الفصل الرابع عشر
مَسير العرب إلى مصر
الظاهر أنه بعد أن سلَّم البطريق «صفرونيوس» الشيخ مدينة بيت المقدس، سار عمر بن
الخطاب الخليفة وعمرو بن العاص القائد
وذهبا كلاهما نحو الشمال، وقد أُرسلَ عمرو مددًا للعرب المُحاصِرين لقيصرية،
١ وأما عمر فقد أقام في دمشق. ولعل عمرًا قد أفضى إليه برأيه في فتح مصر منذ كانا في بيت
المقدس، ولكن الخليفة
رأى أن وقت ذلك الفتح لم يحِن بعد. فلما ظهر العرب وانتهت الحرب أو كادت، عاد عمرو إلى
عرض رأيه، وجعل يُبين للخليفة ما
كانت عليه مصر من الغنى، وما كان عليه فتحها من السهولة، وقال له إنه ليس في البلاد ما
هو أقل منها قوة
٢ ولا أعظم منها غنًى وثروة، ثم قال إن «أريطيون» حاكم الروم على بيت المقدس — وكان قد
هرب من المدينة قبل
تسليمها إليهم — قد لاذ بمصر، وإنه كان يجمع فيها جنود الدولة، وإن على العرب ألا
يُضيعوا الوقت، بل أن يُوقعوا به قبل أن يستفحل الأمر،
٣ وإن مصر بعد ذلك تكون قوة للمسلمين إذا هم ملكوها. وكان اجتماع القائد بالخليفة في «الجابية»
٤ بقرب دمشق، وذلك في خريف سنة ٦٣٠ للميلاد، وكان العرب لا يزالون على حصار مدينة قيصرية.
وقد رأى عمر أن فتح مصر فيه خير للمسلمين، ولكنه ظن أن عمرًا يُقلل من شأن ما يلقاه
من الصعوبة في فتحها، وكان في ذلك
الوقت لا يستطيع أن يُضعف جند الشام بأن يبعث منهم جيشًا كافيًا لفتح مصر. فلما طلب منه
عمرو أن يسير إلى مصر بجيش من ٣٥٠٠
أو ٤٠٠٠ رجل وعده أمير المؤمنين أن يفكر في الأمر؛ فإنه كان لم يستقر على رأي في ذلك،
ثم عاد عمرو بن العاص إلى قيصرية
وكان قسطنطين بن هرقل قائد الجند بها، فبعث الخليفة وراءه بكتاب مع «شريك بن عبدة»
٥ يقول له فيه إنه قد رضي بغزو مصر، وتقدَّم إليه أن يجعل الأمر سرًّا، وأن يسير بجنده
إلى الجنوب سيرًا هينًا.
فسار عمرو بن العاص في الليل في جيشٍ صغير من الخيل، ولم يحدث له حدث حتى صار عند الحدود
بين مصر وفلسطين، وسار بعد ذلك حتى صار عند رفح،
٦ وهي على مرحلةٍ واحدة من العريش بأرض مصر، فأتت عند ذلك رسل تحث المَطي تحمل رسالة من
الخليفة.
انظر وصف هذه الأماكن فيما الخليفة لا بد قد عاد إلى شكه في الأمر خاشيًا من الإقدام
والمضي فيما عزم عليه. وقد كان
الخليفة كلَّم عثمان وأفضى إليه بما يرى من المخاطر في تلك الغزاة، فأجابه عثمان قائلًا
إن تلك الغزاة كانت عظيمة الخطر،
وزاد على ذلك أن قال إن عمرو بن العاص فيه جرأة وتهوُّر، وإنه لا بد يقتحم بالناس المخاطر
ويرمي بهم إلى الهلكة. فخشي عمر
بن الخطاب خشيةً عظيمة، وعزم على أن يأمر ابن العاص بالرجوع إذا كان ذلك ممكنًا، ولكنه
أحسَّ أن جيش العرب إذا دخل مصر
كانت عودته عنها خذلانًا وسُبة للمسلمين؛ إذ يكون ذلك بمثابة الفرار من العدو؛ وعلى ذلك
أرسل كتابه وتقدَّم فيه إلى عمرو
بن العاص أن يعود إذا كان بعد في فلسطين، فإذا كان قد دخل أرض مصر فليسِرْ على بركة الله،
ووعده أن يدعو الله له بالنصر
وأن يُرسل له الأمداد.
٧ أما عمرو فقد كان بدأ أمره، ولم يكن بالرجل الذي ينقض ما بدأ فيه، وعرف أن ذلك الكتاب
الذي لحق به لم يأتِه
بالرضا عما هو فيه؛ ولهذا لم يأخذه من الرسول حتى عبر مهبط السيل الذي ربما كان الحد
بين أرض مصر وفلسطين، وبلغ بسيره
الوادي الصغير الذي عند العريش، وهناك أتى له بالكتاب فقرأه، ثم سأل من حوله: «أنحن في
مصر أم في الشام؟» فقيل له: «نحن في
مصر.» فقرأ على الناس كتاب الخليفة ثم قال: «إذن نسير في سبيلنا كما يأمرنا أمير المؤمنين.»
٨ ولا شك في أن عمرًا لقي من الناس الجواب الذي كان يرغب فيه.
ولنا هنا ملاحظةٌ غريبة، وهي أن العريش وإن كانت تُعَد عادةً من بلاد مصر لا يخلو
أمرها من الشك،
٩ غير أن سياق القول يدل على أنها كانت خلوًا من جيش الروم مع أنها كانت مدينةً ذات حصون،
وكانت أسوارها لا تزال
منها بقيةٌ ماثلة بإزاء البحر إلى القرن الثالث عشر، وكذلك كانت أطلال الكنيستين العظيمتين
القديمتين. وكان يُقال في ذلك
الوقت إن أجود أنواع المرمر وأعظم العُمد التي في القاهرة كانت تأتي من العريش،
١٠ وما أعجب هذا! وقد روى بعض المؤرخين أن سور مصر العظيم كان يبدأ من هناك ويتجه إلى القلزم
(وهي السويس)، ثم
يتجه مع شاطئ النيل الشرقي إلى الجنوب حتى الجنادل الأولى. ويقال إن من بنى ذلك السور
هو «سيزوستريس»، وقد سمَّاه العرب
«سور العجوز»، ولكنه كان قد تهدَّم منذ زمنٍ طويل، حتى إنه لم يُعِق سير الجند في القرن
السابع، وقد بقيت من أطلاله إلى
اليوم قطع عند جبل الطير وفي مواضع أخرى في مصر.
١١
وقد أقام جيش العرب الصغير عيد الأضحى في العاشر من ذي الحجة من عام ١٨ للهجرة، وهو
اليوم الثاني عشر من ديسمبر سنة ٦٣٩
١٢ للميلاد، وهو عيد القربان وعيد الحج عند المسلمين، وكان الاحتفال غير خالٍ من الجد والرونق
بين هؤلاء العرب
الذين كانوا يسيرون مع زعيمهم العظيم تربطهم به روابط النسب والولاء، وذلك مع ما كانوا
عليه من قلة — إذ كانوا لا يَعْدون
أن يكونوا كتيبة من جند الصحراء — ومع عظيم ما جاءوا له؛ إذ جاءوا لفتح بلاد الفراعنة.
وكان أكثر من مع عمرو من الجند من
قبيلة «عك»، وإن كان الكندي يقول إن ثلث الناس كانوا من «غافق».
١٣ ويروي ابن دقماق أنه قد كان مع جيش العرب جماعة ممن أسلم من الروم، وقد سمَّاهم في كتابه،
وقال أيضًا إنه قد
كان مع جيش العرب جماعة ممن أسلم من الفرس الذين كانوا باليمن، ولعل هؤلاء جاءوا فيما
بعد مع الأمداد التي بعث بها الخليفة
إلى مصر.
١٤
والآن فلننصرف إلى عمرٍو نفسه، فأي رجل كان هو بين الرجال؟ لقد جاء في الأخبار كثير
من أقواله وذكر صفاته، وإذا نحن
أردنا أن نكتب تاريخ فتح العرب لمصر كان لزامًا علينا أن نكتب شيئًا عن قائد ذلك الفتح.
كان عمرو بن العاص في نحو الخامسة
والأربعين من عمره في وقت غزو مصر،
١٥ وكان قصير القامة وقوي البنية، مرِن الأعضاء، تعوَّد جسمه احتمال المَشقة. وقد ساعَده
ذلك على أن يبرز في
أفانين الفروسية والضرب بالسيف، وهي الفنون التي اعتاد أهل الفروسية في الغرب أن يقرنوها
باسم العرب.
١٦ وكان عريض الصدر بعيدَ ما بين المنكبين، له عينان سوداوان ثاقبتان سريعتا التأثر، سواء
أكان ذلك في حال الغضب
أم في حال السرور، وفوقهما حاجبان غزيران، ودون ذلك فمٌ واسع، وكان وجهه ينمُّ عن القوة
في غير شدة، وتلوح عليه لائحة
البِشر والأنس، وكان يخضب لحيته بالسواد. هذا كل ما رواه لنا المؤرخون من وصف مظهره،
ولعل وصفه بأنه تمتام كان وصفًا غير
صحيح. حقًّا إن أبا المحاسن روى
١٧ عن عمرو ذلك العيب، وقال إنه العيب الوحيد فيه، ولكنه كان معروفًا بسرعةِ ردِّه وحدة
ذهنه في الإجابة
المُسكتة، كما كان معروفًا بطول خُطبه وبلاغتها؛ فالظاهر من ذلك أن من وصفه بأنه تمتام
كان واهمًا، ولعل ذلك الوهم كان أثر
خلط وسوء فهم؛ فقد رُوي
١٨ عن عمر بن الخطاب أنه سمع مرة رجلًا يتلجلج في الكلام، فقال: «أشهد أن خالق هذا وخالق
عمرو بن العاص واحد.»
وليس معنى هذا أن عمرًا كان تمتامًا، بل يقصد بذلك القول أن الله تعالى خلق الأبكم والمُفصح
كليهما، وذلك مثل ما رُوي عن
عمرو بن العاص نفسه إذ أحرج صدره أحد الجهلاء يومًا فقال يعرِّض به: «إنه كذلك من مخلوقات
الله تعالى.» ولكن قول عمر بن
الخطاب قد أخرجه جماعة من كُتاب العرب عن معناه، وأوَّلوه بأن المقصود منه أن عمرًا كان
يتلجلج في كلامه، ولو قصد عمر بن
الخطاب ذلك لكان قوله لا معنى له، وفيه اعتداء على عمرو، وذلك لا يتفق مع مكانة عمرو
في قومه وما عُرِف عنه من الفصاحة في
الكلام. ولو كان متصفًا بذلك العيب لمَا اختاره النبي — عليه الصلاة والسلام — من أول
إسلامه وجعله من كبار قُواده، بل وما
استطاع أن يكون يومًا ما زعيمًا عظيمًا بين الناس. وبعد، فإن عمرًا كان فوق ذلك كله إمامًا
يؤم الناس في صلاتهم، وظل كذلك
إلى آخر أيامه، وإن الشرع الإسلامي ينصُّ على أنه لا يصحُّ للتمتام أن يُصلي بالناس؛
١٩ وعلى ذلك يكون ما رُوي من أن عمرًا كان متصفًا بذلك العيب خبرًا غير جدير بالتصديق.
وأما سائر صفاته فقد جاء من أخباره وأقواله ما يدل عليها وعلى حوادث حياته؛ فقد كان
من قريش، ونسبه معروف،
٢٠ وكان إسلامه في السنة السابعة أو الثامنة للهجرة، ويُروى عن إسلامه خبر أو اثنان، فقد
سئل مرة:
٢١ «ما عاقَك عن الإسلام تلك المدة الطويلة مع رجحان عقلك؟» فأجاب: إنه كان في أول أمره
يخشى سوء رأي مشيخته،
فلما كبر وميَّز أخذ نفسه بالهوادة في مُعارضة النبي. وقد أرسلت إليه قريش واحدًا من
قومها يسأله عن إسلامه، فجعل عمرو
يُسائل من جاء يسأله فقال له: «أي الناس على دين الحق؛ أهم العرب أم الفرس أم الروم؟»
فقيل له: «بل العرب.» فقال: «أنحن
أكثر منهم مالًا أم هم أكثر منا؟» فقيل له: «بل هم.» فقال له: «فأي فضل إذن للعرب على
الفرس والروم إذا لم تكن ثم حياة في
الآخرة؛ فإنهم قد ذهبوا بخير هذه الحياة الدنيا جميعًا.» ثم قال عمرو إنه قد أسلم وآمن
بالنبي واليوم الآخر وبالعقاب
والثواب بعد الموت، وعزم على ترك الباطل؛ أي دين العرب القديم. وقيل إن عمرًا أسلم منذ
كان في الحبشة، وإن إسلامه كان على
يدَي جعفر بن أبي طالب.
ورُوي في الخبر أن عمرًا قال مرة للنبي: «يا رسول الله، إني أُبايعك على أن يُغفر
لي ما مضى من ذنبي.» فقال له النبي:
«إن الإسلام والهجرة
٢٢ يجبَّان ما كان قبلهما.» فكان عمرو لا يرفع عينه من وجه النبي عرفانًا منه لصنيعه، وكان
يقول: «والله ما كنت
أملأ عيني منه أو أنظر إلى وجهه، ما أردت إلا رأيت الحياء في وجهه.»
٢٣
وكان النبي — عليه الصلاة والسلام — يرى في عمرو رأيًا حسنًا، وقد قال فيه يومًا:
إنه من خير المسلمين وأكثرهم ثقة.
٢٤ وقال فيه أيضًا: إنه من «صالحي قريش». وكان يحبه لحسن رأيه ولشجاعته، وكان لعمرٍو أخ
من أبيه اسمه هشام قُتل
يوم اليرموك، وقد سئل عمرو عنه فقال: «حسبكم أن أقول إن أمه أم حرملة عمة عمر بن الخطاب
وأمي عنزية، وكان أحبَّ إلى أبي
مني، وبصر الوالد بولده ما قد علمتم، وأسلم قبلي، واستبقنا إلى الله فاستُشهد يوم اليرموك
وبقيت بعده.»
وكان أكبر ما امتاز به عمرو أن النبي نفسه عقد له على بعض سراياه، وقال له عند ذلك
إنه قد أمَّره على الناس ودعا له
بالسلامة والغنيمة، فقال عمرو عند ذلك إنه لم يُسلِم للمال بل أسلم لوجه الله، فقال له
النبي: إن المال الحلال خير ما
يُرزأ المؤمن. وأكبر الظن أن عمرو بن العاص لم ينسَ تلك الحكمة فيما بعد، وكان على قيادة
كتيبة من الكتائب في يوم السلاسل،
فأرسل يستمد النبي، فأرسل إليه مائتَي رجل فيهم أبو بكر وعمر وعليهم أبو عبيدة بن الجرَّاح،
فلما أقبلوا عليه قال عمرو:
«أنا أميركم وأنتم لي مدد.» فقال أبو عبيدة: «لا، بل أنا أمير على من معي، وأنت أمير
على من معك.» فأبى عمرو هذا، فقال
أبو عبيدة: «لقد قال لي رسول الله
ﷺ لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك.» فقال عمرو: «فإني آبى أن أطيعك.» فسلَّم
عليه أبو عبيدة عند ذلك بالإمارة، ووقف وراءه في الصلاة.
وقد عقد النبي لعمرو بعد وقعة السلاسل على عمان، فظل عليها حتى لحق النبي بربه. وبعد
سنة أو سنتين من ذلك جعله أبو بكر
أحد القُواد الذين سيَّرهم إلى الشام، وفي تلك الحرب نما أمره وذاع اسمه في معرفته بمكيدة
الحرب والشجاعة. وقد آلمه تقديم
أبي عبيدة عليه إذ أمَّره عمر في أول خلافته، ولكن لعل أجْلى ما جاء في وصفه ما قاله
هو عن نفسه دفاعًا عندما سمع أن بعض
الناس يعذل معاوية على تقديمه إياه.
٢٥
قال: إنني من تمثَّل يوم صفين بقول من قال:
إذا زاغت الأبصار حولي رأيتني
وطرفي ثبيت لم يكل ولم يُغضِ
وأغمضت عيني منذ خابوا ولم يكن
عن الموت يوم الروع ما كان من غمضي
وقد علمتم أنني الكرَّار في الحرب، وأنني الصبور على غير الدهر، لا أنام عن طلب، كأنما
أنا الأفعى عند أصل الشجرة.
ولَعَمري لست بالواني أو الضعيف، بل أنا مثل الحية الصماء لا شفاء لمن عضَّته، ولا يرقد
من لسعته. وإني ما ضربت إلا فرَيت،
ولا يخبو ما شببت. عرفني أصحابي يوم الهرير أنني أشَدهم قلبًا، وأثبتهم يدًا، أحمي اللواء
وأذود عن الحِمى، فكأني وشانئي
عند قول القائل:
وهل عجبٌ إن كان فرعي عسجدًا
إذا كنت لا أرضى مفاخرة العشب
وإن مِثل هذا القول ليُظهر الرجل في اعتداده بنفسه ومعرفته لمقدارها. ولا شك في أن
عمرًا قد أظهر شيئًا من قلة التعفف في
الخلاف الذي أعقب يوم صفين؛ فقد روى الذهبي أنه هتك ما كان معاوية يتستر به من النفاق
والادعاء في أيام وقعة صفين، إذ قال:
«يا معاوية أحرقت قلبي بقصصك. أترى أننا خالفنا عليًّا لفضلٍ منا عليه؟ لا والله إن هي
إلا الدنيا نتكالب عليها. وايم الله
لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأُنابذنَّك.» ولا يسعُ المطَّلعَ على ما كان منه في أمر
التحكيم إلا أن يرى في عمله خيانة
وخدعة لأبي موسى، فكان أبو موسى كلما صلَّى قرن دعاءه بلعن عمرو، وقد قال له مرة: «ما
مِثلك يا عمرو إلا كمِثل الكلب، إن
تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.» فقال له عمرو: «وما مثلك أنت إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا.»
٢٦
وقال ابن الحجر إن أحد أصحاب عمرو قال عنه: «ما رأيت رجلًا يعرف كلام الله معرفته،
ولا رجلًا أكرم نفسًا ولا أشبه سرًّا
بعلانية منه.» وقال رجلٌ اسمه جابر:
٢٧ «لم أرَ رجلًا أقرَأ لكتاب الله من عمر، وصحبت معاوية فما رأيت رجلًا أحلم منه، وصحبت
عمرو بن العاص فما رأيت
رجلًا أبين ظرفًا ولا أكرم جليسًا.» وإنا مُورِدون هنا خبرًا أو اثنين من أخباره لندل
بهما على كرم نفسه وصراحته وحبه
لجمال النسق؛
٢٨ فقد لامَه بعضهم مرة على أنه يركب بغلةً هرمةً قبيحة المنظر، فقال له: «لا ملل عندي
لدابَّتي ما حملتني، ولا
لامرأتي ما أحسنت عِشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري.»
٢٩
وقيل إنه وقع مرةً بينه وبين المغيرة بن شعبة كلام، فاغتاظ المغيرة وسبَّه، فقال عمرو
وقد ثارت ثائرته: «يا آل هصيص! أيَسبُّني ابن شعبة؟!» فقال عبد الله ابنه وكان قريبًا:
«إنا لله! دعوت بدعوى القبائل وقد
نُهي عنها.» فقبِل الوالد تأنيب ابنه، وأعتق ثلاثين رقبة يكفِّر بها عن ذلك. وسمع يومًا
وهو أصغر من ذلك سنًّا إذ كان
بالمدينة خطبةً من خطب زياد، فلما رأى بلاغتها قال: «لله در هذا الغلام! لو كان من قريش
لساقَ العرب بعصاه.»
٣٠
ولو أردنا لأتينا بغير هذه الأخبار، ولكن حسبُنا ما أوردناه منها؛ ففيه الدلالة على
ما كان عليه عمرو بين الرجال. فإذا
نحن قرنَّا بعض خلاله إلى بعض رأينا أنه كان قوي الجسم ذكي العقل، تجيش نفسه فتدفعه،
وله قوة من عزمه كالحديد إذا عزم،
وكان شجاعًا لا ينكل، ولكنه كان يؤثِر الأناة، ويعلم أن الرأي أول والشجاعة في المحل
الثاني، وكان في أمر الدين والعبادات
على تُقًى وصلاح. وإذا كانت مطامع هذه الدنيا غرَّرت به في بعض أيامه وعصفت بقلبه، فقد
بقي فيما عدا ذلك شريفًا نبيل
النفس. وكان في العلم على ما كان عليه أهل عصره، وعُرِف بين العرب بأنه من أحدِّهم ذهنًا
٣١ ومن أكملهم عقلًا. وكان يحب الغناء حبًّا جمًّا ويُقبِل عليه، ويطرب للشعر. وكان خطيبًا
بليغًا، وله خيالٌ
خِصب. فاجتمعت فيه صفات المُحارب، والشاعر، وجوَّاب الآفاق، والرجل الصالح. فكان واضح
الباطن والظاهر، نبيل المقاصد
والفعال، وكان محبَّبًا مؤلَّفًا، يملك قلوب الناس ويستهوي أفئدتهم، شأنه في ذلك شأن
عظماء الرجال الذين يخلب حبُّهم أفئدة
الناس، فإذا إعجابهم ولاء وإخلاص.
هذه صفة القائد الذي جاء في فُرسان أربعة آلاف بايَعوا أنفُسهم على نزع مصر من يد
القياصرة.