الفصل التاسع عشر
السير إلى الإسكندرية
انتهى حصار بابليون في اليوم التاسع من أبريل سنة ٦٤١ بعد أن لبث سبعة أشهر، وهذا
أمر قد ورد جليًّا في أخبار العرب. على
أن جُل مؤرخيهم إن لم يكونوا كلهم يخلطون الصلح الأخير الذي سلَّمت به الروم الحصن بعد
أن نُفي المقوقس من مصر، بالصلح
الذي حدث قبل ذلك في أوان الفيضان بعد بدء الحصار ببضعة أسابيع، وهو الذي عقده المقوقس
ولم يُقرَّه الإمبراطور. وإنا
نستطيع أن نتبيَّن أصل ذلك الخطأ بعد أن انكشف لنا التاريخ الحقيقي، كما نستطيع أن نتبين
ما نشأ عن ذلك الخطأ من خلطٍ آخر
لم يكن أقل منه شأنًا. فليس في التاريخ مواضع وقع عليها خلافٌ أشد مما وقع في أمر مصر،
وهل كان فتحها عنوة أو صلحًا. ويقصد
هؤلاء الكُتاب بلفظ مصر أحيانًا كل البلاد، وأحيانًا حصن بابليون. وقد أوضحنا فيما سلف
أن الحصن يمكن الاختلاف فيه؛ فقد
وقع فيه حادثان؛ أحدهما فتح بالقوة؛ فإن الزبير علاه، وكان ذلك سببًا في تخذيل الروم
وتسليمهم؛ وأما الآخر فإن الفتح لم
يكن كله عنوة، بل إن حملة الزبير إنما أدَّت إلى أن يُسلِّم أهل الحصن ويُصالحوا. على
أن قصارى الأمر لم يكن غير تسليم عن
أمان وصلح، وقد بيَّن الصلح للروم شرط الخروج؛ وعلى ذلك فلا مناص لنا من أن نُفند قول
من يقول إن العرب فتكوا بمن كان في
الحصن، فما ذلك إلا حديث خرافة أساسه قول من قال إن الحصن أُخذ عنوة.
١
ولكن الصلح الذي أُبرمَ عند بابليون لم يكن إلا عهدًا حربيًّا، ولم يكن عقدًا سياسيًّا؛
فقد رضي فيه عمرو بأن يشتري
الحصن ويدفع ثمنًا له تأمين من كانوا فيه، وخروجهم منه بغير أن يُسلموا أو يدفعوا الجزية،
وإنما دفع الجزيةَ من بقي من أهل
المدينة. وإذ كان ذلك العهد لا يمسُّ إلا مدينة مصر والحصن، فقد كانت الجزية قليلة ومؤقتة،
فقال مؤرخ إنها كانت دينارًا
لكلٍّ من جنود العرب ولباسًا،
٢ وكانوا في أشد الحاجة إليه. وهذا القول يتفق مع ما أورده مؤرخٌ آخر إذ قال:
٣ إنه قد بقي في مصر بعد فتح الحصن جماعةٌ كبيرة من جنود القبط. فلما رأى هؤلاء ما كان
عليه العرب من الرثاثة
قالوا: «ما أرثَّ العرب وأهوَنَ عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم.»
٤ فلما سمع عمرو مقالتهم دعا جماعة من كبارهم إلى وليمة فنحر جزورًا،
٥ وصنع لهم المرق بالماء والملح، وجعل ذلك أمامهم، وقد جلس القبط إلى جانب العرب، فجعل
العرب ينهشون اللحم
نهشًا، حتى بشع القبط ذلك وعادوا بغير أن يأكلوا. فلما كان اليوم الثاني أمر عمرو قوامه
أن يأتوا بألوان الطعام في مصر،
وأن يُهيئوا منها وليمةً عظيمة، ففعلوا ذلك، وجاء أهل مصر فجلسوا إلى ذلك الطعام وأصابوا
منه، فلما فرغوا من أكلهم قال
عمرو للقبط:
٦ «إنني أرعى لكم من العهد ما تستوجبه القرابة بيننا، وقد علمت أنكم ترَون في أنفسكم أمرًا
تريدون به الخروج،
فخشيت أن تهلكوا، فأريتكم كيف كان العرب في بلادهم وطعامهم من لحم الجزر، ثم حالهم بعد
ذلك في أرضكم وقد رأوا ما فيها من
ألوان الطعام الذي قد رأيتم. فهل تظنون أنهم يُسلِّمون هذا البلد ويعودون إلى ما كانوا
فيه؟ إنهم يُسلِّمون قبل ذلك حياتهم
ويُقاتلونكم على ذلك أشدَّ القتال، فلا تُلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وادخلوا في الإسلام،
أو ادفعوا الجزية وانصرفوا إلى قُراكم.»
٧
وهذه القصة عجيبة؛ إذ إنها تُظهر جانبًا آخر من الخُلق يختلف عما سمعناه من قول عبادة
بن الصامت من احتقار هذه الحياة
ونعيمها، وهو القول الذي عجب له قيرس وردَّده. ولتلك القصة شأنٌ آخر؛ وذلك أنها تدل دلالةً
واضحة على أن بعض القبط أخذوا
عند ذلك يختارون الإسلام ويُفضِّلون الدخول فيه على دفع الجزية؛ فقد رأى هؤلاء أن الإسلام
يجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما
على المسلمين، ويُساويهم بالفاتحين في شرف محلهم، ويجعلهم إخوانهم في كل شيء، يُسهم لهم
في الفيء، ولا يُفرض عليهم الجزاء.
فكان في ذلك باعثٌ قوي لكثير منهم على الدخول في الإسلام، لا سيَّما وقد طحن المقوقس
عقيدتهم طحنًا، وحطَّم يقينهم
باضطهاده. وكذلك دخل في الإسلام كثير من الروم، بعضهم جنود وبعضهم ممن حل في مصر منهم،
وفي هؤلاء يقول حنا النقيوسي: «قومٌ
ارتدُّوا عن دينهم المسيحي ودخلوا في دين البهائم.» وكان هؤلاء المسلمة يتظاهرون بأنهم
من أشدِّ الناس في أمر الدين،
يدفعهم ذلك إلى مساعدة إخوانهم العرب المسلمين على استصفاء أموال المسيحيين الذين أخرجتهم
الحرب من ديارهم، وصاروا
يستبيحون لعنهم، ويصِمونهم بأنهم «أعداء الله».
٨ ولكن هؤلاء الذين أسلموا لم يكونوا إلا قليلًا، وبقي جمهور القبط على دينهم يزدرون الذين
خرجوا من نصرانيتهم،
وينفرون من ذلك الدين الجديد الذي دخلوا فيه، وهذا ظاهر في قول الأسقف المصري «حنا».
ويجدر بنا أن نُعيد هنا ما سبق لنا
قوله، وذلك أن القبط في ذلك العصر لم يكن لهم زعيم يأتمرون بأمره، ولا جماعة يلزمونها؛
فلم تكن بهم قدرة على أن يتعاونوا
على أمرهم، فكان الرجل منهم يرى لنفسه، وكانت الطائفة منهم يرَون لأنفسهم بين حين وحين،
ولكن لم يكن فيما بينهم تسانُد أو
تعاوُن؛ إذ لم يكن لديهم سبيل إلى توحيد قصدهم أو التكاتف في السعي إليه؛ وعلى ذلك فمن
أكبر الخطأ أن يقول قائلٌ إن القبط
عامَّتهم دخلوا في عهد الصلح الذي كتبه عمرو عند فتح بابليون؛ فإن ذلك العهد إنما دخل
فيه أهل ذلك الموضع. على أن شروط ذلك
الصلح نفسه عُرضت فيما بعدُ على من كانوا على كثب من تلك الناحية؛ فإن عبد الله بن حذافة
السهمي سيَّره عمرو إلى عين شمس
ليُعامل أهل المدينة والكورة التي حولها.
٩ وهذا يدل على أن المسلمين عند فتحهم للمدينة أول مرة لم يأخذوا أمرها في يدهم ويُقيموا
فيها حكم
الإسلام.
ولكن هذا الصلح أحدث في دولة الروم أثرًا كبيرًا، مع أنه لم يكن إلا صلحًا مقصورًا
على جماعةٍ صغيرة؛ وسبب ذلك مكانة
ممفيس أو بابليون، فإنها وإن لم يبقَ لها المحل الأول في البلاد؛ إذ مضى عليها زمنٌ طويل
وليست هي عاصمة البلاد؛ كانت لا
تزال ذات شأن عظيم؛ إذ كانت باب إقليم الصعيد وإقليم مصر السفلى، وكان حصنها منيعًا لا
يكاد يُنال، فإذا هو وقع في يد عدو
دانت له بلاد الصعيد جميعًا، وهابته بلاد مصر السفلى في الشمال. ولسنا ندري ماذا كان
قُواد الروم يصنعون طول مدة الشتاء،
وما الذي حملهم على أن يُخلوا ما بين المسلمين وبين الحصن حتى استطاعوا على مر الزمن
أن يُنزلوا من فيه، ولكنا نعلم حق
العلم أن الروم ضعفت قوَّتهم وخارت عزيمتهم عندما فتح العرب ذلك الحصن، في حين أن العرب
زادوا قوة وجرأة، وأصبح في يد عمرو
ملك الفرما وبلبيس وأثريب وعين شمس؛ فكان باسطًا سلطانه على الجانب الشرقي كله من مصر
السفلى، فلما دان له الحصن صار
سلطانه ثابتًا على مجمع النهرين، وجمع في يده أزمَّة وادي النيل الأوسط، وتم له بذلك
الشطر من فتح مصر.
وإنا نرى أن عمرو بن العاص بعدما فرغ من فتح الحصن أمر بإقامة الجسر من السفن في
النهر، أو بقولٍ آخر أمر بإعادة إقامته
بين الحصن والروضة، وبين الروضة والجيزة، فوصل بذلك بين شاطئَي النهر، واستطاع أن يملك
ناصيته ويُشرِف على ما ينتقل فيه من
السفن والبضائع. وهذا على خلاف ما جاء في كتب التاريخ؛ إذ جاء فيها أن عمرًا أمر بذلك
قبل فتح الحصن، وكان عمرو شديد
الرغبة في أن يسير جنوده نحو الإسكندرية بعد أن طالت مدة إقامتهم بالعسكر في مصر، وكان
يعرف أنه لن تمرَّ ثلاثة أشهر حتى
يكون النيل قد أخذ يعود إليه مدُّه وفيضه، فكان الوقت دونه غير متسع، وفي ضياعه مَضيعة
وخسارة، فأرسل إلى عمر بن الخطاب
يصف له ما كان ويستمده، على حين شرع يُدبِّر أمر المدينة التي فتحها وما حولها من إقليمها،
وأخذ يُرمم بناء الحصن، وجعل
فيه مسلحة من المسلمين عليهم خارجة بن حذافة السهمي.
١٠ وما كان أعظم سرور عمرو؛ إذ رأى نفسه على ظهر جواده مرةً أخرى يسير مع جيشه إلى وجه
جهاد، وقد جعلوا الحصن
وراء ظهورهم، وساروا نحو الشمال يتبعون شاطئ الفرع الغربي للنيل، وتُركت خيمة القائد
في مكانها؛ فإنه عندما أزمع السير
وأمر الجند أن ينزعوا خيمته وجدوا في رأسها عش يمامة قد باضت، فقال عمرو: «لقد تحرَّم
هذا اليمام منا بمُتحرَّم، فأقرُّوا
هذا الفسطاط في موضعه حتى يُفرِّخ ويطير.» وقيل إن عمرًا ترك على الفسطاط حارسًا يمنع
تلك اليمامة أن يمسَّها أحد بأذًى.
١١
وليس من اليسير أن نصِف سير العرب في وقتهم ذاك؛ فإن ديوان حنا النقيوسي لا يذكر من
حوادث تلك المدة إلا قِطعًا من
الأخبار لا نظام لها. وإذا نحن جمعنا تلك القِطع وأردنا أن نجعل منها قصةً متصلة، كان
فيها اختلافٌ كبير عما يرويه مؤرخو
العرب. على أننا نستطيع أن نُوفِّق بعض التوفيق بين تلك الروايات المُتضاربة، لا سيَّما
وأنَّا نجد اتفاقًا عجيبًا بينها
في بعض المواضع.
ولا شك أن أول ما قصد إليه عمرو في سيره نحو الإسكندرية كان مدينة نقيوس، وكانت مدينةً
ذات شأن عظيم، وحصنًا ذا منعة وقوة،
١٢ وهي على الشاطئ الشرقي لفرع النيل الغربي الذي هو فرع رشيد على مسيرة يوم من حصن بابليون،
وعلى ساعتين من
مدينة منوف، وكانت منوف إذ ذاك في ملك العرب، وكانت نقيوس فوق عِظمها مدينةً قديمة بها
الآثار الجليلة من أيام الفراعنة،
وكانت مَقرَّ أحد كبار رءوس الدين المسيحي، ولها مكانةٌ حربيةٌ كبرى في حفظ الطريق بين
حصن بابليون والإسكندرية؛ فكان
لا بد للروم أن يجتمعوا هناك مرةً أخرى للقاء العرب.
والظاهر أن عمرًا ابتدأ سيره أولًا على الضفة الغربية للنهر من ناحية الصحراء؛ ففيها
مجالٌ أوسع لخيله لا يعُوقها هناك
ما يعترض مصر السفلى من الترع الكثيرة. وكان الروم على توقُّع أن يفعل ذلك فلاقَوه هناك،
وكان أول ما الْتَحموا بجيشه عند
مدينة قديمة معروفة، وهي «طرنوتي»، أو «طرنوط»، أو كما يُسميها العرب «الطرانة»، وكان
في تلك المدينة فرضة يُعبر النيل
عندها في الذهاب إلى الإسكندرية،
١٣ وفيها كذلك بدء الطريق المؤدية إلى أديرة القبط في صحراء لوبيا؛ فكان لا بد للروم على
ذلك من أن يقفوا وقفة في
الدفاع عنها. فقاتلوا العرب هناك،
١٤ وأبلَوا بلاءً حسنًا، غير أنهم انهزموا، واستطاع عمرو أن يستأنف السير إلى مدينة نقيوس.
وقد مرَّ بنا أن مدينة نقيوس على الشاطئ الشرقي للنهر على مقربة من الموضع الذي تتصل
فيه بالنيل الترعة التي بين أثريب
ومنوف، وكان عمرو لا يستطيع أن يتركها على جانبه ويسير عنها؛ إذ هي حصنٌ منيع، فعبر النهر
إليها، حتى إذا ما فتحها عاد إلى
الغرب وواصل السير. وكانت تلك فرصة دون القائد الروماني «تيودور» إذا أراد المُناجزة،
ولكنه لم يغتنمها، فلم يخرج للعرب
بنفسه في عامة جيشه، بل أرسل القائد الجبان الضعيف «دومنتيانوس» ليذود عن نقيوس، وبعث
معه كتيبةً ضعيفة. وكان عند
«دومنتيانوس» كثير من السفن قد أعدَّها لكي يُدافع بها عن المدينة، أو لكي يهبط بها على
جيش عمرو في أثناء عبوره للنهر،
وكان عمرو لا بد له من عبور النيل إذا فتح المدينة، وإذا هو فشل ولم يفتحها كان أغلب
الظن أنه يُحاول العبور. غير أن قائد
الروم عندما رأى المسلمين على كثب منه خانه جَنانه، وترك جيشه وسفنه، ولاذ في سفينة هاربًا
نحو الإسكندرية. فلما رأى
الجنود أن قائدهم يفرُّ عنهم ذلك الفرار وضعوا سلاحهم، وهبطوا إلى الترعة سراعًا
١٥ وقد أذهلهم الخوف، يريدون أن يقتحموها أو يبلغوا السفن فيها، ولكن عَدْوى خوفهم أعدَت
نوتية السفن فلم يأبهوا
لشيء إلا لسلامتهم، فحملوا سفنهم مُسرعين، وهبطوا بها إلى الشمال يطلبون النجاة، فعمد
كلٌّ منهم إلى قريته، وعند ذلك طلع
العرب على جنود الروم وهم في الماء بغير سلاح فقتلوهم عن آخرهم، فلم ينجُ منهم إلا رجلٌ
اسمه «زكريا» بدت منه شجاعةٌ عظيمة
عند ذلك، ولعل نجاته كانت لِما بدا منه من الشجاعة، ثم دخل العرب المدينة من غير مقاومة؛
إذ لم يكن فيها جنديٌّ واحد يقف
في سبيلهم، ومع ذلك فقد أوقعوا بأهلها وقعةً عظيمة. قال حنا النقيوسي: «فقتلوا كل من
وجدوه في الطريق من أهلها، ولم ينجُ
من دخل في الكنائس لائذًا، ولم يدَعوا رجلًا ولا امرأة ولا طفلًا،
١٦ ثم انتشروا فيما حول نقيوس من البلاد، فنهبوا فيها وقتلوا كل من وجدوه بها. فلما دخلوا
مدينة «صوونا» وجدوا
بها «اسكوتاوس» وعيلته، وكان يمتُّ بالقرابة إلى القائد «تيودور»، وكان مُختبئًا في حائط
كرم مع أهله، فوضعوا فيهم السيف
فلم يُبقوا على أحد منهم، ولكن يجدر بنا أن نُسدل الستار على ما كان؛ فإنه لا يتيسر لنا
أن نسرد كل ما كان من المسلمين من
المظالم بعد أن أخذوا جزيرة نقيوس في يوم الأحد، وهو الثامن عشر من شهر «جنبوت» في السنة
الخامسة عشرة من سِني الدورة.»
١٧ ويقع ذلك التاريخ في اليوم الثالث عشر من شهر مايو سنة ٦٤١.
وقد أثبتنا هنا نص قول الأسقف القبطي؛ لأنه يدل على ما كان عليه القبط من قلة حب للعرب
الفاتحين، ولكي نُظهر أنهم ما كان
لهم أن يُحبوهم وقد كان منهم ما كان. وقد كان نقيوس مَعقلًا من معاقل الدين القبطي، ولا
شك أن الناس كانوا مع ما نزل بهم
من الاضطهاد لا يزالون على عقيدتهم يُضمرونها في قلوبهم، ولو أظهروا الخروج منها تقيةً
لما نالهم من عسف قيرس. وكان العرب
في وقعتهم لم يفرِّقوا بين قبطي ورومي، وليس فيما وصلنا من أخبار ذلك لفظٌ واحد يدل على
أن القبط كان لهم شأنٌ آخر في
معاملة العرب، وكذلك ليس من شك في أن الشقاق والاضطراب قد دهما البلاد واجتاحاها كما
يجتاح الطاعون الأرض، فلم يمضِ طويل
زمن حتى عمَّت الفوضى واندفع لهيب الحرب الأهلية بين أهل مصر، فكان ذلك ضغثًا على إبَّالة،
فانقسمت مصر السفلى إلى حزبين؛
حزب مع الروم، وحزب يريد أن يتفق مع العرب. ولسنا ندري إذا كان الفارق بين ذينك الحزبين
فارقًا من جنس أو من مذهب أو من
تشيعٍ سياسي، على أننا نرجِّح الرأي الأخير. وقد أصبح من الأمور المُعتادة في ذلك النضال
بين الحزبين أن يتقاتل الناس
وينهب بعضهم بعضًا أو يحرقوا البلاد، في حين كان العرب ينظرون إلى كلا الحزبين نظرة الازدراء،
ولا يأمنون لأيهما، ولا
يتعاهدون مع أحد منهما.
ولما فُتحت مدينة نقيوس،
١٨ وتفرَّقت السفن الرومانية التي كانت بالنيل هناك، أصبح الطريق خاليًا من العقبات دونهم
إذا شاءوا السير إلى
الإسكندرية، وكان جيش الروم عند ذلك يقوده «تيودور»، ويتراجع به شيئًا فشيئًا نحو تلك
العاصمة.
وأقام عمرو في نقيوس بضعة أيام ثم عبر النيل إلى الغرب، ولكنه قبل أن يستأنف سيره
أرسل أحد رجاله وهو شريك ليتتبع العدو
المُنهزم، وكان الطريق على جانب النيل الأيسر مما يلي الصحراء، وكان دهسًا للخيل، فلحقت
طلائع المسلمين بالروم عند موضع
على ستة عشر ميلًا إلى الشمال من الطرانة، ولكن المسلمين وجدوا عدوهم أكثر عددًا مما
كانوا يحسبون، فلم يستطيعوا أن
يهزموهم بحملتهم الأولى، بل لقد قيل إن القتال استمر ثلاثة أيام، واستطاع الروم مدةً
أن يردُّوا العرب ويُلجئوهم إلى نهدٍ
من الأرض ظلُّوا عليه حينًا، والروم تحمل عليهم حملاتٍ شديدة، وقد أحاطوا بهم من كل جانب.
فلما رأى شريك ما يُحدق
بالمسلمين من الخطر بعث مالك بن ناعمة ليخرج على فرس له أشقر لا يُشَق له غبار، وأمره
أن يقتحم العدو أو يدور حوله حتى
يأتي عمرو بن العاص فيحمل إليه النبأ، ففعل مالك ذلك، وأراد جماعة من الروم أن يلحقوا
به فأعجزهم. ولما بلغ عمرًا ما يُهدد
شريكًا من الخطر أرسل إليه الإمداد سريعًا. وقيل إن العدو فرَّ هاربًا عندما بلغه مجيء
ذلك الإمداد. ومهما يكن من أمره فقد
نجا شريك مما كان فيه، ولم يستطع الروم أن يغلبوا تلك الجريدة العربية، فأضاعوا بذلك
فرصة كما أضاعوا من قبلُ كل فرصة
أتاحها الحظ لهم. وقد سُمِّي ذلك الموضع الذي وقع القتال فيه باسم القائد العربي؛ فهو
معروف إلى اليوم باسم «كوم شريك».
١٩
وسار عمرو يدفع العدو أمامه، ولعله سار إلى الشمال الغربي على جانب الترعة التي تلي
الصحراء حتى بلغ الدلنجات، ومنها سار
إلى الشمال في تجاه دمنهور، فوجد الروم مرةً أخرى يعترضون سبيله عند سنطيس،
٢٠ وهي على ستة أميال في جنوب دمنهور، ووقعت هناك وقعةٌ شديدة انهزم فيها الروم وتقهقروا
أمام العرب، ولم
يُحاولوا أن يقفوا لعدوهم في دمنهور أو يملكوها، بل تدافعوا نحو الشمال، فانتهى بهم الانهزام
إلى الطريق الأعظم المؤدي إلى
الإسكندرية، فعبروا الترعة وكانت عند ذلك لا يكاد يوجد بها شيء من الماء، ثم ساروا حتى
أظلَّهم حصن «كريون» بعد مسيرة نحو
عشرين ميلًا، وكانت مدينة «كريون» آخر سلسلة من الحصون بين حصن «بابليون» والإسكندرية،
وكان لها شأنٌ عظيم في تجارة القمح
سوى ما كان لها من خطرٍ عظيم في الحرب؛ إذ كانت تُشرِف على الترعة التي عليها جُل اعتماد
الإسكندرية في طعامها وشرابها،
ولكن حصونها لم تكن في المنعة على مثل ما كان عليه حصن بابليون ولا ما كان عليه حصن نقيوس،
٢١ مع أن الروم رمَّموا حصونها وزادوها قوة. ومهما يكن من الأمر فقد عزم «تيودور» على أن
يقف هناك وقفته الأخيرة،
ولم يكن في وسعه أن يختار مكانًا أليق من ذلك؛ فكانت حصون المدينة تُساعد الجنود وتشدُّ
أزرهم، وكان جنوده أكثر عددًا من
العدو، وكانت الترعة تحميهم من بين أيديهم، وكان البطريق من ورائهم يُفضي إلى الإسكندرية،
ومن السهل عليهم حفظه.
وقد قاتل جنود الروم في هذا الوقت قتالًا شديدًا، حتى شهد بذلك مؤرخو المسلمين أنفسهم،
ولم يخذلهم ما أصابهم من قبلُ من
النكبات من سقوط بابليون ونقيوس في يد عدوهم، ولا ما حل بهم من خيانة بعض قُوادهم أو
جبنائهم، ولم يكن الروم في قلة؛ إذ
أتتهم الأمداد من وراء البحر من «قسطنطينية»، وكان قائدهم «تيودور» غير متَّهَم في شجاعته
ولا إقدامه في القتال، غير أنه
لم يكن قائدًا ذا رأي في الحرب. وقد عرف الناس جميعًا فيما يُحيط بذلك الموضع، كما عرف
الجنود الذين كانوا بالإسكندرية أن
ذلك اليوم، يوم كريون، له ما بعده، فأتت الكتائب تَتْرى من كل مكان إلى لواء الروم من
سنطيس ومن مدائن أبعد منها، مثل
«خيس» و«سخا» و«بلهيب».
٢٢ ولم تكن تلك الوقعة قتال يوم انجلى عن مصير «كريون»، بل كان قتالًا شديدًا استمر بضعة
عشر يومًا، وحدث في وقت
من أوقاته أن وردان مولى عمرو المعروف كان يحمل لواء المسلمين، فأصابت عبدَ الله بن عمرو
جِراحةٌ شديدة وكان إلى جانبه،
فأجهضته شدة القتال، فسأله أن يرتد قليلًا يطلب الروح، فقال له وردان: «الروحَ تريد؟
الروح أمامك وليس خلفك.» ثم أقبلا على
القتال. فلما سمع عمرو بما أصاب ولده بعث إليه من يسأل عن حاله، فتمثَّل عبد الله بأبيات
من الشعر
٢٣ يُطمئن بها والده. فلما سمع عمرو بذلك قال: «إنه ابني حقًّا.» وحمل المسلمون
٢٤ مرة بعد مرة حملاتٍ شديدة، ولكن الفتح أبطأ عليهم، وصلَّى عمرو بالناس صلاة الخوف. ويلوح
لنا أن تلك الوقعة لم
تكن نصرًا لإحدى الطائفتين، بل تساوت فيها الكفَّتان، ولكن مؤرخي العرب يقولون إنها كانت
نصرًا عظيمًا للمسلمين. ومهما يكن
من الأمر فلا شك في أن المسلمين لاقَوا نصرًا بعد قتالهم في تلك الأيام العشرة؛ وذلك
أنهم استطاعوا أن يفتحوا مدينة كريون
وحصنها وهزموا الروم عنها. ولا نستطيع أن نقول شيئًا عما حدث بعد ذلك في ارتداد تيودور؛
فلا ندري أكان ارتداد جنوده
انهزامًا لا يلوون فيه على شيء حتى بلغوا أبواب الإسكندرية، أم كان تقهقرًا وئيدًا في
نظام؟ على أن ديوان «حنا النقيوسي»
يُشتمُّ منه أن التقهقر كان وئيدًا، وهو لعَمْري قول لا يُتهم صاحبه.
ولا بد قد خسرت الطائفتان كلتاهما في ذلك القتال بين الطرانة وكريون خسارةً كبرى،
وكان الروم أقدر على احتمال تلك
الخسارة من العرب. وإذا نحن حسبنا ما تركه العرب من المسالح في «بابليون» وسواها من بلاد
مصر السلفى، يتضح لنا أن عمرًا ما
كان ليستطيع السير إلى الإسكندرية ما لم تكن قد أتته أمدادٌ عظيمة في الشتاء المُنصرم
أو في الربيع، فلم يكن ليجرؤ أن يطَّلع على الإسكندرية بأقل من خمسة عشر ألفًا. وإنه
لأقرب للحق أن نجعل عدد جيشه عند ذلك
عشرين ألفًا. ولما فتح العرب كريون خلا أمامهم الطريق إلى الإسكندرية، ولم يُبطئ عمرو
إلا ريثما يستريح جنده من عناء
القتال الأخير، ثم سار في سبيله، ولم يلقَ كيدًا حتى بلغ الإسكندرية.
ولا بد أن كثيرين ممن كان في جيش العرب عند ذلك رأوا جميل المدائن في فلسطين والشام
مثل أذاسة ودمشق وبيت المقدس، وقد
يكون منهم من وقعت عينه على أنطاكية الشهيرة، أو رأى عجائب تَدْمر، ولكن ذلك كله لم يكن
شيئًا إذا قيس بعظمة المدينة التي
تبدَّت لهم عند ذلك، وهي عظمةٌ بارعةٌ نادرة تتجلى لهم إذ يسيرون بين الحدائق وحوائط
الكروم والأديرة الكثيرة بأرباضها؛
فقد كانت الإسكندرية حتى في القرن السابع أجمل مدائن العالم وأبهاها، فلم تُبدع يد البنَّاء
قبلها ولا بعدها شيئًا يعدلها،
اللهم إلا روما وقرطاجنة القديمتين. فما سرحت العين لا تقع إلا على أسوار وحصون لا نظير
لها، بقيت بعد ذلك قرونًا وهي مثار
إعجاب من رآها من أهل الأسفار، وكانت تُشرِف وراء هذه الأسوار والحصون بدائع من قباب
ومن عُمُد، بعضها أسطواني وبعضها
مربَّع (مما يُسمَّى بالمسلَّات) تقوم فوق قواعدها، ومن تماثيل ومعابد وقصور تتلألأ وتتألق.
فإذا ما تياسرت
٢٥ رأيت دون ذلك معبد السرابيوم وقد أناف بسقفه المذهَّب، والقلعة التي كان يُشرِف فوقها
عمود دقلديانوس.
٢٦ فإذا ما تيامنت بدت لك الكنيسة العظمى كنيسة القديس مرقس، تليها العُمد المربَّعة التي
سُميت «مسلَّات كليوبترا»،
٢٧ وكانت عند ذلك قد عُمِّرت نيفًا وألفَي عام، وذلك ضِعفا عمر المدينة نفسها. وفيما بين
يسارك ويمينك كان البناء
الجليل يبدو ظاهره مُشرقًا، ويلوح من ورائه ذلك الأثر العظيم المعروف باسم «فاروس»، وكان
الناس يعدُّونه إحدى العجائب
السبع في العالم، وحُق لهم أن يفعلوا. وما كان هذا الجلال الفائق والجمال البارع وما
يبدو من عظمته وقوَّته إلا ليقع من
قلوب غُزاة الصحراء موقعًا عجيبًا، وقد رأوا ما رأوا من المدينة التي جاءوا يفتحونها.
٢٨
وكانت مسلحة المدينة عند ذلك نحوًا من خمسين ألفًا، وكانت قواتٌ وفيرة فيها؛ إذ هي
على البحر، ولم يكن فيه للمسلمين بعدُ
سفينةٌ واحدة تنقص من سلطان الإمبراطور عليه، وكانت الأسوار منيعةً تحميها الآلات القوية،
وهي الآلات التي رأيناها في زمن
«نيقتاس» تفتك بأسطول العدو في النهر وتُغرق سفنه، ولم يكن عند العرب شيء من آلات الحصار؛
إذ لم يستطيعوا نقل ما غنموه
منها قبل ذلك من الروم، ولم تكن لهم خبرة ودراية في فنون الحصار وحربه؛ وعلى هذا كان
في يد الروم من العُدة والعدد ما
يستطيعون به أن يقووا على حرب فُرسان المسلمين، وليس لهم من العدة إلا سقيمها. على أن
العرب كانوا قبل ذلك قد فتحوا الفتوح
العجيبة في مصر والشام، فلم تقِف دونهم حصونها، فكانوا كلما ذكروا ذلك امتلأ قلبهم إيمانًا
وقوة، ووثقوا من أن العاقبة
لهم، ولكن ذلك الإيمان كان بطيء الأثر؛ فإن عمرًا عندما حمل بجيشه أول مقدمة على أسوار
المدينة كانت حملته طائشةً غير
موفَّقة، فرمت مجانيق الروم من فوق الأسوار على جنده وابلًا من الحجارة العظيمة، فارتدُّوا
باعدين عن مدى رميها، ولم
يجرءوا بعد ذلك على أن يتعرَّضوا لقذائفها، وقنع المسلمون أن يجعلوا عسكرهم بعيدًا عن
منالها، وانتظروا أن يتجرَّأ عدوهم
ويحمله التهور على الخروج إليهم.
وليس في أيدينا من الأخبار الموثوق بها ما يدل على وقوع قتال من هذا القبيل؛ فليس
في ديوان «حنا النقيوسي»
٢٩ شيءٌ آخر في وصف القتال بالإسكندرية سوى ما ذكرناه من تهوُّر عمرو في حملته
الأولى، وما أصاب العرب من فعل المجانيق التي لم يُطيقوا عليه صبرًا فارتدُّوا، ولا نستطيع
أن نفهم من ذلك الإغفال إلا
أمرًا واحدًا، وهو أنه لم يكن ثَمة حصار للإسكندرية بالمعنى الصحيح؛ فقد كان البحر يحمي
المدينة من جهة الشمال، وكانت
الترعة وبحيرة مريوط تحميانها من الجنوب، وكان إلى غربها ترعة «الثعبان»، فلم يبقَ من
فرج إلا شرقها وجنوبها الشرقي، ولم
يستطع المُحاصِرون أن يقتربوا من الأسوار من ذلك الفرج، فلم يكن لهم بد من أن يقنعوا
بالوقوف والرصد، ولم يكن رصدهم تامًّا
ولا مُجزيًا؛ وعلى ذلك لم يتحقق للعرب حصار المدينة حتى من جانب البر. ومع ذلك فقد كان
لوقوف العرب بعسكرهم على كثب من
المدينة أثرٌ كبير؛ إذ كانوا هناك يُحادُّون الروم ويقطعون صلتهم بسائر البلاد. ولسنا
نعرف عين الموضع الذي كان فيه
عسكرهم؛ فإن تعيين ذلك من أشق الأمور؛ فقد قال السيوطي إنه كان «فيما بين الحلوة وقصر
فارس وما بعده». وقصر فارس كان في
الجهة الشرقية.
٣٠ ولعل الفرس قد بنَوه ليستعينوا به على الحصار؛ فإنا نعرف أن دقلديانوس لم يستطع أن يُحدِث
أثرًا في حصون
المدينة حتى بنى قلعة في شرقها،
٣١ ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يقتحم المدينة وأسوارها المنيعة التي لا تكاد تُنال إلا بجيشٍ
قوي ظل على الحصار
زمنًا طويلًا، وكان في داخل المدينة خونةٌ يُساعدونه؛ فلا بد لنا من أن نقول إن المسلمين
عجزوا عن أن يقوموا بعملٍ ما،
وقنعوا بالوقوف والمُرابطة في عسكرهم، ولم يكن عسكرهم حيث كان إلا مَرصدًا يرقبون فيه
عدوهم. ولعَمْري إننا لفي شك من أن
العرب أقاموا عسكرًا في جوار الإسكندرية، فلعلهم لم يبعدوا به عن مدينة كريون.
مضى عند ذلك أكثر شهر يونيو ولم يكن قائد العرب بالرجل الذي يُخادع نفسه عن
المدينة، ويُعلل نفسه باستطاعة فتحها عنوة؛ فقد علم حق العلم أنه لن يستطيع أخذها بالهجوم،
وإنما كان واثقًا من شيءٍ واحد،
وهو أن أصحابه إذا خرج لهم العدو وناجزهم القتال صبروا وثبتوا وغلبوه وإن كان أكثر منهم
عددًا، وعلى ذلك عوَّل على أن يخلف
في عسكره جيشًا كافيًا للرباط، وأن يسير هو مع من بقي من الناس فيضرب بهم في بلاد مصر
السفلى، قبل أن يتعذر
٣٢ على المسلمين السير بها؛ إذ كان فيض النيل يقترب أوانه. وكان الروم قد هاجروا من حول
الإسكندرية، فصارت قصورهم
البديعة ومنازلهم الجليلة فيما وراء أسوار المدينة فيئًا للعرب، فغنموا منها غنيمةً عظيمة،
وهدموا كثيرًا منها ليأخذوا
خشبها وما فيها من حديد، وأرسلوا ذلك في سفن بالنيل إلى حصن «بابليون» كي يُقيموا به
جسرًا ليعبروا عليه إلى مدينةٍ لم
يستطيعوا من قبلُ أن يعبروا إليها.
٣٣
ولم تكن السَّرية التي سار بها عمرو بن العاص في مصر السفلى سريةً كبيرة؛ فما كان
يتوقع كيدًا كبيرًا ولا قتالًا شديدًا
اللهم إلا عند البلاد المحصَّنة، ولم يكن في الوقت متسع لحصارها لو شاء، وكان عمرو إنما
يريد القفول إلى «بابليون»، ولكنه
أحبَّ أن يُعلِم أهل مصر السفلى بقربه ويُشعرهم شوكته. فسار إلى كريون، ومن ثَم إلى دمنهور،
ثم سار إلى الشرق يجوس خلال
الإقليم الذي يُعرف اليوم باسم الغربية حتى بلغ «سخا». وكان ذلك الموضع إلى شمالي المدينة
الحديثة (طنطا) على نحو اثنين
وعشرين ميلًا منها، وقد ظل إلى ما بعد ذلك الوقت بزمنٍ طويل، وهو قصبة الإقليم، وكان
موضعًا حصينًا.
٣٤ ولم يُفلِح عمرو في تحقيق ما كان يريده من النزول على تلك المدينة بغتة وأخذها على غِرة،
ورأى العرب أنفسهم
مرةً أخرى وقد عجزوا عن أخذ مدينة تُحيط بها الأسوار وتكتنفها المياه، فساروا نحو الجنوب.
ولعلهم اتبعوا «بحر النظام» حتى
بلغوا «طوخ»، وهي على نحو ستة أميال في الشمال الغربي من موضع «طنطا»، ومن «طوخ» ساروا
إلى «دمسيس»،
٣٥ وقد ارتدُّوا كذلك عن هاتين القريتين ولم يستطيعوا فتحهما، ولم يجد أهلهما مشقَّة في
صد العرب. ويرِد مع هذه
الأخبار ذكر غزوة للقرى التي على فرع النيل الشرقي، قيل إن العرب قد بلغوا فيها مدينة
دمياط. ولعل تلك الغزوة كانت على
يدَي سرية عمرو في هذا الوقت نفسه، ولم يكن من أمرها غير إحراق المَزارع وقد أوشكت أن
ينضج ثمرها، فلم تفتح شيئًا من
المدائن في مصر السفلى. ولنذكر أن العرب قضَوا في عملهم في هذا الإقليم اثنَي عشر شهرًا
٣٦ إلى ذلك الوقت. وبعد تلك الغزاة التي أوقع فيها عمرو بالبلاد وغنم منها، عاد إلى حصن
«بابليون» ومن معه دون أن
يجني كبير فائدة. وإن لنا لدلالة في غزاته تلك في مصر السفلى، وما لاقاه فيها من القتال
في مواضع كثيرة، وعجزه في جُل ما
حاوله من الفتح في بلاد الشمال القصوى؛ فإن ذلك يزيدنا برهانًا على ما تحت أيدينا من
البراهين على فساد رأيين يذهب إليهما
الناس: أولهما أن مصر أذعنت للعرب بغير أن تُقاتل أو تُدافع، وثانيهما أن المصريين رحَّبوا
بالفاتحين، ورأوا فيهم الخلاص
والنجاة مما هم فيه.