الفصل الثاني والعشرون
فتح بلاد الساحل
لما انتهى أمر الصلح أوفد عمرو بن العاص معاوية بن حُديج الكندي، وأمره أن يحمل أنباء
ما حدث إلى عمر بن الخطاب،
١ فطلب معاوية منه أن يكتب معه كتابًا، فقال له عمرو: «ماذا عساني أفعل بالكتاب؟ ألست
امرأً عربيًّا تقدر على
وصف أمر شهدته؟» فسار معاوية في رحلته الطويلة في الصحراء حتى بلغ المدينة، ووافق مَقدمه
وقت الظهر، فأناخ راحلته عند باب
المسجد ودخل. وفيما هو هناك خرجت جارية من بيت عمر، فلما رأت رجلًا غريبًا عليه وعث السفر
سألته عن اسمه فقاله لها، ثم قال
إنه جاء يحمل رسالة من عمرو بن العاص، فعادت الجارية إلى الدار، فما لبثت أن جاءت إليه
مُسرعة حتى سمع معاوية خفْقَ نقابها
على أقدامها إذ تجري إليه، ثم أمرته أن يتبعها إلى البيت. فلما جاءه سأله عمر عن الأنباء،
فقال له: «خير يا أمير المؤمنين،
فتح الله علينا الإسكندرية.» فقام معه عمر حتى عاد إلى المسجد وأذَّن المؤذن للصلاة،
فأقام عمر صلاة الشكر لله على ما
أولى، ولما عاد مع معاوية إلى داره صلَّى مرةً أخرى ثم طلب الطعام، فقُدِّم له خبز وزيت
يؤتدم به، فوضع ذلك أمام الضيف،
فأصاب منه شيئًا خفيفًا على استحياء، ثم أتى بتمر فوضع له، وكان هذا أكبر ما عند الخليفة
من لذائذ الطعام وأطايبه، ثم
اعتذر معاوية بأنه لم يُبادر إلى حمل نبأ الفتح لأنه ظن عمر نائمًا وقت القيلولة، فقال
له عمر: بئس ما قلت، وبئس ما ظننت!
٢ لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين؟
وهكذا أُرسلَ نبأ الفتح إلى المدينة، وهكذا تلقَّاه الخليفة فيها بغير زينة ولا ضجة،
وما كان أعظم الفرق بين هذا وبين ما
حدث في الإسكندرية عندما أتاها ذلك النبأ.
أُمضيَ عهد الصلح في «بابليون» في يوم الخميس الثامن من شهر نوفمبر من سنة ٦٤١،
٣ وكان لا بد له من إقرار إمبراطور الروم، كما كان لا بد له من إقرار خليفة المسلمين عمر،
وكان في مدة الهدنة،
وهي أحد عشر شهرًا، متَّسَع يكفي لذلك وما يلزم له من الرسوم، ثم عاد قيرس مُسرعًا إلى
الإسكندرية يحمل معه كتاب
الصلح.
وكان أول ما عُني به أن يُرسل شروط الصلح إلى «تيودور» وهو القائد الأعلى، ثم إلى
قسطنطين وهو قائد الحرس. ومن أعجب
الأمور أن «تيودور» لم تكن له يد في مفاوضة الصلح، ولم يحضر كتابته في «بابليون»، مع
أنه كان حاكم المدينة من قِبل
الإمبراطور. والحقيقة أن كل ما يمسُّ «تيودور» مُحير مُدهش، فلسنا ندري من أمره شيئًا،
حتى لنجهل هل كان قد علم بعزم
«قيرس» على تسليم المدينة للعرب قبل أن يُنفذه، فإذا كان قد علم بذلك فلا بد أنه قد غيَّر
رأيه وأصبح من أشياع الصلح مع
العرب، وأما إذا كان غير عالم بذلك فمن أعجب الأمور أن يُسارع إلى الموافقة على أمر لا
يمكن أن نصِفه إلا بأنه كان تسليمًا
شائنًا.
وكانت أنباء ذلك الصلح الذي عُقِد في طيِّ الخفاء تتردد بين رؤساء موظفي الحكومة وبين
زعماء الناس في العاصمة، يتناقلها
بعضهم عن بعض همسًا ووسوسة، يُفضي بها الرجل إلى من يأمنه ويطمئن إليه، وأما العامة فإنهم
ظلُّوا في جهالة لا يعلمون من
أمره شيئًا، وأُرسلت الرسائل إلى الإمبراطور هرقلوناس تُفضي إليه بشروط الصلح، وطُلب
إليه أن يُقرَّها. والظاهر أن
القائدين كانا كلاهما يُعززان ذلك الصلح ويُوافقان على طلب إقراره، وإن في تعزيزهما له
وموافقتهما عليه لحجةً يمكن
الاستناد عليها في تبرير ما أتاه قيرس ورفع الوزر عنه بعض الشيء. على أنه من المعلوم
ما كان عليه «تيودور» من العجز في
قيادة الحروب وضعف الرأي فيها، فموافقته على الصلح على ذلك لا قيمة لها، وحكمه في أمر
الحرب مُدافع لا يُعتمد عليه. ومهما
يكن من الأمر فإن «قيرس» عندما أحسَّ بأنه مهَّد السبيل إلى إعلان الأمر في الإسكندرية،
دعا كبار قُواد الجيش وعظماء رجال
الدولة، ولما انعقد عقدهم جاءوا وعليهم «تيودور» و«قسطنطين»، حتى إذا مثلوا بين يدَي
البطريق «قيرس» أظهروا له الولاء
وأعلنوا له الطاعة. ولنا أن نُصوره لأنفسنا، وقد جلس في أبَّهته واتخذ زينته، وجعل يُبين
لهم ما تضمَّنه الصلح من شروط بما
أوتي من فصاحة وبراعة، ويُسهب في ذكر الضرورة التي استوجبت عقده وما فيه من مزايا، فما
زال حتى فاز بما أراد من حمل سامعيه
على الإيمان بقوله، ولكنه كان فوزًا ما أشأمه.
وبهذا خطا «قيرس» خطوةً جديدة في سبيل إنفاذ خطته في الإيقاع بمصر. على أنه ما كان
ليستطيع أن يُبقي خطته في ستر الخفاء
بعد ذلك طويلًا، فعلم الناس بما كان، ولكن علمهم لم يأتِ عن قالةٍ قالها «قيرس»، ولا
إشاعة تردَّدت وذاعت بينهم، بل علموا
بالأمر بغتة وقد فجأهم طلوع فئة من العرب على المدينة، فنُفخت الأبواق إيذانًا بمقدمهم،
وأسرع الناس من كل جهة ليقِفوا في
أماكن الدفاع من الأسوار والحصون، ولكن العرب ساروا على خيلهم لا يلوون على شيء ولا يعبئون
بالضجة، وجاء قُواد الروم عند
ذلك بعد أن كانوا قد قضَوا على حماسة الجنود وإقدامهم، فجعلوا يُهدئون من رَوع الناس،
ويُنادون فيهم أن لا جدوى في القتال
ولا أمل من ورائه. وقبل أن يقترب العرب حتى يصيروا على مدى رمي المجانيق، أبصرهم الناس
وهم يحملون أعلام الهدنة والسلام،
فأشير إليهم بعلامة الرد فاقتربوا، حتى إذا ما صاروا بحيث يسمعون ويُسمع منهم أفضَوا
إلى جنود الروم بما كان. وما كان
أشدَّ عجبهم ودهشتهم مما علموا؛ إذ عرفوا عند ذلك أن العدو لم يأتِ ليُقاتلهم، بل أتى
ليحمل الجزية التي اتفق عليها مع
«قيرس» المقوقس في عقد الصلح الذي طلبه من العرب وكتبه معهم على تسليم المدينة، فهاج
الناس وثار ثائرهم لما سمعوا، وذهبوا
غير مُصدقين حتى أتَوا قصر البطريق، فاطَّلع عليهم منه بعد لأي، وكان الخطر في تلك اللحظة
مُحدقًا بحياته؛ إذ تهافت الناس
إليه يريدون أن يحصبوه.
غير أن كِبَر سنه وعلو مكانته خذلا الناس عنه وحمياه من الخطر، فأشار إلى الناس إشارة
فهدءوا، ثم استطاع الكلام، واستعان
بما أوتي من بلاغة وفصاحة على تخفيف جنايته وتهوين خيانته في مقالته التي قالها بين الناس،
وجعل يُبرر ما كان منه قائلًا
إنه إنما اضطرَّ إلى ركوب الصعب اضطرارًا إذ لم يكن بد منه، وما قصد إلا مصلحة قومه وفائدة
أبنائهم؛ فإن العرب قوم لا يقوم
لهم شيء إلا غلبوه. وقد أراد الله أن يملكوا أرض مصر، فما كان للروم إلا أن يُصالحوهم؛
فإنهم إن لم يفعلوا جرت الدماء في
طرق مدينتهم، ونُهبت أموالهم وقُتلوا، ومن بقي منهم حيًّا خسر ما كان يملك وضاع أمره،
ولكن الصلح حقن دماءهم، وأمَّنهم على
أنفسهم وأموالهم وديانتهم، ومن أراد أن يعيش في أرضٍ مسيحية كان له الخيار في ترك الإسكندرية.
وما كان أمر الخيار بين
الهجرة من مصر وبين الإذعان للمسلمين بالأمر الهيِّن؛ فلم يتمالك البطريق معه، بل بكى
وهو يطلب من الناس أن يُصدقوا أنه
إنما بذل جهده في أمرهم، وأن عليهم أن يرضَوا بالصلح الذي عقده من أجلهم يقصد به صلاح
حالهم.
بهذا استطاع «قيرس» مرةً أخرى أن يفوز برأيه المشئوم، فإذا بالناس وقد عادوا إلى
رأي الجيش، ورضوا بالتسليم والنزول عن
مدينتهم العظيمة للعرب على شرط العقد الذي تم. وجعل الثائرون يتلاومون على ما اقترفوا
من الوثوب والحنق على ذلك الحبر
الطاهر، في حين كان يسعى جُهد طاقته ليحُول بينهم وبين الهلاك على يد الغزاة، وأخذوا
يجمعون قسط الجزية التي فُرضت عليهم
وزادوا عليها مقدارًا كبيرًا من الذهب، ووُضع ذلك المال في سفينةٍ خرجت من الباب الجنوبي
الذي تدخل منه الترعة، وذهب به
قيرس بنفسه ليحمله إلى قائد المسلمين.
٤
وبذلك تم فتح الإسكندرية، وإذا حسبنا تاريخ ذلك وجدنا أن أداء ذلك القسط الأول من
الجزية قد يكون في أول المحرم من سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وذلك هو اليوم العاشر من
ديسمبر من عام ٦٤١، وليس في مصادر
التاريخ ما يُثبت ذلك التاريخ وينصُّ عليه صراحةً، ولكن الرواية التي تناقلها العرب تجعل
فتح المدينة في ذلك اليوم، ولعل
منشأ تلك الرواية كان عمن حضر ذلك اليوم وشهد إذعان أهل الإسكندرية بحملهم أول قسط من
جزيتهم، ومع ذلك فإن مؤرخي العرب
يجعلون أول المحرم في يوم الجمعة، مع أن أول المحرم لم يقع في يوم جمعة في ذلك العام
ولا في عامٍ قريب منه إلا في عام ٦٤٥؛
وعلى ذلك يكون لنا أن نقول إن الرواية لا يمكن أن تكون صحيحة في كل أجزائها، بل لقد تكون
كلها غير صحيحة، ولكنا نتردد في
الأمر، ونحمل أنفسنا على القول إنها لا بد أن يكون لها أساس من الحقيقة؛ لأنها رواية
من أثبت الروايات في أخبار الفتح العربي.
٥ وعلى أي حال فإنه من المُفيد أن نُوجه الأنظار إلى اتفاقٍ عجيبٍ آخر يلوح من خلال ما
اختلط من تواريخ ذلك
العصر، ولعله يُفيدنا في بيان أسباب ذلك الخلط بعض التبيين؛ وذلك أن بعض مؤرخي العرب
يُقرر أن فتح الإسكندرية لم يقع إلا
بعد ثلاث سنين من دخول جيش عمرو في مصر، في حين أن طائفةً سواهم تقول إن فتح حصن بابليون
وفتح الإسكندرية وقعا كلاهما في
عامٍ واحد، وهو العام العشرون من الهجرة. ومع ما يظهر من الخلاف بين الطائفتين نقول إن
كليهما على الحق؛ فقد سلَّم حصن
بابليون في شهر أبريل من عام ٦٤١، وسلَّمت الإسكندرية في شهر نوفمبر من ذلك العام، وكلا
التاريخين واقع في سنة عشرين. ومن
جهةٍ أخرى قد دخل عمرو في أرض مصر في عام ٦٣٩ من الهجرة، ولكن جيشه لم يدخل الإسكندرية
إلا بعد ثلاث سنوات من ذلك؛ أي في
شهر أكتوبر من عام ٦٤٢ عندما انقضت مدة الهدنة وهي أحد عشر شهرًا. وإنه لمِمَّا يسرُّ
النفسَ أن تفوز بكشف الحقيقة من وراء
هذا الغطاء من خلافٍ يخمرها.
وماذا عسانا نقول في هذا الصلح العجيب؟ فليس في طاقتنا أن نملك أنفسنا ونلزم القصد
في القول إذا ما أردنا أن نصِف فعلة المقوقس، وما أتاه ذلك البطريق من المكر السيئ، وما
كان له من الصلة الغريبة بقائد
للعرب، وحرصه المُدهش في كل وقت من أوقات القتال مع المسلمين على أن يُسرع بالإذعان والتسليم
لهم؛ فليس مرُّ الأيام
بمُستطيعٍ أن يمحو عن ذكره وصمة جنايته في خيانة دولة الروم، والقصد إلى تضييع أمرها
بعد أن لطَّخته من قبلُ جريرة حمقه
وقسوته في اضطهاد القبط مدة أعوام عشرة. فالحق أنه لو كان منذ ولي أمر الدين قد قصر همَّه
على هدم سلطان الروم وتضييع
أمرهم في مصر لمَا سار إلا على سيرته تلك، ولما سلك إلا السبيل الذي سلكه. وإنه ليملؤنا
العَجب إذ نراه يُسارع تلك
المُسارعة إلى اغتنام فرصة الخيانة والإيقاع بمصر، وهي فرصةٌ ما سنحت له إلا من جرائر
أفعاله، وما تهيَّأت إلا من عاقبة
سوء حكمه. ولا يُخفف من جُرمه أن يقول قائل إنه كان يأتمر بأمر مولاه الإمبراطور هرقلوناس
وقد خوَّل له أن يعقد ذلك الصلح؛
فلقد كان من أهون الأشياء على مثل قيرس أن يحمل مثل هذا الملك على رأيه، وهو ملكٌ مُستضعَف
لا علم له بأحوال مصر، تسير به
مشيئة أمه أنَّى شاءت.
ولم يكن صلح الإسكندرية أول العهد بخيانته، بل لنا بها عهد منذ أشهر في حصن «بابليون»،
وحسبُنا بما كان منه في أمر هذا
الحصن ردًّا على من يريد الدفاع عنه بأنه إنما نزل على حكم الضرورة في الحرب؛ فإذا كان
العرب عند طلوعهم على الإسكندرية قد
بسطوا سلطانهم على أكثر بلاد مصر، فإن الأمر لم يكن كذلك وهم واقفون حول حصن «بابليون»
في الوقت الذي أراد فيه أن يعقد
معهم صلحه الذي أنكره الإمبراطور. وبعد فلم تكن الإسكندرية قد نزل بها من حرب العرب ضيق،
وكانت بلاد الساحل جميعها لا تزال
بمنجاة عنهم. وقد حاول جيش المسلمين أن يصدم تلك العاصمة في أول الأمر فارتدَّ عنها عاجزًا
مخذولًا، وقد ذكرنا من قبلُ أنه
ليس في الأخبار ما يحملنا على الظن أن ذلك الجيش قد أقام عسكره على مَقربة منها، ويدلنا
على ذلك دليلان: أولهما إغفال
ديوان حنا لذكر عسكر لهم هناك، وثانيهما قوله إن أهل المدينة عندما رأوا الفئة من المسلمين
التي أتت لتحمل الجزية انزعجوا
وثاروا، ولو كان المسلمون على مقربة بحيث يراهم أهل الإسكندرية من فوق أسوار مدينتهم
كل يوم مدة شهور، كما يقول مؤرخو
العرب، لمَا حدث مثل ذلك الانزعاج عند اقترابهم. فالحق أن مؤرخي العرب يخلطون في هذا
الأمر بين تسليم الإسكندرية الأول
وفتحها عنوة في المرة الثانية؛ إذ إنهم في المرة الثانية حاصروا المدينة حصارًا صحيحًا
نوعًا ما، وأما تسليمها الأول فلم
تكن ثَمة ضرورة من ضرورات الحرب تدعو إليه.
٦
وإنا نُعيد هنا ما سبق لنا قوله إن الإسكندرية كانت من المنعة بحيث لا تكاد تنالها
قوة عمرو ومن جاء معه من الجنود، فكان
دور أسوارها نحو تسعة أميال أو عشرة، ثلاثة منها مما يلي البحر، وأكثرها ما بقي منها
تحميه الغِياض والبحيرات والترعة. وإذ
كان العدوُّ لا يستطيع أن يقترب إلا من جزءٍ يسير من تلك الأسوار، فقد كان من السهل على
جند المدينة أن تجعل همَّها دفع
حملاته على هذا الجزء. وإن العرب لو استطاعوا إسكات ما على الأسوار من المجانيق القوية
المريعة، وقدروا على الاقتراب منها؛
لمَا أمكنهم أن يصدعوا الأسوار بما لديهم من الوسائل وما كان أقلَّها وأضعفها. وإنا لا
نكاد نعرف في تاريخ الإسكندرية أنها
أُخذت مرةً عنوةً بغير أن يكون أخذها بخيانة من داخلها.
فمن ذلك نرى أن ذلك الصلح الذي عقده قيرس لم تكن ثَمة من ضرورة في الحرب تدعو إليه،
ما دامت أساطيل الروم تُسيطر على
البحر، والعرب بعدُ أبعد الناس عنه لا يمرُّ بخاطرهم أن يتخذوا فيه قوة. قد يقول قائل
إن فتح بابليون قد أوهن الروم، وإن
جنودهم امتلئوا هيبة من العرب؛ إذ رأوا أنهم لم يصبروا على لقائهم في موطن من المواطن
منذ ابتدأت الحرب، وإن الجيش
الروماني كان لا يثق في قُواده، ولا يرى منهم إلا الجبانة والعجز. وهذا كله صحيح لا شك
فيه، ولكن كان في الاستطاعة تغيير
الحال، بأن تُرسَل جنودٌ غير تلك الجنود وقُوادٌ غير أولئك القواد، لا تزال في جَنانها
شدة وفي قلوبها قوة، غير أن ذلك لم
يسعَ إليه أحد؛ فإن الدولة منذ مات عنها هرقل لم تجد حاكمًا يلمُّ شعثها، ويُصرِّف أمورها،
ويحملها على سبيلها. وكان أهل
الإسكندرية شيعًا وطوائف، تقطع ما بينهم الأحقاد والأطماع، فما كانت تخلو من هيعة أو
وثبة. وجاء بعد ذلك موت هرقل، فزاد
الحال سوءًا؛ إذ شطر حكومة قلب الدولة شطرين ليس بينهما إلا الشحناء والعداوة؛ فالحق
أن موته «كسر شوكة الروم» كما قال
المؤرخ العربي، ولكنه كسرها كسرًا أبلغ مما قصده ذلك المؤرخ؛ فإن الدولة أغفلت بعده همَّها
الأكبر، وهو الدفاع عن حياتها،
فشغلتها دسائس «مرتينه» ومكائد «فلنتين»، فتركت مصر تجري في قضائها، وكانت الإسكندرية
إذ ذاك قطب الحوادث يدور عليها أمر
مصر ومصيرها، فلم تجد في الدولة من يأخذ بيدها، ولو وجدت نصيرًا يمدُّها لنجت من عدوها،
ولناجزته بعد ذلك على سواء حتى
تُخرجه من أرض مصر.
لسنا نُنكر أن الروم عند فتح الإسكندرية لم يكن لهم أمل في أن يُهاجموا العرب
ويُخرجوهم من البلاد، ولكن الإسكندرية كانت تُطيق الصبر على الحصار مدة سنتين أو ثلاث
ريثما يلي الأمرَ حاكمٌ صلب القناة.
فإذا ما كان ذلك لم يكن بالمُستبعَد أن تعود مصر إلى الروم، ولا يمنع من ذلك ما كان من
أثر الماضي وجرائره التي أدَّت إلى
تمكُّن العرب في البلاد تمكنًا تصعب زلزلته؛ فالأمر لم يكن بعد قد أفلت من يد الروم إلى
حيث لا يرجع إليهم. وقد كان قيرس
صاحب الجريرة في ضياع مصر، لا يُجديه دفاعه واعتذاره بأن الجيش كان خائر النفس، وأن الناس
كانوا شيعًا وفِرقًا لا تجتمع
لهم كلمة، فما كان ينبغي النزول عن الإسكندرية، بل كان أوجب الأمور الاحتفاظ بها مهما
كان في سبيل ذلك من مشقة، ولكن قيرس
أسلمها للعدو خُفية وعفوًا بغير أن تدعوه إلى ذلك ضرورة.
ولا نزال نُسائل النفس عن السبب الذي حمل أهل الإسكندرية على قبول ذلك الصلح، والمُبادرة
إلى الرضا عن قيرس بعد أن كانوا
قد وثبوا به وأرادوا أن يحصبوه لما رأوا من خيانته؛ فقد كانوا معروفين بالنزق والتقلب
في الأحوال، ولكنهم لم يكونوا صادرين
عن نزق في انصرافهم عن دولتهم وصدوفهم عنها ورضائهم بالإذعان لحكم الإسلام. وليس ثَمة
إلا رأيٌ واحد فوق ما سبق لنا ذكره
نُفسر به ما كان منهم، وذلك أنهم كانوا قد سئموا من كثرة ما أصابهم من الحدثان، وكرهوا
فساد الحكم الذي أثقل كواهلهم مدة
أربعين عامًا، وقالوا في أنفسهم لعلنا نجد في حكم المسلمين قرارًا واطمئنانًا نأمن فيه
على ديننا فلا نُكرَه على شيء فيه،
وعلى أموالنا فلا نتحمل من الخراج والجزية إلا قدرًا نُطيقه. ولعل أكبر ما حملهم على
الرضا بحكم العرب رفع ما كان يبهظهم
من الضرائب؛ فقد كان الروم يجبون من مصر أموالًا يتعذر علينا أن نعرف مقدارها، ولكنها
كانت بلا شكٍّ كثيرة الأنواع ثقيلة
الوطأة شديدة الأذى؛ فأحل العرب محلها الجزية وخراج الأرض. ومهما يكن من مقدارها فقد
كانت لها فضيلة البساطة، وكانت ثابتة
المقدار محدودة القصد، وكانت أقل في جملتها مما كان يجبيه الروم، أو لقد خُيِّل إلى الناس
أنها كذلك. ومنذ كان شعور
المصريين الوطني ضئيلًا كان تأثرهم بما يمسُّ أموالهم شديدًا. ولعل ما كان الناس يتوقعونه
من العرب من تخفيف حمل الضرائب
كان من أكبر العوامل على فوز المسلمين في فتوحهم جميعها، وأما في الإسكندرية فلعل هذا
الأمر كان أعظم الأمور أثرًا.
٧ على أن ما طمع فيه أهل الإسكندرية من تخفيف هذه الأحمال لم يتحقق لهم، بل خاب أملهم
خيبةً ما كان
أمرَّها.
أقرَّ الإمبراطور عهد الصلح. ولعل ذلك كان آخر ما أتاه في حكمه؛ إذ انتهى في ذلك
الشهر عينه وهو نوفمبر. ويلوح لنا أن عمرو بن العاص كتب شروط ذلك الصلح وأفضى بها إلى
أهل مصر، وكانت تلك الشروط تعِدهم
بالأمن على أنفسهم وأموالهم وذمتهم وكنائسهم وصُلبهم، وبحمايتهم من أهل النوبة وسواهم
من أعدائهم متى دفعوا الجزية.
٨ ولكن المقاومة لم يخبُ لهبها، ولم يخذلها ما كان من تسليم الإسكندرية العظمى، ولا ما
وعد به عمرو من الشروط
الحسنة؛ فقد بقيت بعض البلاد في شمال مصر السفلى ترفع لواء الروم ولا ترضى بالتخلي عنه،
مع أن فتح الإسكندرية كان قد قضى
على الأمل كله في دولة الروم، وأصبح بعدها من أشد الحماقة أن تُصرَّ طائفة على القتال
وتأبى الدخول فيما دخل فيه سائر
الناس من العهد؛ فكان لا بد للعرب من فتح تلك البلاد حتى يتم لهم الأمر، وكان عمرو قد
فرغ مما يشغله، ويستطيع السير إليها
في أي وقت شاء.
وكان عمرو في هذه الأثناء مُنصرفًا إلى عملٍ آخر في بابليون؛ إذ عزم على أن يبني
للمسلمين مدينةً جديدة في السهل الذي
يلي الحصن الروماني، بينه وبين جبل المقطم، وكان موضع عسكره. وقد روى البلاذري أن الزبير
هو الذي اختطَّ المدينة واتَّخذ
فيها لنفسه دارًا، وجعل فيها السُّلم الذي صعد عليه إلى سور الحصن، وبقي فيها ذلك السُّلم
حتى احترق في حريق. وأما ياقوت
فإنه يذكر أربعة نفر أمرهم عمرو أن يقوموا على اختطاط المدينة وتقسيمها
٩ بين أحياء العرب وقبائلهم. ومهما يكن من الأمر فلا شك في أن الذين اختطوا المدينة الجديدة
وبنَوها كانوا من
القبط؛ إذ لم يكن عند ذلك في العرب من له علم بذلك الفن ولا دراية به. ومن الجلي أن اسم
الفسطاط الذي سُميت به المدينة
اسمٌ أعجمي، وقد اختلف فيه مؤرخو العرب؛ فهم يقولون إجمالًا إن معناه «الخيمة»
١٠ تُتخذ من الأدم أو من الجلد، وكان عمرو يتخذ لنفسه خيمة منها، أو يقولون إن معناها الموضع
حيث يجتمع الناس،
وجاء في روايةٍ أن كل مدينة فسطاط، وقد أورد ياقوت ستة أوزان لذلك اللفظ.
١١ ويمكننا أن نقول إن علاقة ذلك الاسم بسرادق عمرو وبقصة اليمامة فيها شيء من الصحة؛ فإن
لفظ «فساط» يرجع بنا
إلى اللفظ
البيزنطي،
(٢٨⋆)
وهو اللفظ الروماني
Fossatum، وكان في وقت الفتح لفظًا شائعًا على العسكر، وكان الرومانيون
في حصن بابليون بلا مراء إذا ذكروا موضع عسكر العرب سمَّوه
«الفساطون»،
(٢٩⋆)
فأخذ عنهم العرب ذلك اللفظ. وإنه لمن أعجب الأمور أن يظهر ذلك الرأي للناس كأنه جديدٌ
مُستغرَب.
١٢
وإنه لمن البعيد أن تكون مدينة الفسطاط قد جُعلت عند اختطاطها مدينةً عظيمة، أو أنه
كان يقصد منها أن تكون عاصمة للمسلمين؛
١٣ فقد كان انحصار الجنود في الحصن مما أفسد حالهم ونغَّص عليهم عيشهم، وما كان من العدل
ولا من المُستحسَن أن
يُخرِج المسلمون أهل مصر من ديارهم ليحلُّوا محلَّهم؛ وعلى ذلك فقد رأى العرب أنهم يستطيعون
البناء خارج أسوار الحصن لا
يخافون شيئًا، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأمنوا الكيد أن يأتيهم من جانب ذلك الإقليم،
ولكن المدينة وإن ابتدأت صغيرة،
نمَت نماءً سريعًا بعد سنة من إنشائها، منذ أبى الخليفة عمر أن يُبيح لعمرو أن يتخذ الإسكندرية
عاصمة؛ فاتَّسعت عند ذلك
فسطاط مصر، وكانت تُسمَّى بالاسمين معًا، حتى عمَّت الفضاء الفسيح الذي نرى به اليوم
تلك الأكوام من الأقذار في جنوب
القاهرة، ومنذ ذلك الوقت صارت عاصمة مصر، ثم نشأت بعد ذلك ضاحية في ظاهر الفسطاط من قِبل
الشمال، وكان اسمها العسكر،
وانتقلت إليها قاعدة الحكم، ثم تلا ذلك بناء القطائع في شمال العسكر، بناها أحمد بن طولون،
واتخذ فيها الطولونيون قصورًا
١٤ لهم. فلما انقضت دولة الطولونيين رجعت العسكر إلى شأنها الأول حينًا من الدهر، ثم قُضي
عليها في أواخر القرن
العاشر؛ إذ جاء الفاطميون إلى مصر وبنَوا لهم عاصمةً جديدة، وهي مصر «القاهرة»، أي المنصورة،
وقد أخذ أهل البندقية الوصف
«القاهرة» ولم يأخذوا الاسم «مصر»، ونقلوه محرَّفًا إلى لغات أوروبا، وهو «كيرو».
وإنا نرى إلى اليوم جامعًا عتيقًا في شمال الحصن الروماني المُتهدم، ويبعد عنه بقليل،
وهو أقدم مسجد في مصر يؤمه السفار
ويعرفونه، فلا حاجة بنا إلى إثبات وصفه هنا، ونظنُّ أن إنشاءه كان في ذلك الشتاء من سنتَي
٦٤١ و٦٤٢،
١٥ وقد اختار عمرو لبنائه الموضع الذي كان فيه لؤلؤه،
١٦ وصار يُعرَف باسم مسجد أهل الراية.
١٧ وكان ذلك الموضع بين بساتين وكروم
١٨ تلي شاطئ النهر،
١٩ وقد حلَّ فيه قبل بناء الجامع أبو عبد الرحمن قيسبة بن كلثوم، فلما طلبه عمرو منه نزل
عنه صدقةً للمسلمين.
وكان المسجد من أول ما يجب على المسلمين اتخاذه. ولقد كان جامع عمرو في الأصل مسجدًا
ساذجًا، وكان ذرعه خمسين ذراعًا في
ثلاثين، وسقفه مُطأطأ، وكان أمامه فضاء، ولم يُجعل له صحن، ومُدَّ الطريق حوله، وجُعلت
له ستة أبواب، ثم ظهر ضيقه
بالمُصلين، فكان الناس يصطفُّون للصلاة في الفضاء الذي أمامه. وقيل إن الذين أقاموا القِبلة
كانوا ثمانية
٢٠ من أصحاب الرسول؛ فيهم الزبير، والمقداد بن الأسود،
٢١ وعبادة بن الصامت؛ وكانت قِبلته مُنحرفة إلى الشرق انحرافًا أكثر مما هي عليه اليوم.
ولما تم بناؤه وُضع فيه
منبر، وكان عمرو يقوم عليه في خطبته
٢٢ حتى تقدَّم إليه الخليفة عمر يعزم عليه في كسره، ولامه على أنه يطأ رءوس المؤمنين إذ
يقوم عليه والمسلمون
جلوسٌ تحت عقبَيه. وقد زيدت فيه زياداتٌ كان أولها ما زاده مسلمة بن مخلد في سنة ٦٧٣
للميلاد؛
٢٣ فإنه مدَّه إلى جهة الشمال، وفرشه بالحُصر بدل الحصباء، وبنى فيه صومعة عند كل ركن من
أركانه، وجعل فيه منائر
نُقِش عليها اسمه، وزاد عدد المؤذنين، وأمرهم أن يؤذنوا للفجر إذا مضى نصف الليل،
٢٤ وأمر ألا يُضرب فيه بناقوس
٢٥ عند الفجر كما كان يُفعل أولًا. وفي حوالَي سنة ٦٩٦
٢٦ أمر عبد العزيز بن مروان بهدم جزء منه. ولعله أمر بهدم الزيادة التي زيدت فيه وأعاد
بناءه. ثم أمر الخليفة
الوليد بن عبد الملك بعد ذلك في سنة ٧١١
٢٧ واليَه قرة بن شريك أن يهدم المسجد كله ويُعيد بناءه، فصار بعد ذلك إلى صورته التي بقي
إلى اليوم مُحتفظًا
٢٨ بجلِّها، مع ما دخل عليه من التغيير فيما
٢٩ بعد.
ولا نعرف إلا قليلًا من وصف البناء الذي بناه الناس في الفسطاط؛ فقد كانت أكثر
المنازل من اللبن، ثم علا فيها البناء حتى صار إلى طبقاتٍ أربع أو خمس. فإذا أردنا أن
نُصور لأنفسنا صورة تلك المنازل كان
لا بد لنا أن نُصورها قِطعًا عظيمة من البناء، قائمة على غير استواء ولا نظام، تدعمها
أعمدةٌ رومانية لا شيء فيها من
الزينة ولا من جمال التنسيق، تُشبِه كل الشبه ما هو موجود أو ما كان لا يزال في مدينة
رشيد من البناء منذ عشرين عامًا.
وقيل إن بعض هذه المنازل الكبرى كان يسكن فيه نحو مائتَي فرد، وكانت الطبقة السفلى مما
يلي الأرض لا يسكنها أحد إلا
قليلًا. وقيل إن خارجة بن حذافة النائب المعروف الذي كان عمرو يُنيبه عنه كان أول من
اتخذ لداره مَشربة أو طنفًا. فلما بلغ
ذلك عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو أنه ما فعل ذلك إلا ليُشرِف على من حوله ويطَّلع على
عوراتهم وسرهم، وأمره أن يهدمها. وقد
بُنيت في الفسطاط حماماتٌ كان يُسمَّى أحدها «حمام الفار»؛ إذ كانت صغيرةً حقيرة البناء
إذا قيست بحمامات الرومان
العظيمة.
وكان لا بد للمدينة فوق مسجدها ومنازلها وحماماتها أن يكون لها مَقبرة. وقد رُويت
في ذلك قصةٌ عجيبة، وذلك أن قيرس بعث إلى عمرو أن يبيعه قطعة من الأرض عند سفح الجبل
بسبعين ألف دينار، فلما سئل عن سر ذلك
الثمن العظيم قال إنه قد جاء في كُتبهم أن ذلك الموضع روضة من رياض الجنة. فلما علم عمر
بن الخطاب بذلك قال إنما روضة
الجنة حيث يُدفن المؤمنون، وأبى ذلك البيع على المقوقس، وأمر بجعل تلك الأرض مقبرة للمسلمين.
وقد دُفن فيها فيما بعدُ عمرو
بن العاص وأربعة من الصحابة.
ثم أقبل عمرو على عملٍ عظيمٍ آخر، وهو حفر خليج تراجان.
٣٠ وكان ذلك الخليج يخرج من النيل إلى شمال بابليون بقليل، فيمرُّ بمدينة عين شمس، ثم يسير
في وادي الطميلات إلى
موضع القنطرة حتى يتصل بالبحر الأحمر عند القلزم.
٣١ وقد أهمل الروم أمره حتى سدَّه الطين، وكان أقدم عهدًا من حكم تراجان، وإنما سُمي باسمه
لأنه أعاد كَرْيه
وأصلحه، كما عزم عمرو بن العاص على أن يفعل به عند ذلك. وقد أظهر العلَّامة «فيل»
٣٢ أن جزءًا منه إن لم يكن كله يرجع الفضل في حفره إلى فرعون مصر «نخاو»، وهو الذي حفر
خليجًا في برزخ السويس من
البحر الأبيض إلى البحر الأحمر، وقد أُصلحت الترعة مرةً أخرى في مدة بطليموس الثاني (فلادلفوس)،
ولكنه جعلها تنفصل من
النيل عند «فاقوس» بعد أن كانت تنفصل عنه عند «بوبسطة». ولسنا نعرف الوقت الذي حُفِر
فيه جزء الترعة الذي بين بوبسطة
وبابليون. على أن هذه الترعة لم تكن ذات غَناء كبير؛ لأن الماء لم يكن يجري فيها إلا
عند فيض النيل. ولما أُهملَ أمرها
أصبحت من بعد القرن الثاني للميلاد غير صالحة لسير السفن، وكان لا بد للرمل أن يسدَّها
بالسقوط فيها إذا ما قل تعهُّدها
والاعتناء بأمرها. وقيل إنها كانت في ذلك الوقت خفية الأثر حتى احتاج عمرو إلى من يدله
على موضعها من القبط، فأجازه برفع
الجزية عنه، ولكن سرعة حفرها وإعادتها إلى الصلاح تدلنا على أن بعض مجراها الذي طوله
تسعون ميلًا كان لا يزال صالحًا. على
أن مثل ذلك الإسراع لم يكن عجيبًا؛ إذ كان يعمل فيها عددٌ عظيم من أهل البلاد يُساقون
إلى ذلك كأنهم أرقَّاء، يسوقهم من
ورائهم مقدَّمون وخول، على ما جرت به سُنة أهل مصر منذ أقدم الأزمان. ويلوح لنا أن العرب
لجئوا إلى هذه السخرة بشدة لم
تُعهد من قبل، حتى لقد وصفهم «حنا النقيوسي» وصفًا شديدًا، وتناولهم بالقول القاذع فقال:
«وكان نيرهم على أهل مصر أشدَّ
وطأة من نير فرعون على بني إسرائيل. ولقد انتقم الله منه انتقامًا عادلًا بأن أغرقه في
البحر الأحمر بعد أن أرسل صنوف
بلائه على الناس والحيوان، ونسأل الله إذا ما حل حسابه لهؤلاء المسلمين أن يأخذهم بما
أخذ به فرعون من قبل.»
٣٣ ولكن الظاهر أن هذه الشدة إنما جاءت عفوًا في وقت الفتح، ولم تكن صفةً ثابتة لحكومة
عمرو في مصر.
وقيل إن عمرًا كان ينوي حفر خليج بين بحيرة التمساح والبحر الأبيض المتوسط، فيكون
بذلك قد قطع البرزخ بالبحر كما هو
اليوم، ولكن عمر بن الخطاب أبى عليه ذلك وأنكره، قائلًا إنه يمكِّن الروم من السير إلى
البحر الأحمر وقطع السبيل على من
أراد الحج. وليس في هذه القصة شبهةٌ تمنع من تصديقها.
ولم ينصرف القائد العربي كل الانصراف إلى هذه الأعمال السلمية، فلم تشغله عن أمور
الحرب والقتال؛ فإنه رأى البلاد قد صارت إلى الإذعان للعرب منذ عهد الإسكندرية لا ينقص
من سلطانهم عليها إلا بعض بُلدان في
شمال مصر السفلى، ولا سيَّما ما كان منها على شاطئ البحر؛ إذ أبَت أن تدخل فيما دخل فيه
الناس من العهد. وكان لعمرو أن
يسير إليها إذا شاء فيُقاتلها ولو كان ذلك في مدة الهدنة. ويلوح لنا أنه قد وجَّه لقتالها
جيشًا في ربيع سنة ٦٤٢. ومن
العسير أن نصِف ما كان من سير جيش العرب، لا سيَّما وأن حنا النقيوسي لا يذكر شيئًا من
أمر القتال في هذه المدة؛ فلا بد
لنا من الاعتماد على مؤرخي العرب وما جاء في أخبارهم، ومن أشق الأمور فهمها أو الربط
بين أجزائها.
فلا نجد مع هذا ندحًا من أن نلجأ إلى التصور والحدس، فنقول إن جيش العرب لا بد قد
سار من كريون نحو الشرق على ساحل
النهر. وكانت في الإقليم الذي كان يُعرَف بالحوف الغربي مدينةٌ اسمها «إخنا»، ليست بعيدة
عن الإسكندرية،
٣٤ وكان حاكمها اسمه «طلما»، فأتى إليه كتاب من عمرو يعرض عليه فيه شروط الصلح الذي صالح
عليه «قيرس»، ولكنه لم
يقنع بما جاءه في ذلك الكتاب، فأرسل إلى عمرو يطلب الاجتماع به، فسأله عن مقدار الجزية،
فلم يُطِق قائد العرب احتمال هذه
المراجعة، وأشار إلى كنيسةٍ قريبة وقال: «لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما
أنتم خِزانة لنا، إن كثر علينا
كثَّرنا عليكم، وإن خُفف عنا خفَّفنا عنكم.»
٣٥ ولا بد أن «طلما» كرِه هذا الرد وعزم على ألا يُذعن؛ وعلى ذلك سار المسلمون إلى «إخنا»،
وما لبثوا أن أرغموها
على التسليم لهم، وقد أخذوا منها أسرى كُثرًا وبعثوا بهم إلى الخليفة عمر في المدينة،
مع أن تلك القرية سلَّمت إليهم صلحًا
بعقد وعهد. وقد حدث مثل ذلك لمدينة «بلهيب»،
٣٦ وكانت مدينةً منيعة في جنوب رشيد تبعد عنها بضعة أميال. والظاهر أن عمرًا أتاه هناك
رد الخليفة عمر بإقرار صلح الإسكندرية.
٣٧ فقرأ عمرو كتاب الخليفة على الناس، وقد جاء فيه أن يُخير الأسرى، فمن رضي الدخول في
الإسلام منهم أطلق سراحه
وصار للمسلمين أخًا. فيُروى أنه دخلت في الإسلام طائفةٌ كبيرة من الأسرى، وكان المسلمون
يُكبِّرون فرحًا كلما أسلم منهم
أحد، ولكن لم يقع مثل هذا كثيرًا أن يُسلِم جماعة مرةً واحدة في مقامٍ واحد، بل إن هذا
الأمر ليس له نظير في وقتٍ آخر، ولو
صح أنه وقع لكان الباعث عليه طمعًا عظيمًا في أمر من أمور الدنيا في قلوب لم تكن عقيدتها
ثابتة، ولعل تلك القصة قد داخَلها
تحريف ومبالغة.
ويُذكر مع صلح «إخنا» صلحٌ آخر عُقِد مع «قزمان» — ولعله قزماس — حاكم رشيد، وصلح
مع «حنا» حاكم البرلس.
٣٨ ويلوح لنا أن الغرب ساروا من بعد البرلس على شاطئ البحر حتى بلغوا دمياط
٣٩ ولم يقِف لهم حاكم المدينة «حنا». وأصبح العرب بفتح دمياط مُسيطرين على منافذ النيل
إلى البحر جميعًا. ثم
فُتحت «خيس» في الإقليم المعروف بالحوف بقرب دمياط.
٤٠ وأكبر الظن أن سلطان العرب صار يمتد عند ذلك على كل بلاد مصر السفلى، اللهم إلا بلادًا
قليلة كانت في الجزائر
التي في رقاق بحيرة المنزلة الفسيحة.
وكانت الأرض التي تُغطيها مياه تلك البحيرة إلى ما قبل الفتح العربي بقرنٍ
٤١ واحد لا تُضارعها في بلاد مصر كلها أرضٌ أخرى في جودة هوائها وخصبها وغناها، إلا إذا
قلت بلاد الفيوم؛ فقد
تكون عِدلًا لها. وكانت أرضها ترويها ترع لا تنضب مياهها تأتي من النيل، فكانت تُنبت
نباتًا يانعًا من القمح والنخيل
والأعناب وسائر الشجر. غير أن البحر طغى عليها فاقتحم ما كان يحجزه من كُثبان الرمل،
وكانت المياه تزيد طغيانًا عامًا بعد
عام حتى عمَّت السهل الوطيء كله، ولم يبقَ فوق وجهها إلا عدد من الجزائر بعد أن أكلت
المياه ما كان هناك من حقول وقُرًى،
فلم ينجُ منها إلا ما كان عاليًا لا تناله المياه. وأعظم ما نجا من قرى تلك الأرض مدينة
«تنيس» الشهيرة، وكانت مدينة لها
شيء من الاتساع والكِبَر، وكانت ذات بناء جميل تجود بها صناعة المنسوجات الدقيقة. وكانت
في البحيرة التي تخلَّفت مدائن
أخرى اشتهرت ببراعة صُناعها في النسيج، مثل «طونة» و«دميرة» و«دبيق»، ولكن لم تبلغ إحداها
مبلغ «تنيس»؛ إذ كانت تُضارع
دمياط وشطا في دقة منسوجاتها وجودة أنواعها، فما كان في البلاد كلها غير «تنيس» و«دمياط»
ما يستطيع أن يُخرج ثوبًا من
الكتان النقي يبلغ ثمنه مائة دينار (أي خمسين جنيهًا). وقد ذكر المسعودي في تاريخه أن
ثوبًا صُنِع هناك للخليفة من عرضٍ
واحد بلغ ثمنه ألف دينار، وكان مصنوعًا من خيوط الذهب مخلوطة باليسير من دقيق الكتان.
وقد ورد في الأخبار كذلك أن تجارة
«تنيس» مع العراق وحده بلغت من عشرين ألف دينار إلى ثلاثين ألفًا في السنة الواحدة، ولكن
ذلك كان قبل أن تقضي عليها
الضرائب الفادحة.
كانت تنيس على جزيرةٍ
٤٢ فسيحة، وكانت تصل إليها من الجنوب ترعةٌ اسمها بحر الروم. ولعلها كانت بقية فرع النيل
التنيسي الذي كان يبلغ
«الصالحية». وكان الاتصال كذلك سهلًا في الماء بينها وبين الفرما، أو على الأقل بينها
وبين «الطينة»، وهي ثغر الفرما على
ساحل البحر. وقيل إن «تنيس» كان لا يزال بها إلى القرن العاشر آثارٌ قديمة، سوى ما كان
بها من المساجد وعدتها مائة وستون،
تزين كلًّا منها مئذنةٌ عالية، ثم ما كان بها من الكنائس وعدتها اثنتان وسبعون كنيسة،
وكان بها من الحمامات ستة وثلاثون،
وكانت لها أسوارٌ حصينة فيها تسعة عشر بابًا مصفَّحة بالحديد الثقيل.
٤٣ وقيل إن الموتى في الجزائر الأخرى كانت تُحمل في الماء إلى جزيرة «تنيس» لتُدفن بها.
والظاهر أن هذه الموتى
كانت تُحنَّط هناك. وقد زارها بعد ذلك بقرنٍ الرحَّالةُ الفارسي «ناصري خسرو»
٤٤ في عام ١٠٤٧ للميلاد، فعجب مما رآه من ثرائها ورواج أسواقها؛ فهو يذكر أنه كانت بها
عشرة آلاف مَتجر وخمسون
ألفًا من الناس، وكانت في مراسي جزيرتها ألف سفينة، ولم يكن بها شيء من الزرع، بل كانت
تعتمد في كل أقواتها على تجارتها،
وكان النيل إذا علا وفاض طرد ما حول الجزيرة من مياه البحر الملح، وملأ بالماء العذب
ما كان فيها من الصهاريج ومخازن الماء
الدفينة في الأرض، وكانت تلك كافية لشرب الناس طول الحول. وقد بلغت منسوجات القبط البديعة
ذات الألوان شأنًا عظيمًا لم
تبلغه في وقت من الأوقات؛ فكان للسلطان مناسج خاصة به تُنسج فيها الأثواب له وحده، وكان
الثوب لعمامته تبلغ نفقته أربعة
آلاف دينار، ولكن الأثواب التي كانت تُصنع للسلطان لم تكن مما يُعرض في الأسواق. وقد
طلب إمبراطور الروم أن يأخذ «تنيس»
ويُعوض عنها بمائة مدينة من مدائن دولته، ولكنه لم يُجَب إلى ذلك. وكان مما يُصنع في
تلك المدينة سوى هذه الأثواب الملكية
نوعٌ من الأثواب اسمه «بوقلمون»، وكان من الحرير المُتغير اللون، وكانت لمعته زاهية،
حتى قيل إنه كان يبدو في ألوانٍ
مُتغيرة في كل ساعة من ساعات النهار، وكانت صناعة السلاح المتَّخَذ من الصلب من الصناعات
التي كادت تبلغ في تنيس مبلغ
منسوجاتها؛ فكانت على ذلك مدينة من أعجب المدائن وأعظمها شأنًا.
ويُروى في القصص أن حاكم «تنيس» كان في وقت الفتح العربي رجلًا من العرب النصارى
اسمه «أبو طور»، وأنه خرج لقتال
المسلمين على رأس عشرين ألفًا من القبط والروم والعرب، فلقيهم في سيرهم إلى «تنيس» بعد
أن فتحوا دمياط،
٤٥ فناجَزهم في مَواطن كثيرة قبل أن يظفر العرب ويهزموا جيشه ويأخذوه أسيرًا. ومنذ تم لهم
ذلك فتحوا المدينة
وغنموا أموالها وقسَّموها، ثم ساروا إلى «الفرما». ومهما يكن من أمر تلك القصة ومبلغها
من الصدق أو الخطأ فإنها تحوي أمرين
لهما قسطٌ وافر من الثبوت، وهما أن «تنيس» دخلت في سلطان المسلمين في ذلك الوقت، وأن
صناعتها لم يلحق بها أذًى من الفتح
نفسه. ولم يجد المسلمون ما يُحبب إليهم المُقام في هذه المدينة، ولا في أشباهها من الجزائر
التي كانت في وسط هذه البحيرة
تُساورها المياه الزرقاء، مثل «طونة» و«بورا» و«دبيق»؛ وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن هذه
الجهات ظلَّت على دينها النصراني
زمنًا طويلًا بعد ذلك لا يكاد يمسُّها دين الإسلام،
٤٦ ثم قُضي عليها وزالت أخبارها من التاريخ، وكان ذلك في وقتٍ نستطيع أن نُعيِّنه.
كانت جزيرة «تنيس» مكشوفة للغزو من البحر، على أنها كانت محصَّنة فيها رباطٌ قوي،
وأمر صلاح الدين بإخلائها في سنة ١١٩٢،
ثم جاء الملك الكامل في سنة ١٢٢٧ فهدم حصونها وأسوارها حتى تركها أطلالًا.
٤٧
وتتصل بفتح هذه الجهات قصةٌ أخرى يجدر بنا أن نُشير إليها؛ فإن المقريزي عند ذكره
مدينة شطا يصفها بأنها مدينة بين «تنيس» و«دمياط»، ويقول إن اسمها مأخوذ عن رجلٍ اسمه
شطا بن الهموك عم المقوقس.
٤٨ وهذا الاشتقاق لا حقيقة له. وتذكر القصة بعد ذلك أن العرب عندما حاصروا دمياط وفتحوها
خرج إليهم حاكمها «شطا»
ومعه ألفان من الناس، فأظهر إسلامه، وقد كان من قبلُ عاكفًا على درسه والنظر فيه زمنًا
طويلًا، ثم إن ذلك الرجل لما رأى أن
العرب أبطأ عليهم فتح «تنيس» جمع جيشًا من البرلس ودميرة وأشمون طناح، وجهَّزه ولحق بإمداد
المسلمين الذي بعث بهم عمرو، ثم
سار حتى الْتَقى بالعدو، وأظهر من الشجاعة وحسن البلاء ما يُظهره الأبطال، وقتل بيده
اثنَي عشر رجلًا من فُرسان أهل «تنيس»
وشجعانهم، وما زال يُقاتل حتى قُتل في ذلك اليوم، ودُفن في ظاهر المدينة. ويقول المقريزي
إن قبره لا يزال معروفًا يزوره
الناس من كل أنحاء البلاد المُجاورة ليتبرَّكوا به في يوم مقتله، وهو يوم النصف من شهر
شعبان.
٤٩
وليس من العسير أن ننقض هذه القصة كلها ونُفندها؛ فإن مدينة شطا كانت تُعرَف بذلك
الاسم قبل أن يغزو العرب مصر بزمنٍ
طويل، وقد عُرفت منذ أزمان بدقة منسوجاتها وجودتها، وفوق ذلك يُعرَف اسم حاكم دمياط في
ذلك الوقت، وقد ذكره حنا النقيوسي
في ديوانه، فهو حنا
٥٠ وليس «شطا» كما زعم المقريزي. وإن الصلة المزعومة بين «شطا» والمقوقس صلةٌ ظاهرة البُطلان،
ولكنا إذا قلنا إن
ذلك الرجل «شطا» لم يكن له وجود، فإن في القصة أمرًا يجعلنا نرفعها فوق مرتبة الوضع والكذب،
وهو تاريخ الموقعة؛ فإن المؤرخ
العربي يذكر يوم وفاة ذلك البطل، ويقول إنه يوم الجمعة نصف شعبان من سنة إحدى وعشرين
للهجرة، وهذا اليوم هو التاسع عشر من
شهر يوليو من سنة ٦٤٢ للميلاد، وهو تاريخ لا نستطيع الشك فيه؛ فإن ذلك العام المذكور
— أي عام ٦٤٢ — هو العام الذي يتفق
ومجرى الحوادث التي وقعت في تاريخ فتح هذه البلاد حقيقةً، وإن اليوم المذكور وهو التاسع
عشر من يوليو كان حقيقةً يوم جمعة،
وهذا اتفاق من وجهين يندر وقوعه، فإذا وقع كان التاريخ المذكور حقيقيًّا لا شك فيه. وزيادةً
على ما ذكرنا فإن زيارة الناس
لذلك القبر إلى أيام المقريزي لدليلٌ يُعزز صِدق القصة؛ فلا يسعنا مع هذا إلا أن نُصدق
أنه قد وقع قتال في اليوم المذكور
في الجزيرة على مَقربة من مدينة «تنيس»، وأن رجلًا من الروم جاء من مدينة شطا، وقاتَل
في ذلك اليوم فأبلى مع المسلمين
بلاءً حسنًا حتى قُتل.
وهذا التاريخ له قيمةٌ كبرى ودلالةٌ عظمى؛ فإنه يدلنا على أن مقاومة المصريين للعرب
استطال أمرها في بلاد مصر السفلى
وظلَّت إلى ما بعد فتح الإسكندرية. وإذا ذُكر أن أهل «تنيس» وما يليها من البلاد الواقعة
في إقليم تلك البحيرة كانوا من
القبط الخُلَّص، تنبض قلوبهم بما تنبض به قلوب القبط، عرفنا أن وقوع تلك الوقعة في ذلك
الوقت دليلٌ جديد على فساد رأيين
طالما خدعا الناس وتقادَم عليهما الدهر، وهما يكفران الحقيقة، وهذان الرأيان هما أن مصر
سلَّمت للعرب بغير قتال، وأن القبط
رحَّبوا بالعرب ورأوا فيهم الخلاص مما كانوا فيه.
لقد كانت خيانة قيرس للإسكندرية سببًا في القضاء على آخر آمال المسيحيين بالفوز في
مصر، ولكن من العجيب مع ذلك أن تُدافع
هذه البلاد المُتفرقة في مصر السفلى جيوش الغزاة وتُقاومهم نحو عام آخر؛ ففي هذه آيةٌ
على أن أهلها كانوا قومًا من أولي
النخوة والحفاظ بقوا على عهد دينهم وثبتوا عليه، ولكن التاريخ لم يجزِهم بذلك ما يستحقونه
من حُسن الأحدوثة، بل لبث
يُنكرها عليهم زمنًا طويلًا.