الفصل الحادي عشر
دعوة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)
ما أكثر عجائبَ التاريخ وعِبره! ولكن قلما حدث فيه من العجائب ما هو أكثر عدًّا أو
أعجب أمرًا مما كان في عهد هرقل، وقد
اتفق عندما بدأ هرقل عهد ولايته أمر الإمبراطورية أن بدأ النبي محمد دعوته وأخذ في نشرها،
وذلك في سنة ٦١٠،
١ وقد كان مقدورًا أن تكون دعوة النبي أكبر ما يصدم هرقل ويهدم ما بناه. وقد لاقى كلٌّ
من هذين العظيمين في أول
حياته تخذيلًا عظيمًا وأخطارًا جمَّة صحِبته نحوًا من اثنتَي عشرة سنة، ثم خرج كلٌّ منهما
من هذه المِحن وقد قويت نفسه،
واستعدَّت للعمل العظيم الذي كانت مُقبِلة عليه. في سنة ٦٢٢ سار هرقل في سَريَّته إلى
قليقيا، فضرب أول ضربة في سبيل
استنقاذ الصليب المقدس وإعادته إلى الدولة الرومانية من الفرس. وفي هذه السنة عينها هاجَر
النبي من مكة إلى المدينة، وبدأ
بذلك عصر الجهاد في سبيل تخليص بيت الله الحرام وفتح بلاد العرب لدعوة الإسلام، فكان
هذا الحدث مبدأ التاريخ الإسلامي أبد
الدهر.
وليست هذه كل وجوه الاتفاق؛ فإن النبي والملك كليهما صحِبه نصرٌ لا تكاد تثلمه هزيمةٌ
مدة ست سنين
٢ بعد سنة ٦٢٢. وكان النبي يرقب بلهفٍ حوادث القتال الطويل بين الروم والفرس، وكان قد
آلَمه نصر الفرس في مبدأ
الأمر في سنتَي ٦١٤ و٦١٥؛ لأن ذلك كان انتصارًا لعبَدة الأوثان على قوم من أهل الكتاب.
فلما رجع النصر إلى
الروم — وما كان أعجب ذلك — واستطاع هرقل أن يمحق سلطان الفرس بعد حربٍ ضروس استمرَّت
ست
سنوات، بعث ذلك في النبي آمالًا كبيرة لغزو الطائفتين والتغلب عليهما وقد تضعضعت قوة
الغالب منهما والمغلوب، ورأى أن الله
قد مهَّد بذلك للإسلام طريق النصر والفتح؛ ولهذا نستطيع أن نقول إن الساعة التي بلغ فيها
هرقل أعلى ذروة مجده كانت ساعة
البشرى العظيمة للنبي (عليه الصلاة والسلام).
وكان النبي قبل ذلك رأى أنه قد آن له أن يُرسِل إلى أمراء العالم يدعوهم للدخول في
الدين الجديد، فبعث كُتبًا إليهم في
سنة ٦٢٧،
٣ وختمها بخاتمه على ما جرت عليه عادة أهل الشرق، وكان نقش ذلك الخاتم «محمد رسول الله»،
وكانت الكتب جميعها
تدعو إلى الدخول في الإسلام والشهادة بأن محمدًا عبد الله ورسوله. وأُرسلت تلك الكتب
إلى أمراء اليمن وعمان
٤ واليمامة والبحرين، وإلى الحارث «ابن أبي شمر الغساني» أمير العرب على حدود الشام، وإلى
«جورج»، وسُمِّي
«المقوقس» في الكتاب خطأً، وهو حاكم الإسكندرية ونائب الملك في مصر،
٥ وإلى نجاشي الحبشة، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى هرقل قيصر الروم.
٦
فأما أمراء العرب، فقد ردَّ اثنان منهما ردًّا حسنًا وأسلما، وهما أمير «اليمامة»
وأمير «البحرين». وأما أمير اليمن
وعمان فقد ردَّا ردًّا فاحشًا،
٧ فدعا عليهما النبي. وأما النجاشي فقد أجاب جوابًا حسنًا ولم يبعد، ولكنه لم يُسلِم.
ولعل هذا موضع لأن نقول إن
الحبشة هي البلاد التي لم يفتحها الإسلام دون كل البلاد التي أرسل النبي إليها الرسل.
وأما «عظيم القبط»
٨ فقد وعد أن يرى لنفسه رأيًا في الأمر، وأكرم الرسول وهو «حاطب بن أبي بلتعة اللخمي»،
وبعث معه هديةً عظيمة كان
فيها جاريتان «مارية» و«شيرين»، وبغلةً سمَّاها النبي «دلدل». ويزعم بعضهم خطأً أنها
كانت أول بغلة عُرفت في بلاد العرب.
٩ وكذلك كان بين ما أهدى حمارٌ اسمه «نفور»،
١٠ ومقدار من المال.
١١ فأما «مارية» فقد أسلمت وتزوَّجها النبي، عليه الصلاة والسلام، وأحبَّها، وماتت سنة
٦٣٦، فلم تشهد فتح مصر
وخضوعها للعرب.
وأما رد كسرى فقد كان على طريقةٍ أخرى؛ إذ شقَّ كتاب النبي ومزَّقه وهو غضبان قد
تولَّى كِبْره، وكتب إلى بازان
١٢ عامله على إقليم «حِمْير» يأمره: «ابعث إليَّ برأس هذا الرجل الذي بالحجاز.»
١٣ فقال النبي عندما بلغه ما فعله كسرى بكتابه: «مُزِّق ملكه.» فكانت نبوءة ودعوة عليه،
وما مضى بعد ذلك إلا زمنٌ
قصير حتى تحقَّقت.
١٤
أما ما كان من أمر هرقل فلسنا ندري ما كان يدور بنفسه إذ هو خارج من مواكب الاحتفال
عند مقدمه إلى عاصمة مُلكه بعد فتوحه
في آسيا، أو عندما كان يسير وفي ركابه الظفر يشقُّ بلاد الشام نحو بيت المقدس حاملًا
معه الصليب الأعظم؛ أكان عند ذلك يذكر
ما وقع له وهو في معسكره منذ حين، إذ طلع عليه جماعة من فرسان البدو وعليهم رئيسهم «دحية
بن خليفة» الكلبي يحمل إليه كتاب
النبي؟ لا شك أن الإمبراطور قد سمع بما أجاب به من قبلُ ملك الفرس، ولعله كان عند ذلك
قد أتاه نبأ مقتل رسول النبي في مؤتة،
١٥ ولكنه مع ذلك أرسل ردًّا حسنًا، حتى إن بعض مؤرخي العرب خلق من ذلك قصةً منمَّقةً سخيفةً
عجيبة يذكُر بها
إسلام هرقل، ولم يكن شيءٌ أبعد من ذلك الأمر عنه. وماذا عسى كان يدفعه إلى تصديق ما أتى
به زعيمٌ عربي لم يعرفه، وذلك في
حين كان ملكًا سيد الكتائب الكثيرة التي عركتها الحرب فأصبحت ضاريةً صعبة المِراس.
وعلى ذلك فقد سار هرقل في سبيله، ولم يُعكر شيءٌ صفاءه، ولم يُعِر أمر تلك الرسالة
اهتمامًا، ولكن فيما كان هرقل يسير في
موكبه من الباب الذهبي بين الطرق المتعرِّجة قاصدًا إلى الكنيسة القائمة على جبل الزيتون
ليُقيم بها الصليب الذي استنقذه،
وفيما كانت الناس في بيت المقدس يبكون مما في نفوسهم من سَورة قد غلبت عليهم جميعًا،
حتى لقد بكى من كانوا منهم يُنشدون
أناشيد النصر؛
١٦ كانت سَريةٌ من ثلاثة آلاف فارس أرسلها النبي تسير في الصحراء إلى مؤتة لتثأر لرسوله
الذي قُتل. ومن ذلك الحين
بدأت الحرب مع الدولة الرومانية، فلم تنتهِ حتى كانت سنة ١٤٥٣، وفيها سلَّمت القسطنطينية
للإسلام، ونُقش اسم النبي العربي
حيث هو اليوم على جدران الكنيسة الكبرى كنيسة «أيا صوفيا». وقد جاءت جنود الدولة فالتحمت
بجيش العرب يقوده زيد بن حارثة
قُرْب «مؤتة»، وكانت صدمة القتال عنيفة، فقُتل أكثر القادة حتى ولي القيادةَ خالدُ بن
الوليد، واستطاع بما له من مهارةٍ
فائقة في الحرب ورأيٍ سديدٍ أن يحفظ المسلمين من القتل، وقد سُمِّي من ذلك الحين بسيف
الله، فانحاز بمن بقي منهم، وسار إلى
المدينة في أسفٍ شديد، ولكن النبي تلقَّاهم ولم تفلُل الهزيمة من عزمه. وما أتى آخر شهر
أكتوبر حتى جهز عمرَو بن العاص في
سريةٍ صغيرة وبعثه إلى أكناف الشام، وانتظر كي يتم نشر الدعوة في بلاد العرب ثم يخرج
إلى من حوله فيُناجزهم في حربٍ عظيمة.
وقد تم له فتح مكة ثم انتصر في حُنين، فسار ذكره وسادت هيبته بعد ذلك كلَّ ربوع بلاد
العرب.
ثم أخذ في إعداد جيش، وجاهَر بأنه لغزو فلسطين، يدفعه إيمانه وما في قلبه من شعورٍ
قوي بأمانته إلى الاستهانة بما قد
يلقى من العقبات، ولكن كثيرًا من أصحابه استصعبوا الأمر، فدلَّ ذلك على أن إيمانهم لم
يعصمهم من هيبة هرقل. وكان يحب أن
يجتمع عنده مائة ألف رجل مجهَّزين بالعُدد، ولكن لم يجتمع إليه إلا ثلاثون ألفًا، وتخلَّف
عنه المنافقون والمعذرون الذين
ادَّعوا المرض هربًا. وسار في هذا الجمع إلى «تبوك»، وهي في نصف الطريق إلى مؤتة، فأقام
بها عشرة أيام ولم يلقَ كيدًا.
ولعل ربيئته قد حملت إليه من الأخبار ما جعله لا يتقدم إلى الشمال إلى أبعد من ذلك، أو
لعله عاد لقلة الزاد والماء معه؛
فإنه قد عاد إلى المدينة وقضى بها عامًا يُعِد جيشًا لغزوةٍ جديدة. وفي أثناء مقامه في
«تبوك» عقد عهودًا مع كثير من أمراء
العرب، وأرسل خالدًا في أربعمائة فارس إلى أمير «دومة» النصراني، فنزل عليه على غِرة
منه وأسره، ثم أسلم ذلك الأمير، وأخذ
منه النبي أرضه ومدينته وحصنه وثلاثة آلاف من الإبل وأربعمائة درع.
١٧
وعلى كل حال فإن غزوة «تبوك» وإن لم يصِل النبي منها إلى غرضه من لقاء الروم لم
تؤخر سير الإسلام؛ فقد تتابع أمراء العرب إلا قليلًا منهم على الدخول في الإسلام، وشهد
ذلك العام دخول الناس جميعًا تحت
لوائه؛ ومن ثَم سُمي «عام الوفود». وكانوا جميعًا يتبعونه ويرَونه سيدًا وقائدًا ورسولًا
من عند الله، بعضهم يرى ذلك صدقًا
عن عقيدة وإيمان، وبعضهم يتراءى ذلك خوفًا ونفاقًا. وفي عام ٦٣٢
١٨ حج النبي إلى مكة حجةَ الوداع، وقام بين المؤمنين لا يحصرهم عد، وعلَّمهم شعائر الحج
إلى الكعبة التي أصبحت
بيتهم الحرام بعد أن كانت معبد الأوثان، وقرَّر شعائر الحج التي لا تزال متَّبَعة إلى
اليوم. وبعد شهرين من مُنصرَفه من
الحج أخذ يدعو العرب إلى غزو الروم، وجعل قيادة الجيش إلى أسامة ابن مولاه زيد الذي قُتل
في وقعة «مؤتة»، ولكنه مرض بعد
ثلاثة أيام من عقده لأسامة على الجيش، وكان مرضه بالحُمى، وتُوفي من مرضه ذاك بعد قليل.
على أن وفاة النبي لم تُضعف الإسلام، بل شدَّت ساعده؛ فإنه اهتزَّ حينًا، ولكنه كان
راسخ الأساس؛ فلم تكن تلك الهزة التي
جاءته من داخل جزيرة العرب لتُحدِث فيه أثرًا. وقد مات النبي بعد أن أتم ما تاقت إليه
نفسه في حياته، وإن لم يكن ذلك في
الوقت الذي كان فيه على ذروة النصر والقوة، فكان في ذلك على غير ما كان عليه هرقل عند
موته. وكان النبي لا يشعر عند موته
بما يُعكر صفاءه من أنه أخفق، أو أنه قد مضى عزه وتقادَم العهد على نصره، بل إنه لو أتيح
له أن يطَّلع على الغيب لعرف أنه
قد ألَّف بين قومه وألبهم، فأصبحوا وقد خلَّفهم قوةً ذات بأس في الدين وذات أثر في السياسة،
وأنها ستفتح العالم بعد
وفاته.
وكانت بلاد العرب قد صارت يدًا واحدة قبل موت النبي، وقد انقطع بسقوط كسرى ما كان
بين الفرس واليمن وجنوب أرض العرب من
علاقة السلطان، في حين أن هرقل لم يعمل على تقوية سلطانه وتحديده في شمال الجزيرة، بل
تركه كما هو ظلًّا غير حقيقي من
الهيبة. ولا شك في أن جُل نصارى العرب كانوا على المذهب «المونوفيسي»، وأنهم لذلك كانوا
لا يثقون برأي الإمبراطور في
السياسة، على أنهم كانوا ضعفاء لا يستطيعون دفع أعداء الدولة.
١٩
وإذا كان ثَم شيءٌ يتم به جمع جزيرة العرب لتصبح يدًا واحدة تحت سلطان واحد، فقد
قام به أبو بكر خليفة رسول الله وقد
بايَعه الناس بعد النبي؛ ففي سنةٍ واحدة أرسل «أسامة» في بعث إلى الشام، وكان موفَّقًا
منصورًا، وأرسل خالدًا ذلك القائد
الشهم المِغوار، فقضى على مُسَيلمة الكذَّاب الذي ادَّعى النبوة في بلاد اليمن. وكان
النبي قد أوصى وهو على فراش الموت ألا
يبقى في بلاد العرب إلا دين الإسلام. والظاهر أن ذلك تم بلا تريُّث ولا مهل؛ فقد أُخرجَ
المسيحيون من الجزيرة ولم يبقَ
منهم فيها أثر، وكذلك قُضِي على ما كان عندهم من العلوم والفنون والآداب.
٢٠
وليست لدينا صورةٌ كاملة عن الفنون في بلاد العرب إذ ذاك، ولكنا نستطيع أن نعرف شيئًا
عن تقدُّمها مما يُروى لنا من وصف
كنيسة صنعاء، وهي التي نالها المسلمون بالأذى وهدموها، وهي من بناء «أبرهة الأشرم» عامل
ملِك الحبشة على بلاد اليمن، وذلك
بعد منتصف القرن السادس بقليل. ويُروى أن الملك كان شديد العناية بأمر بنائها وزخرفتها،
فكان يقضي الوقت كله نهارًا وليلًا
فيها، وكانت تُشبِه كنائس الروم في رسمها؛ فكانت الأعمدة العالية من المرمر الثمين تفصل
ما بين وسطها وجناحَيها، وكان ما
فوق الأعمدة من القباب وأعالي الجدران يزينه زخرفٌ بديع من فُسَيفساء الذهب والألوان،
وتُحليها الصور. وأما أسفل الجدران
فقد كان يُغطيها إفريز من المرمر، وكذلك كانت الأرض، وكان المرمر من ألوانٍ مختلفةٍ منسَّقة
تنسيقًا جميلًا. وكان المِحراب
يفصله حاجزٌ من آبنوسٍ مطعَّم بالعاج بديع النقش، وكانت نقوش الذهب والفضة تُغطي البناء
من داخله. وكانت الأبواب تُغطيها
صفائح من الذهب مساميرها من الفضة، أو صفائح من الفضة عليها مسامير كبيرة من الذهب. وأما
الأبواب التي كانت تُفضي إلى
المحاريب الثلاثة فقد كانت تُغطيها صفائح كبيرة من الذهب عليها حلية من الجواهر، وكان
على كل صفيحة من تلك صليبٌ بارز من
الذهب والجوهر، في وسطه شكلٌ خزامي من حجرٍ أحمر، وتُحيط به زهورٌ زخرفية من الذهب والجواهر،
أو من الميناء المختلفة
الألوان. تلك كانت الكنيسة العظمى التي ساعد «جستنيان» «أبرهة» في بنائها.
٢١ ولم تكن كنيسة «أيا صوفيا» ذاتها بأغلى زينة ولا أبدع في الصناعة منها.
ولعل هذا الوصف المجمل يحمل إلينا صورة من المدنية التي وجدها الإسلام في بلاد العرب،
غير أن العرب كانوا عند ذلك لم
يُقبِلوا على الصناعات والفنون، ولم ينمُ لهم ذوق فيها؛ ولذلك لم يدرك المسلمون من تلك
الثروة العظيمة ومن ذلك الجمال
البارع إلا أنها كانت للغنيمة إذا كانت مما يُغنم، أو للتحطيم إن كانت صورًا أو دُمًى.
ولسنا نعرف على وجه البت في أي وقت
كان هدم هذه الكنيسة وسِواها من أبنية النصارى. ويقول «ريت» إنه إن بقي في جزيرة العرب
أحد من النصارى في سنة ٦٣٢
٢٢ فإنه لم يبقَ بها إلا قليل، ولم تكن الأبنية وقتئذٍ لتُترك كما هي أو تُتخذ مساجد للمسلمين،
كما حدث في غير
ذلك الوقت وفي البلاد الأخرى؛ لأن الإسلام كان في أول أمره شديد الوطأة على الدين المسيحي،
وآثاره يمحوها ويُعفي أثرها،
كما كان قبل ذلك يوقع باليهود وعبَدة الأوثان. ولا شك أن المسلمين كرهوا ما في كنائس
النصارى من كثرة الصور والرسوم
المنقوشة بالألوان، فحُقَّ لهم بعض الحق أن يخلطوا بين المسيحية وعبادة الأوثان. ومهما
يكن من ذلك الأمر فقد أصبح المسلمون
جميعًا في جميع بلاد العرب، وقِبلتهم الكعبة، وإمامهم القرآن، قد ضمَّهم دينٌ واحد وحكمٌ
واحد في عبادةِ إلهٍ واحد، سواء
أكانوا قبل ذلك نصارى أو يهودًا من الفرس أو السودان أو العرب.
وكانت دولة العرب التي قامت عند ذلك دولة حلفاء عدة يضمُّها حكمٌ جمهوري، وذهبت
مكة بزعامتها. وقد رأى «أبو بكر» وزعماء المسلمين ما رآه النبي من قبل، وذلك أنهم إذا
شاءوا أن يحفظوا على الدولة
تماسُكها، ويُتمُّوا عليها اتحادها؛ فلا بد لهم أن يبعثوا البعوث لغزو ما يليهم من البلاد.
وكانت بلاد فلسطين للعرب بلادًا
موعودة، كما كانت تلك الأرض موعودة لليهود، أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا، وكان حب القتال
غريزة في العرب، وقد زادهم توقدًا
إيمانُهم بأن عليهم واجبًا دينيًّا يؤدونه؛ فاجتمعت لهم صفتان ما اجتمعتا في قوم إلا
صار بأسهم شديدًا، فلما اجتمعتا للعرب
أصبحوا ولا يكاد شيءٌ يقف في سبيلهم.
وكتب أبو بكر إلى رؤساء القبائل من العرب لانتداب الناس إلى المدينة ليخرجوا للقتال،
وقال لهم إنه بعث إليهم ليُخبرهم
أنه قد عزم على أن يرسل المؤمنين إلى بلاد الشام لينزعوها من أيدي الكافرين، وأنه يُعلِمهم
أن الجهاد في الدين طاعة لأمر الله.
٢٣ فما هو إلا قليلٌ حتى اجتمع لديه جيشٌ عظيم، ثم عقد عليه ليزيد بن أبي سفيان، وكان عمرو
بن العاص على قسم منه.
٢٤ وكان عمله هذا جرأةً عظيمة؛ فإنه حادَّ دولتَي الفرس والروم، وأغزى العرب بلادهما، ولكن
الأمر كان أهون في
الحقيقة مما يلوح للناس؛ فإنه من الخطأ أن نتصور أن العرب قبل الإسلام كانوا كلهم يعبدون
الأوثان، كما أنه من الخطأ أن
نتصورهم جميعًا في عزلة عن العالم تفصلهم عنه مَفازات الصحارى، ويعيشون في أرضهم لا يعرفهم
أحد، ثم جاء الإسلام فقوَّى
جموعهم على اقتحام الفيافي، والخروج إلى أمم العالم يغزونها؛ فليس شيءٌ أبعد من هذا عن
الحقيقة. ولا شك في أن ضعف أسدَي
الروم والفرس وما كان بين النصارى من الشحناء والبغضاء، وما انبعث في نفوس العرب من
الإيمان، وما كان فيهم من حب الفيء والغنيمة في هذه الحياة، وما كانوا يأملونه من نعيم
الآخرة، لا شك في أن ذلك كله كان
عاملًا قويًّا على فوز غُزاة العرب في غزواتهم، ولكن لعله قد كان أكبر من كل ذلك أثرًا
في فوزهم أنهم كانوا يمتُّون
بصِلاتٍ وشيجة من قرابة الجنس إلى طائفةٍ كبيرة من أهل البلاد التي غزَوها؛ فقد كان العرب
منذ الأزمنة الغابرة ينزحون إلى
ما يلي بلاد الفرس والشام، وإلى ما بعد الحد الفاصل من الإقليمين من الشرق، فيُقيمون
بتلك الأرض أحيانًا، ويضربون في
أنحائها أحيانًا أخرى، وينتجعون بلاد الدولتين فيجوسون خلالها التماسًا للتجارة، أو يشنُّون
عليها الغارة.
٢٥ وكان بعض هذه القبائل العربية يَدِين لهرقل بطاعةٍ لا تتعدى اسم الطاعة، وعلى مِثل تلك
الحال كان بعضهم مع
كسرى، على حين كان بعضهم معتزلًا لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، وكانوا جميعًا لا يُحجمون
عن نصرة أي الدولتين بسيوفهم إذا
تبيَّن لهم وجه النفع معها.
٢٦ وكانت طلائع جيوش هرقل من العرب، في حين أن منهم قومًا كانوا يُغِيرون على آسيا الصغرى،
وهم قومٌ «طِوال
الشعر» ذكرهم «جورج البيسيدي».
٢٧ وكان أول نصر لهرقل يوم انتصر على هؤلاء، وقيل إن جُل جيش الروم في «مؤتة» كان من العرب،
وكانت منهم كتيبة خيل
بارعة مع كسرى تُساعده على فتح الشام ومصر.
فوجد الإسلام على ذلك بين هؤلاء العرب الضاربين على التُّخوم عُدةً عظيمة من رجال
الحرب شبيهين بما كان من بلاد العرب
ذاتها من جنده. فما كان على المسلمين إلا أن يُدخِلوا هؤلاء العرب في الإسلام، ويُشعروا
قلوبهم عقيدتهم، ويُثيروا فيهم
روحه، فيصبحوا لهم عَيْبة ومَسْلحة. ولم يكن الأمر في أوله بالهيِّن؛ فقد كان أكثر هؤلاء
العرب نصارى،
٢٨ وكان كثير منهم يُقاتلون مُستميتين في سبيل دولة الروم ودين المسيح،
٢٩ غير أنه قد كان منهم من آثَر علاقة الجنس، أو كان غير حريص على دين لم يفقه فيه، في
حين أنه قد كانت منهم
طائفة انحازت على حذر، فلم تكن مع هؤلاء ولا مع أولئك، مُتربصةً حتى يتبين لها لمن الغلبة،
فتكون مع الظافر وهي آمِنة.
ومهما يكن من الأمر فقد كانت صلة الجنس تجعل رجحان الميل إلى المسلمين.
ولعلنا نجد عذرًا إذا نحن سُقْنا بعد ذلك رأيًا آخر نُمهد به مجملين؛ وذلك أن فوز
المسلمين كان له سببٌ آخر، ألا وهو ما
حل بالمسيحيين من الخذلان والوهن، وهو يعدل في شدته ما كان عند المسلمين من إيمان وقوة.
قال «قدرينوس»: «على حين كانت
الكنيسة تحتوشها الملوك ومن لا يخشون الله من القسوس، خرج من الصحراء عملاق ليُعاقبنا
على ذنوبنا.» هذه كلماته التي ذكر
فيها نشأة الإسلام، وهي كلماتٌ قليلة، ولكنها تدل على أن المسيحيين كانوا يشعرون أن محمدًا
كان رسولًا من الله، أو هو على
الأقل سوط من الله أرسله عليهم، وهذا شعورٌ يظهر على لسان كثير ممن كتب من المسيحيين
في ذلك الوقت، أمثال «سبيوس» الأرمني.
٣٠ وإنه لأمرٌ معروفٌ أنه إذا نزلت بقومٍ نازلة من هزيمة قالوا إن ما أصابهم كان عقابًا
على ذنوبهم. وإن من فكَّر
وجد أن هذا القول لم يُخطئ الصواب ولم يبعد عن الحقيقة، ولكن يلوح لنا أن في قول هؤلاء
الكُتاب شيئًا من الحزن المُبرِّح
أكثر مما نراه في مثل هذه الأحوال؛ فإنهم يُحسُّون أن النصارى قد وُزِنوا والعرب في كفَّتَين،
فرجح العرب وشالت كفتهم، وأن
المسيحيين قد أصبحوا غير جديرين بأن يكونوا دون غيرهم هُداة الناس إلى سبيل الله. وليس
من العسير أن ندرك كيف قوِيَ
الإسلام بما وقع في قلوب المسيحيين من هذا الخوف وتوقُّع البلاء؛ فقد كان قسوسهم وجندهم
في ذلك سواءً، وقد كان «لوقا» الذي
أسْلَم مدينة حلب للعرب مُمتلئَ القلب بما كان يُبشِّر به قسيس من أنه كان محتومًا أن
يفتح العرب البلاد، وكان «بازل» الذي
أسلم مدينة صور قد أخذ عن الراهب «بحيرى» ما جعله يترك الروم ويُوصي أهل الدولة الرومانية
٣١ بدين الإسلام. وهاتان الروايتان قد جاءتا عن طريق العرب، وقد تكونان هما وأمثالهما أقاصيص
وهمية لا حقيقة لها،
ولكنها تدل على أمرٍ واحد لا شك فيه ولا يُكذبه التاريخ، وذلك أنه قد شاعت نبوءة بين
بعض المسيحيين فارتجفت لها أفئدتهم،
وهي أن الإسلام حق، وأن نصره محقَّق.