الفصل الأربعون
كتب ونتوورث إلى كينيون يقول إن السيد سميث رفَض تمامًا أخذ أكثرَ مِن ثلث أرباح المنجم. صحيحٌ أن هذا العرض قد رُفِض، لكن ونتوورث لم يعرف قطُّ مدى الإغراء الذي شعَرَت به صاحبةُ المنجم عندما قدَّمه كينيون. لقد كان همُّها الأكبر هو ردَّ الثلاثين ألف جنيه لأبيها، وأرادت فِعلَ ذلك بأسرعِ ما يمكن. وفي نهاية العام الثاني، كان نصيبُها من الأرباح من المنجم، ومن ضمنها العائد على الخمسة آلاف جنيه التي أُرسِلَت إلى أوتاوا باعتبارها رأسَ مالٍ عاملًا، لا يزال أقلَّ من الثلاثين ألف جنيه بنحوِ خمسةِ آلاف جنيه. لقد تطلعَت بشدةٍ إلى الوقت الذي ستستطيع فيه دفعَ الثلاثين ألف جنيه لأبيها. لم يتحدَّث السيد لونجوورث العجوز قطُّ مع ابنته عن المبلغ. لقد توقعَت أنه سيسألها عما فعَلَته به، ولكنه لم يذكر قط الموضوع. لقد كان ضميرها يُؤنبها كثيرًا بسبب الطريقة التي اتبعَتها للحصول على هذا المبلغ الكبير. ورأت أن أباها قد غيَّر من طريقة معاملته لها منذ ذلك اليوم. لقد أعطاها المال، لكنه قد أعطاها إياه، كما يمكن أن نقول، وهو شبهُ مُجبَر، ولا شكَّ أنه لم يُعجبه أن يُكرَه على دفعِ ماله، رغم كرَمِه. لقد ضحَّت إديث لونجوورث من أجلِ المنجم بأكثرَ من المبلغ النقديِّ الذي أودَعَته في أوتاوا. لقد ضحَّت من أجله بأن فقدَت ثقةَ أبيها. إنه الآن لم يَعُد قط يطلبُ نصيحتها في أيٍّ من مشروعاته، ولأول مرة منذ عدة سنوات، ذهب في رحلةٍ بحرية طويلة دون أن يدعُوَها لمصاحبته. كلُّ هذا جعل الفتاةَ متلهفةً أكثرَ فأكثر للحصول على المال لردِّ دَينها، وإن قدَّم ونتوورث في نهاية العام الثاني العرض نفسه الذي قدَّمه في نهاية العام الأول، فستقبلُه. لكن العرض لم يُقدَّم، ولم تقل الآنسة لونجوورث شيئًا، وأخذَت نصيبها من الأرباح ووضعَته في البنك.
إن وضع المرء كلَّ البيض الذي يمتلكه في سلةٍ واحدة يُعَد فكرةً جيدة؛ حتى يحدث شيءٌ للسلَّة! ويُقال إن البرق لا يضرب أبدًا مرتَين المكانَ نفسَه، وكما يُشير الطفل الصغير، «إنه لا يحتاج أبدًا إلى فعل ذلك». أما في عمل السيد لونجوورث، فالبرق ضربَ ثلاثةَ أماكن، وفي كلٍّ من ضرباته أصاب سلةً كبيرة. لقد مُرِّر قانونٌ جديد في جزءٍ من العالم مما أثَّر بشدةٍ على مصالحه الكبيرة هناك. وفي جزء آخرَ من العالم، في الوقتِ نفسِه، حدثَت ثورةٌ، وتوقفَت كلُّ مجالات العمل في هذا البلد في الوقت الحالي. وفي جزءٍ ثالث من العالم، حدثَت أزمةٌ تِجارية، وتأثَّر سوقُ المال في لندن بكل تلك الكوارث المالية، وتأزَّم الوضعُ فيه بشدة.
أراد الجميعُ البيع، ولم يرغب أحدٌ في الشراء. وأثرَت مجموعةُ الأحداث المؤسفة هذه بشدةٍ في السيد لونجوورث العجوز. لم يكن الأمر أنه لم يكن يعتقد أن كلَّ استثماراته كانت آمِنة، لو استطاع فقط تجاوُزَ العاصفة، لكن كانت هناك حاجةٌ فورية إلى سيولة نقدية بدا أنه كان من شبه المستحيل الحصولُ عليها. ويومًا بعد يوم، كانت ابنتُه ترى علاماتِ الشيب تظهر عليه على نحوٍ واضح. وكانت تعرف أن القلق هو السبب في هذا، وكانت تُدرك أن الأحداث التي كانت تحدث في أجزاءٍ مختلفة من العالم لا بد أنها أربكَت أباها بشدةٍ. وتاقَت إلى الحديث معه بشأنِ مسائل العمل، ولكن المحاولة الوحيدة التي قامت بها في هذا الشأن قُوبِلَت بصدٍّ عنيف من جانبه، ولم تكن من نوعية النساء التي يُمكن أن تتعرض لصدٍّ آخرَ من هذا النوع. لذا، بقيت صامتة، وأخذت تُراقب بحزنٍ كيف أن أزمات العمل كانت تُؤثِّر بشدةٍ في صحة أبيها.
قال لونجوورث الشاب: «يبدو أن الرجل العجوز في أزمة.»
قالت الفتاة بغضب: «أنا لا أريدك أبدًا أن تُشير إلى أبي ﺑ «الرجل العجوز» … تذكَّر هذا!»
هز لونجوورث الشابُّ كتفيه، وقال:
«أنا لا أعتقد أنه يُمكنك أن تُصِري على جعلي أصفُه بالشاب أكثرَ من ذلك. إن لم يكن هو رجلًا عجوزًا، فأودُّ أن أعرف مَن عساه أن يكون سواه.»
قالت إديث: «لا يُهم هذا.» ثم أردفَت: «يجب ألا تُردِّد مثل هذا الوصف على مسامعي ثانيةً. ماذا تقصد بقولك إنه في أزمة؟»
رد: «حسنًا، أنا لا أعرف الكثير عن أعماله. إنه لا يُطلِعُني على أسراره على الإطلاق. في الحقيقة، إنه كلما كبر في السن، زادت احتمالاتُ وقوعه في مأزق، والاحتمال الأكبر أنه سيقوم بمضاربة سيئةٍ للغاية عمَّا قريب، إن لم يكن قد فعل هذا بالفعل. هذا هو الحال بالنسبة إلى الرجال العُجُز، وأستميحُكِ عذرًا على استخدامي هذه الصفة. إن هذا الكلام لا ينطبق على أبيك فقط في هذا المقام، بل على كلِّ الرجال العُجُز، خاصة مَن كانوا ناجحين منهم. يبدو أنهم يرفضون قَبولَ أيِّ نصيحة من أحد.»
في أحد الأيام، تلقَّت إديث برقيةً، تطلب منها الذَّهاب إلى مكتب أبيها في حي السيتي دون تأخير. أصابها ذعرٌ شديد عندما قرأت الرسالة، وكانت متأكدةً أن أباها قد سقط على الأرض في مكتبه، وربما كان يحتضر؛ أو ربما مات بالفعل. لقد كانت تخشى حدوثَ مثل هذا الأمر منذ فترة طويلة، بسبب الضغط الشديد الذي كان يتعرَّض له، ولم يكن هو من نوعية الرجال الذين يُمكن أن يُنصَحوا بضرورة الاهتمام بأنفسهم بدعوى تقدُّمِهم في السن. لقد كان يرفض أيَّ إيعازٍ بأنه لم يَعُد رجلَ أعمالٍ ناجحًا كما كان دائمًا؛ لذا، كان من الصعب بشدةٍ جعلُه يستمع إلى صوت العقل، هذا إن كان لدى أيِّ أحدٍ الشجاعةُ لأن يُمثِّل هذا الصوتَ بالنسبة إليه.
قفزَت إديث بسرعةٍ ودون أيِّ تأخيرٍ في عربة أجرة، وذهبت لاستقلال مترو لندن دون انتظارِ عربتها. ومن محطة مانشن هاوس، أقلَّتها عربةُ أجرة أخرى بسرعة إلى مكتب أبيها.
لقد شعرت بارتياح شديد، بينما كانت تمرُّ عبر مقر الشركة، لرؤية الموظفين وهم يعملون؛ كما لو لم يكن قد حدَث شيءٌ محدَّد. ولدى دخولها مكتب أبيها، وجدَته يذرع المكان جيئةً وذهابًا، بينما كان ابنُ عمها جالسًا على مكتبه، منشغلًا على ما يبدو في شئونه. وكان أبوها على ما يبدو غاضبًا بشدة.
صاح في اللحظة التي دخلت فيها: «إديث، أين ذلك المبلغُ الذي أعطيتُكِ إياه منذ عامين؟»
ردَّت، وقد شحب وجهها قليلًا: «لقد استُثمرَ.»
ضحك أبوها ضحكةً جافة وساخرة.
قال ساخرًا: «تمامًا كما ظننت؛ لقد استُخدِمَ بنحوٍ لا يُمكن استعادةُ بنس منه، حسبما أعتقد. فيمَ استُثمِر؟ لا بد أن أحصل على هذا المبلغ.»
«متى أنت بحاجةٍ إليه، يا أبي؟»
«أريده الآن، في تلك اللحظة؛ إن لم أحصل على هذا المبلغ، فسأتعرَّض لمشكلة كبيرة.»
«تلك اللحظة. أعتقد أن هذا معناه أيُّ وقت اليوم، قبل أن يُغلق البنك أبوابه؟»
نظر أبوها إليها للحظةٍ، ثم قال:
«نعم، هذا ما يعنيه.»
«سأحاول الحصول لكَ على المبلغ قبل حلول هذا الوقت.»
قال بمرارة: «ابنتي العزيزة، أنت لا تعرفين ما تتحدَّثين عنه. إن قمتِ باستثمار هذا المبلغ، وحتى إن أدرَّ استثمارُك ثلاثةَ أضعاف المبلغ الأصليِّ الذي دفَعتِه، فلا يُمكنك الحصولُ على بنس واحد منه. ألا تعرفين الوضعَ الذي عليه سوق المال بلندن؟ ألا تُدركين مقدارَ نُدرة المال؟ ظننتُ أنكِ ربما لا يزال معك جزءٌ منه، ولم تُضيعيه في استثمارِك الأحمق، أيًّا كان. أنا لم أسألك قطُّ عن ماهيته. لقد قلتِ لي إنك ستُخبرينني به، لكنكِ لم تفعلي هذا قط. لقد اعتبرت هذا المبلغ مفقودًا. وأنا لا أزال أعتبره كذلك. إن كان بإمكانك إعطائي ما تبقَّى منه، فهذا سيُساعدني الآن أكثر مما كان سيفعل المبلغ كلُّه، أو ضِعفُه، في وقت إعطائي إياه لكِ. ما الذي فعَلتِه بالمبلغ؟ فيمَ استُثمِر؟»
«لقد استثمرتُه في منجم.»
«منجم. من بين كل الأشياء في العالم التي يمكن إضاعةُ المال فيها، يُعَد المنجمُ هو الأسوأ. إن هذا هو المتوقع تمامًا من أي امرأة أو أحمق! كيف تتوقَّعين كسْبَ مالٍ من منجم في الوضع الراهن للسوق؟ ما الذي، بالله عليك، جعلَكِ تستثمرين المال في منجم؟ منجمُ مَن هذا الذي اشتريتِه؟»
«أنا لا أعرف مَن كان مالِكَه، يا أبي، لكنني كنت أريد أن أخبرك بكلِّ ما كنتُ أعرفه في الوقت الذي سألتني فيه وإن سألتني الآن عن المنجم الذي اشتريتُه، فسأخبرك عنه.»
«بالتأكيد، سأفعل. ما المنجم الذي اشتريتِه؟»
«لقد اشتريتُ المنجم الذي كان جون كينيون لديه حقُّ شرائه.»
في اللحظة التي قيلت فيها تلك الكلمات، وقف ابنُ عمها وحدَّق فيها مثلَ رجلٍ مجنون.
«لقد اشتريتِ ذلك المنجم … أنت؟ إذن ونتوورث كذب عليَّ. لقد قال إن شخصًا يُدعى السيد سميث قد أعطاه المال.»
«أنا السيد سميث، يا ويليام.»
«أنتِ السيد سميث! أنت الشخص الذي خدعَني وحرَمني من هذا المنجم!»
«ابن عمي العزيز، كلما قلَّ الحديثُ عن الخداع، كان هذا أفضل. أنا أتحدث إلى أبي الآن، ولا أريد أيَّ مقاطعة. هلا تتفضل بمغادرة الغرفة حتى ينتهيَ حديثي معه؟»
«إذن لقد اشتريتِ منجم الميكا، أليس كذلك؟! وقد كنتِ تتظاهرين بمصادقتي، وأنت تعرفين طَوال الوقت أنك كنت تفعلين كل ما في وُسعِك لخداع …»
قاطعَه الرجل العجوز قائلًا: «مهلًا، مهلًا! ويليام، كفَّ عن هذا. إن كان لأحدٍ أن يتحدث بحِدَّة مع إديث، فسيكون أنا، وليس أنت. اهدَأ، يا عزيزي، واترك الغرفة، كما طلبَت منك هي.» ثم أردف، بنبرةٍ أهدأَ بكثير، بعد أن غادر لونجوورث الشابُّ الغرفة: «والآن، يا ابنتي، هل لديكِ أيُّ مال سائل؟ لا جدوى من القول إن المنجم يستحقُّ مائة ألف جنيه أو مليونًا الآن، إن لم يكن لديك مالٌ سائل.» ثم أضاف: «إديث، ابنتي، اجلسي للحظةٍ، وسأشرح لك الوضعَ بالكامل. يبدو لي أن الأمور منذ أن توقفتُ عن استشارتك لا تسير على ما يُرام. ربما، حتى لو لديكِ المال، فمن الأفضل ألا تُخاطري به الآن؛ لكنَّ جنيهًا واحدًا سيفعل ما لن يفعلَه جُنيهان بعد عامٍ من اليوم، أو ربما ستَّة أشهر من الآن، عندما تنتهي هذه الأزمة.»
جلسَت إديث بجوار أبيها وعرَفَت منه كيف كان الوضع بالضبط. ثم قالت:
«كلُّ ما تحتاج إليه بالفعل هو نحوُ خمسة عشَرَ ألف جنيه، أليس كذلك؟»
«بلى، هذا سيَفي بالغرض؛ أنا متأكد من أن هذا المبلغ سيُساعدني في تجاوزِ الأزمة. هل يمكنك توفيره لي، يا صغيرتي؟»
«نعم، والمزيد. سأحاول أن أوفر لك المبلغَ كلَّه. انتظرني هنا عشرين دقيقة أو نصفَ الساعة.»
اندهش جورج ونتوورث بشدةٍ عندما رأى إديث لونجوورث تدخل مكتبه. لقد مرَّ عدةُ أشهر منذ مجيئها آخِرَ مرة إلى هنا، ومد يدَه بكلِّ ترحيب ليُسلم على الفتاة.
قالت على الفور: «سيد ونتوورث، هل معك أيٌّ من المال الذي أدرَّه منجم الميكا؟»
«نعم. لقد استثمرتُ أرباحَ العام الأول، لكن، منذ أن حصلتُ على آخرِ مبلغ، أصبحَت الأمور غيرَ مستقرة للغاية في حي السيتي لدرجة أنه لا يزال موجودًا في البنك.»
«هل ستُقرضني … هل يمكن أن تُقرضني خمسةَ آلاف جنيه منها؟»
«بالطبع، يُمكنني، وسأفعل؛ وأنا سعيدٌ جدًّا لأنْ أُتيحَت لي الفرصة لفعل ذلك.»
«إذن، من فضلك اكتب لي شيكًا بالمبلغ على الفور، وأي أوراق تُريدها كضمان، اكتبها، وسأضمن لك حقك.»
رد الشاب، واضعًا يدَيه على وركيه وقد أخذ يُحدق فيها: «اسمعيني، يا آنسة لونجوورث، هل تقصدين إهانتي؟ ألا تعرفين أن السبب في قدرتي على كتابة شيكٍ بخمسة آلاف جنيه، ويكون مقبولَ الدفع، يرجع بالكامل إلى أنكِ أعطيتِني أنا وكينيون مالَك دون ضمان؟ هل تعتقدين أنني أريد ضمانًا؟ اسحَبي هذا الكلام، يا آنسة لونجوورث.»
قالت: «سأفعل … سأفعل، لكني في عجَلة من أمري. من فضلك اكتب لي الشيك؛ لأنني يجب أن أصرف المبلغ قبل أن يُغلق البنكُ أبوابه.»
وكتب الشيك على الفور وأعطاه لها.
قالت: «أخشى أنني لست مهذبةً جدًّا اليوم، وأنني فظَّة بعض الشيء، لكنني سأُصلح هذا في وقتٍ آخر.»
وهكذا، بعد أن ودَّعَت الشاب، ركبَت عربتَها إلى البنك، ثم أودعت الشيكَ في حسابها وصرفت أموالها لتحصل على مبلغ الثلاثين ألف جنيهٍ وحمَلَته إلى أبيها.
ثم قالت: «ها هي الثلاثون ألف جنيه، وأنا لا أزال أملكُ المنجم، أو، على الأقل، جزءًا منه. كل هذا المال مصدره الشيك الذي أعطيتَني إياه، أو، على وجه الدقَّة، ثُلثَاه؛ لأن ثُلثَه لم يُمَس قط. والآن، يبدو لي، يا أبي، أنني إن كنتُ سيدةَ أعمالٍ جيدةً بالقدر الكافي بحيث أَزيد أموالي إلى أكثرَ من الضِّعف في غضون عامين، فأنا سيدةُ أعمال جيدةٌ بما يكفي بحيث يَستشيرني أبي حينما يحتاج إلى كاتمِ أسرار. والدي العزيز، أريد أن أحمل عنك بعضًا من الأعباء التي على كاهلك.»
ترقرَقَت الدموعُ في عينَي أبيها عندما وضَع ذراعه حول وسطها وقال لها هامسًا:
«لا يوجد مثيلٌ لك في لندن بأكملها، يا عزيزتي … لا أحد يُشبهك. أنا لن أُخفِيَ عنك أيَّ أسرار، يا فتاتي الشجاعة.»