الفصل الثامن عشر
حصار حصن بابليون وفتحه
عاد عمرو منذ أول شهر سبتمبر إلى حصن بابليون، وجهَّز نفسه لكي يُضيِّق عليه الحصار،
وكان ذلك الحصن منيعًا على أعدائه،
ولا بد أن تطول بهم مدة حصاره؛ إذ كانوا لا علم لهم بحيل الحصار، وليس معهم من عُدته
شيء، في حين أنه كان حصنًا تُحيط به
أسوارٌ عظيمة وصروحٌ عالية يُحيط بها من ورائها نهر النيل؛ إذ كان الخندق الذي حولها
عند ذلك مليئًا بالماء، وكان العرب قد
غنموا بعض آلة الحرب في غزاة الفيوم ومن حصن تراجان في منوف، ولكنهم كانوا لا خبرة لهم
بأمرها، ولا علم عندهم بطرق إصلاحها
إذا هي اعتراها الفساد؛ ولهذا لم يضرُّوا بها مسلحة الحصن إلا ضررًا يسيرًا،
١ مع أنه قد كان دونهم نهد من الأرض على نحو مائتَي ياردة (ثلاثمائة ذراع) إلى جنوب الحصن،
وهو موضع إذا وضعوا
عليه آلة الحصار كان فيه رجحان لهم وقوة.
وقد قلنا فيما سبق إن الحصن كان على كل جانب النهر يتجه إليه بأطول جوانبه، تحفُّ
به المياه في وقت الفيض، وكان الباب
الحديدي تجاه الخندق والمرسى في الجهة الجنوبية من الحصن، وكان في تجاهه جزيرة الروضة
يتصل طرفها الجنوبي بالحصن بجسر من
السفن، ولا سيَّما في أيام السلام. ولسنا ندري إذا كان ذلك الجسر قد تُرك في إبَّان الحرب
على ما كان عليه من قبل، ولكنا
على يقين من أن القناطر فوق الخندق بقيت مشدودة إلى جانب الباب الحديدي في مأمن من الخطر،
وأن السفن كانت تمضي بين الحصن
والجزيرة بغير عائق؛ فإن عمرًا لم يستطع بعدُ أن يملك زمام النهر مع كل ما كان من انتصاره؛
لأن أتيَّه الهدَّار لا يقوى
عليه من هم أخبر من العرب بتسيير السفن. ولو أتى عمرو إلى الحصن من جانب النهر لاستاقت
مياهه السفن التي أتى فيها، أو
لأغرقها من في الحصن من رماة المنجنيق.
ولا خلاف بين مؤرخي العرب أجمعين في أن المقوقس (وهو البطريق قيرس) كان بالحصن
٢ عند ابتداء الحصار، وكان تيودور كذلك بالحصن قبل وقعة عين شمس. ولا ندري إذا كان قد
حضر الوقعة بنفسه أم لم
يحضرها، ولعله كان هناك ثم لحق بالهاربين بعد الهزيمة ولاذ بالإسكندرية؛ وعلى ذلك كان
«قيرس» القائد الأكبر في الحصن، وهو
خليفة هرقل على مصر، ولكن القائد الذي كان يُدبِّر أمر الجنود هو من يُسميه العرب «الأعيرج»
٣ ولعل ذلك تحريف منهم لاسم «جورج»، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا الرجل خلاف الحاكم «جورج»
الذي أمره عمرو أن
يُقيم له جسرًا على ترعة قليوب. وكان في الحصن قائدٌ آخر بقي فيه طول مدة الحصار، وهو
«أودقيانوس» أخو «دومنتيانوس».
٤ ولعل كل الجنود التي كانت تحت إمرة جورج تبلغ الخمسة آلاف أو الستة آلاف لا يمكن أن
تزيد على ذلك كثيرًا. وكان
بالحصن كثير من الأزواد والذخائر من كل نوع، وكان قد اجتمع به عددٌ عظيم من غير الجند
من أهل مدينة مصر والأديرة
المُجاورة، ولكن أغلب الظن أن هؤلاء أُخرجوا عن طريق النهر ليُوسعوا على الجنود. ويجدر
بنا هنا أن نذكر أن كل الكنائس التي
كانت في داخل الحصن كانت تؤمُّها قسوس على المذهب «الخلقيدوني» أو الملكاني، ولم يُبَح
لأحد هناك أن يتعبد على غير ذلك
المذهب؛ فإن قيرس كان لا يزال على عهده العدو الأكبر لمذهب القبط، وبقي على ذلك إلى آخر
أمره، وإن في وجوده بالحصن لأقوى
دليل إذا احتاج الأمر إلى دليل على أنه لم يبقَ بالحصن من القبط إلا من أزالهم الاضطهاد
عن عقيدتهم، بل إن الروم أساءوا
الظن ببعض هؤلاء، فوضعوهم في السجن وأنزلوا بهم فيه نكالًا فظيعًا كما سنرى فيما بعد.
ومن ذلك نعرف أن مؤرخي العرب ومن قال قولهم إنما يمسخون الحقيقة ويقلبونها قلبًا؛
إذ يقولون إن جند الحصن أو كل من كان
به كانوا من القبط؛ فإن القبط لم يكونوا في شيء من القتال ولا الجيوش، وكان الاضطهاد
في مدة السنوات العشر قد شطر مذهبهم
وفرَّقهم، فكان منهم من ذهبوا أفرادًا وجماعاتٍ فهربوا إلى الجبال والكهوف، أو أوَوا
إلى الصحراء، أو لاذوا بالأديرة
الحصينة في الصعيد. وأما أقباط مصر السفلى وبابليون والإسكندرية فقد اضطروا إلى الدخول
في مذهب الدولة، ولم يغنِ عنهم
شيئًا ما كان في قلوبهم من كره لِما دخلوا فيه. وقد كتب مؤرخو العرب بعد الفتح بقرون،
فكانوا يذكرون جيوش المصريين وقُواد
المصريين لا يميزون بين القبط والروم، فكثرت من ذلك زلَّاتهم وعظُم خلطهم؛ فعلينا أن
نُبين هنا بيانًا لا شك فيه أنه لم
يكن في ذلك الوقت شيءٌ اسمه القبط في ميدان النضال، ولم تكن منهم طائفة لها يد فيه، بل
كان القبط إذ ذاك بمنجاة عنه قد
أذلَّهم «قيرس» وأرغم أنوفهم؛ فليس من الحق في شيء أن يقول قائلٌ إن القبط كانوا يستطيعون
أن يجتمعوا على أمر أو ينزلوا
إلى القتال أو يُصالحوا العرب.
وكان حريًّا بقيرس عند ذلك أن يُدرك كيف خذل مصر وأضعفها عن لقاء أعدائها، مهما كان
في قلبه من عوامل الضغن على القبط؛
فقد أدَّى عسفه إلى شيء يظنُّه من يراه توحيدًا لمذاهب الدين، وما هو كذلك؛ فإنه بعسفه
قد قطع أسباب المودة بين الحكام
والرعية قطعًا، فما كان له أن يتوقع من القبط خيرًا، بل كان خير ما يقع منهم له أن يعتزلوا
جاهمين فينظروا إلى نضال بين
طائفتين كلاهما غريب عنهم كريه في أعينهم. لقد كان أمر الروم يضعف، وقوة جيوشهم تخور،
وأملهم في النصر وتخليص مصر يخبو
شيئًا فشيئًا. أكان هذا ما قصده «قيرس» وسعى إليه؟
كان المقوقس آمنًا إلى حين في قصره المنيع تُحيط به مياه النيل، وكانت مجانيق الروم
أقوى أثرًا مما كان يرميه المسلمون
إلى الحصن من حجارة وسهام، ولكن ما كانت تلك الحال لتبقى؛ فإن الماء في الخندق كان لا
بد له أن يهبط بعد حين. وقد أدَّى
صبر العرب وشدة بأسهم في القتال إلى خور في عزيمة من بالحصن واختلاف في رأيهم؛ فما مضى
شهر من الحصار حتى جمع «قيرس» من
وثق بهم من رءوس الحرس، ودعا معهم أسقف بابليون الملكاني، واستشارهم سرًّا في الأمر،
وبسط لهم رأيه، وكان ذلك في أوائل شهر
أكتوبر سنة ٦٤٠، وقال لهم إن الدبرة في الحرب كانت عليهم؛ إذ قضى أعداؤهم على أكبر جيوشهم،
ثم أتَوا لحصارهم بما لا قِبل
لهم به من قومٍ أكثر منهم عددًا وأشد في الحرب بأسًا. وقال إنه لا يتوقع أن يأتي إليهم
مدد يرفع عنهم الحصر قبلَ مضيِّ
أشهر. وإذا كان الحصن يستطيع المقاومة والصبر، وهو أمر لا شك فيه، فإن عقبى الحرب كانت
كذلك لا شك فيها، وما كانت تلك
العقبى إلا وبالًا عليهم. ومنذ كان الأمر كذلك كان خيرًا لهم أن يفْدوا أنفسهم بالمال
فيُعطوا أعداءهم مقدارًا منه ليرحلوا
عنهم، فإذا هم استطاعوا ذلك وأمكنهم أن يُبعدوا العرب عن البلاد بمال يبذلونه لهم كان
في ذلك كل الخير؛ إذ يُخلِّصون مصر
فتعود إلى دولة الروم. وجعل قيرس يفتلهم في الذروة والغارب بمثل هذه الحجج يسوقها في
بيانه الخالب الذي عُرِف به، حتى تبعه
من اجتمع عنده من القوم، فاتفقوا على أن يمضوا في الأمر إذا استطاعوا كما شاء قيرس منهم،
ولكنهم رأوا من الحزم ألا يُزعجوا
أهل الحصن من الجنود وممن كان رأيهم المضي في الحرب إلى أن يفنوا، فاستقرَّ رأيهم على
أن يذهب قيرس وأصحابه تحت ستار الليل
إلى جزيرة الروضة بغير أن يُحسَّ بهم أحد، ويبعثوا إلى قائد العرب بما أرادوا فيُفاوِضوه
ولم يطَّلع على الأمر مُطلع.
٥
تم الأمر بعد ذلك على أبلغ الكتمان، ففُتح الباب الحديدي المُفضي إلى النيل، واستقلَّ
الخارجون السفن من هناك، فعبروا
إلى الجزيرة ونزلوا في الموضع الذي أُنشئت فيه فيما بعدُ دار الصناعة. ولعل «جورج» قائد
حرس الحصن كان معهم في تدبيرهم
هذا، ولكنه قد بقي في الحصن حتى إذا ما نذر أحد بخروج قيرس وفشا خبر خيانته في الناس
كان هو هناك ليخمد الخبر ويقضي على ما يُشاع.
٦ وقد أمر قيرس أن تُرفع قناطر الحصن حتى يأمن خروج الناس منه إذا هم علموا بخروجه وذُعروا
من أجله. ولما بلغ
جزيرة الروضة
٧ أرسل إلى عمرو جماعةً كان منهم أسقف «بابليون»، فلقِيَهم عمرو وأكرمهم، فأدَّوا رسالتهم
فقالوا:
٨
«إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مُقامكم في أرضنا، وإنما
أنتم عصبةٌ يسيرة، وقد أظلَّتكم الروم، وجهزوا إليكم ومعهم من العُدة والسلاح، وقد أحاط
بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى
في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالًا منكم نسمع من كلامهم؛ فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا
وبينكم على ما تُحبون ونُحب، وينقطع
عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم
أن تندموا إن كان الأمر مُخالفًا لطلبتكم.»
٩ فلم يبعث عمرو جواب ما أتَوا به، وحبس الرسل عنده يومين حتى يرَوا حال المسلمين؛ إذ
أُبيحَ لهم أن يسيروا في
العسكر ويرَوا ما فيه، ثم بعث عمرو بردِّه مع الرسل وقال: «ليس بيني وبينكم إلا إحدى
ثلاث خصال: إما أن دخلتم في الإسلام
فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن
جاهَدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم
الله بيننا وهو أحكم الحاكمين.»
ففرح قيرس لعودة الرسل؛ إذ كان قد خاف عندما حبسهم عمرو، وجعل يقول لأصحابه أترَون
أن العرب يقتلون الرسل ويستحلُّون ذلك
في دينهم؟ ولما جاء الرسل جاءوا وقد وقع في نفوسهم ما عند العرب من بساطة وإيمان، فقالوا:
«رأينا قومًا الموت أحب إلى
أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة،
إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم
على رُكبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد،
وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها
منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم.»
١٠ وقد رأى قيرس مع ما اشترطه العرب من الشروط التي لا هوادة فيها ولا مفاوضة أن يبدأ في
ذلك الوقت بعقد الصلح؛
إذ كان العرب تحصرهم مياه النيل قبل أن يهبط النهر ويستطيعوا السير والانتقال فيجوسوا
خلال البلاد، فأرسل إلى عمرو أن يبعث
إليه جماعة من ذوي الرأي ليُعاملهم ويتداعى معهم إلى ما عساه يكون فيه صلح، فبعث عمرو
عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت،
وكان عبادة أسود شديدًا، وأمره أن يكون مُتكلم القوم، ولا يُجيب الروم إلى شيءٍ دعَوه
إليه إلا إلى إحدى هذه الخصال
الثلاث.
فركب العرب السفن إلى الروضة، فلما دخل عبادة على المقوقس هابه وقال: «نحُّوا عني
ذلك الأسود، وقدِّموا غيره يُكلمني.»
١١ فقال العرب جميعًا: «إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا، وهو سيدنا وخيِّرنا والمُقدَّم
علينا، وإنما نرجع
جميعًا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألا نُخالف رأيه وقوله.»
ثم قالوا، فكان قولهم عجيبًا عند
المقوقس: «إن الأسود والأبيض سواء عندهم لا يفضل أحد أحدًا إلا بفضله وعقله وليس بلونه.»
فقال المقوقس الرقيق لعبادة أن
يتكلم برفق حتى لا يُزعجه، فقال له عبادة: «إن فيمن خلَّفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم
أشد سوادًا مني
١٢ … وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا
وهمتنا في الجهاد في
الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلب للاستكثار
منها … لأن غاية أحدنا من الدنيا
أكلة يأكلها يسدُّ بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها … لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم،
ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم
والرخاء في الآخرة.»
١٣ فوقع هذا القول في نفس المقوقس، وقال لأصحابه: «هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل؟! … إن
هذا وأصحابه قد أخرجهم
الله لخراب الأرض.» ثم أقبل على عبادة فقال: «أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك وما
ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعَمْري ما
بلغتم ما بلغتم وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجَّه
إلينا لقتالكم من جمع الروم لا
يُحصى عدده؛ قومٌ معروفون بالنجدة والشدة، ما يُبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا
لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن
تُطيقوهم لضعفكم وقلتكم
١٤ … ونحن تطيب أنفسنا أن نُصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم
مائة دينار، ولخليفتكم
ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم …»
فقال عبادة: «يا هذا لا تغرَّن نفسك ولا أصحابك. أما ما تُخوِّفنا به من جمع الروم وعددهم
وكثرتهم وأنَّا لا نقوى عليهم،
فلعَمْري ما كان هذا بالذي تُخوِّفنا به … وإن كان ما قُلتم حقًّا فذلك والله أرغب ما
يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم؛
لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه إن قُتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه
وجنته، وما شيءٌ أقرَّ لأعيُننا ولا
أحب لنا من ذلك، وإنا منكم حينئذٍ لعلى إحدى الحُسنيَين؛ إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة
الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة
إن ظفرتم بنا، ولأنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا
في كتابه:
كَمْ
مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وما منا رجل إلا
وهو يدعو ربه صباحًا ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يردَّه إلى بلده ولا إلى أرضه ولا
إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همٌّ
فيما خلَّفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده، وإنما همُّنا ما أمامنا … فانظر
الذي تريد فبيِّنه لنا؛ فليس بيننا
وبينك خصلة نقبلها منك ولا نُجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع
نفسك في الباطل؛ بذلك أمرني الأمير،
وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله
ﷺ من قبلُ إلينا … إلخ.»
١٥ فأراد «قيرس» أن يستنزله عن شيء أو أن يجعله يقبل شيئًا مما عرضه عليه فلم يقدر على
شيء، بل وقع قوله على
آذانٍ صمَّاء لِما يقول، وقال عبادة يردُّ عليه بعد أن نفد صبره ورفع يدَيه إلى السماء:
«لا وربِّ هذه السماء ورب هذه
الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا من خصلةٍ غيرها، فاختاروا لأنفسكم.»
١٦
فاجتمع عند ذلك المقوقس بأصحابه، فقالوا: «أما الأمر الأول فلا نُجيب إليه أبدًا،
فلن نترك دين المسيح إلى دينٍ لا
نعرفه.» وبذلك أبَوا شرط الإسلام، فلم يبقَ إلا الجزية عن يد وصَغار أو الحرب. قالوا:
«فإنا إذا أذعنَّا للمسلمين ودفعنا
الجزية لم نعُد أن نكون عبيدًا، وللموتُ خير من هذا.» فقال عبادة لهم: إنهم إن دفعوا
الجزية كانوا آمنين على أنفسهم
وأموالهم وذراريهم، مُسلطين في بلادهم على ما في أيديهم وما يتوارثونه فيما بينهم، وحُفظت
لهم كنائسهم لا يتعرض لهم أحد في
أمور دينهم. فلما قال عبادة ما قال مالت نفس المقوقس (قيرس) إلى الإذعان؛ فقد كان وقع
في قلبه أن المسلمين لا بد مُنتصرون،
فذهب ذلك بجرأته وقوة نفسه، ولكن المسيحيين لم يكونوا جميعًا على ما كان عليه بطريق الإسكندرية
الرومي. ويلوح لنا أن
«جورج» قائد جنود الحصن أتى عند ذلك فلحق بالمجتمعين، ولقي المقوقس من أصحابه عزمًا شديدًا
على القتال، ورفض ما كان يراه
من الإذعان. وهنا ينسدل ستار على الحوادث، كما يحدث في كثير من الأحيان، في تاريخ هذا
العصر، فلم يبقَ لنا إلا أن نتلمس ما
كان ونتحسس أخباره من وراء ذلك الستار.
١٧
ويظهر لنا أن كبار الروم عندما اختلف رأيهم على قبول شروط العرب أو رفضها طلبوا أن
يُهادنهم العرب شهرًا ليرَوا فيه رأيه، فأجابهم عمرو جوابًا قاطعًا؛ إذ قال إنه لن يُمهِلهم
أكثر من أيامٍ ثلاثة. غير أن
عمل المقوقس لم يلبث أن ذاع بين الناس، فلما رجع أصحابه إلى الحصن عائدين من الروضة إذا
بالناس قد ثار ثائرهم على المقوقس،
وأبى جند الإمبراطور إلا القتال، وظهر أمر الذين كانوا يأبَون الإذعان، واستقرَّ الأمر
على هذا سريعًا، فما انتهت أيام
الهدنة الثلاثة حتى أخذ أهل الحصن يتجهَّزون للخروج إلى المُحاصِرين يُناجزونهم، ولم
يبعثوا ردًّا إلى عمرو. وفيما كان
عمرو في اليوم الرابع بعد انتهاء الهدنة يفكر فيما يصنع، إذا بالروم قد خرجوا إليه فوق
قناطرهم، فأخذوا جنود المسلمين على
غِرة. غير أن تلك البغتة لم تُذهل العرب، فأسرعوا إلى سلاحهم وقاتلوا الروم قتالًا شديدًا،
وقاتل الروم يومئذٍ مُستبسلين.
غير أن العرب تواردوا إليهم منذ نُذروا بهم فتكاثروا عليهم، فما استطاعوا إلا أن يتراجعوا
حتى دخلوا إلى الحصن بعد أن
قُتلت منهم مَقتلةٌ عظيمة.
أما المقوقس فإنه ما زال رأيه من الإذعان والتسليم للعرب مُستقرًّا في قلبه، وكان
مشئومًا مشترك العقل، فرأى في انهزام الروم فرصة له؛ إذ إن من عصَوه ونبذوا رأيه احتكموا
إلى السيف، وحاربوا مُستبسلين كما
ينبغي لجنود الروم أن يُحاربوا، وأخذوا عدوهم على غِرة، ولكن ذلك لم يُغنِهم شيئًا، بل
أخذتهم سيوف عدوهم. ورأى المقوقس
وهو خليفة الإمبراطور على مصر أن النصر على هؤلاء العرب لن يتأتى له، وزادته تلك الهزيمة
الجديدة يقينًا أنه لن يستطيع طرد
العدو من البلاد، ثم رأى من كانوا يعصون رأيه ويُنادون بالقتال قد ضعفت نفوسهم، فلم يلقَ
منهم بعدُ عصيانًا، وأذعنوا له
مُرغَمين جاهمين، على أن يُعيد الكرَّة على عمرو فيبعث إليه في أمر الصلح. وإنه لمن العجيب
أن شروط عمرو لم تتبدل، ولا
يستطيع قائلٌ أن يقول إن العرب كانوا يُبدلون شرطهم، ولم يفعلوا ذلك في أول الحرب ولا
في آخرها، وكانت الخصلة التي اختارها
الروم هي الجزية والإذعان، فعُقِد الصلح على أن يُبعث به إلى الإمبراطور، فإذا أقرَّه
نفذ، وأخذ قيرس على نفسه أن يبعث به
إلى هرقل، واتفق الروم والعرب على أن تبقى الجيوش حيث هي إلى أن يجيء رد هرقل، ولا سيَّما
الحصن؛ فقد اتفقنا على أن يبقى
مع الروم إلى أن يُقرَّ هرقل الصلح.
سافر المقوقس عند ذلك مُسرعًا في النهر حتى بلغ الإسكندرية، وبادر بأن بعث إلى الإمبراطور
كُتبًا يُبين فيها ما كان منه،
ويعتذر عنه بأن الحاجة ألجأته إليه من صلح العرب، ويسأله أن يُقرَّ الصلح حتى يكفي مصر
شر الحرب ووبالها. وليس بعجيبٍ أن
يكون هرقل قد حار في أمر تلك الكتب التي جاءته من المقوقس؛ فإنها لا تُبين إذا كان الصلح
خاصًّا بحصن بابليون، أو أنه كان
صلحًا على ترك بلاد مصر جميعها حتى الإسكندرية للعرب، ولا تُبين هل يبقى العرب في البلاد
بعد أخذ الجزية أو يرحلون عنها.
فهل كان معنى ذلك الصلح نزع مصر من دولة الروم وإسلامها لأعداء المسيحية؟ لقد كان الإمبراطور
منذ شهور يلوم قُواده،
ولا سيَّما «قيرس» خليفته على مصر؛ لأنهم فرَّطوا في الأمر، حتى استطاعت فئةٌ قليلة من
العرب أن ترفع ألويتها في مصر وتغلب
جيوش الدولة وتُحادَّها. فإذا به وقد بُعث إليه بصلح ليس يدري هل معناه رشوة العدو بمالٍ
يأخذه على أن يخرج عن تلك البلاد،
أم معناه إسلامها له فيبقى ذلك العدو سيد الأرض يجبي له خراجها ويتنعم بقمحها وبخيراتها؟
عجب الإمبراطور ولم يدرِ ما الذي
أدَّى إلى ذلك الإذعان، وعزم على أن يدعو (قيرس) المقوقس ليُحاسبه على ما كان منه في
مصر.
فبعث إليه رسالةً يأمره فيها بأن يأتي إليه على عجل. ولعل ذلك كان في وسط نوفمبر،
ولم تكن الرسالة مما يطمئنُّ إليه
القلب. ولعل المقوقس قد أحسَّ بما أجرم، وخشي العاقبة منذ جهَّز في نفسه ما يقوله لمولاه
إذا هو حاسبه، فلم يكن لأحدٍ سواه
علم بما أدَّى من أمانته وما اختان منها، ولا بما اتبع من أوامر مولاه بنصها أو بالمقصود
منها، وما عصاه فيها في مدة
ولايته في تلك السنين العشر سِنِي العسف والاضطهاد، ولكن شيئًا واحدًا لم يخفَ عن أحد،
وذلك أنه قد جاء إلى مصر يقصد إلى
قصدٍ ديني فلم يُوفَّق فيه، بل أخفق إخفاقًا وبيلًا، وجرَّ إخفاقه هذا على حال مصر السياسية
نكبةً جليلة وخَطبًا عظيمًا،
ولا بد أن يكون ذلك الرجل قد أحسَّ بأن إسراعه إلى اليأس من أمر الروم وإقباله على مفاوضة
العدو — لا، بل سعيه إلى ذلك
سعيًا حثيثًا — كل ذلك وصمه بمظنَّة السوء، وجلَّله بشبهة الخيانة، وما كان ليستطيع النجاة
من مثل هذا الفكر مهما صوَّر
لنفسه من حُسن قصده، ومهما خادعها بتزويق نيَّته وتزيينها. لا بد أن يكون قلب ذلك الرجل
قد جاش بمثل هذه الأمور عندما بلغ
حضرة الإمبراطور في القسطنطينية. ولقي الإمبراطور وما كان أهوله من لقاء؛ إذ لم يكن له
بد من أن يُقرَّ بأنه رضي بأن يُلقي
أموال مصر إلى العرب.
١٨ على أنه مع ذلك جعل يُدافع عن فعله، ولعل ذلك كان خِداعًا وتصنعًا، فقال إن العرب قد
يُحملون على الخروج بعدُ
من مصر، وإن الجزية التي دفعتها إليهم يسهل عليه أن يجبي مقدارها من متاجر الإسكندرية
وبضائعها، فيُعوض ذلك ما خسرته خزائن
الدولة. وأما فيما سوى ذلك فقد كان المقوقس لا يرى موضعًا للأمان؛ إذ كان العرب قومًا
لا يُشبهون سائر الناس في شيء؛ فهم
عند قولهم لا يعبَئون بأمر من أمور هذه الحياة الدنيا ولا متاعها، لا يطلبون منها إلا
لقمةً يسدُّون بها رمقهم وشملةً
يسترون بها أبدانهم؛ فهم «قوم الموت»، يرَون ربحًا في أن يُقتلوا؛ لأنهم يرَون في ذلك
الشهادة التي ينالون بها الجنة، في
حين أن الروم يُحبون متاع الحياة الدنيا ويحرصون عليه، وقال للإمبراطور: لو رأيت هؤلاء
العرب وبلاءهم في القتال لعرفت أنهم
قوم لا يُغلبون. فليس لنا من سبيلٍ خير من الصلح مع عمرو قبل أن يفتح حصن بابليون عنوة،
وتصبح البلاد غنيمة له.
بمثل هذه الأقوال أدلى المقوقس بحجته، وقد جاء في كتاب «نيقفوروس» أن الإمبراطور
قبل أن يبعث إلى «قيرس» ليسير إليه كان قد وجَّه إليه «مارينوس» ليشترك معه في الرأي
لعلهما يجدان سبيلًا على العرب، وجاء
فيه أيضًا أن «قيرس» عندما بعث إلى الإمبراطور يعرض عليه دفع الجزية طلب إليه أن يُزوج
عمرو بن العاص من «أودوقيا» أو إحدى
بناته الأخرى، فإذا هو رضي بذلك تنصَّر ابن العاص. وتلك لعَمْري قصة لا تُصدَّق؛ فما
هي إلا عودةٌ ضالة إلى قصةٍ سابقة
قِيلت منذ سنين، ألا وهي قصة تزويج «أودوقيا» لملك الخزر، فما كان «قيرس» ليجهل ما كان
عليه المسلمون في إسلامهم من ثبات
لا زعزعة به، واعتقاد لا هوادة فيه. وإن قصةً يُقال فيها إن عمرو بن العاص يتنصر لهي
قصةٌ ضلَّ فيها الوهم ضلالًا بعيدًا،
وليس ثَمة أثر لمِثل هذا الخبر في كتابٍ آخر كائنًا ما كان، ولكن هرقل ثار ثائره بغير
أن يعرض عليه المقوقس أمر ابنته
وتزويجها. وما كان في حاجة إلى مثل هذا ليتَّقد غضبه؛ فقد دهاه ما كان من أمر جنده، وعظم
غيظه أن ينهزم منهم مائة ألف ليس
أمامهم من العرب إلا اثنا عشر ألفًا. فاتَّهم المقوقس — ولا بأس أن نُسميه بهذا الاسم
حتى في عاصمة الروم — اتَّهمه بأنه
خان الدولة وتخلَّى للعرب عنها، ثم حكم عليه بأنه مُرتكب مُجرم، وما كان دونه إلا الموت
جزاء ذنبه، ثم شرع يُقرعه ويؤنبه
على ما كان منه قائلًا إنه لم يكن أكثر غناءً من بعض فلَّاحي مصر، ونعته بالجبن والكفر،
وأسلمه إلى حاكم المدينة، فشهره
وأوقع به المهانة،
١٩ ثم نفاه من بلاده طريدًا.
ولا بد أن رفض الإمبراطور للصلح كان في هذه الأثناء قد بلغ العرب وهم في حصار
الحصن قرب نهاية عام ٦٤٠، وانتهى بذلك أمر الهدنة وعاد القتال، وعضَّ الفريقان على النواجذ
من الأضراس. وكان النيل عند ذلك
يهبط سريعًا، وهبطت معه المياه التي في الخندق، وكلما هبطت خبت معها آمال من في الحصن
إن لم تخبُ شجاعتهم. فلما فرغ الخندق
من مائه استعاض الروم عنه بأن رمَوا في قاعه حَسك الحديد، وجعلوا ذلك الحسك كثيفًا عند
مدخل أبواب الحصن. ولا بد قد كان
المسلمون لقاء ذلك يسعَون إلى طم الخندق وهدم جوانبه فيه حتى ينفُذوا منه. غير أننا لا
نعلم إلا قليلًا مما كان في أثناء
ذلك الحصار، فلا نجد غير ذكر الترامي بالآلات والضرب بالدبابات، وخروج جنود الحصن إلى
العرب وهجوم العرب على من بالحصن،
ولكن من الجلي أن العرب كانوا لا علم لهم بفنون الحصار وآلاته؛ ولذلك كان أثر حصارهم
في الحصن ضئيلًا بطيئًا. ولسنا ندري،
لعل حصارهم وإن كانوا ضيَّقوا به على الحصن من جانب البر لم يكن ذا أثر من جانب النهر،
ولكن يلوح لنا أن العرب لقوا شيئًا
من المساعدة في ذلك الحصار من جماعةٍ لعلهم من أهل الفيوم بعد فتحها، وكانوا أحابيش من
الحزبين الأخضر والأزرق؛
٢٠ فكانت عصبة من الحزب الأخضر يقودها «ميناس»، وأخرى من الأزرق يقودها «كزماس بن صمويل»،
تعبُران النهر ليلًا
إلى الروضة فتنهبان فيها، أو تهبطان على ما قد يكون بالنهر من سفن الروم أثناء عبورها
إلى الحصن أو رُسوِّها إلى جانب
الباب الحديدي، فكانت هذه الغزوات تؤذي مصلحة الحصن أذًى كبيرًا، وتنقص من هيبة الروم
وسلطانهم في النهر.
ولم يكن حصار المسلمين من جانب البر نفسه على ما ينبغي من الحذر واليقظة؛ فقد خرج
مرةً جماعةٌ من حرس الحصن ففاجَئوا
عبادة والزبير
٢١ في صلاتهما، فوثب الرجلان إلى فرسَيهما وحملا على الروم. فلما رأى الروم أن العدو لاحقٌ
بهم جعلوا يُلقون
مناطقهم وحليتهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، وعدوهم لا يلتفت إليها حتى دخلوا الحصن، وأصيب
عبادة إصابةً خفيفة من حجرٍ رُمي به
من فوق الحصن.
٢٢ فرجع القائدان المسلمان، ولكنهما لم يلتفتا إلى ما ألقاه الروم، بل عادا إلى موضعهما
فأتمَّا صلاتهما، وخرج
الروم إلى متاعهم يجمعونه.
وقد روى الواقدي رواية عن قتال في موضعٍ آخر، قال: إن المسلمين كانوا في يوم جمعة
قد اجتمعوا للصلاة، وسار بينهم عمرو بن
العاص يُحرضهم على القتال، فرآهم ربيئة الروم، وحمل إلى قومه في الحصن خبر اجتماعهم.
فلما انتهى عمرو من خطبته نزل عن
منصَّته الساذجة التي كان قائمًا يخطب عليها، وأمَّ المسلمين في الصلاة، وفيما هم كذلك
هبط عليهم جنود الروم بغتةً وهم
عُزَّل ليس معهم السلاح، فأوقعوا بهم.
٢٣
ولما مضى الشتاء قلَّ خروج الروم من الحصن وقتالهم للمسلمين، في حين كثر هجوم المسلمين
على الحصن وزاد شدة، واشتدَّت
وطأة الحراسة والقتال على الروم، وخارت قُواهم عن الدفاع. على أن حصونهم ما زالت على
عهدها لم يصدع الحصار منها إلا
قليلًا، ثم فتك المرض بأهل الحصن
٢٤ فقلَّ عددهم، ولم يأتِهم المدد، يتطلع حُراسهم وهم فوق صروحهم إلى ما حولهم من الآفاق
فلا يجدون أثرًا يلوح من
رماح الروم ودروعهم طالعًا من بين قباب الأديرة البيضاء التي تملأ السهل في شمال الحصن،
وكان النهر عند ذلك قد هبط وجفَّت
الأرض، وإذا كان ثَم أمل في قدوم جيش من الروم لإمداد الحصن فقد كان ذلك وقته وتلك فرصته.
ولعل ذلك هو الوقت الذي بلغ عمرًا أن الروم قد أعدُّوا جيشًا في مصر السفلى بين فرعَي
النيل وجعلوا عليه «تيودور»، فلم
يُقم عمرو حتى يُقبل عليه العدو، بل ترك من جيشه جماعة تكون ردءًا عند الحصن، ثم سار
على الفرع الشرقي للنيل، وعبر النهر
عند أثريب، وتوجَّه نحو سمنود. فبعث «تيودور» باثنين من قُواده ليُدافعا عن المدينة،
فاتصلا بجنودهما بمن كان في المدينة
من الحرس، غير أن هؤلاء لم يرضَوا أن يتبعوا الروم في قتال العرب، والْتَقى الجمعان مع
هذا على كثب من سمنود، ودارت
الدائرة على المسلمين وعلى من كان معهم ممن أسلم من النصارى، وقُتل من هؤلاء وأولئك خلقٌ
كثير، ورأى عمرو أنه لن يستطيع أن
يُصيب البلاد الشمالية بشيءٍ كبير؛ إذ كانت تحميها الخنادق والترع دون جرائد الخيل العربية،
فعاد أدراجه إلى بوصير وجعل
حولها الحصون، ثم رمَّم حصون «أثريب» و«منوف»، وجعل فيها مسالح من المسلمين، ثم عاد إلى
حصار الحصن، ولكن «تيودور» لم
يستطع أن يستفيد شيئًا من وراء انتصاره في ذلك القتال، ولم يقدر على أن يبعث من جنده
إمدادًا يبلغ الحصن أو يقترب منه.
٢٥
ولعل عجز «تيودور» وقعوده عن مُواصلة الحرب كانا عن خيانة أصحابه وتركهم له. ولسنا
ندري ما كان حال الجند الذين كانوا
حرسًا في المدائن، فلا نعلم كم كان منهم من القبط وكم كان من الروم، بل إن المؤرخين ينسَون
أمرًا فلا يذكرون عنه شيئًا،
وذلك أن الروم لا بد قد امتزجوا بالمصريين في مدة القرون التي أقاموا فيها بمصر، واختلطت
دماؤهم، وتقاربت أسباب التواصل
بينهم، وكان القبط يكرهون الدولة، ولهم في ذلك كل العذر، وكان بعض الروم لم يتغلغل الولاء
لدولتهم في قلوبهم، فكانوا لا
يتورَّعون عن مساعدة العرب إذا ما رأوا في ذلك نفعًا لأنفسهم، يفعلون ذلك حتى ولو لم
يدفعهم دافع من اختلاف في الدين مع
قومهم. وإنا مُورِدون هنا خبرين من أخبار أمثال هؤلاء وقعا في هذا الحين؛ فالأولى قصة
قائد اسمه «كلاجي»، لحق بالمسلمين
وغادر قومه، فسعى «تيودور» حتى لقيه، وجعل يَثنيه عمَّا هو فيه بالحجة الدامغة حتى حمله
على الرجوع، وكان قد ترك زوجته
وأمه رهينتين في الإسكندرية فافتداهما، واشترى عفو «تيودور» عنه بمبلغ من المال، ثم تسلَّل
بجنوده تحت الليل من بين عسكر
المسلمين ولحق ﺑ «تيودور»، فأرسله إلى «نقيوس» ممدًّا لمن فيها من الجند مع القائد «دومنتيانوس».
وأما الخبر الآخر فقصة
الخائن التائب «سبنديس»؛
٢٦ فإنه مِثل «كلاجي» تسلَّل من عسكر المسلمين في الليل وسار إلى دمياط، وكان عليها قائدٌ
اسمه «حنا»، فأرسله حنا
إلى نائب الحاكم بالإسكندرية وبعث معه بكتاب، وقد أقرَّ «سبنديس» بذنبه والدموع تنحدر
من مآقيه، وقال: «لقد كان مني ما كان
منذ ألحق حنا بي العار بأن ضرب وجهي ولم يرعَ حُرمة سني، فلحِقتُ بالعرب بعد أن كنت خادم
الدولة الأمين.» وفي هذا ما يدل
على ما كانت عليه أسباب الوطنية من الوهن، وما كان عليه القوم من الضعف في أمر دينهم.
ومرَّ اليوم بعد اليوم ولا شيء يُبشِّر أهل الحصن، ولا كتاب يُدخل إلى قلوبهم الرجاء.
فلم تبلغهم إلا أنباء سوء وشؤم؛
فقد بلغهم نبأ غضب هرقل على المقوقس، ونقضه لأمر الصلح، وحكمه عليه بالنفي، ولكن لم يبعث
الإمبراطور أحدًا من جنوده الذين
كان بهم مُعجبًا، ولم تُغنِ عن الحصن شيئًا أوامرُه التي بعث بها إلى قُواده. غير أن
الناس ما زالوا يُعللون النفس بالآمال
إلى أن سمعوا يومًا تكبيرًا عاليًا في عسكر المسلمين، وذلك في أوائل شهر مارس سنة ٦٤١،
فلما استطلعوا الأمر عرفوا أن هرقل
قد مات؛ فخارت عند ذلك نفوسهم، ولم يكن ذلك لأنهم صوَّروا لأنفسهم ما لا بد أن يعقب موته
من الاضطراب في الدولة، بل لأنهم
قد ذهب عنهم ملِكهم الشيخ وكان باسلًا في الحرب، فكان في ذهابه عنهم ذهاب لأمرهم وخور
في عزيمتهم. وقد قال أحد مؤرخي
العرب: «فكسر الله الروم بموته.»
٢٧ وحسبنا بقوله هذا دليلًا على ما أحدثه موته من الأثر في جند مصر. وأما العرب فقد زادهم
نبأ موته شدة وجرأة،
وضاعف من همَّتهم في فتح الحصن.
ولكن قد بقي الحصن بعد ذلك شهرًا لا يُسلِّم، فلما أبطأ الفتح قيل إن الزبير وهب
الله نفسه، وأقبل مع جماعة يقودهم لفتح الحصن بعد أن أعدَّ لذلك الأمر عُدته. وكان الخندق
قد طُم جزء منه استعدادًا
للهجوم، ولم يعُق العربَ عن ذلك دفاعُ أهل الحصن، وكانوا يفتك بهم المرض، ويقعد بهم اليأس،
ولكن ساعة الهجوم بقيت سرًّا.
فلما جاء وقتها أقبل العرب سراعًا تحت جنح الليل،
٢٨ ووضع الزبير سُلمًا على السور ولم يفطن إليه أحد،
٢٩ فما شعروا إلا والبطل العربي على رأس الحصن يُكبِّر وسيفه في يده، وتحامَل الناس إليه
من داخل الحصن، غير أن
السهام أمطرتهم من العرب في خارجه، واستطاع بذلك أصحاب الزبير أن يصِلوا إليه فوق السُّلم
ويطئوا الأسوار بأقدامهم.
والظاهر أن الروم كانوا يتوقَّعون هجوم العرب من ذلك الجانب، فبنَوا حائطًا تعترض المَمشى
فوق السور من جانبَي ذلك الموضع،
فلما جاء العرب الذين صعدوا إلى الحصن وأناموا من كان هناك من حرسه وملكوا رأسه، ألفَوا
طريقهم مسدودةً يعترضها ذلك
الحائط، فلم يجدوا سبيلًا إلى السُّلم ليهبطوا منه إلى قلب الحصن، ورأوا أنفسهم قد بلغوا
رأس الأسوار ثم لا سبيل لهم وراء
ذلك، وكانت تلك فرصة للمُدافعين، ولو كان في قلوبهم بقية من القوة لاستطاعوا أن يرموهم
بسهامهم فيردُّوا ذلك النفر أو
يقضوا عليهم، ولكنهم ما كانوا ليفعلوا شيئًا من ذلك وقد بلغت أرواحهم التراقي، فاجتمع
كبارهم على عجل في أول الصباح الباكر
فسألوا عمرًا الصلح، وعرض «جورج» قائد الجند في الحصن أن يُسلِّم على أن يأمن كل من هناك
من الجند على أنفسهم. فقبِل عمرو
منهم الصلح، وخالفه الزبير خلافًا شديدًا في ذلك، وقال له إنه كان على وشك أن يفتح الحصن
عنوة، وقال: «لو صبرت قليلًا
لنزلت من السور إلى داخل الحصن، ولكان الأمر على ما نشتهي.» ولكن عمرًا لم يلتفت إلى
ما قاله، وكتب عهد الصلح على أن يخرج
الجند من الحصن في ثلاثة أيام، فينزلوا بالنهر، ويحملوا ما يلزم لهم من القوت لبضعة أيام،
وأما الحصن وما فيه من الذخائر
وآلات الحرب فيأخذ العرب كل ذلك،
٣٠ ويدفع أهل المدينة للمسلمين الجزاء.
وكانت حملة العرب الأخيرة على الحصن في يوم الجمعة السابق لعيد الفصح، وذلك في السادس
من أبريل سنة ٦٤١، وكان خروج الروم
منه في يوم الاثنين، وهو عيد الفصح.
٣١ وفي مدة تلك الأيام الثلاثة جمع الروم السفن من جزيرة الروضة، ووضعوا فيها
المئونة، وأخذوا في التجهز للهبوط في النيل إلى مصر السفلى. ولقد كان أشدَّ لحزن جيش
المسيحيين أن آخر يوم لهم في الحصن هو
يوم الفصح (يوم القيامة)، وكأننا بهم وقد اجتمعوا في الكنائس قبل أن يخرجوا والحزن سائدٌ
عليهم والذل ضاربٌ فيهم لِما
أصابهم من الهزيمة على يد المسلمين. ويجدر بنا أن نذكر هنا أن كبار الروم لم يتَّعظوا
بما كان، ولم ترقَّ قلوبهم لِما نزل
بهم من ذهاب أمر المسيحيين في مصر، ولم تقع في نفوسهم حرمة ليوم الفصح الذي خرجوا فيه،
فبقيت في صدورهم العداوة والشحناء
الذهبية لم يذهب منها شيء. وقد ذكرنا من قبلُ أنهم سجنوا في أول الحصار كثيرًا من القبط
الذين كانوا في الحصن؛ وذلك لأنهم
أبَوا أن يتركوا دينهم، أو لأنهم رابَهم منهم أمر. فلما جاء يوم الفصح الذي كان فيه الخروج
من الحصن، جعله الروم يوم وقعة
ونقمة من هؤلاء المسجونين التعساء، فسحبوهم من سجونهم، وضربوهم بالسياط، وقطع الجند أيديهم،
أمرهم بذلك كبيرهم
«أودوقيانوس». ولا عَجب مع هذا أن نجد الأسقف المصري يسبُّهم في ديوانه حانقًا، ويُسميهم
«أعداء المسيح الذين دنَّسوا
الدين برجس بدعهم، وفتنوا الناس عن إيمانهم فتنةً شديدة لم يأتِ بمثلها عبَدة الأوثان
ولا الهمج، وعصَوا المسيح وأذلُّوا
أتباعه. فلم يكن في الناس من أتى بمثل سيئاتهم ولو كانوا من عبَدة الأوثان.»
٣٢ ويصف الأسقف المصري أنين أولئك الأسرى الذين مُثِّل بهم وبكاءهم؛ إذ يُساقون مطرودين
من الحصن يُشيعهم السباب.
وإنه ليس بغريب مع ذلك من مثل الأسقف المصري أن يقول إن فتح الحصن للمسلمين لم يكن إلا
عقاب الله على ما فعله الروم من
الأفاعيل في القبط، ولو أن مثل هذا القول ليس مما يصح في الأذهان. على أن ذلك الأمر له
معنًى؛ إذ يدل على ما كان بين
شيعتَي المذهبين المسيحيين من عداوة لا تُحَل عُقدتها، بقيت في قلوبهم لم تخبُ ولم تخمد
نارها، مع ما ظهر من ثمار اختلافهم
وعواقب تخاذلهم من فوز الإسلام وعُلوِّ أمره.