الفصل العاشر
إعلاء الصليب
في السنة التالية، وهي سنة ٦٢٩، سار الإمبراطور يقصد الحج إلى بيت المقدس في أول
الربيع، وأراد عند ذلك أن يُعِيد الصليب إلى محله، وكان في هذه الأثناء مُودَعًا في كنيسة
أيا صوفيا.
وقد ذكر التاريخ حادثتين في رحلته هذه؛ الأولى: أن بعض المؤرخين يذكرون أنه قد أتى
عند ذلك رسول إلى حمص
١ (ويقول بعضهم إلى أذاسة) من قِبل النبي محمد، عليه الصلاة والسلام،
٢ بكتابٍ يدعو فيه هرقل إلى الإسلام. ولعل هذه الحادثة لم تقع عند ذلك، بل كانت قبل ذلك
في حياة الملك الأعظم
«كسرى». وأما الحادثة الثانية فهي أن الإمبراطور عندما بلغ طبرية أرسل إليه يهودها وفدًا
معهم الهدايا العظيمة يطلبون منه
عهدًا يضمن لهم السلامة؛ فقد ذكروا ما أتوا من الجرائر في المسيحيين، وخشُوا أن يقتاد
الإمبراطور منهم، ولكنه منَّ عليهم
بالعهد، وكان من حرص اليهود وحيطتهم أن أخذوا منه بذلك العهد كتابًا.
وسار الإمبراطور بعد ذلك في سبيله إلى أن لاحت له المدينة المقدسة عن بُعد. ومن السهل
أن تتصور سير موكبه في خيلٍ تلمع
عدتها؛ من حديدٍ يبرق،
٣ وألويةٍ على الخيل تخفق، ومن رُماة بالنِّبال، وكُماة في يدِ كلٍّ رمحه، وعليه درعه،
وقد احتقب كنانته، وفي
وسطهم سار هرقل في خاصته،
٤ وهم جميعًا قطعةٌ تتلألأ من الذهب وزاهي الألوان، حتى إذا ما اقترب من المدينة خرج إليه
موكب من القسوس
والرهبان، وعلى رأسهم «مودستوس»، يحملون الأناجيل والشموع والمجامر، كما كانت عادتهم
في احتفالاتهم، وجاءت من ورائهم جموعٌ
كبيرة من الأهلين. وهكذا سار حتى بلغ الباب الذهبي
٥ في الجانب الشرقي من المدينة، وكان في انتظاره هناك البطريق «زكريا»، فسلَّم عليه وأظهر
الخضوع، ثم أخذ
يُعنِّفه على فخامة ملبسه، وأمره أن يخلع رداءه الأرجواني، ويطرح ما عليه من الذهب حتى
يقترب من المواضع الطاهرة بما يليق
بها من الخضوع والخشوع. وسار الإمبراطور المظفَّر بعد ذلك في لباس الحاج المُنيب إلى
ربه، وكان يرى أينما ولى وجهه آثار
الخراب الذي جرَّه الفرس على البلاد منذ أربعة عشر عامًا، ثم شكر «مودستوس» على ما بذله
في سبيل الإصلاح والعمارة، ولا
سيَّما إعادته بناء كنيسة القيامة وكنيسة الرأس وكنيسة قسطنطين، ثم كان بعد ذلك الاحتفال
الأكبر المشهور باسم «إعلاء
الصليب»، ولا تزال ذكراه إلى اليوم تُحييها الكنيستان الشرقية والغربية كلتاهما في يوم
١٤ سبتمبر.
وتُروى قصة عن الصليب المقدس أنه بقي محفوظًا في صندوقه تُحليه الجواهر، ولم تقع عليه
نظرةٌ نجسة من أعيُن الكفار في مدة
وقوعه في يد الفرس، حتى إن كسرى نفسه لم يجرؤ على أن يُدير مفتاح ذلك الكنز الطاهر أو
يكشف غطاءه. وأكبر الظن أن الصليب لم
تدركه يد التدمير لأمرين؛ أولهما: أن الملك كان يخشاه ويحترمه مع أنه كان غير مسيحي،
وكانت خشيته ناشئة من وهمٍ خرافي.
وثاني الأمرين: أن الصليب كان له في نفسه قيمة لِما فيه من الذهب والجوهر الذي يحيط به،
وكان كسرى يحب جمع التحف وآثار
الفن. وعلى أي حال قد أُرجعَ الصليب إلى كنيسة القيامة، ووُضع فيها على المذبح في احتفالٍ
باهرٍ فخم.
وليس من الوهم أن نرى في هذا الاحتفال الباهر بإعادة الصليب أعلى ما بلغه
الإمبراطور من المجد في حياته؛ فقد أدرك عند ذلك قصارى السلطان والهيبة، وطبَّق ذكره
الآفاق. ولعله أحسَّ عند ذلك أنه قد
أدَّى أمانته وأتمَّ أمره؛ فقد قضى من قبلُ عشر سنين كان فيها مخذولًا ذليلًا، يهوي به
خورٌ عجيب في النفس، وهوت معه دولته
حتى رغمت، وضاعت منها قطعة بعد قطعة لا تحتمل أن تلمسها جيوش الهمج حتى تتداعى، فلم يبقَ
منها إلا أسوار العاصمة وما يليها
من شريحةٍ صغيرة من البحر تفصل بينها وبين جموع العدو الضاربة حولها، ثم نهض كما ينهض
الحالم من سُباته، فأُعجبَ العالم
بما أظهر من مضاء في العزيمة، وقوة في الجهاد، ومن حماسةٍ ثائرة، ورأي في الحرب باهر،
ومن سرعة في بتِّ الرأي، وهيبةٍ تخضع
لها الرجال. وتلك لعَمْري صفاتٌ جعلته سيِّد قُواد عصره لا يُدانيه مُدانٍ. وسارت الجيوش
التي جمعها تحت لوائه يهديها بهدي
عقله الراجح، فغلبت الفرس وكانوا من قبلُ مغلوبين، وأزاحت نِيرهم عن الدولة من ضفاف البوسفور
إلى شواطئ «نهر الرس»، ومن
ثَم إلى الأردن فالنيل. وفوق هذا وذاك استطاع أن يحفظ المسيحية من خطرٍ كاد يدهمها من
الوثنية؛ إذ كانت على وشك أن
تجتاحها، وأرجع من ملك الوثنيين أعزَّ رمز لدين المسيح؛ فكان إرجاع الصليب إلى مشهده
في المدينة المقدسة بمثابة الخاتم ضم
الإمبراطور المظفَّر إلى الغازي الموفَّق في جهاده في سبيل الدين؛ فقد خلَّص دولة الروم
وحفظ دين المسيح بعد أن كانا على
شفا جرف هارٍ من الضياع والدمار.
غير أنه منذ ذلك الوقت أخذ حظه يتعثر، وخُلقه يهِن ويضمحل. وكان أول ما أمر به في
أمور السياسة أن نكَّل باليهود تنكيلًا
فظيعًا انتقامًا منهم، وكان الناس والقسوس كلاهما يتسابق بالوشاية إلى الإمبراطور بهذا
الشعب، وإيغار صدره منهم،
يتَّهمونهم بأشنع من تُهَم الفرس، وأنهم كانوا أشد منهم فتكًا بالمسيحيين، وأفظع منهم
جرمًا في تدمير الكنائس وإحراقها.
ولسنا ندري لعل تلك التهمة كانت صحيحة أو في شيءٍ كثير من الصحة؛ فإنه لأمرٍ ما قد بادر
اليهود إلى أخذ عهد من الإمبراطور
يؤمنهم، وإنهم ولا شك كانوا عند ذلك يحملون للمسيحيين عداوةً أشدَّ مما كانوا يحملون
لجيرانهم من أهل الوثنية. على أن هرقل
لم يُسارع إلى الأمر، بل كان غير راغب في الإقدام على نقض عهده، فقال له قائل: إنه إنما
أعطى العهد قبل أن يعلم بحقيقة ما
كان منهم، وإنه ما كان ليحفظ عهدًا مع قومٍ خدعوه عنه، وإنه لو كان قد علم بما فعله اليهود
من فتك بالمسيحيين بالسيف
والنار لمَا تردَّد في أن يقسو عليهم ويشتد في حكمهم، إلى غير ذلك من الأقوال. وما زالوا
به حتى أزالوه عن رأيه؛ إما
بعلوِّ ضجيجهم، وإما بالتماس الحُجج لإحلاله من عهده. ولعل كلا الأمرين قد اجتمع على
ذلك؛ فأمر أن يُجلى اليهود عن بيت
المقدس، ويُمنعوا أن يعودوا بعد ذلك إلى ما بعد أسوار المدينة بثلاثة أميال. ولكن ذلك
النفي لم يكن أشد عقوبة نزلت بهم؛
فإنه يلوح لنا أن هرقل قد أجاب المسيحيين من رعيته إلى كل ما طلبوه من الانتقام، وهناك
وقعت في اليهود مَقتلةٌ تُشبِه أن
تكون عامة.
٦ ولكن البطريق ومطارنته أرادوا أن يُزيلوا وساوس الإمبراطور، وأن يُطيبوا نفسه، ويُطمئنوا
نفوسهم إلى ما كان،
فبعثوا إلى المدائن جميعها كُتبًا يأمرون فيها أن يصوم الناس أسبوعًا، وأن تكون تلك سُنةً
أبد الدهر. وما زالت تلك السُّنة
باقية إلى يومنا هذا؛ فإن أول أسبوع من الصوم الكبير عند القبط لا يزال اسمه «صوم هرقل».
ويمكن أن نقول إن القبط قد
اشتركوا في تلك المَقتلة لِما كان بهم من ذَحل ومَوجدة على اليهود منذ أيام فتح الفرس
للإسكندرية.
والظاهر أن الإمبراطور قضى الشتاء في بيت المقدس. ويمكننا أن نستنتج من تاريخ الصيام
المذكور أن مَقتلة اليهود كانت في
أول العام الذي بعده؛ أي عام ٦٣٠. وقد مات في ذاك الشتاء البطريق «زكريا»،
٧ وولي مكانه على عرش البطرقة «مودستوس» عن رضًا من الملك والناس جميعًا.
ولسنا ندري أي البطريقين كان صاحب الرأي في مَقتلة اليهود التي لطَّخت ذكر هرقل،
ولا شك في أن كليهما قد رضي عنها
وأقرَّها، ولكن الإمبراطور عندما أزمع السير إلى عاصمته استصحب «مودستوس» ليُساعده على
إقرار أمور الكنيسة، وإعادتها إلى
سابق عهدها بعد أن رجعت بلاد الشام إلى دولة الروم، وليعمل على رد الكنائس التي كان كسرى
قد جعلها للنسطوريين
٨ والمونوفيسيين، وإرجاعها إلى أصحاب مذهب الدولة (الأرثوذكس). وكان مما قصد إليه الإمبراطور
من صحبة البطريق أن
يُساعد كذلك في التماس الوسيلة لجمع مذاهب الدولة المُنتضلة وتوحيدها. وكان هذا من أعز
ما يتمنَّاه الإمبراطور، وقد بدا له
الأمر ممكنًا إذ كان عند ذلك بطل المسيحية وناصرها.
ولكن «مودستوس» تُوفي في شتاء سنة ٦٣٠-٦٣١، ولم يلِ إلا تسعة أشهر؛
٩ فلم يجد هرقل بعده بين المطارنة من يُوافق رأيه في أمر الكنيسة كل الموافقة؛ ولهذا ترك
مكان البطريق شاغرًا.
ولم يكن أحد ليستطيع أن يُزيله عن رأيه، وهو التوفيق بين اليعاقبة والملكانيين، وهما
حزبا الكنيسة؛ أولهما حزب الخوارج،
والثاني حزب الجماعة. وكان سرجيوس القسطنطيني يرى الملك في التوفيق، فاعتزَّ ذلك الرأي
به وهو الرجل الذي عُرِف بالقوة
والإقدام. وكان سوريَّ المولد، وهو صاحب صورة التوفيق التي أقرَّها هرقل. وكانت تلك الصورة
تقضي بأن يمتنع الناس عن الخوض
في الكلام عن كُنْه طبيعة «السيد المسيح»، وعما إذا كانت له صفةٌ واحدة أم صفتان، ولكن
عليهم أن يشهدوا أن له إرادةً واحدة
أو قضاءً واحدًا. وكان الإمبراطور منذ سنة ٦٢٣ عندما كان في أرمينيا قد اتفق مع «بولص»
زعيم الدين، وكان أثر ذلك الاتفاق
أن توحَّدت الكنيستان؛ كنيسة الدولة وكنيسة أرمينيا. وبعد أربع سنوات من ذلك زار «اللازيين»،
ودعا «قيرس» مطران «فاسيس»
إلى مذهبه الجديد، فوجد منه قَبولًا. وفي ذلك الوقت عرض رياسة الدين في أنطاكية على «أثناسيوس»،
على شرط أن يُقرَّ ما
أقرَّه مجمع «خلقيدونية»، وأن يأخذ بتأويل المُوحدين (المونوثيليتيين). والظاهر أن الرؤساء
الثلاثة اجتمعوا بالإمبراطور في
«هيرابولس»، وكانت نتيجة مُناظرتهم في ذلك الاجتماع أن أقرُّوا شرط التوفيق إقرارًا كاملًا.
وكان المتوقَّع عند ذلك أن
يسُود السلام الكنيسة، وترتق فُتوقها المتَّسِعة.
ولعل هذا الوفاق كان في صدر عام ٦٣١،
١٠ وأعقبته ولاية «قيرس» بطرقة الدين في الإسكندرية. وقد أمره الإمبراطور أن يجمع المذهبين
القبطي والملكاني في
المذهب الموفَّق الذي ابتدعته حكمة المجلس الإمبراطوري. وكانت خطة الإمبراطور إلى ذلك
الوقت موفَّقة توفيقًا أعظم مما
توقَّعه أحد، وجاءت إليه الأنباء من مصر في أول الأمر مبشِّرة بالنجاح؛ فقد وصف «قيرس»
نجاحه وصفًا بليغًا، حتى لكان
يُخيَّل إلى الناس أن هرقل قد بدأ باسترجاع دولته وجمع شملها، بعد أن نزعها الفرس من
يده ومزَّقوها كل ممزَّق، ثم ثنى بعد
ذلك بالحلم الذي كان يتمنَّى تحقيقه في حياته، وكاد يتم له الأمر كما يشتهي. فانتصر في
القتال نصرًا عظيمًا، فغلب الكفار،
وحمى منهم المسيحية. وإنه ليكون نصرًا أعظم لو استطاع أن يُحلَّ السلام والوئام على الكنيسة،
وأن يُزيل ما فيها من مواضع الخلاف،
١١ ويربط بين المسيحيين فيجعلهم إخوانًا في دينٍ واحد. وكان الصليب الذي استرجعه من العدو
رمزًا ماثلًا أمام
عينيه؛ فلا عجب إذا لاح له فوقه ذلك الخيال الذي لاح لعينَي سلفه العظيم، وهو «فُزْ إما
بالموت وإما
بالحياة»؛
(َ٢٢⋆)
فقد كان الصليب أداة نصره في الحرب، وكان يستلهم من الصليب وحيه وإلهامه في أمور الدولة
بعد أن ساد السلام.