الفصل الثاني عشر
فتح العرب للشام
لما انقضى مُقام هرقل في بيت المقدس وعاد أدراجه إلى الشمال في «فلسطين»، لم يكن
بعدُ قد بدا له ما في الإسلام من خطر عليه، وقد كان النبي (عليه الصلاة والسلام) عند
ذلك قد فاز ونشر الإسلام في جزيرة
العرب، وبلغ ظل الإسلام أكناف الدولة الرومانية، ولكن الإمبراطور لم يرَ في ذلك إلا ما
اعتادت الدولة أن تصمد له من غارات
أهل الصحراء، وكان هذا أمرًا مألوفًا؛ فإنه لو أدرك عند ذلك حقيقة ما في ثنايا الإسلام
من الخطر لكان قد سارَع إلى
مُنازلته، ولعله كان يستطيع أن يقضي على دولة العرب في أول نشأتها ويمحو أثر الإسلام
١ من التاريخ، لو كان اتخذ الحيطة وأعدَّ العُدة قبل فوات وقتها، وكانت قوة عقله تُمكِّنه
من ذلك، وعنده موارد
المال لا تزال مع ما نزل بها من ضعف كافيةً لِما كان دونه.
ولكن قضى الله أن ذلك لا يكون؛ فإن واجبه كان يُناديه أن يُسرع بالسير من الجنوب،
وكان قلبه مهمومًا بأمر البلاد التي في
أكناف الدولة حريصًا على تنظيمها حسب نصوص المعاهدة مع الفرس، وكذلك كان عليه أن يُدبِّر
أمر الأموال وأمر الحكم في كل
البلاد الشرقية التي اضطربت أمورها في سنوات الحرب الست، وكان فوق كل ذلك يحب أن يُنفِّذ
ما اختمر في ذهنه منذ زمن طويل من
أمر الديانة المسيحية وتوحيد مذاهبها، حتى يقوم التوحيد على الوفاق لا على الجبر والاضطرار.
وكان يظن أن زعماء الكنيسة
يستطيعون أن يخلقوا صورةً جديدة من المذاهب تخلب الألباب وتسحرها. فإذا ما تم له صهر
مذاهب الخارجين وأهل الشقاق والخلاف،
وأخرج منها مذهبًا خالصًا مصفًّى لا يدخل إليه الخلاف من بين يدَيه ولا من خلفه؛ كانت
عند المسيحيين قوةٌ لا تقف دونها قوة
أعداء الدولة والصليب!
وسار الإمبراطور عند مُنصرَفه من بيت المقدس إلى جزيرة ما بين النهرين،
٢ وكان طريقه عن دمشق فحمص فمدينة «بيرويه» فهيرابولس فأذاسة، وكانت «أذاسة» مَوطن آبائه،
وكانت موطن القديس
«أفريم» أبي الكنيسة «السورية»،
٣ وكذلك كانت مشهد اليعاقبة (المونوفيسيين)؛ لأنها كانت مَقرَّ «يعقوبوس بارودايوس»، وكان
ذلك المذهب هو السائد
في الأديرة المُجاورة وعدتها ثلاثمائة، وفي معظم بلاد أرمينيا والشام ومصر، وكانت أذاسة
فوق كل ذلك موضعًا ذا خطرٍ عظيم في
السياسة لوقوعها بين دجلة والفرات، وقربها من بلاد الأرمن والفرس وسوريا، فلم يكن بلدٌ
أصلح منها لِما عزم عليه الإمبراطور
من الأمور.
وحوادث هذه المدة ذات عُقَد يتعذر على المرء أن يحلَّها؛ فإنه قد يستبين خيطًا منها
في ديوان من الدواوين، وبضعة خيوط
أخرى في ديوانٍ سواه، ولكن تلك الخيوط لا صلة بينها؛ ولذلك يصعب على الإنسان مهما أوتي
من الصبر والأناة أن يُسوِّيها
ويجمع بينها. وعلى كل حال فإنا نستخلص أنه في سنة ٦٣١ ذهب الإمبراطور إلى «هيرابولس»،
وبدأ فيها تحقيق ما كان يرجو إنفاذه
من توحيد الكنيسة، واختار «أثناسيوس» رئيسًا لأساقفة «أنطاكية»، وجعل «قيرس» رئيسًا لأساقفة
الإسكندرية. غير أنه أخطأ خطأً
كبيرًا في اختيار «قيرس» هذا، وسنصف بعد قليل سيرَه إلى مصر، ونرى أي نكبة حلَّت في تلك
البلاد بما كان الإمبراطور يسعى
لتحقيقه من الآمال؛ فإنه لقي مقاومة ومخالفة من كل جانب، فخالَفه الزعيم الملكاني «صفرونيوس»
وشِيعته، وخالفه كذلك كل
القبط قسوسهم وعامتهم، وسنرى بعد ذلك كيف انقلب «قيرس» فقلب للقبط ظهر المِجن، وحارَب
مذهبهم؛ إذ رأى أنه لم يستطع أن
يُدخلهم بالحسنى في المذهب المونوفيسي، وشرع يحملهم على الخروج من مذهبهم جبرًا واضطرارًا
بالعسف والاضطهاد.
وكان الأمر في بلاد الشام على ما كان عليه في مصر؛ إذ أخفق سعي الإمبراطور هناك،
فأراد حمل الناس على ما أراد بالاضطهاد، فكان «قيرس» بعسفه واضطهاده يهدم ما بناه هرقل
بحروبه وفتوحه، ويُمهِّد السبيل
للإسلام في مصر، على حين كان الاضطهاد في الشام يُمهِّد السبيل له هناك. غير أن الأمر
في بلاد الشام لم يبلغ من الشدة ما
بلغه في مصر؛ فقد كان «أثناسيوس» صاحب كياسة وأناة، وكان «قيرس» خلوًا منهما، وكان لوجود
الإمبراطور نفسه في الشام أثر في
تخفيف حدة الخلاف ومنع الخروج،
٤(
⋆) ولكن لم يمضِ كبير زمن حتى ظهر الضرر
المحقَّق الناشئ من سعي الإمبراطور في أمر الكنيسة. وقد توسَّل الحبر القدير «صفرونيوس»
إلى «قيرس» توسلًا حارًّا ليعدل عن
عسفه، فلم يُجده ذلك شيئًا، فسافر إلى القسطنطينية لكي يُخاطب البطريق «سرجيوس» في ذلك
الشأن، وكان «سرجيوس» من خير من ولي
أمر الكنيسة الشرقية وأوضحهم عقلًا، ولكنه كان صاحب المذهب المونوثيلي الذي أراد به التقريب
بين المذاهب، ولم يكن ليستطيع
إنكار ذلك المذهب، وحاول أن يُقنع «صفرونيوس» أو يستميله بكل ما أوتيَ من قوة في الحجة،
وبلاغة في الخطاب، وخلابة في
الخُلق، ولكنه لم يُفلِح، وعاد «صفرونيوس» إلى الشام آسفًا كئيبًا.
ولعله ذهب بعد ذلك إلى «هرقل» ليبذل معه من الجهد مثلما بذل مع «قيرس» و«سرجيوس»،
ولكن لا يذكُر التاريخ حدوث ذلك اللقاء
بينهما. أما نحن فنرى أنه لا بد أن يكون قد حدث ذلك اللقاء؛ فهو يتفق مع سائر ما نعرف
من الحوادث، وبغير حدوثه لا يمكن أن
نُفسر العلة التي من أجلها اختار «هرقل» «صفرونيوس» ليكون كبير أساقفة «بيت المقدس»،
وقد بقي ذلك المنصب شاغرًا منذ مات
«مودستوس» في سفره إلى الشمال مع الإمبراطور. ومهما يكن من الأمر فإنه من المحقَّق أن
«صفرونيوس» لم يُخفِّف من وطأة
عداوته للمذهب المحدث مذهب الوفاق، وكان من أول ما قام به بعد ولايته أنه جمع رجال الكنيسة،
وقال فيهم كلمةً طعن فيها بدعة
الإمبراطور، وندَّد بها في غير حيطة ولا هوادة، وحكم بالخروج على البطارقة الذين اتبعوها؛
٥ لأن «صفرونيوس» لما قبِل أن يلي إمرة الدين في بيت المقدس كان يظن من غيرِ شكٍّ أن الإمبراطور
سيعدل عن بدعة
«المذهب المونوثيلي»، ويعود إلى مذهب السُّنة «الأرثوذكسي»، في حين أن الإمبراطور كان
يظن أنه سيستميل «صفرونيوس» باختياره
للولاية الدينية كما استمال «أثناسيوس» من قبل. ولعل هذه كانت أشأم زلَّة زلَّها «هرقل»
لا تفُوقها إلا زلَّته الأولى وهي
اختيار «قيرس»، وليس من المبالغة أن نقول إنها تكاد تكون السبب في ضياع فلسطين، كما كان
اختيار «قيرس» سببًا في ضياع
مصر.
إنه من الممكن أن نلتمس لهرقل العذر في زلَّاته هذه إذا نحن ذكرنا أنه إنما اقتحمها
اقتحامًا وهو يقصد إلى غايةٍ سامية ويدفعه باعثٌ نبيل، ولكن على أي حال قد أدَّى الأمر
في مصر والشام إلى أن الإمبراطور
عندما أخفق في سعيه عمد إلى التضييق على مُعارضيه تضييقًا مرًّا، ولم تبقَ إلا خطورةٌ
واحدة بين هذا التضييق وبين
الاضطهاد، ولم تكن نفسه الوثَّابة لتتردَّد في أمرها وقد جرح الفشل عزتَها فأثارها. قال
أبو الفرج: «ولما شكا الناس إلى
هرقل لم يُجب جوابًا؛ ولهذا أنجانا الله المُنتقم من الروم على يد العرب، فعظمت نعمته
لدينا أن أخرجنا من ظلم الروم،
وخلَّصنا من كراهتهم الشديدة وعداوتهم المُرة.
٦ على أن كنائسنا لم ترجع إلينا؛ لأن العرب أبقَوا كل طائفة من المسيحيين على ما كان في
يدها عند فتحهم للبلاد.»
وإنه لمن المُحزِن أن يقرأ الإنسان مثل هذا الترحيب من قومٍ مسيحيين بحكم العرب، وزعمهم
أن ذلك كان تخليصًا لهم ساقَه الله
إليهم ليُخرجهم به من حكم إخوان لهم في المسيحية، ولكن ذلك يُظهر بجلاءٍ قاطعٍ أن سعي
الإمبراطور في توحيد طوائف الكنيسة
كان سعيًا باطلًا غير ممكن، وأنه لا شك جرَّ عليه الدمار والوبال.
بقي علينا أن نذكُر الزلَّة الثالثة الكبرى، وقد سبق أن أشرنا إليها، وهي مَقتلة اليهود،
وكانت تلك أولى زلَّاته من
الوجهة التاريخية، وكانت كذلك أول ما جنى منه الثمر الوبيل؛ فإنه بعد احتفال إعلاء الصليب
في بيت المقدس بزمنٍ يسيرٍ أمر
بنفي اليهود أو قتلهم، فأتى بعضَهم نبأُ ذلك، فهرب من استطاع إلى
الصحراء فيما بعد نهر الأردن، وتربَّصوا هناك الدوائر بأعدائهم، وكانت قلوبهم تتَّقد
بنار الغيظ وطلب الثأر وهم على
تربُّصهم هذا، حتى لاحت لهم أعلام الإسلام وهي طالعة، فرحَّبوا بهذه الجموع التي جاءت
تطلب قتال الدولة الرومانية.
وفيما كانت السُّحب الدَّكْناء تتعالى بعضها فوق بعض على أفق الدولة، كانت أعمال
هرقل قد طبَّقت شهرتها الخافقَين، وجعل
الملوك من أقاصي الأرض في الشرق والغرب من الهند ومن فرنسا
٧ يُرسلون إليه الرسل والهدايا الثمينة وآيات الإعجاب، ولكن الإمبراطور ما لبث أن عرف
أن القضاء يسخر منه؛ فإنه
ما كادت تمثل بين يدَيه آيات خضوع العالم وإعجابه حتى كان العرب يقرعون أبواب الشام قرعًا
عنيفًا، وحتى كان ابنه من صُلْبه
«أثالاريك» يَكيد له مشتركًا مع ابن أخته «تيودور» وجماعة من الأرمن يريدون خلعه ثم قتله،
وقد فشا أمر المُتآمرين، أفشاه
أحدهم، وكان عقاب المُجرمين أن قُطعت أنوفهم وأيديهم
٨ اليمنى، إلا من نمَّ عليهم؛ فإنه جُوزِي بحكمٍ أخفَّ وطأة، وهو النفي؛ وذلك لأنه لم
يُوافقهم على أمر قتل هرقل.
٩
ويلوح لنا أنه قد حدث بعد هذا وبعد سفر هرقل إلى أذاسة أن اجتمع اليهود في تلك المدينة.
وقد روى «سبيوس» أن قبائل اليهود
الاثنتي عشرة كان لكلٍّ منها من ينطق بلسانها في ذلك الاجتماع. ورأى اليهود أن المدينة
خالية من الجنود؛ فإن جنود الفرس
خرجوا منها ولم تحلَّ محلَّهم مسلحةُ من الرومان، فأغلقوا أبواب المدينة، وأصلحوا حصونها،
وحادوا الإمبراطور وجنوده.
فحاصَرهم هرقل، ولم يلبثوا أن نزلوا على حكمه، فمنَّ عليهم ولم يشتط في شرطه، بل سمح
لليهود أن يعودوا آمنين إلى موطنهم،
ولكنهم لم يُطيعوا، بل ذهبوا إلى الصحراء، واتفقوا مع جند الإسلام، وصاروا لهم أدلَّاء
في تلك البلاد.
١٠ ولا بد أن ذلك كان في سنة ٦٣٤، حين كان العرب قد دخلوا بلاد الفرس بقيادة خالد بن الوليد.
فلما اتفق اليهود مع العرب طلب إلى هرقل أن يُعيد أرض المعاد إلى أبناء إبراهيم،
وهدَّد أنه إن لم يفعل أخذوا منه تراثهم وزيادة، ولم يكن لهذا الطلب إلا ردٌّ واحد وهو
الحرب، وهُزم الروم بقيادة «تيودور»
في «جبته»، وأعقب ذلك انهزامهم الأكبر عند «اليرموك» في أول سبتمبر سنة ٦٣٤، وقد مات
أبو بكر قبل ذلك في شهر يوليو، وولي
الأمرَ بعده الخليفةُ عمر بن الخطاب، وكان العرب قد فتحوا «بُصرى»، وجاءوا بعد اليرموك
إلى دمشق، وهي العاصمة القديمة
لبلاد الشام، فحاصرها خالد حتى أسلمها لهم حاكمها «منصور» على عهدٍ ضمِن لأهلها سلامتهم
وما يملكون، وأبقى في أيديهم
كنائسهم لا يُنازعهم فيها مُنازع، وكان هذا في سنة ٦٣٥. وقد روى أحد المؤرخين
١١ «أن جميع المطارنة والبطارقة في كل البلاد لعنوا «منصورًا» هذا لأنه ساعد المسلمين».
وكان هرقل قبل تسليم
المدينة قد أرسل جيشًا عظيمًا بقيادة أخيه «تيودور»، وكان جيشه أكبر عددًا من جيش المسلمين،
فقاتَل خالدًا أشدَّ قتال، وظل
النصر مُترددًا بين الفريقين حتى انتهى الأمر بفوز المسلمين، وانهزمت جيوش الروم فلم
يبقَ لها أثر. وجاءت أنباء الهزيمة
إلى هرقل وهو في أنطاكية،
١٢ فعرف أن الأمر قد انفلت من يده، وأن الله قد خذل الإمبراطورية، وأصبح غالب الفرس الوثنيين
وقد غلبه العرب
الذين لا يتبعون دين المسيح.
١٣ ومما زاد ألمَه شدةً عِلمُه أنه ارتكب خطيئة بزواجه من ابنة أخته «مرتينه»، وأن جسمه
آخذٌ في الاعتلال
والانحلال. ولسنا نجد تفسيرًا غير هذا نُبين به سبب قعوده وتهاوُنه؛ فقد كان من قبلُ
رجلًا تلقاه أبدًا في الصدر كلما ثارت
الحرب ودعاه الناس لائذين بسطوته في القتال ودرايته بكل أموره. ولو لاقاه خالد بن الوليد
«سيف الله» منذ ست سنوات للَقِي
فيه قِرنًا كفيئًا، ولكان في حربه أغزر حيلة وأبرع مَكيدة، ولصمد لشجاعة قُواد العرب
البدوية فزلزلها وأوقع بها، ولكنه في
ذلك الوقت الذي جاء فيه العرب لم يتحرك ولم يقُد جيشًا ليلقاهم به؛ فكأن يده كانت عند
ذلك مغلولة، وكأن عقله كان مفلوجًا.
وقد جمع كبار قومه في حفلٍ حافل في كنيسة أنطاكية يستشيرهم فيما يعمل، فقام شيخٌ أشيب
وقال: «إن الروم يُعذَّبون اليوم
لعصيانهم كتاب الله، وتطاحُنهم فيما بينهم وتخاذلهم، ولما يرتكبونه من الربا والقسوة،
وكان حتمًا عليهم أن يؤخَذوا
بذنوبهم.» فكان قوله هذا فصل الخطاب، فأحسَّ الإمبراطور من نفسه بضعف الجسم ووهن العقل،
ورأى الحظ يتعثر به، وعرف أن
مُقامه بالشام قد أصبح لا غناء فيه، فرحل عنها إلى القسطنطينية في البحر في شهر سبتمبر
من سنة ٦٣٦،
١٤ وقال إذ هو راحل: «وداعًا يا بلاد الشام، وداعًا ما أطول أمدَه!» وإن في تلك القالة
المعروفة التي قالها
لرنَّةً من الأسى، وكأننا بها تحمل ما كان يدور في نفسه من أن مجده الغابر ونصره الباهر
قد انتهيا بعدُ بالخذلان والعار،
وإنه إذ يقولها ليُودِّع عزه وسطوته. وإن ذلك ليُذكِّرنا بنابليون وما أحسَّ به من الألم،
إذ هو على ظهر السفينة (بلريفون)
ينظر إلى وطنه فرنسا نظرته الأخيرة.
١٥ والحق أن فيما بين ذينك القائدين العظيمين لشَبهًا من وجوهٍ عدة في اضمحلال جسمهما وضياع
قوَّتيهما على
القتال، ولكن نابليون ظل إلى آخر مواقعه وهو ملكٌ يقود جيوشه، في حين أن هرقل أضاع قُواه
سدًى في نضالٍ لا فائدة فيه أراد
به توحيد الكنيسة، فلم يستطع أن يجمع ما بقي من قُوى الدولة، أو يقود جندها إذا ما أزِفت
ساعة الخطر واشتدَّت الأزمة؛ فبقي
من شدته ثلاث سنين خبت فيها آماله وذوت قوَّته وصوح نشاطه، وعلا أمر الإسلام تحت بصره
وسمعه ولم يتحرك لمقاومته، فما زال
الإسلام يعلو حتى طوى دولته تحت ظله.
ويذهب معظم المؤرخين مذهب مؤرخي اليونان، أو لعلهم أخطَئوا تأويل ما قصدوه في رواياتهم،
فيقولون إن هرقل صحا بغتةً من
سُباته، واندفع إلى بيت المقدس لا يلوي على شيء لكي يُنجي الصليب المقدس من أيدي أعدائه.
١٦ وليس ثَمة ما يدل على تلك الرحلة إلا ما رُوي من أن هرقل حمل معه الصليب وهو عائد إلى
القسطنطينية. ولا شك في
أنه فعل ذلك، غير أنه لم يُنقذه بأن ذهب إلى بيت المقدس، ولا يمكن أن نتخذ من قول «قدرينوس»
وأمثاله ممن يسوقون القول
جزافًا لا يتحرَّون فيه الدقة دليلًا يقوم لحظةً واحدة في وجه رواية «سبيوس»، وهي روايةٌ
واضحةٌ دقيقة؛ فإن «سبيوس» يقول
إن العرب بعد وقعة اليرموك جازوا نهر الأردن، وكانت هيبتهم تسبقهم فتقع في قلوب أهل تلك
البلاد، فكانوا يُذعِنون لهم
خاضعين، وقال: «وفي تلك الليلة (يقصد الليلة التي أعقبت بلوغ أنباء قدوم العرب إليهم)
أخذ أهل بيت المقدس الصليب الأعظم
وكل ما كان في الكنائس من الآنية، وجعلوا كل ذلك عند الساحل، ثم وضعوها في سفينة، وبعثوا
بها إلى دار الملك بالقسطنطينية.»
ولم يذكر في روايته كلمةً واحدة عن هرقل، ولكن لا شك أن تلك السفينة التي كانت تحمل الكنوز
المقدسة سارت إلى الشمال ولحقت
بالإمبراطور، وكان لحوقها به إما في بعض الثغور التي مر بها في طريقه إلى عاصمته إذا
كان سفره بحرًا، وإما لحقته بقصره في
«هيبيريا» على مَقربة من خلقيدونية، وكان قد أقام بها مدة من الزمن وهو في اضطراب ومرض
١٧ يُفتت عليه الأكباد. فلما سار إلى العاصمة حمل معه الصليب فأعاده إلى كنيسة القديسة
صوفيا. وكان الناس قد
فرحوا من قبلُ أشدَّ الفرح بذلك الصليب، ورحَّبوا بمَقدمه ظافرًا، ورأوا فيه سر نجاح
هرقل، ثم عاد إليهم بعد ذلك والحزن
مُخيِّم على الناس، وهم يرَون في عودته إليهم رمزًا لإخفاق مليكهم وخيبته. ويقيننا أن
الأقدار لم تسخر من هرقل سخرًا أقطع
حدًّا ولا أمرَّ مَذاقًا من هذا على كثرة ما أنزلته به من النكبات.
إذن تتَّضح لنا الحقيقة، وهي أن الصليب لم يُنزع نزعًا من يد صاحبه البطريق صفرونيوس،
بل إنه أرسله مختارًا مع سائر تحف
الكنيسة، نزل عنها للإمبراطور لكي يحفظها عنده، ولم تكن ثَمة وسيلة لحفظها غير هذه؛ فقد
كان بالإسكندرية عدوه قيرس لا يزال
على ولايته، وكانت مصر فوق ذلك قريبة العهد بغزو الفرس، وكان يتهددها الخطر من فتح العرب،
ولكن القسطنطينية صمدت لكل عواصف
الحدثان في الحروب الماضية، ولم يستطع عدوٌّ أن ينال منها؛ فكانت على ذلك هي البلد الذي
لا يُقهر، فوق أنها كانت عاصمة
الدولة.
وإذا صحَّ أن إرسال الصليب والتحف كان عملًا يقصد به صفرونيوس أن يدل على ولائه لهرقل،
لكان ذلك آخر ما قدَّمه له في
حياته من الولاء؛ فإن مدينة بيت المقدس كانت عند ذلك يُحاصرها خالد، ثم جاء له أبو عبيدة
بعد بضعة أيام ممدًّا، وكان
بالمدينة شيءٌ كثير من المئونة، وكانت أسوارها قد أُصلحت وحُصنت بعد خروج الفرس منها.
فلما جاء العرب إليها ظلوا حولها عدة
أشهر يُحيطون بأسوارها، ويُرامون جندها بالسهام، ويُقاتلون من خرج إليهم منهم، ولكنهم
لم يستطيعوا أن يرزءوها إلا يسيرًا؛
لأنهم كانوا لا عهد لهم بالحصار في حروبهم، ولم تكن لهم عدة لصدع الأسوار، ولم يستغرق
الفرس في فتحها من قبلُ أكثر من
ثمانية عشر يومًا، وأما عند ذلك فقد ظل خالد بن الوليد نفسه مُقيمًا حولها وهو يحرق الأُرَّم
غيظًا لا يستطيع شيئًا إذ
يتطلع إلى حصونها وآطامها. وقد اختلف الرواة في مدة حصاره، والظاهر أنها استطالت مدة
الشتاء كله؛ شتاء سنة ٦٣٦-٦٣٧، ولعلها
كانت أطول من ذلك، ولكن لم يكن عند أحد شكٌّ في نهاية الأمر؛ فإن العرب إن عجزوا عن فتح
المدينة عنوة بالهجوم، فإن أهل
المدينة لم تكن لهم قوة على رفع حصارهم عنها، ولم تأتِ من قِبل الرومان أنباء تجعلهم
يؤملون في النجدة، بل كانت الأنباء
تترى بالمصائب والنكبات، فحلَّ في قلوب أهل بيت المقدس من الخيبة واليأس مثل ما حل من
قبلُ في قلب هرقل.
فلما أن صار الأمر إلى ذلك فاوَض البطريق الشيخ صفرونيوس
١٨ قُواد العرب من فوق الأسوار. ولعله كان يُحسُّ عند ذلك أن المدينة لن تستطيع المقاومة
بعد ذلك طويلًا؛ لنفاد
المئونة وقرب وقوع المجاعة بها. واتفق على أن يُسلِّم المدينة على شرط أن يأتي الخليفة
عمر بنفسه ليكتب عهدها.
ولا حاجة بنا أن نُعِيد هنا القصة المعروفة قصة مجيء عمر إلى الشام على جمل، وكان
أشعث أغبر خشن المَلبس والهيئة، حتى
اقتحمته عيون مُترَفي الروم، ثم ختم العهد وزار الأماكن المقدسة يصحبه صفرونيوس، فالتفت
ذلك البطريق إلى أصحابه، وقال لهم
باللغة اليونانية: «حقًّا إن هذا هو الرجس الآتي من القفر الذي ذكره النبي دانيال.» وكانت
هذه آخر مقولة وردت عن ذلك
البطريق «صاحب اللسان المعسول في الدفاع عن الدين».
١٩ وقد شهد مرةً ثانية في آخر حياته أسْرَ بلاد صهيون، وكان حزنه وألمه لذلك الأسر الأخير
سببًا في الإسراع به
إلى قبره.