الفصل الرابع والعشرون
وصف الإسكندرية عند الفتح
أرسل عمرو إلى الخليفة كتابًا مشهورًا يصف فتح الإسكندرية، والرواية المُتداولة
عنه هي: «لقد فتح الله علينا مدينةً من صفتها أن بها أربعة آلاف قصر، وأربعة آلاف حمام،
وأربعمائة ملهًى، واثنَي عشر ألف
بائع للخضر، وأربعين ألفًا من اليهود أهل الذمة.»
١ ونرى أن هذه الأعداد فيها مبالغة، ولعلها لم تكن كذلك في الكتاب الذي بعث به عمرو، بل
نقلها النُّساخ خطأً.
٢ ومع ذلك فإنها تدل دلالةً واضحة على ما كان للمدينة من الأثر العظيم في نفوس الفاتحين،
وقد أدهشهم عِظمها
وفخامتها، ولكن لقد بهرهم فوق ذلك منها تألُّقها وسناها، فقال أحد من وصفها: «إن الإسكندرية
مدينة يكثر المرمر في أرضها
وبنائها وعُمدها.» وقال آخر: إن المدينة تبدو بيضاء لامعة في النهار والليل.
٣ وقال في موضعٍ آخر إن أهلها جميعًا كانوا يلبسون الثياب السود والحمر؛ لأن أرضها وبناءها
من المرمر الأبيض،
وكان تألق الرخام سببًا في اتخاذ الرهبان السواد في لباسهم. وكان من المؤلم أن يسير الإنسان
في المدينة بالليل؛ فإن ضوء
القمر إذا وقع فيها على الرخام الأبيض جعلها تُضيء، حتى كان الحائك يستطيع أن يضع الخيط
في الإبرة بغير أن يستضيء بمصباح،
وما كان يستطيع أحدٌ أن يدخل المدينة إلا إذا اتخذ غطاءً لعينَيه يقيهما بهر الطلاء والمرمر.
وقال مؤرخٌ عربيٌّ آخر
٤ في القرن العاشر إن الناس كانوا يتخذون سترًا من الحرير الأخضر يُغطون به الطرق، يتَّقون
بذلك وهج الضوء على الرخام.
٥
وقال المؤرخ نفسه إن الطُّرق كلها كانت تكتنفها العُمد. وكان هذا ولا شك صحيحًا في
الطريقين العظيمين اللذين وصفناهما من
قبلُ وهما يقطعان المدينة من أطرافها، فكان أحدهما من أول المدينة في الشرق إلى آخرها
في الغرب يصل بين باب الشمس وباب القمر،
٦ وكان الثاني يجري في المدينة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وكانا يتلاقيان ويقطع
أحدهما الآخر في ميدانٍ
فسيح به الحدائق وتُحيط به القصور الجميلة. وكان لكثير من القصور في وسط المدينة حدائق
غنَّاء؛ فقد قال السيوطي — والظاهر
أنه يروي ذلك عن ابن عبد الحكم
٧ — إن الإسكندرية كانت تشمل مدائن ثلاثًا؛ إحداها إلى جانب الأخرى، وكان لكلٍّ منها سورٌ
قائم بها، وحول الجميع
سورٌ يُحيط بها. ولعله يُشير بهذا إلى الأحياء الثلاثة: حي المصريين، وحي الروم، وحي
اليهود. ولكنا نشكُّ في دقة هذه
الرواية. وقد روى عبد الله بن ظريف أن المدينة كان بها سبع قلاع وسبعة خنادق، وكانت قلعة
الفرس بلا شك تُعدُّ إحدى عجائب
الإسكندرية.
وما كانت دهشة العرب من رسم المدينة بأعظم من دهشتهم مما كان تحت أرضها من المباني؛
فقد رأوا بها عددًا عظيمًا من
الصهاريج العجيبة تحت الأرض، كان لبعضها طبقاتٌ يلي بعضها بعضًا أربعة أو خمسة، وكان
في كل طبقة منها عددٌ عظيم من الحجرات
والأعمدة، حتى لقد قال السيوطي إن الإسكندرية مدينةٌ قائمة على مدينة، وإنه ليس في البلاد
مثلها على وجه الأرض. وكان بها
عددٌ عظيم من الأعمدة لم يُرَ مثلها في موضعٍ آخر في علوِّها وعِظم حجمها. وكانت هذه
الحجرات الدفينة تُستخدم لخزن المياه
توصل إليها في قنواتٍ تجري من الترعة الحلوة التي كانت تشقُّ المدينة في حي المصريين،
وكانت تُملأ في أوان الفيضان فيشرب
الناس منها مدة الحول.
٨
وكان أفخم أحياء أنحاء المدينة فيما مضى جهةً اسمها «البروكيون»، وكان إلى شمالها
ميناء الإسكندرية، وإلى جنوبها الشارع
الأعظم الآتي من باب الشمس إلى الحدائق الوسطى بالمدينة. ولا شك قد هدم أورليان جانبًا
عظيمًا من ذلك الموضع، ولكنا نظنُّ
أن أخبار ما حل به من التخريب فيها مبالغة.
٩ وما كانت آثار ذلك التخريب لتبقى فيه بغير أن تُصلح ويُعاد بناؤه إلى سابق عهده. وعلى
أي حال فقد كانت فيه
قصور البطالسة والمقبرة الكبرى التي كانت فيها جثة الإسكندر في غشاء من الذهب، وكان فيه
المتحف، وتتصل به مكاتبه العجيبة
التي كانت مَقرَّ العلوم في العالم أجمع. وكان في ذلك الحي إلى الشرق معبدٌ مكشوفٌ اسمه
«التترابيلوس»، وهو إيوان به أربعة
صفوف من الأعمدة تُحيط به. وقيل إن الإسكندر دفن هناك النبي «أرميا»، فكان ذلك الموضع
مشهدًا يحترمه الناس احترامًا بالغًا.
١٠ وإلى جانب ذلك المشهد كنيسة القديسة «ماريا دروثيا» بناها «أولوجيوس»، وإلى شرقها فيما
يلي الأسوار على مقربة
من البحر الكنيسةُ الكبرى كنيسة القديس «مرقص»،
١١ وكانت عند ذلك لا تزال ماثلة، وفيها مدفن من المرمر به جثمان ذلك الرسول. وقد قال «أركولفوس»:
١٢ «إذا أتيت من بلاد مصر ودخلت المدينة ألفيت عند جانبها الشمالي كنيسةً كبرى فيها جثمان
مرقص الإنجيلي، وترى
قبره أمام المحراب في الجانب الشرقي وقد أقيم فوقه شاهد من المرمر.» وكان في الحي نفسه
كنيستا القديسين «تيودور» و«أنستاسيوس».
١٣
ولم تكن كنيسة القديس مرقص في القرن السابع أكبر كنائس المدينة وأعظمها شأنًا، بل
كان أعظم منها كنيسة القيصريون، وكانت
في الحي نفسه عند ثنية المرفأ الأعظم، وقد بلغت من عِظم الشأن أن كادت تحلَّ محلَّ الكنيسة
الكبرى؛ فقد كان بناؤها جليلًا،
ولها مسلَّتان قديمتان في فنائها، فكانت تُشرِف فوق أسوار المدينة أظهر الأشياء التي
يراها الرائي أول وهلة في صدر ما يراه
١٤ إذا أتى من الميناء داخلًا مما يلي المنارة، فكانت في هذه الجهة لها مظهرٌ يعدل مظهر
«الأكروبولس» والسرابيوم
وعمود «دقلديانوس» في نهاية المدينة من الجانب الآخر. وكانت كنيسة القيصريون في مبدأ
أمرها معبدًا للأوثان، بدأت كليوبترا
في بنائه إعظامًا لقيصر، ثم أتمَّه أغسطس. وإنه لجديرٌ بنا أن نرى ما جاء من صفته في
كتاب «فيلو» إذ قال:
١٥ «وكان هذا المعبد معبد قيصر، الذي يُعرف في الإسكندرية باسم سبستيان (أغسطس)، أثرًا
لا مثيل له، وكان على
ميناءٍ فسيحة، عظيم البناء، عجيب الصناعة، عالي السُّمك، يعدُّه الناس علَمًا من أعلام
البحر، وقد زانته أبدع الصور
والتماثيل، تُقدَّم إليها جليل الهدايا والقرابين، وكانت تُجمله كله حليةٌ من الذهب والفضة،
فكان نموذجًا في جمال تنسيقه
وإبداع أجزائه التي كان يشملها من متاحف ومكتبات وقباب وساحات وأبهاء ومَماشٍ وخمائل
من أشجارٍ ظاهرة، قد وُضع كل شيء في
موضعه اللائق به، وأبدعت فيه يد الصناعة فأبرزته في حلةٍ أنيقة من الرونق، بُذل في سبيلها
المال لم يدَّخر باذله ثمينًا
ولا غاليًا، وكان فوق ذلك جلاء عين أهل الأسفار في البحر إذا وقعت عليه في روحاتهم وغدواتهم.»
وقال فيه حنا النقيوسي: «إنه القصر الجليل.» وقد غيَّره قسطنطين الأكبر فجعله كنيسةً
مسيحية، وأهداه إلى اسم القديس ميخائيل،
١٦ ولكنه كان عند الفتح العربي لا يزال مُحتفظًا باسمه الأول «القيصريون»، ولم يصِر كنيسةً
بطريقيةً عظمى إلا
حوالَي سنة ٣٥٠ للميلاد، ولكن في سنة ٣٦٦ في أيام أنستاسيوس جاء جمعٌ عظيم من قومٍ هائجين
ثائرين من الوثنيين وأتباع
المذهب الآري المسيحي، ودخلوا فناءها ثم اقتحموها، وأحرقوا المذبح والعرش وما كان فيها
من النمارق والسُّتر، وسوى مما وصلت
إليه أيديهم. ولئن كان قد بقي شيء من المكتبات التي ذكرها فيلو فإنها لا بد قد أُحرقت
عند ذلك، ثم أُعيدَ بناء الكنيسة
وأُصلحت في عام ٣٦٨. وإن الذين يقرءون قصة «هيباشيا» يعلمون أنها وقعت في كنيسة القيصريون
فيما بعد هذا العصر بنحو خمسين
عامًا؛ فإن غوغاء المسيحيين وعامتهم ممن أعماهم التعصب للدين
١٧ أتَوا بتلك الفتاة الحكيمة فمزَّقوا جسمها تمزيقًا، فكان وُثوبهم هذا وما فيه من خروج
وعنف جديرًا بالمعبد
القديم معبد زحل (ساتورن). وقد جاء في الأخبار أن تيموثي إيلوروس فرَّ إلى بئر المعمودية
في هذه الكنيسة لاجئًا إليها بعد
نحو خمسين سنة من ذلك العهد، فدخل إليه الناس وأخرجوه منها ثم نفَوه. فلما عاد «تيموثي»
إلى الإسكندرية بعد أن أقام في
منفاه عشرين عامًا «لقيه الناس في موكبٍ حافل، تُوقد فيه المشاعل، وتُنشَد فيه آيات المديح
يُرتلها قومٌ مُختلفو الأجناس
واللغات»، فسار في موكبه هذا يحْدُوه النصر إلى أن بلغ تلك الكنيسة عينها كنيسة القيصريون.
١٨
ولم يبقَ شيء من وصف ما في تلك الكنيسة من داخلها، ولكن الذي لا شك فيه أنها كانت
على طراز الكنائس البيزنطية
(البازليكية)، وأنها بقيت على ما كان بها من الحلية الجليلة والزينة البديعة. وكان آخر
ما عهدته تلك الكنيسة من مشاهد
المجد في عهد الإمبراطورية صلاة الفرح بعودة قيرس، ولا بد أن خطبته إذ ذاك كان لا يزال
يذكرها من شهد دخول عمرو بجيشه إلى
المدينة، ولكنها لم تبقَ مدةً طويلة بعد فتح العرب؛ فلم يبقَ إلا اسمها في صورته العربية،
وهو القيصرية. وكان يُسمَّى به
في أول الأمر نوع من القصور أو الأبنية العامة، ثم وصل إلينا بعد أن دخل على دلالته تغيير.
١٩
وقد عجِب العرب أشد العجب من المسلَّتين من الصخر المحبَّب الأحمر (الجرانيت)
اللتين كانتا في صدر الكنيسة، وكان مؤرخوهم يُكثرون من وصفهما؛ فقال اليعقوبي (وهو من
كُتاب القرن التاسع) إنه قد كان هناك
مسلَّتان من الحجر الملوَّن تحتهما قاعدتان من البرونز على شكل الجُعل، وعليهما نقوشٌ
قديمة.
٢٠ وقال مثلَ ذلك ابنُ رستاه (وهو من كُتاب القرن العاشر)، فوصف أثرين كلٌّ منهما على شكل
منارة مربَّعة تحتهما
قاعدتان على صورة العقرب من النحاس أو الشبه، وعليهما نقوش، وقيل إن صورة العقرب قد صُهرت
بنارٍ أُوقدت تحتها فوقع الأثران.
٢١ وجاءت قصة في كتاب ابن الفقيه (وهو ممن كان يعيش في أيام ابن رستاه)، وفي هذه القصة
بدأ الخطأ العجيب الذي خلط
بين هاتين المسلَّتين وبين «الفاروس»، وهي التي كان العرب يُسمُّونها منارة الإسكندرية،
قال إن منارة الإسكندرية قائمة في
البحر على قاعدة من الزجاج على شكل الجُعل. وقال: ولها عمودان قائمان على قاعدتين؛ إحداهما
من الزجاج، والأخرى من الشبه،
وكانت قاعدة الشبه على صورة العقرب، وقاعدة الزجاج على صورة الجُعل.
٢٢ فما إن أتى عهد المسعودي حتى كانت هذه القصة قد اتَّخذت صورةً ثابتة، وأصبحت خرافةً
يبتهج العرب بذكرها، فقال
المسعودي: وكانت المنارة قائمة على أساس من الزجاج له صورة السرطان، وكان بناؤها على
لسان من الأرض بارز في البحر، وكان
على رأسها صور من معدن الشبه؛ إحداها تُشير بيُمناها إلى الشمس وتدور معها في السماء،
فإذا غربت الشمس وضعت يدها؛ وصورةٌ
أخرى تُشير إلى البحر في الجهة التي يأتي منها العدو، فإذا ما اقترب من المدينة خرج منها
صوتٌ هائل يُسمع على بُعْد ثلاثة
أميال، فيُنذر أهل المدينة بالخطر.
٢٣
ومن المعلوم أن «الفاروس» أو المنارة كانت أثرًا غير المسلَّتين، وهي بناءٌ مَتين
من الحجر شاهق العلو. وإنه لمن
المُضحِك أن يتصوَّر أحدٌ أن بناءها العظيم يقوم على كرسي من الزجاج على هيئة السرطان،
ومع ذلك فإنه مما يسرُّ النفسَ أن
يصل الإنسان إلى أصل هذه الخرافة التي تظهر في مبدأ الأمر سخيفةً لا معنى لها؛ فإنها
إنما نشأت من سوء فهم لِما ذكره مؤرخو
العرب الأوائل من الحقائق التاريخية وتحرَّوا في ذكره الدقة العظيمة. فلا شك في أن المسلَّتين
اللتين كانتا أمام كنيسة
«القيصريون» عند دخول عمرو في الإسكندرية، كانتا على قاعدتين على هيئة السرطان كما وصفهما
العرب الأوائل؛ فقد قام الدليل
على هذا عند نقل إحدى المسلتين إلى نيويورك؛ إذ وُجد أن هذا الحجر الهائل كان قائمًا
على أربع صور من المعدن على هيئة
السرطان، وكانت هذه تفصل بين المسلة وبين القاعدة. وكانت القاعدة من قطعةٍ واحدة من صخر
«الجرانيت»، وكان من تحتها ثلاث
طبقات مُدرَّجة من الحجر، ولم يكشف سندَ نقل المسلَّة إلا تمثالٌ واحد من التماثيل الأربعة
التي على هيئة السرطان؛ لأن
القاعدة كانت قد مضى عليها زمنٌ طويل وهي مدفونة تحت الأرض.
٢٤ وكان ذلك التمثال نفسه مشوَّهًا، ولكن لم يكن ثَمة شكٌّ في الغرض من تلك التماثيل؛ إذ
قد وُجدت كتابة باللغتين
اليونانية واللاتينية على المعدن، وكانت لا تزال ظاهرة، وفيها مِصداق لِما رواه كُتاب
العرب.
٢٥ وهذا مثل من الأمثلة الظاهرة التي كانت فيها أعمال الحفر والتنقيب مُساعدةً للتاريخ
مُصدقةً له.
وقد يقول قائل: وماذا كان من أمر الجعلان أو العقارب الزجاجية التي تحت المسلة الأخرى،
وما تحسب ذلك القول إلا إحدى
الأقاصيص؟ وليس شيءٌ أشد خطأً من مثل هذا القول؛ لأننا إذا سمعنا وصف أمرين مُتصلين اتصالًا
وثيقًا، وصدق أحدهما صدقًا لا
شبهة فيه، وكان من آيات الدقة، فإن أعجب العجب أن نقول إن الأمر الآخر مكذوبٌ لا صدق
فيه؛ فما يكون قولنا هذا إلا تكذيبًا
لا مُبرر له للتاريخ كله. وليس في وصف هذه المسلات ما يجعلنا في حيرة بين ما يقتضيه العلم
وما يقتضيه التاريخ. لا جَرم
أننا لا نُصدق أن تقوم قطعةٌ عظيمة من الصخر في حجم تلك المسلة التي نُسميها مسلة كليوبترا
على جعالين من الزجاج مما يُصنع
في أيامنا هذه، وما كان في الزجاج قِطعٌ تبلغ من الحجم ما يكفي لمثل هذا القصد، ولكنا
نعلم في المعادن معدنًا عظيم الصلابة
والرونق، وهو الحجر الأسود (الأبسيدي) الذي يُشبِه الزجاج، ويُعرَف بالزجاج الطبيعي.
ولعل الجعالين التي كانت تحت المسلة
الثانية — وهي القائمة اليوم في لندرة — كانت من ذلك الحجر الأسود. وإذا كان هذا غير
ممكن فلعلها كانت من حجرٍ آخر متينٍ
شديد الصقل. وإنا نؤثِر أن نُصدق ما قاله كُتاب العرب بنصه كما جاء في قولهم، على أن
نُكذبهم فيه بعدما ظهر من صدقهم فيه
صدقًا جليًّا. فإنا لا نشكُّ في أن المصريين كانوا فوق براعتهم في صناعة الزجاج يعرفون
من عظيم أسرار صناعته ما تجهل، وليس
بالمُستبعَد أن يكونوا قد استطاعوا صناعة صنف من الزجاج يبلغ من المتانة أن يحمل مثل
تلك الكتلة الصخرية العظيمة. ومن
المُفيد هنا أن نقول إن المسلة التي حُملت إلى لندن كانت قد وقعت على الأرض قبل الأخرى
بزمنٍ طويل.
إذن نقول إن أثرين عظيمين كانا قائمين أمام القيصريون على قاعدتين ذواتَي طبقات،
وكان أحدهما قائمًا على أربعة سرطانات
من النحاس أو الشبه، وكان الثاني قائمًا على أربعة تماثيل من الزجاج المتين أو الحجر
الأبسيدي على صورة العقارب. وإذا نحن
أزَلْنا ما طرأ من الخلط على هذا الوصف بين المنارة والمسلتين، عرفنا أن التماثيل النحاسية
التي يذكرها المقريزي لم تكن في
أعلى المنارة حيث لا تكون ظاهرة لرأي العين، ولكنها كانت في أعلى المسلات، وكان التمثال
«الذي يُشير إلى الشمس» بغير شك
تمثالًا ذا جَناحَين يُمثِّل «هرميس» أو «نيكي
Nike» (إلهة النصر عند اليونان)، وأغلب
الظن أنه كان قائمًا على قدمٍ واحدة فوق قمة المسلة،
٢٦ يمدُّ يده اليمنى على عادة اليونان في تصوير تماثيلهم. وكان التمثال الآخر الذي «يُشير
إلى البحر» صورةً أخرى
لا يُقصد بها إلا التجميل والزينة وإيجاد التماثل في المنظر. ولا بد أن هذه الأعمدة العظيمة
القديمة كانت باهرة الرونق
والجمال في صنعها ورسمها الذي أبدعته يد الصُّناع في عصر أغسطس، وأنها كانت ذات أثر عظيم
في النفس إذا ما وقعت العين على
قمتها الشاهقة؛ إذ تمرُّ بها السفن في دخولها إلى المرفأ أو خروجها منه.
وأما المتحف فلا نجد له ذكرًا باقيًا إلى يومنا هذا، ولا بد لنا أن نقول إنه
تخرَّب وزال قبل ذلك بزمنٍ طويل، ولعل زواله كان في الحريق الكبير الذي أحدثه يوليوس
قيصر عندما حاصره المصريون في ذلك
الحي تحت قيادة «أخيلاس»،
٢٧ أو لعل ذلك وقع في النضال الأخير الذي كان في أواخر عهد الوثنية والاضطراب الذي حل بها
عند احتضارها.
٢٨
حسبنا ما تقدَّم من ذكر الكنيسة، ولنصِف بعد ذلك «السرابيوم»، وهو طائفة من الأبنية
ذات جمال رائع كان لها أثرٌ عظيم في
نفوس العرب، وكان في حيٍّ آخر من أحياء المدينة في الموضع الذي به اليوم عمود «دقلديانوس».
وكان هذا الحي معروفًا بالحي
المصري الذي لم يضِع اسمه في وقت من الأوقات، وذلك الاسم هو «راقوتي»؛ فإن القبط لم يُسمُّوا
فيما بينهم مدينة الإسكندرية
باسم بانيها العظيم، بل كان أكثر حديثهم عنها باسم القرية التي كانت لبعض الصيَّادين
قبل الإسكندر بزمنٍ طويل. وهذا دليل
على شدة احتفاظهم بقديمهم لا يعبئون في ذلك بمر الزمن. وقد عُرِف موضع السرابيوم معرفةً
لا موضع للشك فيها مما جاء في وصفه
في الكتب القديمة، ومما أسفر عنه البحث الأثري في العصور الحديثة. ويُقرَن ذكر السرابيوم
عادةً بذكر عمود دقلديانوس، وهو
الذي سمَّاه العرب «عمود السواري»، وكان على مقربة من الباب الجنوبي للمدينة، وهو الذي
يُسميه العرب باب الشجرة.
٢٩ ولا يتفق أهل الآثار على أنه كان قائمًا على ربوةٍ تُشبِه «الأكروبولس» في أثينا، وليس
سطح الإسكندرية في
الوقت الحاضر مما يُسهِّل تحقيق هذا الأمر. ومهما يكن من شيء فقد كان حصنًا معظمه من
صنعة الإنسان مع علوه وإشرافه فوق
المدينة؛ فقد كان قائمًا على نهد له نواة من الصخر الطبيعي، ولكن سائره كان من صُنْع
الإنسان. وكانت أسواره المُنيفة تُحيط
بآزاجٍ معقودة تحت الأرض طبقات بعضها فوق بعض.
٣٠ فكان حصنًا عظيمًا مربَّع الشكل، أعلاه مسطحٌ تزينه أبنيةٌ بديعة. والظاهر أنه كان يُدخل
إليه من طريقين؛
أحدهما تسير عليه العجلات، والآخر سُلَّم له مائة درجة. على أننا لسنا نعرف القصد الذي
من أجله بُنِي ذلك السُّلم.
٣١ وكان موضعه في الجهة الشرقية من البناء، وفي أعلاه المدخل، وتدعمه أربعة أعمدة عظيمة
في كل جانب اثنان منها،
وكان للمدخل أبواب من معدن الشبه.
٣٢
وأما شكل البناء الذي على القمة وترتيبه، فليس من السهل أن نُدركه مما بقي لدينا
من وصفه، ولكن يلوح لنا أنه كان على ما نحن مُورِدون فيما يلي: فقد كان شكله مستطيلًا،
طوله خمسمائة ذراع في عرض مائتين وخمسين.
٣٣ ويُحيط بأعلى النهد من كل جانب صفٌّ من البناء المُنيف البديع يتصل في مواضع كثيرة بحرم
المعبد، وكان في داخل
هذه الجوانب الأربعة من البناء فناءٌ يُحيط به صفٌّ عريض من الأعمدة، وكان فيه كذلك من
الوسط أربعة صفوف من الأعمدة يذهب
كل صف منها من وسطه إلى جانب من جوانبه، فكانت هذه الأعمدة على هيئةٍ قريبة من صليب في
الوسط يُحيط به إطارٌ مستطيل الشكل،
ولكن وسط هذا المستطيل، وهو قلب الحصن كله، كان فيه معبد «سرابيس»، وكان من سوء الحظ
أن هذا المعبد قد تهدَّم قبل فتح
العرب بمدةٍ طويلة، ولكن لا شك في أنه قد كان بناءً من أروع الأبنية وأعظمها. وكان حرمه
مستطيلًا في وسطه بهوٌ له أعمدة من
أثمن المرمر، وكانت جدرانه من الرخام من داخلها وخارجها. وكان في وسط ذلك البهو تمثالٌ
عظيم للمعبود «سرابيس» من الخشب
المُلبَّس بالذهب والعاج، له ذراعان ممدودتان تكاد كلٌّ منهما تلمس الحائط الذي يليها.
وكان في يُسراه سيف، وتحت يمناه
صورةٌ مروِّعة للأعجوبة «قربروس» لها رءوسٌ ثلاثة: رأس أسد، ورأس كلب، ورأس ذئب. وقد
التفَّ حولها جميعًا أفعى عظيمة.
٣٤ وكانت تزين المعبدَ جميعه زينة باهرة من النقوش التي لا تُقدَّر بثمن، وكانت من المرمر
والشبه، وكان أظهر ما
فيها سلسلة من نقوش تُمثِّل حروب «برسيوس». وكان حول جدران ذلك المعبد صفٌّ من جليل الأعمدة
تجري مُوازيةً لصف الأعمدة
المُحيطة بالفناء جميعه، وتصلها به الصفوف الأربعة التي على هيئة الصليب، والتي سبق لنا
ذكرها، وكانت الأبواب العظيمة التي
تُحيط بالمعبد لا مثيل لها في الفخامة والجلال. وكانت رءوس الأعمدة من معدن الشبه تُغطيه
طبقة من الذهب، وأما السقوف فكانت
يُغطيها الذهب والألوان الزاهية في حين كانت الجدران والأرض من أثمن المرمر.
٣٥
لكن أهم من ذلك كله أن عقود هذا المعبد كانت لها أبواب تُفضي إلى حجرات في البناء
الأعظم كان في بعضها مكتبة الإسكندرية الكبرى،
٣٦ وكان في البعض الآخر مشاهد لآلهة مصر القديمة، وكان في بعض مواضع من حرم هذا المعبد
مسلَّتان قديمتان، وحوض
ماء عظيم من المرمر فائق الجمال. وكان العمود العظيم المعروف بعمود دقلديانوس في وقت
فتح العرب قائمًا فوق القلعة مُشرِفًا عليها،
٣٧ على أننا لسنا نعلم في أي وقت أقيم. وكان في موضع من السرابيوم كنيسة باسم القديس «يوحنا
المعمدان»، وكان فيه
سوى هذه كنائس أخرى كانت لا تزال عند ذلك قائمة، منها كنائس القديسين «قزمان» و«دميان»
و«الإنجيليون».
٣٨ وقد بقيت الكنيسة الأخيرة إلى ما بعد الفتح، ولكنها كانت يُخشى عليها التهدُّم، فأعيد
بناؤها في أواخر القرن
السابع، وقام على ذلك البطريق إسحاق.
٣٩
بقي علينا أن نذكر بناءً آخر، وهو البناء المُلاصق لمدخل السرابيوم، ويُعَد جزءًا
منه، وهو «الأقوس»، ومعناه البيت. ويمتاز عن سائر بناء القلعة بأن كانت له قبةٌ مذهَّبةٌ
عاليةٌ قائمة على دائرةٍ مزدوجة
من الأعمدة. ولم يتضح لنا القصد من هذا البناء، ولعله لم يُقصد منه غير الزينة. والظاهر
أنه بقي بعد أن تهدَّم المعبد،
ويرِد ذكره في أخبار العرب مع «عمود السواري».
٤٠ وقد قيلت في ذلك العمود قصصٌ عجيبة؛ فقيل إنه كان جزءًا من معبدٍ بناه سليمان. وهذا
ما ذهب إليه أصحاب الرأي
السائد. وقال ابن الفقيه: إن الإنسان إذا رمى عليه قطعة من الخزف أو الزجاج، وقال عند
ذلك «باسم سليمان بن داود تُكسَري»؛
انكسرت، ولكنه إذا لم يذكر ذلك الطلسم لم تنكسر. وقيلت قصةٌ أخرى، وهي أن الإنسان إذا
أقفل عينَيه وسار إلى ذلك العمود لم
يستطع أن يبلغه. وقال السيوطي في سذاجة إنه قد جرَّب ذلك الأمر بنفسه مرارًا وظهر له
صدقه، وقال ذلك المؤرخ إن «أهل العلم
في الإسكندرية» يذكرون أن هذا العمود كانت عليه قبةٌ جلس تحتها أرسطاطاليس وهو ينظر في
علم الفلك، وهذه بقية من ذكر القبة
والمكتبة. وقد روى المقريزي عن المسعودي وصفًا للسرابيوم، وهو وصفٌ لا بأس به، فقال:
«وكان بالإسكندرية قصرٌ عظيم لا
يُماثله قصر في بلاد العالم، قائم على تلٍّ عظيم تجاه باب المدينة، وكان طوله خمسمائة
ذراع في عرض مائتين وخمسين، وله بابٌ
عظيم كلُّ جانب منه قطعةٌ واحدة من الصخر، وكذلك أعلاه حجرٌ واحد، وكان في ذلك القصر
مائة عمود، وفي صدره عمودٌ عظيم لم
يُرَ مثله في الحجم، وله قمة كالتاج.» ويقول الكاتب نفسه إن ذلك العمود يهتزُّ عند هبوب
الريح عليه. وكان الاعتقاد السائد
أن هذه الأبنية أقامها الجن والعمالقة من البشر الأوائل. قال السيوطي إنه قد بنى الجان
لسليمان في الإسكندرية إيوانًا
للاجتماع، به ثلاثمائة عمود علوُّ كلٍّ منها ثلاثون ذراعًا، وكانت من المرمر المجزع بلغ
من صقله أن صار كالمرآة يرى
الإنسان فيه مَن يسير خلفه، وكان في وسط الإيوان عمودٌ علوُّه مائة ذراع وأحد عشر ذراعًا،
وكان سقفه قطعةً واحدةً مربَّعة
من المرمر الأخضر نحته الجن،
٤١ وكان هؤلاء الجان على صورة الإنسان، لهم رءوس كالقباب وعيونٌ تمزق الأسود. وقد ورد عن
ذلك رأيٌ آخر، وهو أن
الأحجار كانت في الأزمان السالفة ليِّنة كالطين، أو كما قال كاتبٌ آخر: «وكان من السهل
أن يعمل الناس قبل الظهر في محاجر
المرمر؛ إذ يكون المرمر كأنه العجين في لِينه، ولكنه يصير بعد الظهر صلبًا يتعذر اقتلاعه.»
وهذه القصص تُظهر دهشة العرب مما رأوا من الأبنية التي صارت ملكًا لهم. وإنه لمن
المؤلم أن يقرأ الإنسان أخبار تخريبها
وهدمها، ولكن العدل يقضي علينا أن نذكر أن أكثر ذلك التخريب كان من فعل الزلازل، فما
أتى القرن الحادي عشر حتى كانت
المدينة كلها أطلالًا خربة، ولكن العجب أن يذكر كُتاب ذلك العصر أن الأعمدة كانت لا تزال
قائمة،
٤٢ ويقولون إن عدتها كانت خمسمائة. وقد رآها الإدريسي بعد مائة عام من ذلك الوقت، وقال
في وصف ذلك إن العمود
الأكبر كان حوله فضاء فيه ستة عشر عمودًا عند كل من جانبَيه الضيقين، وسبعة وستون عمودًا
عند كل من طرفَيه العريضين.
٤٣ وقال بنيامين «التودلي»،
٤٤ وقد زار المدينة في عام ١١٦٠، إنه رأى بناءً عظيمًا جميلًا فيه أعمدة من المرمر تفصل
بين حجراته الكثيرة، وقال
إن ذلك كان في «مدرسة أرسطو». وذلك مثل ما يقوله الكُتاب المسلمون؛ إذ يُسمُّونه «قبة
أرسطو» أو «بيت الحكمة». غير أنه حدث
في عام ١١٦٧ أن حاكمًا جاهلًا للإسكندرية اسمه «قراجا»، وكان من وزراء صلاح الدين، أمر
بهدم هذه الأعمدة، وحمل أكثرها إلى
البحر فألقاها فيه ليحُول بين العدو وبين النزول إلى البر.
٤٥ ومنذ ذلك الحين بقي عمود «دقلديانوس» وحده في مجده، بقية مما كان في قلعة الإسكندرية
٤٦ من الأبنية التي لم يكن لها مثيل.
ولنترك الآن معالجة مسألة المكتبة وما حل بها، فسنجعل لذلك موضعًا آخر، ولنمضِ إلى
ذكرِ أثرٍ آخر أو أثرين جديرين
بالذكر. كان المَلهى الذي ذكره العرب في غرب القلعة على ما يلوح لنا، وكان هناك من غير
شك ميدانٌ لسِباق الخيل في خارج
المدينة مما يلي الباب الشرقي. وقيل إن
٤٧ ذلك الميدان كان يتسع لألف ألف من النظارة، وكان بناؤه يجعل كل من فيه يرى ما يجري به،
سواء في ذلك من كان في
أعلاه أو في أسفله، وكانوا يسمعون كل ما يُقال بغير ازدحام أو مشقَّة. وأما دار التمثيل
فقد كانت في موضع من حي
«البروكيون»، وكانت بناءً عظيمًا قائمًا بنفسه.
ولكن المنارة كانت موضعًا لأعظم إعجاب العرب وأكبر دهشتهم. وقد كان ذلك البناء الضخم
كما هو معروف قائمًا في الشمال
الشرقي من جزيرة «فاروس»، وكانت تلك الجزيرة متصلة ببر المدينة بطريقٍ طويلٍ قائم على
عقودٍ اسمه «الهبتاستاديوم»، وكانت
الجزيرة في وقت الفتح العربي يُحيط بها مرسى السفن، وفيها أبنيةٌ مختلفة كان أكبرها كنيستان؛
إحداهما ﻟ «القديسة صوفيا»،
والأخرى ﻟ «القديس فوستوس»، وبينهما نُزلٌ للأغراب.
٤٨ وكانت بتلك الجزيرة في أيام قيصر قريةٌ كبيرة، وكان أهلها قومًا لا خلاق لهم. وقد قال
قيصر عن المنارة إنها
قطعةٌ عجيبة من البناء،
٤٩ ووصفها سترابو بأنها برجٌ ذو بناءٍ عجيب من الحجر الأبيض وله طبقاتٌ عدة.
٥٠ وقد كان بناؤها على يد «سوستراتوس الكنيدي» في أيام «بطليموس فلادلفوس»، وكان القصد
منها هداية السفن. وقد
أصابها هدم من فعل البحر ومن أسبابٍ أخرى، ولكنها كانت تُرمَّم كلما دعت الحال
٥١ إلى ترميمها. فكانت في أيام فتح العرب صالحة لم يفسد منها شيء، تلمع في النهار في ضوء
الشمس، وتُضيء بنورها في
الليل على البحر إلى بعد عدة فراسخ من الإسكندرية. وكان شاطئ تلك الجهات ضحلًا لا مرفأ
له، وكانت السفن الآتية إلى
الإسكندرية تعبُر إليها بحرًا فسيحًا لا معالم فيه من البر؛ فكان من أكبر النعم أن يُقام
علَمٌ ظاهر في النهار والليل على
مسافة ستين ميلًا أو سبعين.
وقد كتب كُتاب العرب شيئًا كثيرًا عن هذه المنارة؛ فقال الإصطخري
٥٢ إن المنارة قائمة على صخرة في البحر، وبها أكثر من ثلاثمائة غرفة لا يهتدي فيها الزائر
إلا إذا هداه دليل.
وقال ابن حوقل:
٥٣ إنها مبنية من صخورٍ منحوتة قد جُمع بعضها إلى بعض وشُدَّت بالرصاص، ولا يُشبِهها شيء
على وجه الأرض. وقد
وصفها الإدريسي مثل ذلك الوصف
٥٤ مع تفصيلٍ أعظم، فقال: إن المنارة لا يُماثلها شيء في بلاد العالم في قوة بنائها ونظامها؛
فهي من أصلب الصخور
صُبَّ بينها الرصاص المُنصهر، حتى إن حجارتها لا ينفصل بعضها عن بعض. ويصل ماء البحر
إليها من جهة الشمال، وعلوُّها نحو
ثلاثمائة ذراع، كل ذراع ثلاثة أشبار؛ فطولها مثل قامة مائة رجل؛ منها سبعون قامة بين
الأرض والطبقة الوسطى، وست وعشرون
قامة بين الطبقة الوسطى والقمة، وعلو المصباح الذي بها أربع قامات.
٥٥ وهيئة بناء برج المَنارة معروفةٌ لا شك فيها؛ فقد كانت ذات طبقات أربع، كلٌّ منها أضيق
قُطرًا من الطبقة التي
أسفلها. وكانت الطبقة الأولى مما يلي الأرض مربَّعة، والتي تليها ذات ثمانية أضلاع، وكانت
الثالثة مُستديرة، وأما الطبقة
العليا فكانت مصباحًا مكشوفًا، وبها مواضع للنار التي يُهتدى بها، ومرآةٌ عجيبة. وكان
في أعلى الطبقة الأولى المربعة طنفٌ
عريض عند قاعدة الطبقة الثانية المثمَّنة يُشرِف على المدينة والبحر، وكان بين الطبقة
المثمَّنة والطبقة الدائرية التي
فوقها طنفٌ آخر أقل اتساعًا من الأول،
٥٦ ولكنه يُشبِهه. وكان الصعود إليها على سُلَّم يُغطيه سقف من الحجارة
٥٧ يصِل بين جدرانها، وكان تحت السلم غُرفٌ عدَّة، ويضيق ما بين السُّلم من الفراغ بعد
الطبقة الثانية، حتى
يتضاءل الفضاء الذي بداخل المنارة فلا تبقى إلا فرجةٌ صغيرة كالبئر في وسطه، وكان الضوء
يصل إليها من نوافذ في جدارها كله
من أعلاه إلى أسفله.
٥٨
وقد عجِب العرب من عدد غرف المنارة ومن تداخلها؛ فقال المقريزي: ويُقال إن كل من
دخل المنارة اختبل وضلَّ الطريق مما بها
من الغُرف العدة والطبقات والمماشي. وقيل إن المغاربة عندما جاءوا إلى الإسكندرية في
خلافة المقتدر، دخل جماعة منهم إلى
المنارة على ظهور الخيل، فضلُّوا طريقهم حتى جاءوا إلى شق في كرسي الزجاج الذي على هيئة
السرطان،
٥٩ وهو الذي يقوم عليه البناء، فوقع كثير منهم فيه وهلكوا.
٦٠ ولكن قيلت في المرآة قصصٌ أعجب من هذا. وقد أجمع كُتاب العرب على أنها كانت في ذاتها
بصرف النظر عن المنارة
التي كانت هي قائمة عليها، إحدى عجائب العالم. فقيل: قد كان في مدينة «راقوتي» قبةٌ مذهَّبة
على أعمدة من الشبه، وكان
فوقها منارة في أعلاها مرآة من معدنٍ مركب يبلغ قُطرها خمسة أشبار.
٦١ وكانت تلك المرآة تُتخذ لإحراق سفن العدو. وقد قُلِّدت هذه المرآة في مدينة الإسكندر،
فأقيم مثلها على رأس
المنارة، ولكنها كانت تُستخدم في رؤية العدو من بُعْد «إذا أقبل من بلاد الروم». وقد
دخلت المبالغة على وصفها بعد قليل،
فرُوي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «ومن عجائب بلاد العالم المرآة التي على منارة الإسكندرية،
وهي تكشف ما يجري في القسطنطينية.»
٦٢ ولكن المسعودي يصفها بأنها «مرآةٌ عظيمة من الحجر الشفَّاف، يمكن أن تُرى فيها السفن
الآتية من بلاد الروم وهي
بعيدة عن مدى البصر». وقال كاتبٌ آخر مثلَ هذا المعنى، ولكنه يذكر أن هذه المرآة كانت
من «زجاجٍ مدبَّر»؛ أي مُحكَم الصنعة.
٦٣ وقال كاتبٌ ثالث إنها كانت من «الحديد الصيني» أو الصلب الثقيل.
٦٤ وقد أجمع الكل على أنها كانت تُظهر السفن وهي أبعد من مدى البصر، فكان الإنسان إذا جلس
تحتها رأى كل شيء من
مكانه إلى القسطنطينية.
وأما الغرض الذي من أجله أُقيمت المرآة فمُختلَف فيه؛ فهل لم تكن تُتخذ إلا لتنعكس
عليها أشعَّة الشمس في النهار وضوء
النار في الليل لهداية السفن؟ وهل كانت مرآةً مما اعتاد الناس اتخاذها، أم كان لها سطحٌ
يختلف عن ذلك له قدرة على كسر
الضوء؛ فلذلك كانت حقيقةً تُتخذ لإحراق السفن إذا ما سطعت عليها أشعة الشمس القوية في
مصر؟ والجواب على هذا موكول إلى
العلماء، ولكن من أعجب الأمور أن يذكر مؤرخو العرب في القرن العاشر للميلاد من وصف هذه
المرآة ما يمكن أن نعدَّه تنبؤًا
باستعمال المِنظار المُقرِّب (التلسكوب). وإنه من العجيب كذلك أن يُجمع كل هؤلاء الكُتاب
على أنها كانت من مادةٍ شفَّافة،
فيقول بعضهم من الزجاج المدبَّر، ويقول البعض من حجرٍ شفَّاف؛ فإن هذا القول وصف لعدسةٍ
ضوئية وليس لمرآة. أليس إذن من
الممكن أن تكون مدرسة الإسكندرية العظمى التي فاقت في علوم الرياضة والحيل قد كشفت سر
العدسة الضوئية وصنعتها، ثم نُسي أمر
هذا السر بعد تخريب المنارة؟
وإنه من الثابت أن المنارة كانت تُتخذ علَمًا للإشارة، كما كانت تُستخدم لهداية السفن،
ولكن ليس من الواضح عندنا أكانت
النار تُوقد بها في الليل والنهار؛ فإن الإدريسي إنما يذكر النار بالليل «وسحابة من الدخان
في النهار»، ولكن جاء في وصفٍ
آخر للمنارة أن الديادبة كانوا يُقيمون بها على استعداد لإبقاء النيران بالليل.
٦٥ ولكن من سوء الحظ أنَّا لا نجد دليلًا على ما جرت به العادة في أول الأمر؛ لأن المنارة
لحِقها كثير من الهدم
والتخريب في مدة القرن الأول بعد الفتح العربي. ولذلك التهديم قصة؛ وذلك أنه في خلافة
الوليد بن عبد الملك في القرن الثامن
للميلاد، رأى الروم فعل المنارة، وضايَقهم من أمرها أنها كانت مرقبًا يُساعد المسلمين
على ردِّ غارات البحر ويحميهم من
المُباغتة، فعوَّلوا على الاحتيال في تخريبها. فذهب رجلٌ من خواصِّ
٦٦ ملك الروم إلى الخليفة يحمل الهدايا النفيسة، وتظاهَر بأن الملك قد وجد عليه مَوجدةً
عظيمة وسعى في قتله، وأنه
جاء راغبًا في الإسلام، فصدَّقه الخليفة، ورحَّب بإسلامه وقرَّبه، وتنصَّح الرجل إلى
الخليفة في دفائن استُخرجت من بلاد
الشام، فشرهت نفسه إلى الأموال، فمال إلى تصديق ما وصفه ذلك الرومي الداهية من كنوزٍ
عظيمة من الذهب والجوهر كانت من قبلُ
لملوك مصر القديمة، وقال إنها مدفونة في آزاج ومَخادع تحت المنارة. فأرسل الخليفة جماعة
من جنده ليستخرجوا ذلك، فهدموا نصف
المنارة وأزالوا المرآة، وتم ذلك قبل أن يفطن أحد إلى المكيدة. فضجَّ الناس وعزموا على
منع ذلك الهدم، وبعثوا إلى الخليفة
بخبرها، فنُذر الخائن بالأمر فهرب في الليل إلى بلاده، وكانت حيلته قد تمَّت، وهُدم من
المنارة نِصفها أو على الأقل
ثُلثها، وبلغ الخائن ما أراد؛ إذ هدم المرآة السحرية. وعرف العرب أنهم خُدعوا بعد أن
انقضى الأمر، و«بنَوا مرآة من الآجر،
ولكنهم لم يستطيعوا أن يُعيدوها إلى علوها السابق، فلما وضعوا المرآة عليها لم تُفِد
شيئًا».
٦٧
وليس ثَمة سببٌ يدعو إلى الشك في جوهر هذه القصة، وليس من العَجب أن يتعذر إصلاح
ما تلف من المنارة؛ فلا شك أنها كانت من آيات البناء؛ إذ بقيت قائمةً مدة قرون وهي شاهقة
العلو ناهدة في أطباق الفضاء، وما
كان البنَّاءون في مدة حكم العرب ليبلغوا ما بلغه سلفهم في عهد البطالسة. ولم يرِد في
كتاب المسعودي ذكر لسعي العرب في
إعادة بنائها، بل يُفهم من قوله أنهم لم يفعلوا شيئًا في سبيل ذلك، ولكن لعله مُخطئ.
ولا نعرف بعد ذلك إلا قليلًا من أخبار
المنارة؛ فقد ورد أن أحمد بن طولون
٦٨ جعل على قمتها قبةً من الخشب حوالَي سنة ٨٧٥ للميلاد. وفي ذلك ما يدل على أن هذا البناء
لم يكن يُعَد منارة
على سابق عهده، بل صار مَرقبًا لا يُستخدم لغير ذلك، ولكن هذه القبة لم تبقَ مدةً طويلة،
ولما أن أزالها الريح أقيم في
موضعها مسجد في مدة الملك الكامل. وقد حدث بعد مدة ابن طولون ببضع سنين أن تهدَّمت إحدى
قوائمها من جهة الغرب مما يلي
البحر، فبناها خمارويه.
٦٩ وفي القرن الذي بعد ذلك لعشر من رمضان لعام ٣٤٤ للهجرة (وذلك يُوافق الثامن والعشرين
من ديسمبر سنة ٩٥٥
للميلاد)، تهدَّم نحو ثلاثين ذراعًا من قمتها في زلازل شديدة أحسَّ بها الناس في كل بلاد
مصر والشام وشمال أفريقيا، وكانت
لها هزَّاتٌ عنيفة بقيت تتوالى نحو نصف ساعة.
٧٠ وفي عام ١١٨٢ ذكر ابن جبير
٧١ أنه رأى مسجدًا آخر على رأسها. ويقول ذلك الكاتب إن علوَّها كان نيفًا ومائة وخمسين
ذراعًا. وفي ذلك دلالة على
مقدار نقصان البناء عما كان عليه في أول عهده. وبعد ذلك الوقت بنحو أربعين عامًا كتب
ياقوت وصفًا لها، ورسم لها رسمًا
مربَّعًا ﮐ «الحصن»، له طبقةٌ ثانيةٌ قصيرة من فوقها قبةٌ صغيرة. واستطرد من ذكر ذلك
إلى أن قال: إن أخبار عِظم تلك
المنارة وما ورد من تعظيم شأنها لم تكن إلا «أكاذيب وتغرير». ولقد كان حكمه ذلك وليد
التسرع؛ فالظاهر أنه لم يفطن إلى ما
أحدثه الدهر فيها من التغير. ولقد جاء في قوله: «وبحثت عن موضع المرآة فلم أجد له أثرًا.»
وكيف يرجو أن يراها على مثل ذلك
الطلل المتهدِّم المشوَّه وهو كل ما كان باقيًا في وقت زيارته؟
٧٢ ولكن ما حدث بها من التلف بعد ذلك كان أعظم وأبلغ؛ فقد وصفها كاتبٌ عربي في أيام قلاوون
بأنها «طللٌ بالٍ».
٧٣ مع أن السلطان «بيبرس» كان قد رمَّمها قبل ذلك وأصلح منها، وقد سعى من جاء بعد ذلك في
إصلاحها، غير أنه يلوح
لنا أن الزلزال الذي وقع في عام ١٣٧٥ دمَّر معظمها، فلم تبقَ منها إلا الطبقة السفلى
من البرج.
٧٤
ولئن ذهبت منارة «الفاروس» وتطاوَل على زوالها أمد الدهر، فقد بقيت منها هيئتها
وجمال منظرها، وما كانت مُستعملة من أجله؛ وذلك أن منائر المساجد المصرية إنما رُسمت
على رسمها،
٧٥ ونُسجت على منوالها، وقد سُميت باسمها. وإن منائر القاهرة وإن اختلفت أشكالها وتباينت
رسومها، لا تزال الكثرة
منها على رسم منارة «سوستراتوس» لا فرق فيما بينها؛ فهي برجٌ قاعدته عند الأرض مربَّعة
الشكل، ثم تصير بعد ذلك مثمَّنة
الأضلاع، وتدِقُّ في حجمها، ثم تدِقُّ بعد ذلك ويستدير شكلها، ثم يعلوها عند القمة مصباح.
إن تاريخ آثار الإسكندرية لم يكتبه أحدٌ بعد، وإن من أراد كتابته لا بد له من بحثٍ
كثير لا يتيسَّر اليوم في كثير من
المواضع، وهو بحث لا غنى عنه في إثبات ما يُراد إثباته. على أن وصفنا الذي نصِفه الآن
على ما فيه من نقص قد يُفيده في بيان
ما وقعت عليه أنظار العرب من تلك الآثار عند أول دخولهم في المدينة.
ولم يكن مظهر العاصمة من خارجها بأقل أثرًا أو أحقر منظرًا؛ فكانت الأسوار في شمال
المدينة تُساير الشاطئ في انحنائه كما
سبقت الإشارة إلى ذلك، وكانت الأسوار في جنوبها تتبع الترعة حتى تدخل إلى المدينة وتجري
فيها، وكان كل ذلك بناءً مَتينًا
بارع الصناعة تنهض فيه بروج وحصون، فتجعل له هيئةً منوَّعة ظلَّت يُعجَب بحسنها السُّفار
الذين كانوا يرَونها في السنين
الغابرة من أيام الفتح حتى العصور الوسطى.
٧٦