الفصل الأول
خروج هرقل
استهلَّ القرن السابع والدولة الرومانية تلوح كأنها تنحدر من حال الاضمحلال إلى حال
الذَّهاب والفناء، وقد كانت تلك
الدولة قبل ذلك بستين عامًا قد أبلغها سلطان جستنيان إلى بلاد القوقاز وبلاد العرب شرقًا،
وإلى أعمدة هرقل
١ غربًا، وقد كان لذلك العاهل شخصيةٌ قوية ملكت على الناس عقولهم، حتى لَكان يُخيَّل إليهم
— كما قال القائل —
«أن العالم كله أضيَقُ من أن يسعه».
٢
وقد كان مجده وأبَّهة مُلكه مُساويَين لقوَّته وسلطانه، وكان حزمه عدلًا لمجده، حينًا
من الدهر على الأقل، وكان فوزه في
ميادين العلوم والفنون فوزًا باهرًا، حتى إنه ليَبزُّ انتصاره في ميادين الحروب؛ فإن
عملية الجليلين اللذين يقترنان باسمه
لا يزال باقيًا منهما قانونه ومجموعة أحكامه يُسايران الأيام، مشهودًا لهما أنهما عمدتان
في فقه القانون، في حين أن كنيسة
«أيا صوفيا» لا تزال على مر الأيام ماثلةً يشهد لها الدهر أنها أبدع أثر وأجلُّ مثل في
طراز البِناء البيزنطي.
على أن خطر الاضمحلال كان ماثلًا حتى في أيام «جستنيان»؛ فقد توالت النوازل على الدولة
حتى خُشي عليها، فمن فسادٍ خُلقي
إلى آخر سياسي. وزادت عليها نكباتٌ طبيعية؛ فاجتاح الوباء بلاد الشرق كلها بادئًا من
مدينة «الفرما»، ثم ما زال يعصف ببلاد
مصر جائسًا خلالها إلى أن بلغ بلاد «لوبيا»، وأنشب مَخالبه في فلسطين وما يليها من بلاد
فارس إلى القسطنطينية. وأعقب
الوباءَ الزلزالُ، فدمَّر من المدن ما قد يَعدل ما أصاب أهل الدولة من «الموت الأسود»؛
فكانت آخر أيام ذلك العاهل القانوني
تغشاها سحابةٌ دَكْناء من الهم وتوقُّع البلاء. وما كادت أيام حكم خلَفه «جستن» تقترب
من نهايتها حتى كانت حكومة الدولة
تتصدَّع، وقد كانت أيام ذلك الحكم قصيرة ولا روح فيها، وانتهى العاهل منها بالجنون. فلما
جاء بعده «تيبريوس» سنة ٥٧٨ أمل
الناس أن يكون أسعد طالعًا من سلفه، وقد كان يُرجى منه على الأقل أن يسعى ليُوقف تيَّار
الاضمحلال، ولكن الأجل لم يُمهِله
حتى يظهر قدره، فخلَّف لمن جاء بعده، وهو «موريق»، خزائن خاوية، وشعبًا مُتذمرًا، ودولةً
غير مُتماسكة.
وما كان لمِثل ذلك الكرب أن ينفرج إلا على يدَي رجل له أعظم عقل، ولا يُخطئ له رأي.
ولم يكن «موريق» بذلك الرجل، مع أنه
كان يقصد خيرًا؛ فقد أفسد عليه خُططَه وخيَّب سياستَه عيبٌ طالما أفسد أحسن الخُطط والآراء
عند تنفيذها، ألا وهو قلة
الاعتداد بتغيُّر الظروف والأحوال سفهًا وجهلًا، فأدخل على جيشه بدعًا يريد بها إصلاح
شأنه، وكان ذا دراية بفنون الحرب
وخططه، وما أحسن ما كتبه في ذلك الشأن، غير أن ذلك لم يحفظ كتائبه من الهزيمة، ثم إنه
عمد إلى الاقتصاد، وأخذ نفسه بذلك
أخذًا شديدًا لكي يُصلِح من حال الدولة المالية، فخاب سعيه فيما قصد إليه، ولم يُفِد
إلا أن أمَّل شعبه وأبعده عنه كرهًا،
فثار به، ورمى بالتاج مُزدريًا إلى جنديٍّ جاهل مشوَّه الخلقة، وهو «فوكاس».
وكانت الدولة عند ذلك كأنها سائرة إلى الدمار لا يُنجِّيها منه شيء؛ فكان حكم «فوكاس»
حكمًا ظالمًا، قائمًا على جيشٍ
فاسد، تدعمه عُصبةٌ فاسدة من الأشراف، حكمًا تتناقص هيبته وقوَّته كلما بعدت عن قصبته
ميلًا فميلًا، وسلَّط على أنحاء
الدولة سوطَ عذاب من الحكم السيِّئ، حتى لأصبحت وأقل بلادها عذابًا تلك الأقاليم التي
تستعر فيها الحرب مع الفُرس أو مع
همج الشمال.
وفي الحق لم يكن في بلاد الدولة الرومانية ما هو أشقى حالًا من مصر؛ فقد سعى «جستنيان»
جهده ليُجبِر القبط الذين ليسوا
على مذهب الدولة (الأرثوذكسي) فيُدخلهم في ذلك المذهب، ولكن امرأته «ثيودورا» عملت من
جانبٍ آخر، فأفسدت بعض سعيه؛ إذ كانت
تعطف على مذهب هؤلاء الأقباط عطفًا ظاهرًا.
٣ على أن ذلك العطف ما عتَم أن قضى عليه الإمبراطور «جستن» وعفا أثره؛ ومن ثَم عاد الكفاح
الشديد الذي ثار
قديمًا بين طائفتَي «الملكانيين» و«المونوفيسيين»،
٤ وصار أشدَّ سعيرًا، ولم يكن عند قبط مصر همٌّ أكبر منه يملأ قلوبهم ويملك عليهم آمالهم؛
فلم يكن عجبًا على ذلك
أن يُسمع صليل السلاح بين حين وحين في مدينة الإسكندرية نفسها، وأن تمتلئ أرض الصعيد
بعصابات اللصوص وقُطاع الطُّرق،
٥ ويغزو أكنافَها البدوُ وأهل النوبة، بل لم يكن عجبًا أن تضطرب الأحوال في مصر السفلى،
فتصبح ميدانًا للشغب
تثور بها فتنٌ بين الطوائف تُوشِك أن تكون حربًا أهلية،
٦ ولم يكن عجبًا أن يكون هذا في بلادٍ أصبح الحكام فيها لا همَّ لهم إلا أن يجمعوا المال
لخزائن الملك البيزنطي
وحاشيته، وأن تكون لمذهبهم الديني اليد العليا بين أهل البلاد؛ فصار الحكم على أيديهم
أداةً لا تؤدي إلا إلى الظلم ونشر
الشقاء؛ فالحقُّ هو أن بلاد مصر إذ ذاك كانت جميعها تضطرم بنار الثورة، ورغبة الخروج
لا يُغطيها إلا غطاءٌ شفيف من
الرماد.
بدأ حكم «فوكاس» في نوفمبر سنة ٦٠٢، وفي ذلك اليوم لبس التاج في حفلٍ عظيم حسب الرسوم
المعروفة، ألبسه إياه البطريق
«قرياقوس» في كنيسة القدِّيس حنا بالقسطنطينية، ودخل المدينة من الباب الذهبي، فسار فيها
بين صفوف من العُمد الجليلة، وفي
الطُّرق الكبرى تُحيط بمَوكبه الناس يهلِّلون له في سرورٍ كبير. غير أنه ما أتت سنة ٦٠٩
حتى كانت بلاد الدولة كلها هائجةً
تتهيَّأ للثورة، ثم بدأت الثورة في «بنطابوليس»، والرواية المشهورة لتلك الحوادث هي أن
«كريسبوس» صهر «فوكاس» — زوج ابنته
— استوجب أنْ غضِب عليه الملِك غضبًا هائلًا؛ وذلك بأن أقام تمثاله وتمثال عروسه في ميدان
السباق؛ فلما أن فسد بذلك ما
بينه وبين الملك، شرع كريسبوس يدبِّر لحميه ثورة، ودعا هرقل حاكم إفريقية ليُنفِّذ ما
دبَّره. أما الحقيقة فهي أن هرقل كان
يدبِّر أمر ثورة لم يكن فيها صادرًا عن أمر «كريسبوس»، وقد ذكر تلك الحقيقةَ «قدرينوس»
ذكرًا صريحًا لا شك فيه، ولم يكن
«كريسبوس» صهر الإمبراطور بالرجل الذي يقدر أن ينهض بادئًا بأمر؛ فلما أن سمع بما ثار
من الاضطراب في «بنطابوليس» قوِيَت
نفسه، فأنفذ سرًّا إلى الثائرين كُتبًا يحثُّهم فيها على ما هم فيه، ويعِدُهم بالمساعدة
إذا ما استطاع «هرقل» أن يسير إلى
القسطنطينية، وقد كان «هرقل» قد تقدَّم في السن، فلم يكن قادرًا على مثل هذه المُجازفة،
٧ فما كانت سِنه بأقل من خمسة وستين عامًا، إلا أنه رأى دونه ابنه وسميَّه «هرقل»، وكان
عند ذلك في مُقتبل
العمر، ورأى صديقه «نيقتاس»، وكان نائبه ووكيله الأكبر، فما أسرع أن وجد فيهما الأداة
الصالحة لإنفاذ خطته.
وقد أساء كثير من الناس فهم خطة الحرب، فذكر «جبون» — وهو حجة فيما يقول — روايةً
تافهةً خلع عليها قوة بذكره إياها، وهي أن هرقل ونيقتاس اتفقا على أن يسير أحدهما بحرًا
والآخر برًّا قاصدين إلى العاصمة،
فمن سبق إليها كان جزاؤه أن يفوز بالتاج.
٨ ولا تنسَ أنهما ابتدآ من «قيرين»؛
٩ فإذا هما قد ابتدآ ومع كلٍّ منهما قوة من الجيش مُساوية لِما مع الآخر، لم تكن قسمةً
عادلة، وكان سِباقهما
سباقًا لم يكن قبله أكثر منه ظلمًا وحَيفًا؛ فإن هرقل لم يكن عليه إلا أن يجوز البحر
الأبيض، ثم يُساحل بلاد اليونان
ومقدونيا، ثم يقذف بعد ذلك بجيشه على العاصمة، في حين أن «نيقتاس» كان عليه — على ما
جاء في تلك الرواية — أن يسير إلى
مصر، فينزعها من يد «فوكاس»؛ ومن ثَم كان عليه أن يسير سيرًا طويلًا مُنهكًا إلى فلسطين
وسوريا وقليقيا وآسيا الصغرى؛
فهَبْ أنه في مِثل تلك الحال فاز فوزًا مُبينًا في عدة مَواقع باهرة، وهَبْ أن كل مقاومة
له خبَت نِيرانها، وانطفأ لهيبها،
هَبْ كل ذلك تجِد أنه ما كان مع ذلك ليستطيع أن يُتابع سيره في السباق لنيل الجائزة لفوات
الوقت عنه إذا لم يكن لشيءٍ
سواه؛ ولهذا نرى أن الأمر لم يكن كما جاء في تلك الرواية. وإننا لو صدَّقنا وجود فكرة
مسابقة بين مُتنافسين يكون التاج
فيها لمن سبق — وهذا ما نستبعده ونشكُّ فيه كل الشك — نقول لو صدَّقنا ذلك لكان خط السير
أبسط مما تزعم الرواية، وأقرب إلى
أن يكون السباق معه عادلًا على سواء. إنه لا شك في أن إقليم «بنطابوليس» لم يكن فيه ما
يكفي لِما يقوم بحاجة جيش عظيم، فما
بالنا بما يكفي جيشين؟ ولم يكن على قائد كل فِرقة من الفرقتين أن يكتفي بالذهاب إلى «بيزنطة»،
بل كان لزامًا عليه أن يرفع
علَم الثورة حيث يسير، وأن يجمع المؤن والأمداد، ثم يجتمع كلٌّ منهما بأخيه حتى يضربا
العاصمة ضربةً تتصدع لها. فاستقرَّ
الرأي على إنفاذ هذه الخطة، بأن يذهب «هرقل» بحرًا، وأن يسير «نيقتاس» في البر — لا شك
في هذا — ولكن الذي جهِله «جبون»
ومؤرِّخو اليونان، ولم يقدروا على الفطنة إليه، هو أن الغرض الذي رمى إليه «هرقل» هو
مدينة «سلانيك»، وكان القصد الذي رمى
إليه «نيقتاس» هو مدينة «الإسكندرية»، وأن نجاح الخطة المشتركة كان مُتوقفًا على انضمام
هاتين المدينتين للثُّوار، أو
خضوعهما لهم.
إنه لا يكاد يكون شك في أن هرقل كانت له صلاتٌ وثيقة بأهل «سلانيك» أو بحزب منهم،
وأن «نيقتاس» كان يتوقع أن يلقى في مصر
ترحيبًا وتسهيلًا، وأنه إن لقي مقاومة فلن تكون إلا مقاومةً يسيرة. على أن توقُّعه لم
يصدُق، وفشل حسبانه؛ إذ صمد له عدوٌّ
شديد المِراس لم يكن يتوقَّعه، فوقف في سبيله. وإني أرى من الواجب عليَّ أن أؤكد مرةً
أخرى — مفنِّدًا لقول جبون — أن
«نيقتاس» لم يكن له إلا قصدٌ واحد وهو فتح مصر، وأن مصر كانت من خطة العمل مع «هرقل»
بموضع القُطب تدور عليه رحاها، وأنها
كانت العقبة لا عقبة سواها بينه وبين القسطنطينية؛ فإذا هو فتحها ملَك بذلك الفتح أرضًا
يستطيع أن يجنِّد منها الجنود،
وتمكَّن من «مزرعة النيل» تُخرج له القمح والخيرات، ووضع يده على ميناء الإسكندرية وما
فيها من السفين؛ فإذا تم له ذلك كان
من أشد الحمق أن يقتحم بجيشه الشام وآسيا بدل أن يذهب عامدًا نحو الدردنيل فيلتحق بجيوش
هرقل. وعلى ذلك فقد كانت الخطة كما
يلي:
كان على هرقل أن يُبحر بسفنه إلى «سلانيك»، وأن يُعد هناك أسطولًا قويًّا وجيشًا
جرَّارًا، في حين أن «نيقتاس» كان عليه
أن يملك الإسكندرية — وهي المدينة الثانية في الدولة جمعاء — فإذا هو ملكها قطع عن القسطنطينية
ما كان يُبعَث إليها من
قمحها، ووضع يده على موضعٍ يستطيع فيه أن يُجهِّز سريةً بحريةً يرمي بها «فوكاس»؛ فإذا
لم يتهيأ له ذلك أمكنه على الأقل أن
يقطع عن «فوكاس» كل إمداد من ذلك القُطر.
١٠
وهذه الحادثة لا يذكُرها مشاهير مؤرِّخي بيزنطة إلا عرَضًا في بضعة أسطُر، ولا يكاد
أحدهم يدرك مكان مصر وخطورة محلها من
هذه الثورة، ولكن قد انبعث نورٌ جديد على تاريخ مصر منذ كُشف كتاب حنا النقيوسي، أو بقولٍ
أدقَّ منذ نُقلت إلى لغةٍ
أوروبية ترجمةٌ لنسخةٍ مخطوطة باللغة الأثيوبية من «ديوان أخبار حنا أسقف نقيوس»، وكانت
«نقيوس» إذ ذاك مدينةً عظيمة من
مدن مصر السفلى، وكان حنا نفسه يعيش في النصف الثاني من القرن السابع للميلاد، وكان لا
بد قد اتصل بكثير من الشيوخ
المعمَّرين الذين شهدوا الحوادث التي أدَّت إلى سقوط «فوكاس»، أو بمن يكون عندهم ذكر
منها؛ فديوان أخباره على ذلك له خطرٌ
كبير، ويسترعي النظرَ فيه دقةُ روايته وتحرِّيه الحقيقة، إلا في مواضع شُوِّهت فيها النسخة
المخطوطة تشويهًا، وذلك مع أن
هذا الديوان نُقِل من لغته الأصلية إلى لغةٍ أخرى. حقًّا إن فيه بعض أغلاط، وفيه مواضع
لا يتفق ما يذكُره فيها مع سائر
الحوادث، ولكن يعوِّض ذلك ويكفِّر عنه أن الكتاب يكشف من الحقائق شيئًا كثيرًا كان مجهولًا؛
فالحقُّ أن ذلك الديوان يبعث
من لدنه نورًا جديدًا عجيبًا يكسو تاريخ الدولة الرومانية الشرقية، وتاريخ بطارقة الإسكندرية،
وتاريخ مصر عامة في ذلك
العصر الذي قلَّ أن يوجد عصرٌ مِثله في خطره ومكانه، على أنه عصر قد أُهملَ أمره إهمالًا
لا تُبرِّره قلة ما ورد عنه، ونقص
ما تخلَّف من آثاره، وفوق كل هذا فديوان حنا يُكمل من نواحٍ عدةٍ ما جاء في الروايات
الأخرى من نقص، ويصحِّح ما يشوبها من
خطأ، مثل روايات «تيوفانز» و«قدرينوس» و«نيقفوروس».