وقت. لقد تصرفتُ بِناءً على نصيحتك … على الفور. إنكِ لستِ غاضبة، يا جيني، يا فتاتي العزيزة، أليس كذلك؟»
«أعتقد أنني لستُ كذلك، رغم أنني أرى أنه كان يجب أخذُ رأيي؛ خاصة وأنني أعرف جيدًا أنني أملك قلبي في يدَي طَوال الوقت، وها أنا على وشك أن أهَبَه لك. أرجو ألا تُعامله كما عاملتَ المظلة.»
كان ردُّه هو تقبيلَه لها.
قالت، وهي تعدل من وضع رابطة عنقه: «أتعرف أنني أُعجبت بك منذ اللحظة الأولى، أكثر مما كنتُ أدرك في ذلك الوقت؟ إن … أنا أحاول تبرير موقفي، كما تعلم … إنْ، حسنًا، حاولتَ فقط التوددَ إليَّ قليلًا، ما كنتُ سأرسل تلك البرقية. بدا أنك قد استسلمتَ تمامًا، وأرسلتَ كينيون إليَّ، وهذا أغضبني. توقعتُ أن تأتيَ إليَّ، لكنك لم تأتِ قط.»
«أنا شديدُ الحمق. أنا دائمًا ما أكون هكذا عندما أحصل على فرصةٍ عادلة.»
«أوه، لا، أنت لستَ كذلك، لكنك تحتاج بالفعل إلى شخص يعتني بك.»
وفجأة أبعدَت نفسها عنه مسافة ذراع.
«أنت لا تعتقد للحظة، يا جورج ونتوورث، أنني قد جئتُ إلى هنا اليوم من أجل … من أجل هذا.»
صاح الشاب الأمين، بكثيرٍ من الشغف الساخط، مقربًا إياها ثانيةً منه: «بالتأكيد لا!»
«إذن، هذا جيد. أنا لا أستطيع تحمُّلَ تصورِك لهذا الشيء، خاصةً … حسنًا، سأُخبرك بالسبب يومًا ما. لكنني أتمنى بالفعل أن يكون لديك لقَب. ألا يمنَحون ألقابًا أبدًا لمراجعي الحسابات في هذا البلد، يا جورج؟»
«لا؛ إنهم يفعلون ذلك مع الحَمْقى الأغنياء فقط.»
«أوه، أنا سعيدةٌ بشدة من أجل هذا؛ لأنك ستُصبح غنيًّا بسبب المنجم، وسأصبح الليدي ونتوورث في النهاية.»
ثم أمالت رأسَه لأسفل حتى لامست شفتاها الضاحكتان شفتَيه.