الفصل الحادي والعشرون
تسليم الإسكندرية
حدث في أثناء غياب قيرس في منفاه أن ثارت بمصر فتنة بين الناس، يتَّقد لهيبها بين
حين وحين، فثار القتال مرة بين أهل
كورة مصر وأهل الكور في الشمال، ثم عاد السلام بينهم بعد أحداثٍ كثيرة. وما كاد الأمر
يستقر حتى استعر القتال في العاصمة
ذاتها، وكان كبار الروم أحزابًا وشيعًا، تُباعد بينهم الإحن ويُغْري بينهم التحاسد، وكان
حرص كل من الحزبين الأخضر والأزرق
على القتال فيما بينهم أعظم من حرصهم على حرب العدو الرابض عند أبواب مدينتهم؛ فكان «دومنتيانوس»
الذي أسلم الفيوم
و«نقيوس» يُناصب «ميناس» العداء، ويُنافسه في التطلع إلى القيادة العامة في الجيش، وكان
«ميناس» يحقد على «أودوقيانوس» أخي
«دومنتيانوس» لِما كان منه من شنيع الأفاعيل بالقبط الذين كانوا في حصن بابليون
١ في يوم عيد الفصح المشهور. وكان «تيودور» لا يزال غاضبًا على «دومنتيانوس» لِما كان
من جبانته في الهروب من
«نقيوس» تاركًا جيشه ومُتخليًا عن واجبه. وإنه لمن العجيب أن يبقى «دومنتيانوس» في منصبه
لم يؤاخذ أو يُقتص منه بالقتل،
فليس غضب رئيسه عليه بالجزاء الوفاق على ما جناه، ولعله لم ينجُ مما كان يحق عليه من
القصاص إلا لمُحاباة الإمبراطورة له،
ولقرابته من قيرس؛ إذ كان صهرًا له بزواجه من أخته. على أن «دومنتيانوس» لم يرعَ في «قيرس»
إلًّا ولا صداقة، ولم يحفظ له
جميلًا؛ إذ كان لا يُظهر له إلا ازدراءً وحقدًا غلب عليه عقله، وكان معه الحزب الأزرق،
فاتخذ من رجاله عصبةً استعان بها في
نضاله. فلما رأى «ميناس» ذلك استعد له بمثل عُدته، فاتخذ من الحزب الأخضر له عصبة.
وفيما كان الأمر على هذا التحرُّج المُخطر، نزل إلى الإسكندرية رجلٌ اسمه «فيليادس»،
وكان حاكم الفيوم وأخًا ﻟ «جورج»،
وهو سلف «قيرس» على بطرقة المذهب الملكاني. وكان «ميناس» قد أحسن إلى «فيليادس»، ولكنه
أساء جزاءه. وكان «فيليادس» فوق هذا
مُقارفًا للخيانة؛ إذ كان يضع يده في الأموال العامة، وكان الجند يكرهونه كراهةً تعدل
حبهم ﻟ «ميناس». ولم يمضِ زمنٌ طويل
حتى اشتدَّ الأمر وتأزَّمت الأزمة؛ ففيما كان «ميناس» يومًا يُصلي بإخوانه الأقباط في
الكنيسة الكبرى كنيسة «قيصريون»، إذ
ثار أهل المدينة بفيليادس يريدون قتله، ولكنه فرَّ منهم ولجأ إلى منزل صديق له فاختبأ
فيه، فذهب الثائرون إلى بيته فنهبوه
وأحرقوه، وكانوا من الحزب الأخضر، وعند ذلك أخرج «دومنتيانوس» إليهم عصبته من الحزب الأزرق،
والْتَقت العصبتان في قتالٍ
شديد في طرق المدينة، فقُتل منهم ستة وجُرِح كثيرون، ولم يستطع «تيودور» أن يقضي على
الفتنة إلا بعد مشقة وعناء. وبعد أن
انتهى الأمر أعيد إلى «فيليادس» ما سُلب منه، وعُزل «دومنتيانوس» من مرتبته في الجيش،
ولكن يلوح لنا أنه أعيد فيما بعد إلى
ما كان عليه، وذلك بعد أن أمر «تيودور» بالعودة إلى القسطنطينية؛ فالحقيقة أن «دومنتيانوس»
كان مع عداوته لقيرس يرى رأيه
في السياسة، وكانا كلاهما سواءً في تقريب الإمبراطورة والحظوة عندها، وكان كلاهما يُشير
عليها ويُزين لها رأي الإذعان
للعرب.
ولنذكر هنا أن «حنا النقيوسي» يصف نضال الأحزاب في الإسكندرية وكأنما يُقرُّ بأنه
عاجز عن إدراك أسبابه؛ فإن سياق قوله
يدل على أن منشأ ذلك النضال كان بعضه من عداواتٍ خاصة، وبعضه كان من أثر الشيع السياسية.
على أنه يذكر بعد ذلك أن بعض
الناس يذهبون إلى أن اشتداد ذلك النضال واستعار لهبه إنما يرجع إلى اختلاف المذاهب الدينية،
ولكنه لا يُوضح الأمر ولا يجلو
الظلمة عن حقيقة ذلك النضال، فلا ندري أكان بين «المونوفيسيين» و«الملكانيين»، أم كان
بين «الملكانيين» و«المونوثيليين»،
أم بين اليهود والمسيحيين؛ فالحق أن الأمر مُشكِل لا يستبين المرء فيه وجهًا للرأي، ولكنا
إذا ذكرنا أن كثيرين من أهل مصر
السفلى والصعيد أتَوا إلى الإسكندرية لائذين، وإذا ذكرنا أن «حنا النقيوسي» يروي لنا
خبر اجتماع القبط بكنيسة «القيصريون» للصلاة،
٢ إذا ذكرنا ذلك أمكن أن نقول إن عدد القبط في الإسكندرية زاد في ذلك الوقت زيادةً كبرى،
وإنهم استطاعوا أن
يتنسَّموا شيئًا من نسيم الحرية، وأن يعود إلى نفوسهم شيء من القوة منذ غاب المقوقس عنهم
في منفاه، وارتفع عنهم عسفه
واضطهاده. فلعلهم عند ذلك شعروا من أنفسهم بالقوة فرمَوا سهمهم مع الرامين، يُناصرون
من أحبُّوا ويُحاربون من كرهوا،
ويُلقون بدَلوهم في دلاء الإسكندرية التي كانت تضطرم من عداوة الأحزاب ونضالها. وإن تعجب
فعَجبٌ أن يقرأ الإنسان نبأ نزول
المقوقس بالإسكندرية في ذلك الصباح من شهر سبتمبر، وأن أهل المدينة طرأ ملكهم الفرح،
فخرجوا «يُظهرون سرورهم ويشكرون الله
على عودة بطريق الإسكندرية».
٣ وتوافَد الناس من كل جانب يُحيِّونه ويُكرمونه من رجال ونساء كبارًا وصغارًا، فما كنت
تسمع كلمة مُخالف ولا
همسة خوف، ولكن ما كان للقبط أن يدخل إلى قلبهم فرح بمقدم «المقوقس»، بل ما كان لهم أن
يبقى أمل في قلوبهم من وراء عودته.
ولا يسعنا على هذا إلا أن نذهب إلى نتيجة من هذا القول، وذلك أن القبط ما كانوا في الإسكندرية
مهما بلغ عددهم إلا فئةً
قليلةً ضائعة بين أهلها الكثيرين لا يُحسُّ أحد بها.
أما قيرس فإنه عمد قبل أن تصحو المدينة ويذيع بين أهلها نبأ مقدمه، فذهب سرًّا مع
«تيودور» إلى دير رهبان «التبنيسي»،
ولعله كان قريبًا من الموضع الذي نزل فيه من البحر،
٤ وأمر بإقفال باب الدير، وأنفذ إلى «ميناس» يدعوه للحضور إلى الدير، فلما جاء جعله «تيودور»
قائد مسلحة
المدينة، وعزل «دومنتيانوس» عن تلك القيادة، فأسرع أهل المدينة إلى إخراجه منها. وكانت
عودة قيرس في مثل اليوم الذي أقيم
فيه الاحتفال بإعلاء الصليب، وقصد بذلك أن يُعيد إلى نفوس جند الروم ما ضاع من قوَّتها،
وبذل الجهد في الانتفاع بتلك
الذكرى ما وجد إلى ذلك سبيلًا. ولنذكر عندما بعث حنا قائد الشرطة إلى مصر وقد وجَّهه
إليها هرقل يحمل المذهب الديني الشهير
إلى «قيرس»، حمل معه إلى البطريق صليبًا من أجلِّ الصلبان شأنًا، لعله كانت فيه قطعة
من الصليب الأعظم نفسه،
٥ وقد أودع هذا الأثر الثمين في دير رهبان «تبنيسي». فلا عجب إذا حمله «قيرس» في موكبه
إلى الكنيسة العظمى كنيسة
«القيصريون» التي أقيمت فيها صلاة التحية. وقد فُرشت النمارق في طريق ذلك الموكب من الدير
إلى الكنيسة، وكانت الرايات
والألوية من الحرير تخفق فوق رأس «قيرس» إذ يسير بين عبق البخور وترتيل الأناشيد، وازدحمت
طرق المدينة العظمى بالناس على
سعتها حتى ركب بعضهم بعضًا، ولقي الحبر الأعظم مشقةً كبرى في السير في ذلك الزحام إلى
الكنيسة، ولكن الموكب سار على أي حال
سيرًا وئيدًا حتى بلغ «المسلَّتين» المصريتين القديمتين فمرَّ بينهما، ثم سار في فناءٍ
ذي أروقة إلى أن بلغ باب كنيسة
قيصريون فولجه داخلًا.
ولما أن صار في الكنيسة أقام الصلاة، وجعل عيد الصليب
٦ وإعلاءه موضوع خطبته كما ينبغي له، وكانت الكنيسة الشرقية في ذلك الوقت ولا تزال إلى
وقتنا هذا تحتفل بهما
معًا. وإنه لمعنًى جليل ذلك المعنى الذي جعله «قيرس» قطبًا لخطبته، معنًى يخلع على قائله
رونقًا إذا أعوزته الفصاحة، فما
بالك بقيرس وهو رب البيان والبلاغة؟ فجعل يُذكِّر الناس بحوادث الماضي وما فيها من عجب،
منذ قام هرقل بجهاده في سبيل
الصليب حتى ظفر به فأعاده من يد أعدائه الفُرس، ثم أقامه في بيت المقدس في ذلك اليوم
المشهود يوم النصر والفوز. ولقد كان
قيرس يرمي إلى غرض من سوق تلك القصة، فما كان ذلك القصد الذي رمى إليه؟ لقد صار بيت المقدس
في أسر المسلمين عند ذلك، وقد
صار المسلمون على أبواب الإسكندرية ذاتها، فكان الأمر على مثل ما كان عليه من البلاء
والشدة عندما كان كسرى يملك فلسطين
والشام ومصر، فهل تجرَّأ قيرس في خطبته على الإشارة إلى المَغزى الذي تُدركه الأفهام
من قصة جهاد هرقل؟ وهل أثار في قلوب
سامعيه الأمل في الخلاص والإيمان بالنصر، واستفزهم إلى جهاد عدوهم باسم الصليب؟ إنه ما
كان ليجرؤ على ذلك وقد خذل الصليب،
وعمل على أن يُذله للإسلام ويُحنيه لألويته. إنه قد يكون تحاشى الاقتراب من أمور السياسة
في خطبته، ولكن لا شك في أنه في
خطبته ذلك اليوم لم يُزِح عن قلبه ما كان يُثقله من الأسرار.
ولكن لم تنتهِ تلك الصلاة إلا على كدر ونحس؛ فإن المُصلين أقبلوا بعد الخطبة على
الصلاة، فقرأ الشمَّاس بدل ما كان يجب
عليه قراءته من الأناشيد في ذلك اليوم مزمورةً أخرى فيها إشارة لرجعة البطريق؛ يريد بذلك
أن يتملَّقه ويُهنئه. فلما سمع
الناس ذلك ضجُّوا قائلين: إنه قد خالف السنن. وتطيَّروا به على البطريق، وجاء في تلك
القصة أنهم قالوا إن البطريق لن يشهد
عيدًا للفصح بعد ذلك.
٧ ولا شك أنهم قد رأوا عليه تغيرًا واعتلالًا؛ إذ كان النفي قد أسقم جسمه، وكان السير
في الزحام ذلك اليوم قد
أتعبه، ثم أجهدته بعد ذلك الخطبة وما بذل فيها. ولا بد فوق كل ذلك أن وجهه كان ينمُّ
عما كان في قلبه من أشجانٍ تجيش به
فتُمزقه؛ فقد كان يرى الناس من حوله يثقون به ويرفعون ذكره، ويرونه نصيرًا لهم ومُعينًا
في محنتهم، وكانوا جميعًا عند ذلك
قد طهرت قلوبهم وامتلئوا إيمانًا بالصليب، حتى لَيُجاهدون في سبيله ويلقَون النصر على
وعده، ولكن فيما كانوا والآمال تطلع
عليهم وتملأ نفوسهم، كان الحبر الأعظم يُحسُّ في نفسه وكسًا ووهنًا، ويشعر في قلبه الوخز
الأليم؛ إذ كان مُقبِلًا على
خيانتهم بعد قليل، مُقدمًا على خذلان الصليب والإيقاع بدولة الروم. لقد كان في مقامه
ذلك بين شجون شديدة تنتابه، ولا غرابة
أن ينمَّ مظهره الكليل على ما كان يُثقله ويُهزهز نفسه العاتية، ولا عجب أن يرى الناس
في أمارات وجهه أمارات الموت.
قضى قيرس مدةً قصيرة بعد مَقدمه يُعالج طائفة من أمور الدين والدولة كان لا بد فيه
من الإسراع بمُعالجتها في الإسكندرية.
ويلوح لنا أن «أنستاسيوس» كان الحاكم المدني للمدينة في مدة غياب «قيرس»، ومن الجائز
أن يكون «جورج» الذي استخلفه «قيرس»
عند خروجه من مصر على ولاية الدين هو بعينه البطريق الذي كان قبله.
٨ وكان «جورج» عند ذلك شيخًا كبيرًا، ولكنه كانت له في قومه عزة، وكان كل الناس يُظهرون
له الإجلال والإعظام، لا
فرق في ذلك بين حاكم المدينة ومن هم دونه، ولم تكن له يد في اضطهاد القبط. وفي الحق أن
القبط تنفَّسوا الصعداء منذ رحل
عنهم قيرس، ومنذ انقطعت الصلة بين سلطان الروم وبين قطع كبيرة من بلاد مصر، ولكن «قيرس»
لم ينسَ بعد عودته ما كان في قلبه
من الحفيظة على ديانة القبط، فكان يرضى بالإذعان للعدو وإسلام البلاد له ومصالحة من لا
يؤمنون بدين المسيح، ولكنه ما كان
ليرضى بأن يُسالم القبط أو يعفو عنهم؛ فاستلَّ سيفه مرةً أخرى، ولم يلِن قلبه لِما حل
به من مصائب الدهر ونوازله، بل عاد
إلى عسفه بالقبط وظلمه لهم بقلبٍ لا رحمة فيه، وجعل يوقع بمن كان منهم في منال
٩ يده.
وإنه لمن العجيب أن يرى المقوقس جدوى في العودة إلى اضطهاده وعسفه؛ فلعله كان
يتستر وراء ذلك ليُداري عن أهل الإسكندرية حقيقة أغراضه، وهي إسلام بلاد مصر جميعها للعرب.
ولا شك في أنه كان في ذلك يُنفذ
أمرًا من مليكه، ولكن أي أمر! لقد كان أمرًا غصبه من مليكٍ لا حول له ولا طَول، وتوصَّل
إليه بالخداع والدناءة، حتى إنه لم
يستطع أن يُظهره لكبار قادة الدولة في الإسكندرية، ولا أن يُعلنه للناس. فخرج وحده ذاهبًا
إلى حصن «بابليون»، أو لعله قد
استصحب جماعة من قسوسه كانوا على علم بسرِّه. وكان النيل عند ذلك مرةً أخرى في أوان فيضه،
١٠ وذلك في أواخر شهر أكتوبر بعد نحو عام من صلح بابليون الذي لم يتم؛ إذ مزَّقه الإمبراطور
الشيخ «هرقل» في غضب
وحنق، وكان عمرو بن العاص عند ذلك قد عاد منذ قليل إلى «بابليون». ولا ندري فيمَ قضى
الوقت إلى ذلك الحين، أقضاه في قتال
بلاد مصر السفلى قتالًا لم يخرج منه بطائل، أم قضاه في غزو بلاد الصعيد يقود سَرية إليها
بنفسه؟
١١ وليس أمر السرية ذاتها بموضع للشك؛ فقد خرجت كتيبةٌ صغيرة من المسلمين إلى الصعيد حتى
بلغت مدينة «أنطنويه»،
المعروفة الآن باسم «أنصنا»، وكانت إذ ذاك عاصمة إقليم «طيبة»، وكانت جنود الروم لا تزال
منها بقية في ذلك الإقليم. فذهب
الناس إلى حاكم الإقليم وهو «حنا»، وكلَّموه في الأمر، وطلبوا إليه أن يقفوا لقتال العرب،
ولكن «حنا» أبى كل الإباء أن يقف
للقتال، ثم استولى على الأموال العامة التي جُمعت، وحملها معه وخرج بجنوده ضاربًا في
الصحراء إلى الغرب يقصد الإسكندرية؛
إذ لم تكن به رغبةٌ أن يلقى ما لقيه جنود الفيوم. وكان يرى من نفسه العجز عن مُناجزة
المسلمين؛ وعلى ذلك لم يلقَ العرب
مشقةً كبرى في فتح بلاد الصعيد. وقال حنا النقيوسي في وصف ذلك الفتح إن المسلمين عندما
رأوا ضعف الروم وعداوة الناس
للإمبراطور «هرقل»، لِما أوقعه من الاضطهاد والعسف بأهل مصر كلها ودينهم الصحيح بتحريض
قيرس البطريق الخلقيدوني، زادت
جرأتهم واشتدَّ ساعدهم في القتال.
١٢ والحق أن القبط لم يُحبُّوا العرب، ولكنهم في الصعيد كانوا يحملون في قلوبهم أشد الضغن
على من اضطهدهم
وعذَّبهم، حتى إن أهل الفيوم بعد أن استقرَّت بهم الحال في حكم العرب على دفع الجزية،
بلغ الأمر بهم أن صاروا يقتلون من
وجدوه من جند الروم، وكان أهل البلاد التي في جنوب الفيوم أقل رغبة من هؤلاء في نصرة
الروم.
ولكن القائد العربي كان قد عاد إلى بابليون بعد أن فتح بلاد الصعيد أو على الأقل
بلاد مصر الوسطى؛ كيما يستريح بأصحابه
في أوان فيض النيل. وفيما كان هناك في ذلك الحصن وافاه «قيرس»، وقد جاءه يحمل عقد الإذعان
والتسليم، فرحَّب به عمرو وأكرم
وفادته. ولما علم منه ما جاء من أجله من أمر الصلح قال له: «لقد أحسنت في الشخوص إلينا.»
فقال البطريق له إن الناس قد
عوَّلوا على دفع الجزية كيما تقف رحا الحرب، ثم قال: «إن الله قد أعطاكم هذه الأرض، فلا
تدخلوا بعد اليوم في حرب مع الروم.»
١٣ ولعل المُفاوضة والمُشاورة قد استطالت مدة أيام كعادة أهل الشرق في مُفاوضاتهم، ثم انتهى
أمرها إلى صلحٍ
اتَّفق فيه الجانبان على شروطه جميعًا، وكُتِب بها عقد في الثامن من شهر نوفمبر من سنة
٦٤١. ولنُسمِّ هذا الصلح صلح
الإسكندرية كي نُميز بينه وبين الصلح السابق الذي عُقِد في بابليون؛ فإن هذا الصلح الجديد
إنما كان خاصًّا في معظم شروطه
بالإسكندرية وتسليمها، وقد تم به فتح العرب لبلاد مصر. واختلفت الروايات في ذكر شروط
هذا الصلح، ولكن حنا النقيوسي أورد
أكبرها، وهي:
- (١)
أن يدفع الجزيةَ كلُّ من دخل في العقد.
- (٢)
أن تُعقد هدنة لنحو أحد عشر شهرًا تنتهي في أول شهر بابه القبطي، المُوافق للثامن والعشرين
من شهر سبتمبر من
سنة ٦٤٢.
١٤
- (٣)
أن يبقى العرب في مواضعهم في مدة هذه الهدنة على أن يعتزلوا وحدهم ولا يسعَوا أي سعي
لقتال الإسكندرية، وأن
يكفَّ الروم عن القتال.
- (٤)
أن ترحل مسلحة الإسكندرية في البحر، ويحمل جنودها معهم متاعهم وأموالهم جميعها. على أن
من أراد الرحيل من
جانب البر فله أن يفعل، على أن يدفع كل شهر جزاءً معلومًا ما بقي في أرض مصر في رحلته.
- (٥)
ألا يعود جيش من الروم إلى مصر أو يسعى لردِّها.
- (٦)
أن يكفَّ المسلمون عن أخذ كنائس المسيحيين، ولا يتدخلوا في أمورهم أي تدخُّل.
- (٧)
أن يُباح لليهود الإقامة في الإسكندرية.
- (٨)
أن يبعث الروم رهائن من قِبلهم؛ مائة وخمسين من جنودهم، وخمسين من غير الجند؛ ضمانًا
لإنفاذ العقد.
ولم يُورِد المؤرخ القبطي هذه الشروط على هذا الترتيب الذي أوردناها به، فإنما قصدنا
بترتيبها هكذا أن نجعلها سهلة
المأخذ؛ ففي الشرط الأول ضمان للقبط في أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وإباحة لهم أن يتديَّنوا
كما شاءوا بحسب شعائر دينهم؛
فإن دفع الجزية والأموال جعلهم «أهل ذمة» لهم هذه الحقوق على الفاتحين، وقُدِّرت الجزية
بدينارين على كل رجل إلا على الشيخ
العاجز والولد الصغير، وقد بلغت الجزية اثني عشر ألف ألف دينار، وذلك نحو ستة آلاف ألف
من الجنيهات،
١٥ وكان على أهل مصر فوق هذه الجزية أن يدفعوا الأموال على أرضهم وعقارهم. وأما الشرط الثالث
فالأجدر بنا أن
نجعله خاصًّا بالإسكندرية؛ فإن «قيرس» وإن كان قد صالح العرب بالنيابة عن أهل البلاد
كلها، ما كان ليضمن أن ترضى بما رضيت
به كل مدينة وكل طائفة، وما كان العرب ليُمنعوا من قتال من قاتلهم من أهل البلاد، ولا
سيَّما قد وقع قتال في مدة الهدنة في
بعض المواضع التي لم ترضَ بالتسليم ففُتحت عنوة.
ويُلاحظ القارئ أن رواية «حنا النقيوسي» لا تذكر شيئًا عن موعد حلول أول قسط من الجزية،
ولا عن مواعيد ما يلي ذلك منها،
ولكنه يدل دلالةً واضحة على أن العرب طلبوا أول قسط منها عاجلًا، ويتفق معه في ذلك المؤرخ
العربي ابن خلدون إذ يذكر ذلك
ذكرًا صريحًا.
١٦
والآن قد بلغنا مَبلغًا نستطيع معه أن نُدرك ما وقع فيه مؤرخو العرب من الخلط والاختلاف
عند مُعالجتهم مسألةً يُحبون
الخوض فيها، وهي مسألة فتح مصر، وهل كان عنوة أو صلحًا. ولا بد لنا هنا من أن نذكر أمرًا
وقع بالإسكندرية فيما بعد ونُعجل
به قبل موضعه، وهو أن الروم عادوا إليها فأخذوها بعد ثلاث سنوات أو أربع من وقت مُصالحة
قيرس وتسليمه للعرب، ثم فتحها
العرب مرةً أخرى، وكان فتحها هذه المرة عنوة لا صلحًا؛ فدوننا الآن اتفاقٌ عجيب في حوادث
عدة؛ فقد أراد المقوقس أن يُسلِّم
حصن بابليون في أوان فيض النيل، وكان ذلك بعقد وعهد، فلم يرضَ به الإمبراطور وأبى الموافقة
عليه، فبقي الحصن إلى أن هاجمه
العرب، ولكن قبل أن يدخل فيه الفاتحون خرج أهل الحصن، فسلَّموا لهم ونزلوا على عقد وعهد،
ثم سلَّمت الإسكندرية كذلك في
أوان فيض النيل، وكان تسليمها صلحًا، وذلك بغير أن تجد كيدًا كبيرًا من القتال، ولكن
الروم عادوا إلى الاستيلاء عليها بعد
أن بقيت في حكم العرب مدة، ولم يخرج الروم منها إلا بعد حصار انتهى بفتحها عنوة.
فإذا نحن راجعنا هذه الحوادث العجيبة، وذكرنا أن أول من كتب تاريخ الفتح من مؤرخي
العرب كتبه بعد نحو مائتَي عام منه،
وإذا ذكرنا أنه من أشق الأشياء أن تبقى هذه الحوادث على حقيقة صورها، وهي صورٌ مُتشابهة
فيها الاتفاقات العجيبة، فتبقى مدة
قرنين لا حافظ لها إلا الرواية، وأكثرها أحاديث شفوية، إذا ذكرنا ذلك لم يكن عجبُنا من
ذلك الخلط الذي وقع في الرواية
والتشويه الذي أصابها، بل كان أعجب العجب أن نجد بقية من الحقيقة لا تزال محفوظة في نُتفٍ
كثيرة من الأخبار مهما كان
اضطرابها وانقطاع نظامها وصلتها؛ وذلك لأن عهدنا بكُتاب العرب لا يُحسنون تفهُّم التاريخ،
ولا يُدركون نظامه، ولا يعبَئون
بإحكام الصلة بين حوادثه. فنستطيع الآن أن نُدرك السبب الذي من أجله نجد بعضهم يذكر فتح
حصن بابليون صلحًا وبعضهم يذكر أن
فتحه إنما كان عنوة، وكذلك نُدرك السبب الذي من أجله نجد مثل هذا الاختلاف في فتح الإسكندرية؛
فالواقع أن كلًّا من
الروايتين صحيح من جانبٍ واحد، ولكن صحتهما لا تتم إلا بعد إضافة وتعديل.
وقد رأينا من المُستحسَن أن نفحص روايات بعض المؤرخين من العرب الذين أتَوا في أخبارهم
بشيء من التفاصيل شائقٍ لذيذ، ومن
هؤلاء «البلاذري»، وهو من مؤرخي القرن التاسع؛ فإنه يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص
أنه قال إن عمرًا اجتمع بأصحابه من
زعماء المسلمين بعد أن فتح حصن بابليون عنوة، واستشارهم فيما أراده من مصالحة المصريين،
ثم عقد معهم صلحًا على أن يفرض
دينارين على كل رجل قادر منهم، وأن يجعل على أصحاب الأرضين
١٧ ضريبةً يؤدونها عن أرضهم، واشترط عليهم فوق ذلك أن يأتوا لكل رجل من المسلمين بكسوةٍ
كاملة كل عام، وطلب إليه
الحاكم «المقوقس» أن يدخل في ذلك العهد كل بلاد مصر، ولكن أبيح لمن شاء من الروم أن يخرج
من البلاد. ويقول البلاذري، وهو
مُخطئ في قوله، إن هذا الصلح قد نقضه الإمبراطور؛ فإنه من الواضح أن الصلح الذي يذكره
هو صلح الإسكندرية. ونجد هذا المؤرخ
في موضعٍ آخر يدل على أن مصر إنما فُتحت عنوة؛ فيروي أن عمرو بن العاص خطب مرة على المنبر
فقال: «لقد جلست مجلسي هذا في
هذا البلد وليس لأحد فيه عليَّ عهد ولا عقد، إن شئت قتلت وإن شئت سبيت.» وهذه الرواية
إذا صحَّت كانت دليلًا على أن القبط
لم يكن لهم من الأمر شيء، وأن العقد إنما كان بين العرب والروم. ولقد كان هذا صحيحًا؛
فإن العقد كان بين الروم والعرب، على
أن القبط كانوا داخلين فيه. وقد ذهب «البلاذري» إلى هذا الرأي، وجعل يُدلل عليه؛ فإنه
يذكر أن معاوية كتب إلى وردان يأمره
بزيادة الجزية على القبط، فأجابه وردان أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لأن فيه نقضًا للعهد
الذي لهم. وكذلك يذكر رواية عن أحد
ولد الزبير أنه قال: «لقد أقمت في مصر سبع سنوات، وتزوَّجت فيها، وكان الناس فيها يُفرض
عليهم من الأموال ما لا طاقة لهم
به، فآذاهم ذلك، مع أن عمرو بن العاص كان قد عقد لهم عهدًا جعل لهم فيه شروطًا معلومة.»
ويقول البلاذري بعد ذلك إن في
الأخبار سوى ذلك ما يدل على أنه كان بين العرب والمصريين عهد، ولكنه مع ذلك لم يقدر على
أن يمحو من ذهنه أن الإسكندرية لم
تُفتح عنوة، مع إقراره «بأن عمرو بن العاص لم يقتل أهلها ولم يسبِهم، بل جعلهم أهل ذمة»،
والفتح عنوةً لا يتفق بحال مع جعل
أهل المدينة أهل ذمة؛ فإقرار البلاذري بأن أهل الإسكندرية كانوا أهل ذمة دليل على أنه
عندما ذكر فتح الإسكندرية وقال إنه
كان عنوة إنما كان يقصد الفتح الثاني.
وقد جاء في كتاب الطبري ذكر شروط ذلك الصلح، وهو يُسميه صلح عين شمس بدل أن يُسميه
صلح الإسكندرية، وذلك خلطٌ عجيب منه،
١٨ وإليك نصَّها كما جاءت فيه: «هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم
وملتهم وأموالهم
وكنائسهم وصُلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا تُساكنهم النوبة،
وعلى أهل مصر أن يُعطوا الجزية
إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم، خمسين ألف ألف.
١٩ وعليهم ما جنى لصوتهم (لصوصهم)؛ فإن أبى أحد منهم أن يُجيب رُفع عنهم من الجزية بقدرهم
وذمتنا ممن أبى بريئة،
وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رُفع عنهم بقدر ذلك. ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة
فله مثل ما لهم وعليه مثل ما
عليهم، ومن أبى منهم واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا. عليهم
ما عليهم أثلاثًا في كل ثلث جبايةُ
ثلث ما عليهم.
٢٠ على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين.
وعلى النوبة الذين
استجابوا أن يُعينوا بكذا وكذا رأسًا وكذا وكذا فرسًا على ألا يُغزوا ولا يُمنعوا من
تجارةٍ صادرة ولا واردة.» وشهد عليه
الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر.
٢١
وهذا النص للصلح ليس فيه خلاف عما جاء في كتاب «حنا النقيوسي»، وإن كان كلا النصَّين
لا يشمل كل ما جاء في النص الآخر؛
فالحق أن كلًّا من النصَّين يُكمل الآخر. وقد جاء في كتاب ياقوت عن ابن عبد الحكم أن
مصر فُتحت كلها صلحًا، وفُرضت الجزية
دينارين على كل رجل من أهل مصر على ألا تُزاد، ثم جُعلت على أصحاب الأرض ضريبةٌ يؤدونها
خراجًا من ثمار أرضهم، وفُرضت على
أهل الإسكندرية جزية وضريبة على عقارهم. وأما مقدار تلك الجزية وتلك الضريبة فقد جُعل
أمره في يد الحاكم؛ لأن مدينتهم
فُتحت عنوة بلا عقد ولا عهد. ولا شك أن في هذا القول خلطًا بين الفتح الثاني للمدينة
الذي كان عنوة والفتح الأول الذي كان
صلحًا، وخير ما قيل في هذا الشأن ما جاء في كتاب المقريزي؛ فإنه أثبت الآراء المختلفة
وأوضحها إيضاحًا عظيمًا، وأسند كل
رأي إلى صاحبه،
٢٢ وأقوى الأدلة في كل ذلك هي ما دلَّت على أن الفتح كان صلحًا. وإن خير ما نُلخص به الأمر
كله أن نُورِد ما قاله
شيخ من القدماء؛ إذ سمع رجلًا يقول إنه لم يكن لأهل مصر عهد، فأجاب: «ما يُبالي ألا يُصلي
من قال إنه ليس لهم عهد.»
٢٣