الفصل الثالث عشر
الاضطهاد الأعظم للقبط على يد قيرس
قد وصفنا فيما مضى ما كان من أمر الإمبراطور منذ يوم احتفاله بالنصر في بيت المقدس
وقد بلغ ذروة مجده، إلى أن ودَّع
أنطاكية وقد أصبح ذلك العاهل الكبير ولا حول له ولا قوة، ضعيف العقل، واهيَ القوة، غرق
في غمرات الخيبة والحزن، ثم رأينا
سحابةً ترتفع على أفق فلسطين من الجنوب، ثم تعلو شيئًا فشيئًا كما يعلو المارد في قصص
العرب، فإذا بشبح الإسلام
١ قد صار هيكلًا ضخمًا يزيد على الأيام نماءً، ثم يُناضل دولة الروم في الشام حتى ينضلها،
وتصير إليه دمشق ثم
بيت المقدس. وقد ألمَمْنا إلمامةً خفيفة بالأسباب التي اجتمعت على إحداث هذا التغيير
الذي عجب منه العالم، وقد كان وصفنا
لهذه الحوادث قصيرًا، وكان لا بد لنا منه إذ أردنا أن نعرف حقيقة الحوادث التي كان لمصر
فيها أثرٌ كبير، ولكن ذلك الوصف مع
ذلك قد شطَّ بنا عن حوادث وادي النيل شططًا بعيدًا، وما أحْرانا أن نعود الآن إلى تلك
البلاد لنصِف ما كان فيها من الحوادث
منذ أول الحرب التي بقيت ثائرةً مدة ست سنوات، وكانت نهايتها موت كسرى. وليس لدينا من
أخبار هذه المدة إلا النزر اليسير،
وهذا ما نأسف له، والقليل الذي لدينا منها غير واضح؛ فنحن مُضطرُّون إلى أن نتلمَّس طريقنا
فيما دوننا منها، مُهتدين ما
استطعنا بهدي نورها الضئيل.
كان القليل الذي نجا من التدمير من الأديرة في جوار الإسكندرية «دير قبريوس»، وكان
في وسط بستان من النخيل على مَقربة من
شاطئ البحر في الشمال الشرقي من المدينة، ومن الأبنية التي نهبها الفرس.
٢ وكان في ذلك الدير شابٌّ اسمه «بنيامين»، من سلالة أسرة قبطية مُوسِرة من قرية فرشوط
في البحيرة، وقد جاء إليه
وترهَّب فيه على يد رئيسه الشيخ «تيوناس»، فجدَّ في تحصيل العلم، وكان ذكي الفؤاد. فما
كان إلا قليل حتى نبغ وبذَّ
مُعلِّميه في العلم والتقوى، وكانت عادته أن يقوم الليل في العبادة في كنيسة الدير. ويُروى
في القصص أنه كان يومًا في
قيامه فسمع صوتًا يُناديه أنه سيكون راعي أتباع المسيح. فلما سمع «تيوناس» مَقولته أمره
أن يحذر الوقوع في حبائل الشيطان،
ثم قال له ينصحه إن مثل هذا الأمر لم يقع له ولا لأحد من إخوانه في مدة خمسين سنة قضاها
في دير «قبريوس». على أنه مع ذلك
صحبه إلى الإسكندرية، ومثل به بين يدَي البطريق القبطي «أندرونيكوس»، فأُعجبَ البطريق
بما كان عليه «بنيامين» من القدرة
وقوة النفس، واستبقاه في المدينة معه، وعاد «تيوناس» إلى الدير وحده، ثم دخل بنيامين
بعد ذلك في زمرة القسوس، وبقي مع
البطريق، وكان أمينَه وصاحب ثقته، «وساعده في أمور الكنيسة وتصريف أحوال ولاية الدين».
وكان دخول «بنيامين» إلى دير «قبريوس» قرب عيد الميلاد من سنة ٦٢١، ولم يبقَ في خدمة
البطريق «أندرونيكوس» إلا شهور ثم
مات البطريق، وأوصى أن يكون هو خليفته. وقيل إن «بنيامين» كان إذ ذاك شابًّا، ولعله كان
في السنة الخامسة والثلاثين من عمره،
٣ ولكن رداء البطارقة أُلقيَ على عاتقه في حفله المرسوم في كنيسة القديس مرقص.
وقد رأينا فيما سلف أن «أندرونيكوس» لم يخلعه فتح الفرس من ولايته، في حين أن «حنا
الرحوم» بطريق الملكانيين هرب عند
ذلك، ومات في هربه ذاك في جزيرة قبرص، وكان خليفة «حنا» على ولاية أمر المذهب الملكاني
اسمه «جورج»، ولكن سلطان الروم كان
عند ذلك قد ذهب عن مصر، وليس لدينا دليل كافٍ يدلنا على أن استخلاف «جورج» على ولاية
المذهب الملكاني وقع قبل سنة ٦٢١،
وأقل من ذلك ما لدينا من الأدلة على تعيين الوقت الذي ذهب فيه ذلك البطريق إلى الإسكندرية
٤ وأنفذ فيها أمر ولايته، بل إنا نشكُّ في أنه جاء إلى مصر حقيقةً وحل بها؛ فإنه كان لا
يرجو ترحابًا لا من
القبط ولا من الفرس، ولم يكن في مجيئه إلى مصر من فائدة إلا إذا عاد جيش الروم إليها
فأرجع فيها أمر الدولة وأقرَّ فيها
مذهب الملكانية، ثم دارت الدائرة وجلا الفرس عن مصر في أول سنة ٦٢٧، وذلك عندما أزمتهم
الهزائم على يد هرقل. وقد ذُكر في
التاريخ أن حكم الروم عاد إلى مصر في تلك الفترة التي بين ذلك التاريخ وبين الوقت الذي
ولي فيه «قيرس» على مصر؛ فمن الجائز
أن يكون البطريق «جورج» قد دخل الإسكندرية في ذلك العام سنة ٦٢٧، وبقي بها كما يظهر من
كتاب «حنا النقيوسي» حتى حلَّ
محلَّه «قيرس» نفسه وصار بطريقًا بدله، ولكن أغلب الظن في رأينا أن دخول «جورج» إلى الإسكندرية
لم يكن عند ذلك، بل كان
بعده بزمن؛ وذلك لأنه لما وقفت رحى القتال بين الروم والفرس فرغت بعض كتائب الروم شيئًا
فشيئًا من مَشاغلها، واستطاع الروم
أن يُعِيدوا الجند إلى مصر، ولكن من البعيد أن يكون وقوع ذلك قبل سنة ٦٢٩ بزمنٍ طويل.
ولعل جورج لم يبلغ الإسكندرية إلا في
ذلك العام، ولعله لم يبقَ في ولايته إلا سنة أو سنتين؛ لأنه مات بعد ذلك أو عُزل. فإذا
كان الأمر كذلك سهُل علينا أن ندرك
السبب الذي من أجله كان ذكره فيما تخلَّف من أخبار الكنيسة غير واضح، وكانت أحواله غير
جليَّة.
٥
عندما مات «أندرونيكوس» كبير أساقفة القبط في أواخر سنة ٦٢٢ أو أوائل سنة ٦٢٣، كان
حكم الفرس في مصر غير مُزعزَع لا
يُخشى عليه من شيء، لا من قِبل هرقل ولا من كرَّة الدولة الرومانية على يدَيه. حقًّا
لا يُشك إلا قليلًا في أن ذلك البطريق
قد سمع قبل موته أنباء سفر هرقل في رحلته الأولى في البحر، ومروره برودس ذاهبًا إلى «قليقيا»،
وأكبر الظن كذلك أن أهل
الإسكندرية كانوا عند ذلك يُردِّدون فيما بينهم ما سمعوه من قوافل العرب عن ظهور النبي
في مكة، ولكن ما كان لأحدٍ أن يذهب
به الظن ويحمله الخيال — ولو كان ظنَّانًا بعيد الخيال — إلى أنه لن تمرَّ عشرون سنة
حتى يكون الفرس قد أُخرجوا من مصر إذ
يُجليهم الروم عنها، ثم يعود الروم بعد ذلك فيُقهر سلطانهم وتخبو نيرانهم، وينمحي أثرهم
على يد الكتائب الشعثاء من جنود
الإسلام.
وقد وافَق اختيار «بنيامين» لولاية الدين هوًى في قلوب الناس؛ فإننا إن شكَكْنا في
حكمته وحسن رأيه في آخر أمره، لا يمكن
أن نُنكر أنه كان حبيبًا إلى الناس عزيزًا عليهم، وأنه قد بقي على محبة الناس له وإجلالهم
إياه لم ينقص من ذلك شيء على
تغيُّر الأحوال وتقلُّب الصروف. وكانت مدة ولايته أكثر عهد في تاريخ القبط تقلبًا وأعظمه
حوادث، لكنه لم يتساهل في أمر
الدين، ولم يغضَّ عن رذيلة في الخُلق، فشرع منذ أول أمره يأخذ قسوسه بالشدة إذا هم جازوا
حدود الحِمى في حياتهم، وما كان
أكثر من يفعل ذلك منهم، ثم جعل يقضي على السوء الذي حل في مواضع كثيرة ولم يستطع الأساقفة
أن يتلافَوه؛ إذ منعتهم من ذلك
ضجة الحرب ومشاغلها. وقد زار بابليون
٦ مرةً قبل ولايته، فلما ولي البطرقة أرسل كتابًا إلى أساقفته قال لهم فيه:
«لقد رأيت في مقامي في حلوان وبابليون جماعة من أهل العناد والكِبْر، وكانوا قسوسًا أو
شمامسة، وما أشد ما كرهت
نفسي أفعالهم، وإني باعث بكتابي هذا إلى الأساقفة جميعًا آمرهم أن ينظروا مرة في كل شهر
في أمر كل من عندهم ممن لم
تمضِ عليه عشر سنوات في زمرة أهل الدين.»
قال صاحب الديوان: «وقد دل بخطابه هذا على أنه كان كبير الأساقفة حقًّا.» ثم ظهر أمره
بعد ذلك ظهورًا أجلى وأوضح عندما
نفى من الدين جماعة من رجال الكنيسة في إقليم بابليون، وقد أعقب كتابه بزيارة. وجاء في
الأخبار أنه في أثناء زيارته تلك
سار راجلًا من بابليون «يصحبه «أبامينا» أسقف حصن بابليون، و«بليهيو» أسقف حلوان، وجمع
كثير من الناس»، وذهب إلى رجلٍ
اشتهر بالعِصيان ليُحاسبه على ما أجرم، ودعا عليه فأرسل الله على داره نارًا من السماء،
وكان الناس يتلقَّونه أفواجًا
أينما سار لينالوا من بركته.
وبقي على حاله هذه يُطهر الكنيسة ويجزي المسيء من أهلها، فعرف الناس في كل البلاد
أن دونهم رجلًا يُعتد به. ولا شك في
أنه عمل على إعادة وحدة الكنيسة القبطية، وعلى أن يُعيد إليها اطمئنانها واستقرارها بعد
أن زعزعتها حوادث السياسة في ذلك
الوقت أو كادت تهدمها. وقضى بنيامين أربع سنين أو خمسًا
٧ في سلامٍ تحت ظل الفرس في الإسكندرية، وهناك رأى «شاهين» وقد دعاه سيده «كسرى» ليعمل
إذا استطاع على مُداركة
أمره، ثم رأى بعد ذلك جنود الفرس تجلو عن مصر عندما غلب هرقل ملكهم وقهره. ولسنا ندري
كيف كان نظره إلى هؤلاء الكفرة وقد
رآهم يحملون الرماح ويتنكبون القِسيَّ وهم خارجون من الباب الشرقي للمدينة العظمى، ولا
ما دار بنفسه وهو يتوقع عودة الروم
بعد ذلك.
وأكبر الظن أن أكثر الفرس خرجوا من مصر في أول سنة ٦٢٧،
٨ وأن البعض القليل منهم قد بقي في مسالح متفرِّقة إلى سنة ٦٢٨، وخرجوا بعد ذلك عندما
تم الصلح مع هرقل، وعاد في
ذلك الوقت سجناء المصريين إلى ديارهم قافلين من «دستجرد» وما إليها من مدائن آسيا. ولعل
هرقل قد أرسل جيشًا بعد أن دخل
القسطنطينية ظافرًا منصورًا، أرسله في البحر في شتاء سنة ٦٢٨-٦٢٩ ليحتلَّ مصر ويُعيد
أمر الدولة الرومانية من فلسطين إلى
بلاد «بنطابوليس».
وإنا لا يسعنا إلا أن نُقرَّ بأن هرقل إنما كان من أحسن الناس قصدًا عندما بعث
قيرس الذي كان أسقف «فاسيس» في بلاد القوقاز وولَّاه رياسة الدين في الإسكندرية، ولكن
عمله هذا كان خطأً كبيرًا، وكان له
أسوأ العواقب؛ فقد كان المسيحيون جميعًا قد اتفقوا اتفاقًا عجيبًا عندما رأوا حرب هرقل
وجهاده مع الفرس ذلك الجهاد
المُدهش، وكانوا يرقبونه وأنفاسهم خاشعة في الصدور من عِظم ما كان في نفوسهم. فلما أن
هزم الكفار وخلَّص بيت المقدس منهم
وعلا أمر الصليب، فرح المسيحيون بالنصر على اختلاف نِحلهم من قبط وملكانيين، وكذلك أظهروا
سرورهم جميعًا بما حل باليهود من
النقمة، واشتركوا كلهم فيما أمرهم به زعماؤهم من التوبة تكفيرًا عن ذنبهم هذا، فكانت
تلك الساعة فرصةً من ذهب لو اغتنموها
لأدَّت إلى وفاقٍ دائم ووئامٍ حق. وقد فطن هرقل إلى هذا، وكان يعرف تعلُّق أهل ذلك العصر
بأن يكون لهم شعارٌ يحفظونه
ومقولةٌ يقولونها، غير أنه لم يفطن إلى أن مذهبه الذي حاول به التوفيق قد يأباه أهل مصر،
ولم يعرف أن أهل مصر إذا أبَوا
ذلك المذهب كان شر الطُّرق إلى ضمهم إلى الجماعة أن يُرغمهم عليه ويقذف به في حلوقهم؛
إذ قد كرهوا مرارة مَذاقه منذ ذاقوه.
وعلى أي حال قد كانت هذه خطته في مصر والشام، وكان من رأي ذلك العصر أن أمور الدين والعقيدة
مما ينبغي للدولة أن تقوم عليه
ويصدر الناس فيه عن أمرها، ولم يكن الإمبراطور في هذا الشأن أحكم رأيًا من أهل عصره،
فعقد النية على أن يُظهر المذهب الذي
ابتدعه رؤساء الدين الثلاثة في دولته على كل ما عداه من المذاهب المخالفة له، مُتوسلًا
إلى غرضه هذا بكل الوسائل حسنِها
وقبيحها.
ولكنه مع عزمه هذا كان كمن يسعى إلى المصائب سعيًا؛ وذلك أنه اختار «قيرس» دون سواه
إذ كان ذلك الرجل نحسًا أنكد
النقيبة، أخفق الإمبراطور بشؤمه في سعيه لتوحيد المذاهب في مصر، ثم عسف في الحكم حتى
صار اسمه مُفزِعًا للقبط كريهًا عندهم
مدة عشر سنين أمعن فيها ما استطاع في اضطهاد مذهبهم، حتى استحال بعدُ أن يبقى في القبط
ولاء لدولة الروم، وكان ظالمًا أساء
في حكمه حتى كره الناس دولته، ومهَّد السبيل بذلك إلى فتح العرب للبلاد، وكان فوق كل
ذلك خائنًا، فإذا ما اشتد الكرب وجدَّ
الجد أسلم البلاد إلى أعدائها. كان هذا هو الرجل الذي ذاع سوءُه وقبُح ذِكره، وهو المعروف
فيما بعد في تاريخ مصر باسم
«المقوقس». وقد بقي ذلك الحاكم في التاريخ سرًّا خفيًّا استعصى على المؤرخين أن يعرفوا
اسمه أو قومه، ولكن قد أصبح اليوم
من الثابت أنه هو قيرس دون سواه.
٩
والظاهر أن «بنيامين» لم يستشره أحد في رأي القبط وما ينتظر منهم أن يفعلوا لقاء
ما يُراد إدخاله من البدعة الجديدة
عليهم، وكان خطأً فاحشًا ألا يستشيره أحد في ذلك؛ فإن المذهب الجديد كان محتومًا عليه
ألا يلقى في مصر نجاحًا. فما هو إلا
أن جاء «قيرس» إلى الإسكندرية في خريف سنة ٦٣١ حتى هرب البطريق القبطي.
١٠ وقد جاء في إحدى القصص أن ملَكًا أتى «بنيامين» في نومه، فأنذره أن يهرب مما هو لا بد
واقع من العسف. وهذا يدل
على الأقل على أن ذلك البطريق كان قد عقد النية على أن يرفض ما جاء به «قيرس» قبل أن
يُفضي به إليه، وعرف ما سيكون وراء
ذلك من الآثار، وكان عزمه ذاك غير مُزعزَع، سواء أكان عارفًا بحقيقة ما جاء به «قيرس»
أم كان غير عارف بها. ففي الحق قد
رأى القبط في مَقدم «قيرس» إيذانًا لهم بحربٍ يُثيرها الروم على عقيدتهم. وقد دبَّر «بنيامين»
أمور الكنيسة قبل أن يُغادر
ولايتها، وجمع جمعًا من القسوس والرعية، وألقى فيهم خطابًا «يحضُّهم فيه على أن يثبتوا
على عقيدتهم حتى يُوافيهم الموت»،
ثم كتب إلى أساقفته جميعًا يأمرهم بالهجرة إلى الجبال والصحاري ليتواروا فيها حتى يرفع
الله عنهم غضبه، وأنبأهم أن البلاد
سيحلُّ بها وبالٌ، وأنهم سيلقون العسف والظلم عشر سنين ثم يُرفع ذلك عنهم.
هذا ما بعث به في خطابه إليهم. ولما أنفذه سافر من الإسكندرية خُفيةً تحت جنح الليل
لا يصحبه إلا رفيقان، وخرج من
المدينة من الباب الغربي، وسار يمشي إلى مريوط، ومن ثَم ذهب إلى «المنى»،
١١ وهي قرية في واحة عند مفترق الطريقين طريق الإسكندرية ووادي النطرون وطريق الطرانة وبرقة.
ولا بد قد كانت تلك
القرية عند ذلك مدينةً عظيمة؛ فإنها بقيت إلى ما بعد ذلك بقرون، وكان المسافر في الصحراء
والقفار إذا طلع عليها عجب من
عظيم كنائسها وفخم بُنيانها.
١٢ ولا شك أن البطريق دخل يُصلي في الكنيسة العظمى بها كنيسة «القديس مينا»، واستراح قليلًا
بها ثم مضى في سبيله
إلى جبلٍ اسمه برنوج،
١٣ وأصبح عند ذلك قريبًا من أديرة وادي النطرون، ولكنه رآها مُقفِرة لا يكاد يكون فيها
أحد؛ فإن تلك الأديرة لم
تعُد إلى ما كانت عليه بعدما حل بها من التخريب منذ ثلاثين عامًا،
١٤ وكان البدو لا يُبيحون لأحدٍ أن يُعيد بناء كنائسها، ولا أن يُقيم بها عددٌ كبير، فلم
يكن فيها مقام للبطريق،
وكان يُحسُّ فوق ذلك أنه ما زال على مَقربة من العاصمة، فلا هو بآمن على نفسه، ولا هو
مُقيم بين ظهراني قومه ليدافع عنهم
وينصرهم. فرأى أن يسير إلى الأهرام، ثم تركها وصعد إلى صعيد مصر سائرًا على جانب الصحراء،
وما زال حتى بلغ مدينة قوص،
١٥ ولاذ هناك بديرٍ صغير بالصحراء غير بعيد عن تلك المدينة، وقد ظل هذا الدير مشهورًا بمقامه
فيه مدة قرون بعد
ذلك.
وكان هرب «بنيامين» في نفس الوقت الذي جاء فيه «قيرس» إلى الإسكندرية أو قريبًا منه،
ولم نجد كلمةً واحدة في خبر من
الأخبار تدل على أن «قيرس» سعى مرة إلى أن يتقرب إلى بطريق القبط أو يتفق معه؛ فالظاهر
أن مجيئه إلى مصر قد شرَّد قسوس
القبط فزِعين، وقد صار بطريقًا من قِبل الدولة الرومانية في الإسكندرية، وزاد سلطانه
بأن صار واليًا إلى حكومة مصر من قِبل الإمبراطور.
١٦ ولا شك أن قبض «قيرس» على رياسة سلطتَي الدنيا والدين معًا هو الذي زعزع أمر بنيامين؛
فإن ذلك جعله يُوشك أن
يكون ذا سلطان مُطلَق. ولما قدِم قيرس في أول الأمر تظاهر بأنه إنما جاء مُسالمًا، وجعل
يُبين للناس كُنْه المذهب الجديد
(المونوثيلي)، وهو المذهب الذي كان الإمبراطور يطمع أن يُزيل به ما أحدثه مجلس خلقيدونية
من الشقاق بين الناس. فكان عليه
أن يستميل إلى المذهب الجديد أقباط مصر أولًا وأتباع المذهب الملكاني ثانيًا، ولكن الظاهر
أن مذهبه لم يلقَ منذ أول أمره
توفيقًا؛ فقد أساء هو بيانه وإيضاحه، وأساء الناس فهمه، وتلقَّوه لقاءً سيئًا. فأما أتباع
المذهب الملكاني فقد رأى كثير
منهم أن المذهب الجديد نقضٌ تام لمذهب خلقيدونية، وأما القبط فإن من سمع منهم بالبدعة
الجديدة قال إن المذهب الجديد ما دام
قد سلَّم بأن الله له إرادةٌ واحدة وفعلٌ واحد، فإنه لا بد له أن يُسلِّم بأن له كذلك
طبيعةً واحدة؛ وعلى ذلك فإن «قيرس»
إنما جاء في الحقيقة مُسلِّمًا بالمذهب (المونوفيسي).
ولما أراد قيرس أن يُزيل ما علِق بالأفهام من الخطأ جمع مجلسًا في الإسكندرية، وطرح
عليه الأمر ليتناظر المجتمعون فيه
وليتناقشوا في مسائله، وفي ذلك المجلس جاء صاحبنا «صفرونيوس»، وكان قد عاد إلى مصر وصار
زعيم المُعارضين من الملكانيين،
واجتهد جهده أن يَثني «قيرس» عما عزم عليه من البدعة تارةً بالحجة وطورًا بالتوسل والرجاء،
وقيل إن «قيرس» أجابه جوابًا لينًا،
١٧ وطلب إليه أن يرجع إلى البطريق الأكبر «سرجيوس» بالقسطنطينية ليُزيل ما في نفسه من الشكوك،
ولكن «صفرونيوس» لم
ينثنِ، وانتهى المجلس إلى إقرار البدعة، ووسم من لا يقبلها بتسع سمات شائنة. والظاهر
أن «قيرس» لم يكن أثناء ذلك على ما
ينبغي أن يكون عليه والي السلطان من الكياسة والرحمة، وقد جاء يدعو إلى السلم والوفاق؛
فإنه كان لا يلقى من يُقاومه إلا
بقوة من العزيمة تدعمها قوة السلطان، في حين أن مثل تلك المشكلات الدينية في مصر لم يكن
لها أن تُحل إلا بالدهاء وحُسن
الاحتيال. على أن الذنب في الإخفاق كان ذنب كلا الفريقين؛ فقد كان «قيرس» عاتيًا مُتكبرًا،
في حين كان القبط على شيء من
العناد وقلة البصر، وذلك إذا نحن سلَّمنا بأن «قيرس» قد أوضح لهم المذهب الجديد وبيَّن
كُنْهه لهم؛ فإنه لم يكن ثَم فرقٌ
كبير بين مذهب القبط (المونوفيسي) والمذهب الجديد (المونوثيلي) لو طُرِح كلاهما أمام
أعيُن عامة الناس. حقًّا يجب علينا
ألا ننسى أنه لا تزال إلى اليوم بين المسيحيين فِرَق وشِيَع، وكثيرًا ما يكون بينها شديد
العداوة وكبير الخلاف مع انعدام
ما يوجب ذلك في حقيقة الأمر، ولكن القبط في ذلك الوقت قد ارتكبوا خطأً كبيرًا برفضهم
ما عُرِض عليهم من أمر توحيد المذاهب،
وكان خطؤهم ذاك سببًا في مصائب عظيمة تحلُّ بهم.
وقد يرى البعض أن المذهب الجديد كان بدعة وضلالة، ولم يكن من المتيسر نشره، ولكن
مهما يكن حكمنا على هذا المذهب الذي
ابتدعه هرقل وبطارقته الشرقيون الثلاثة، ومهما تكن صورته التي أطلع القبط عليها، وسواء
كانوا على الحق أو على الباطل،
فإنهم تلقَّوه بكراهةٍ شديدةٍ بادئَ ذي بدء، فلم يُطيقوا أن يخطر ببال أحد أن يغيِّر
ذرَّة من أصول عقيدته أو لفظًا من
شعار مذهبه، وعدُّوا ذلك خيانة لدينهم واستقلالهم بأمره، وقد كان استقلالهم في أمور الدين
أكبر ما تتعلق به نفوسهم؛ فإنهم
لم يعرفوا الاستقلال القومي قط،
١٨ ولعلهم لم يحلموا يومًا بمثل ذلك الأمل، وأما الاستقلال في أمر الدين فقد ناضلوا من
أجله، وجاهدوا في سبيله،
لم ينثنوا عن ذلك في وقت من الأوقات منذ مجلس خلقيدونية، وكانوا حريصين على بلوغ ذلك
الغرض لا تغفل عنه قلوبهم، ولا
يُحجمون عن بذل كل شيء في سبيله مهما عظُم. ذلك هو سر حوادث تاريخهم جميعًا.
ولما رأى «قيرس» أنه لم يستطع أن يستميل القبط بالخداع، ولا أن يحملهم على ما أراد
بِرَميهم بالكفر واللعنة، لجأ إلى ما
هو أشد من ذلك. ولا نقدر أن نُنكر أن هرقل كان شريكه فيما لجأ إليه من العسف، ولكن الإمبراطور
حاول مرةً أخرى بعد ذلك أن
يصل إلى غرضه من توحيد المذاهب؛ فإن سرجيوس لما رأى أن الناس لم يقبلوا المذهب القائل
بأن لله إرادةً واحدة وفعلًا واحدًا
يُنفذها به، اقترح أن يُقرَّ الناس بأن الله له إرادةٌ واحدة، وأما المسألة الأخرى وهي
نفاذ تلك الإرادة بالفعل، وهل ذلك
الفعل واحد أو مزدوج، فيُرجئ القول فيها ويمنع الناس أن يخوضوا في مناظراتها، ثم أرسل
إلى الباب في روما وهو «هونوريوس»
فأخذ منه إقرارًا لهذا الحل، وإن شئت فقل إنه لم يكن حلًّا ولكنه كان هروبًا وتخلصًا
من المشكلة، ثم جعل ذلك في رسالةٍ
رسمية، وبعث بها إلى جميع جهات العالم الشرقي، وتقدَّم إلى الناس أن يعتقدوه ويتبعوه،
وأمر البطريق سرجيوس حنا قائد الشرطة
أن يحمل صورة من الأمر إلى «قيرس»، وأرسل معه هدية
١٩ صليبًا له قدرٌ عظيم من القداسة، ولكن أثر تلك الرسالة لم يكن سوى أن زاد المُعارضة
والرفض، ورأى الإمبراطور
أن «صفرونيوس» عدو لسعيه
٢٠ لا يُفل حدُّه ولا تخور همَّته، وقد كان حاول من قبلُ أن يستميله أو يُسكت لسانه بأن
اختاره بطريق بيت المقدس،
فلم يُغنِه ذلك شيئًا. وأما القبط فقد وجدوا أن الصيغة الثانية للمذهب الجديد إذا كان
فيها ما يُخالف الصيغة الأولى فهي
أشدُّ منها وأكره مَذاقًا.
وإنه لمن أبعد الأمور أن تكون الصيغة الأولى للمذهب، أو الرسالة التي بُعثت فيها الصيغة
الثانية له، قد بلغت أقباط مصر
في غير الإسكندرية؛ فإن ما تخلَّف من أخبار القبط لا أثر فيه لذكر صيغة المذهب الجديد،
أو أن شيئًا مثل ذلك عُرِض عليهم.
ولعل هذا أدعى ما في الأمر للحزن والأسى؛ إذ لا يُذكَر في ذلك العصر كله في أثناء الاضطهاد
إلا شيءٌ واحد، وهو أن الروم
كانوا يُخيِّرون الناس بين قبول مذهب خلقيدونية بنصه — وهو كتاب «ليو» — وبين الجَلد
أو الموت، ولم يكن في عقول مؤرخي
القبط إلا هذا الاعتقاد يُدوِّنونه في دواوينهم، فيلوح من ذلك أن قيرس أحسَّ بإخفاقه
في سعيه من مبدأ الأمر، وكان يودُّ أن
يحمل القبط على المذهب الذي تقرَّر مهما تكلَّف في سبيل ذلك، فلم يعبأ بعد بما أدخله
الإمبراطور على هذا المذهب من
التهذيب، بل كان يعرض على الناس أحد أمرين لا تعقيد فيهما، وهما قبول الدخول في الجماعة
أو الاضطهاد.
وكانت البلاد كلها عند ذلك تحت يد «قيرس» المقوقس يُصرِّفها كيف شاء، وكان جيش الرومان
مرةً أخرى يملك مصر، فكانت طُرُق
الإسكندرية البرَّاقة تتجاوب جوانبها بأصداء الكتائب البيزنطية إذ تسير فيها، وعادت جنود
الروم إلى الأسوار العظيمة أسوار
المدينة وآطامها، ووُضعت عليها آلات حربها، وبُعثت المسالح إلى مدينة الفرما (بلوز)،
وهي ثغر الطريق الآتية من فلسطين إلى
مصر، وإلى بلاد مصر السفلى مثل أثريب ونقيوس، وكذلك إلى الحصن العظيم حصن «بابليون» بقرب
ممفيس؛ ومن ثَم عاد سلطان الروم،
فانتشر على بلاد الفيوم ووادي النيل حتى بلغ الحدود من الجنوب عند أسوان في أسفل الجنادل،
وكانت كل تلك الجنود والكتائب
عند أمر «قيرس» ماثلةً لإنفاذ أمره إذا ما دعاها. ولم يتحرَّك القبط بطبيعة الحال عندما
عاد جند الروم إلى البلاد، ولكنهم
وجدوا بعدَ قليلٍ أن حكم الفرس إن لم يكن مما يُحَب ويُرغَب فيه، فإن حكم الروم الجديد
لم يكن حدثًا يحمدونه ويفرحون من
أجله؛ فقد وجدوا فيه أنواع العقاب وصنوف العذاب، فكأنهم وقد خرجوا من حكم الفرس إلى حكم
الروم قد رُفع عنهم التعذيب
بالسياط ليحلَّ بهم تعذيبٌ آخر من لسع العقارب؛ إذ بَيْنا كان غُزاة الفرس بعد أن استقرَّ
بهم الأمر في البلاد لا يحُولون
على الأقل بين القبط وبين التدين بما يشاءون من الدين، جاء «قيرس» المقوقس وصمَّم على
أن يحرمهم تلك الميزة الكبرى وينزعها
من أيديهم.
وابتدأ الاضطهاد الأعظم عند ذلك. ويتفق المؤرخون جميعًا على أنه بقي مدة عشر سنوات؛
أي إنه بقي كل مدة ولاية قيرس رياسة
الدين؛ فإن أكبر الظن أن مجمع الإسكندرية كان في شهر أكتوبر من سنة ٦٣١، وقد بدأ عهد
الاضطهاد بعد ذلك بشهرٍ واحد أو
بشهرين. ولا يشكُّ أحد في فظاعة ذلك الاضطهاد وشناعته؛ فقد جاء في كتاب «ساويرس»: «لقد
كانت هذه السنين هي المدة التي حكم
فيها هرقل والمقوقس بلاد مصر، ففُتِن في أثنائها كثير من الناس لِما نالهم من عسف الاضطهاد
والظلم، ومن شدة العذاب الذي
كان يُوقِعه هرقل بهم لكي يُحوِّلهم على رغمهم عن مذهبهم إلى مذهب خلقيدونية؛ فكان يُعذِّب
بعضهم ويعد البعض أحسن الجزاء،
ويمكر بالبعض ويخدعهم.» وقد جاء في ترجمة حياة البطريق القبطي «إسحاق»،
٢١ وكانت كتابتها سنة ٦٩٥، أنه في شبابه لقي قسًّا اسمه يوسف كان ممن شُهروا بين يدَي «قيرس»
وجُلِد جلدًا كثيرًا
لأنه شهد شهادة الحق. وكذلك كان أخو «بنيامين» ممن عُذبوا ثم قُتل غرقًا، وكان تعذيبه
بأن أُوقدت المشاعل وسُلطت نيرانها
على جسمه، فأخذ يحترق «حتى سال دهنه جانبَيه إلى الأرض»،
٢٢ ولكنه لم يتزعزع عن إيمانه، فخُلعت أسنانه ثم وُضع في كيسٍ مملوء من رمل، وحُمل في البحر
حتى صار على قيد سبع
غلوات من الشاطئ، ثم عرضوا عليه الحياة إذا هو آمن بما أقرَّه مجلس «خلقيدونية»، فعلوا
ذلك ثلاثًا وهو يرفض في كل مرة،
فرمَوا به في البحر فمات غرقًا. وقال الكاتب الذي كتب ترجمة حياة بنيامين: «ولكنهم بفعلهم
هذا لم يقهروا «ميناس» الذي مات
شهيدًا، بل قد غلبهم هو بصبر الإيمان المسيحي.»
وإليك دليلًا آخر جاء في ترجمة حياة صمويل «القلموني»،
٢٣ وقد كُتبت تلك الترجمة في أيام «قيرس»، وجاء فيها وصفٌ جلي لِما فعله «قيرس» نفسه من
الأفاعيل في هذا
الاضطهاد؛ ولهذا كان لنا العذر إذا نحن نقلنا هنا بعض ما جاء فيها في شيء من الإفاضة.
تصف القصة أن البطريق «قيرس» جاء إلى
الدير فوجده خلاءً ممن فيه إلا من خازنه، فقبض عليه وجلده وأخذ يسأله، فقال له الخازن:
«لقد جمع صمويل الزاهد رهبان الدير
وخطب فيهم فأطال، ووصفك بالكفر، وبأنك يهودي من أتباع «خلقيدونية» ولا تؤمن بالله، وبأنك
لست أهلًا لأن تُقيم الصلاة، ولا
أن يُعاملك المؤمنون. فلما سمع الرهبان قوله هذا هربوا قبل مَقدمك.» فلما سمع الكافر
الفاسق ما قاله الخازن ثار ثائره وعض
شفتَيه من الغيط، وسب الخازن والدير ورهبانه، ومضى عنه. قال كاتب الترجمة: «ولم يعُد
للدير بعد ذلك إلى يومنا هذا.»
٢٤ فلما ذهب رجع الإخوان إلى ديرهم آمنين. وأما الكاوخيوس (المقوقس) ذلك البطريق الدعيُّ
فقد ذهب إلى الفيوم
والغيظ يأكل قلبه، ودعا هناك أصحابه وأتباعه، وأمرهم أن يأتوا له بالعابد «الأبا صمويل»
مكتوف اليدين من خلاف، وأن يضعوا
في عنقه طوقًا من الحديد، وأن يدفعوا به كما يُدفع باللصوص. فذهبوا إلى الدير الذي كان
فيه وقبضوا عليه.
وذهب صمويل مُستبشرًا في صحبة الله وهو يقول: «سأُمنحَ إن شاء الله اليوم الشهادة
بأن يُسفك دمي في سبيل المسيح.» ثم جعل
يسبُّ المقوقس لا يخشى شيئًا. وأدخله الجنود عليه، فلما رأى المقوقس ذلك الولي أمر جنده
أن يضربوه حتى سال دمه كما يسيل
الماء، ثم قال له: «صمويل أيها الزاهد الشقي! من ذا أقامك رئيسًا للدير وأمرك أن تُعلِّم
الرهبان أن يسبُّوني ومذهبي؟»
فقال له العابد (الأبا صمويل): «إن البر في طاعة الله وطاعةِ وليِّه البطريق «بنيامين»،
وليس في طاعتك والدخول في مذهبك
الشيطاني يا سلالة الطاغوت، ويا أيها المسيخ الدجال!» فأمر «قيرس» جنده أن يضربوه على
فمه، وقال: «لقد غرَّك يا صمويل أن
رهبانك يُجلُّونك ويُعلون من شأن زهدك؛ ولهذا تجرَّأت وقوِيَت نفسك، ولكني سأشعرك أثر
سبابك للعظماء؛ إذ سوَّلت له نفسك
ألا تؤدي لي ما يجب عليك أن تؤديه لعظيم رجال الدين وكبير جباة المال في أرض مصر.» فأجابه
صمويل: «لقد كان إبليس من قبل
كبيرًا على الملائكة، ولكن كِبْره وكفره فسقا به عن أمر ربه، وهكذا أنت أيها الخادع «الخلقيدوني»؛
فإن مذهبك مذموم، وإنك
أشد لعنة من الشيطان وجنوده.» فلما سمع المقوقس ذلك امتلأ قلبه بالغيظ على ذلك الولي،
وأومأ إلى الجند أن يقتلوه. وقصارى
القول أن ذلك الكافر أراد أن يقتل الولي، ولكن حاكم الفيوم خلَّصه من يدَيه، فلما رأى
قيرس أن صمويل نجا منه أمر به أن
يُطرد من جبل نكلون.
٢٥
وقد جاء مِثل هذا الخبر في الترجمة الأثيوبية لحياة «الأبا صمويل»، وقد جاء فيها
ذكر رجل اسمه «مكسميانوس»، وأنه أتى إلى
دير صمويل في الصحراء ومعه مائتا جندي، وأنه أعطاه كتابًا يؤمر فيه بالإيمان بمذهب خلقيدونية،
٢٦ فمزَّقه صمويل ورمى به من باب الكنيسة وهو يقول: «ليس لنا من رئيس إلا بنيامين، ولعنة
الله على ذلك الكتاب
الكافر الذي جاء من الإمبراطور الروماني، ولعنة الله على مجمع خلقيدونية وكل من آمن بما
أقرَّه!» فضُرِب صمويل حتى ظُن أنه
مات ثم غُودِر، ولكنه عاد إلى نفسه، وسار إلى القلمون حيث عاد لمُحادَّته لقيرس وما أعقبها
كما أسلفنا وصفه.
٢٧
وإذا كان مِثل هذا العسف يجري في الصحاري، فما بالنا بما كان يحدث للقبط في بلاد
مصر السفلى والصعيد؟ فلقد كان حظ من يأبى منهم أن يتخلى عن عقيدته أو يُنازع قيرس في
أمره أن يُجلد ويُعذب، أو يُلقى به في
السجن، أو يلقى الموت، فكانت تُقام أساقفة للملكانية في كل بلد من مصر حتى أنصنا
٢٨ من بلاد الصعيد، في حين كان قسوس القبط يُقتلون أو يُشرَّدون في أنحاء الأرض يلتمسون
فيها ملاذًا. وكان السعي
حثيثًا غير منقطع وراء بنيامين، ولكن لم يُعثر عليه في مكان. وقد جاء في كتاب «ساويرس»
أنه كان يتنقل من ديرٍ محصَّن إلى
آخر، وجاء في ترجمة حياة شنودة
٢٩ ما يُفهم منه أن بنيامين لجأ إلى دير الأنبا شنودة، وهو الدير العظيم المعروف بالدير
الأبيض، على أن هذه
الرواية تختلف عما تواتر من الأخبار عن أنه إنما لاذ بِدَير في الصحراء قريب من «قوص»،
ولعل الدير الأبيض كان مع قوة حصونه
ومنعة أسواره العظيمة غير كفيل بحماية بنيامين مدةً طويلة لقربه من النيل، في حين أنه
كان يستطيع أن يجد ملاذًا آمنًا لا
تصل إليه أيدي أعدائه في جبال صحراء قوص، وما بها من المَغاور الكثيرة والكنائس المنقورة
في الصخور.
وليس من العجيب أن يفتتن كثيرون ممن لم يستطيعوا الهجرة والهرب وأن يخضعوا لما شاء
قيرس منهم؛ فقد كان حكمه حكم إرهاب.
وإذا كان القبط لم تخمد نفوسهم فما كان لشعب بأجمعه أن يُستشهد في سبيل الدين؛ فدخل جماعة
من الأساقفة في المذهب الجديد
مذهب عدوهم، ومن هؤلاء أسقف «نقيوس»
٣٠ واسمه «قيرس»، وأسقف الفيوم «فكتور»، ولا شك أن عَدْواهم انتقلت إلى سواهم. أما من لم
يستطع الهرب من الناس
والخروج إلى الصحراء، وكان مع ذلك غير راضٍ عن ترك مذهبه، فقد لجأ إلى التقيَّة، وأظهر
غير ما يُبطِن، حتى لقد بقيت في
الإسكندرية ذاتها بقية من القبط في سِني الاضطهاد العشر، مع أنهم لم يكن لهم بها إمام
من مذهبهم اللهم إلا قسٌّ واحد من
أهل مريوط اسمه «أجاثو»، وكان كل يوم يُخاطر بحياته في سبيل دينه؛ فكان يُخفي نفسه في
لباس نجَّار، ويسير في أنحاء المدينة
في النهار يحمل على ظهره كيسًا قد وضع فيه آلاته وعدته، فإذا ما جاء الليل ذهب إلى الكنيسة
كي يُقِيم شعائر العبادة
لإخوانه القبط. وقد صار هذا القس فيما بعدُ أكبر أصدقاء بنيامين، وخلَفه بعد موته على
ولاية الدين.
ورُوي أن دير «مطرة»، ويُسمَّى بِدَير «السفونية»، نجح في مقاومة «قيرس»، وكان ذلك
الدير في الإسكندرية أو قريبًا منها،
وكان السبب في أنه بقي على عهده لم يتغير أن كل رهبانه كانوا مصريين خُلصًا ليس فيهم
غريبٌ واحد.
٣١
والظاهر أن المصريين سعَوا مرة إلى التخلص من «قيرس» مع ما كانوا عليه من الصبر والاحتمال
الطويل؛ فقد أثار حفيظتَهم ما
رأوه من فعله؛ إذ تارةً ينهب أواني كنائسهم الثمينة لا يرقب فيها إلًّا ولا ذمة، وتارةً
يضربهم أو يسجنهم. فاجتمع أتباع
الطريقة «الجايانية» في كنيسة «دفاشير» بقرب مريوط، وتآمروا على قتل ذلك الظالم، ولكن
سمع بهذا الاجتماع «ضابطٌ» روماني
اسمه «أودوقيانوس»، وهو أخو «دومنتيانوس»، وكان عدوًّا شديد العداوة للقبط، فأرسل جندًا
وأمرهم أن يذهبوا إلى المُتآمرين
فيقتلوهم، فكان ذلك، وقتل الجنود بعضهم وجرحوا منهم البعض بسهامهم، وقطعوا أيدي طائفة
منهم بغير أن يسمعوا منهم شهادة أو
يقوموا معهم بشيء يُشبِه القضاء؛ وبذلك قضى على المكيدة ونجا قيرس من الخطر.
٣٢
وقد أوردنا هذه القصص جميعها لكي ندل بها دلالةً واضحة على شدة الاضطهاد وعنفه. وإنه
ليُخيَّل إلى الإنسان أنه من
المُستبعَد أن يبقى مِثل هذا الاضطهاد عشر سنوات، ولكن هذا هو الحق الذي لا مراء فيه؛
فقد جاء في ديوان «حنا النقيوسي» ما
يأتي: «وظل قيرس إلى ما بعد موت هرقل عندما عاد إلى مصر (وذلك في سنة ٦٤١ بعد نفيه من
البلاد أو غيابه عنها فترة) لم يذهب
عنه حقده على عباد الله، ولم يمتنع عن اضطهادهم، بل زاد قسوة على قسوة.» وقد جاء مثل
هذا القول في كتاب «ساويرس» إذ قال:
«فكان هرقل كأنما هو ذئبٌ ضارٍ يفتك بالقطيع ولا يشبع نهمه، وما كان ذلك القطيع إلا طائفة
«التيودوسيين».»
٣٣ ولكن ما كان الاضطهاد إلا ليزيد من استطاعوا مقاومته إيمانًا إلى إيمانهم، بدل أن يفتنهم
عنه ويقضي عليه.
فكانت الشدائد تتوالى بمذهب القبط، والمصائب تفتك بأصحابه، ولكنه ظل قويًّا لم تلِنْ
قناته، وبقي أكثر الناس على إيمانهم
ثابتين أقوياء، ولكن حد ذلك البطش كان قد بلغ نفوسهم فثَلمها، وجعل الداء ينخر في جراحهم
مدة ظلم تلك السنوات العشر
وظلامها، فكان ذلك سببًا في ضياع كل أمل في عودة السلام والوفاق بين الطائفتين المُتنازعتين؛
إذ استفحل الأمر، واستمرَّ
مرير العداوة والكراهة لسلطان الدولة البيزنطية ودينها جميعًا.
وليت شعري ماذا كان يدور بنفوس أهل مصر إذ ذاك، وبأي عين كانوا ينظرون إلى تلك الحركة
العظيمة التي ثارت في بلاد العرب،
فما زالت حتى قرعت بلاد الشام وهزَّت مدائنها هزًّا. إنا نقول، وإن قولنا لمِمَّا يُشرِّف
القبط، إننا لا نجد أقل دليل
يبعثنا على الظن أنهم نظروا إلى تلك الحركة نظرة الميل والرضا. على أنهم لا بد قد بلغهم
أن المسلمين يدعون للمسيحيين أمور
دينهم، وفعلهم قد خطر بقلوبهم عند ذلك أن الخضوع للمسلمين قد يُخفِّف من الآلام التي
نغَّصت عليهم حياتهم، وأن نِير
المسلمين قد يكون أخفَّ حملًا من نِير الملك الأصيل في دين المسيح وهو هرقل. لا شك في
أنهم قد كرهوا دين الإسلام، وتدل على
ذلك كل صفحة من صفحات تاريخهم، ولكن سيف «قيرس» قطع آخر ما كان يربطهم إلى الدولة الرومانية
من أسباب الولاء؛ وذلك لكثرة
ما لاقَوه في مدة السنوات العشر من الظلم الذي نزل بهم إلى حضيض من الشقاء لا أمل معه،
فرأوا في مجيء المسلمين نازلةً
أرسلها الله لينتقم لهم بها من ظالميهم.
وهكذا دفع سوء الحكم خير بلاد الدولة الإمبراطورية إلى مأزقٍ ما أضيَقَه. ولسنا نستطيع
أن نعرف جناية من هذه؛ أهي جناية
هرقل وقد أطاعه المقوقس فيما أمر به من الشر، أم هي جناية المقوقس وقد عصى سيده وخان
أمانته؟ فمن الجلي أن هرقل كان يقصد
في مبدأ أمره إلى قصدٍ نبيل، فما كان أعظم أن يخلع على الكنيسة من السلام مثلما خلع على
الدولة، ولكنه لم يعرف ثبات الناس
على أديانهم وحرصهم عليها، ولم يعرف أن الدين كان مُتغلغلًا في أعمق فِجاج الدولة، وأنه
إذا شاء أن ينزعه منها بالقوة كان
في ذلك أشد الخطر على حياتها. وكذلك كان اختياره لمن يُنفذ له أغراضه غير موفَّق؛ فقد
أرسل إلى مصر رجلًا ليُعِيد السلام
فإذا به ظالم عاتٍ، وأرسل كلمةً يقصد بها نشر السلام فلم يؤدها الرسول أو لم يسمع بها
الناس. وأما الاضطهاد فلا شك في أنه
قد وافق عليه وأقرَّه، ولكنه قد يكون أقرَّه بعد أن لم يجد عنه مَحيصًا، في حين أن قيرس
لجأ إلى العسف بادئَ ذي بدء ولم
يلجأ إلى وسيلةٍ سواه. ومهما يكن من شيء فقد كان رأي الإمبراطور في القضاء على اختلاف
المذاهب بأمرٍ يأمر به، رأيًا بعث به
الخيال والوهم؛ فقد ظن أنه يستطيع بكلمة سحر يقولها أن يُهدئ العواصف الثائرة من الخلاف
في المذاهب، فما كان منه إلا أن زاد العاصفة شدة، ولم يستطع الصبر على الخيبة، ولم يرضَ
أن يدع الأمور إلى الزمن ويلزم
جانب الاعتدال، فعزم على أن يسعى للسلام بخوض حرب دينية في مصر والشام، فكان بعمله هذا
يُمهد السبيل في القُطرَين لمَطلع
جنود الإسلام.