الفصل الخامس والعشرون
مكتبة الإسكندرية
لقد كثر الجدل في أمر مكتبة الإسكندرية العظمى، وطالما احتدم الخلاف في شأن إحراقها،
وهل كان للعرب يد في ذلك عند فتحهم
للمدينة، أم أنهم لم يُقارفوا شيئًا من ذلك. وما دام أهل البحث والعلم لا يزالون على
اختلاف في ذلك الأمر ولم يهتدوا إلى
كلمة فصل فيه، فلا بد لنا في كتابنا هذا أن نُعالجه؛ إذ لا نستطيع أن نُغفله في كتابٍ
جعلناه لمعالجة تاريخ فتح العرب لتلك
البلاد.
والقصة كما أوردها أبو الفرج
١ كما يلي: قد كان في ذلك الوقت رجلٌ اشتهر بين المسلمين اسمه «حنا الأجرومي»، وكان من
أهل الإسكندرية، وظاهر من
وصفه أنه كان من قسوس القبط، ولكنه أُخرجَ من عمله إذ نُسِب إليه زيغ في عقيدته، وكان
عزله على يد مجمع من الأساقفة انعقد
في حصن بابليون. وقد أدرك ذلك الرجل فتح العرب للإسكندرية واتصل بعمرو، فلقي عنده حظوة
لِما توسَّم فيه بصفاء ذهنه وقوة
عقله من الذكاء، وعجِب مما وجد عنده من غزارة العلم. فلما أنِس الرجل من عمرو ذلك الإقبال
قال له يومًا: «لقد رأيت المدينة
كلها وختمت على ما فيها من التحف، ولست أطلب إليك شيئًا مما تنتفع به، بل شيئًا لا نفع
له عندك وهو عندنا نافع.»
فقال له عمرو: «وماذا تعني بقولك؟» فقال: «أعني بقولي ما في خزائن الروم من كُتبِ
الحكمة.» فقال له عمرو: «إن ذلك أمر ليس لي أن أقتطع فيه رأيًا دون إذن الخليفة.» ثم
أرسل كتابًا إلى عمر يسأله في الأمر،
فأجابه عمر قائلًا: «وأما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يُوافق ما جاء في
كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا
خالفه فلا أرب لنا فيه وأحرِقْها.» فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو أمر بالكتب فوُزعت على
حمامات للإسكندرية لتُوقد بها،
فما زالوا يُوقدون بها ستة أشهر. ثم قال المؤلف: «فاسمع وتعجَّب!»
هذه هي القصة كما جاءت في اللغة العربية، وقد كتب أبو الفرج ما كتبه في النصف الثاني
من القرن الثالث عشر ولم يذكر
المَورد الذي نقل عنه قصته، ثم نقله عنه أبو الفداء في أوائل القرن الرابع عشر، ثم المقريزي
٢ بعد ذلك. حقًّا قد ذكر عبد اللطيف (وقد كتب حوالَي سنة ١٢٠٠) إحراق مكتبة الإسكندرية
بأمر عمرو، لكنه لم يُفصل
في ذكر ذلك، ويلوح أنه روى ذلك الخبر مصدِّقًا، وهذا يدل على أن تلك القصة كانت مُتداولة
في أيامه، ولكن لم يرِد لها ذكرٌ
مكتوب قبل مضي خمسة قرون ونصف قرن على فتح الإسكندرية، ويمنع من تصديقها إغفال كل الكُتاب
لذكرها من «حنا النقيوسي» إلى
«أبي صالح». ولعل قائلًا يقول إنها ظلَّت تلك القرون تتناقلها الألسن. وإن هذا الرأي
يُعززه أن القبط لا تزال بينهم تلك
القصة يتناقلونها مع بعض خلاف فيها؛ إذ يجعلون مدة الإيقاد بالكتب سبعين يومًا بدلًا
من ستة شهور، ولكن ليس من دليلٍ يدل
على أن أصل هذه الرواية أقدم من أيام أبي الفرج. ومعنى ذلك بقولٍ آخر أن هذه القصة وإن
كانت مُتداولة بين الناس تكون أُخذت
عن كُتاب القرون الوسطى؛ فتداوُلها لا يمكن أن يكون دليلًا على شيء، كما أنه لا يمكن
أن ينقض شيئًا، ولكن الشك الذي يُحيط
بتلك القصة يجعلها غير وثيقة في الدلالة، ولا كافية بذاتها في البرهان.
إذن علينا أن نفحص القصة كما وردت؛ فهي بلا شك قصةٌ خلَّابة المظهر، وإن رد عمر
على كتاب ابن العاص أشبه القول بما اعتاده أهل الشرق في ردودهم، وهذا التشابه في الأسلوب
هو أقوى ما تُعزَّز به القصة،
ولكن من سوء الحظ أنه قد ورد عن عمر مثل هذا الرد في شأن إحراق كُتب الفرس،
٣ وهذا نظير قصة أخرى تُذكر عن عمرو إذ وقع في الأسر، ثم أنجاه مولاه وردان بضربة على
وجهه كانت سببًا في خلاصه
من الموت إذا هو انكشف أمره، فأُخذت تلك القصة من موضعها ونقلها الكُتاب المسلمون إلى
وقت حصار الإسكندرية؛ فلعل قصة
المكتبة تكون كذلك قد عُزيت إلى الإسكندرية مع أنها قد تكون في أصلها قائمة على حادثةٍ
وقعت قد يكون عمر عناها بذلك القول
وقضى فيها بذلك القضاء الشديد، ولكن في القصة مواضع أخرى لا تثبت إذا حملنا عليها بالنقد؛
وذلك أننا لو سلَّمنا أن المكتبة
قد أُحرقت كما قيل، لكان الأقرب إلى الأذهان أن تُحرق فوق ربوة القلعة، ولكن القصة تريدنا
على أن نقول إن تلك المكتبة قد
كلَّفت الناس مشقَّة حملها في عِيب وفرَّقوها بين الحمامات العدة فاتُّخِذت وقودًا مدة
ستة أشهر. وما كل ذلك سوى نسيج من
الباطل؛ فإن تلك الكتب إذا كان قد قُضي عليها بالحرق لأُحرقت حيث هي، وما كان عمرو بن
العاص وقد أبى أن يُعطيها لصديقه
«فليبونوس» ليجعلها في أيدي أصحاب الحمامات في المدينة؛ فإنه لو فعل ذلك لاستطاع «حنا
فليبونوس» أو سواه من الناس أن
يستنقذوا عددًا عظيمًا منها بثمنٍ بخس في تلك الشهور الستة التي قيل إنها جُعلت وقودًا
للحمامات فيها. وبعدُ فمِمَّا لا شك
فيه أن كثيرًا من الكتب في مصر في القرن السابع كانت من الرَّق،
٤ وهو لا يصلح للوقود، وما كان أمر الخليفة ليجعله يصلح لذلك. فلنُسائل إذن أنفسنا، ماذا
كان من أمر تلك الكتب
المخطوطة على الرق؟ وإذا نحن استبعدناها فكيف يتصوَّر أحدٌ أن ما يبقى من سواها يكفي
لوقود أربعة آلاف حمام
٥ مدة مائة وثمانين يومًا؟ إن إيراد القصة على هذه الصورة مُضحِك، وإنه ليحقُّ لنا أن
نسمع ما فيها
ونعجب.
وقد يقول قائل إن هذه الشبهات الصغيرة ليس من العدل أن يؤخذ بها، وإننا إذا أنعمنا
النظر في الأمر، واستقصينا ما ذُكر
عنه، وفحصناه فحصًا دقيقًا؛ لم نجد مندوحة من الانتهاء إلى أن حريق المكتبة أمرٌ صحيح
على وجه الإجمال. ولا يسعنا مع مثل
هذا القول إلا أن ندع القصة ونقدها في ذاتها ونلتمس دليلًا مما هو خارج عنها لنرى هل
يُعززها في الجملة أو ينقضها، ولا بد
لنا من النظر في أمرين نرى لهما شأنًا عظيمًا فيما نحن بصدده؛ أولهما: هل كان «حنا فليبونوس»
٦ على قيد الحياة في وقت فتح العرب؟ وثانيهما: هل كانت المكتبة باقية إلى ذلك الوقت؟ فأما
الأمر الأول فإنه أمرٌ
مقرَّر لا يكاد يكون فيه شك؛ فإن حنا لم يكن حيًّا في عام ٦٤٢، ولا حاجة بي إلى سرد كل
ما يؤيد هذا الرأي؛ فمن المعروف أن
حنا كان يكتب في عام
٧ ٥٤٠، ولعله كان يكتب قبل تملُّك جستنيان، أي قبل عام ٥٢٧، وقد يكون أدرك القرن السابع
وعاش بضع سنين في أوله.
وأما لو قلنا إنه عاش إلى عام ٦٤٢، فإن سنه لا تكون عند ذلك أقل من مائة وعشرين عامًا؛
فمن الجلي على ذلك أن يكون «حنا
فليبونوس» قد مات منذ ثلاثين أو أربعين عامًا قبل أن يدخل عمرو في الإسكندرية.
وأما المكتبة ذاتها ووجودها عند الفتح فبحثٌ شائق، ومن أشق الأمور الانتهاء إلى قول
فيه؛ فإن أول مكتبة كانت بالإسكندرية
هي المكتبة الشهيرة، وكانت في حي البروكيون كما هو معلوم. ولئن كان إنشاء هذه المكتبة
العظمى التي اجتمعت فيها أجلُّ
مؤلفات العالم يرجع الفضل فيه إلى «بطليموس سوتر»، فإنها لم تتحقق ولم يتم تجهيزها ويكمل
نظامها إلا على يد خلَفه «بطليموس
فلادلفوس». والظاهر أنها كانت في جزء من مجموعة الأبنية الفخمة التي كانت تُعرف بالمتحف.
٨ وقد قال «سترابو» عن ذلك المتحف إنه كان في جوار قصور الملك العظيمة التي كان بناؤها
على ربع مساحة المدينة.
وكان بناء المكتبة له بهوٌ عظيم في وسطه من حوله عُمدٌ مصفوفة تُحيط به، وأفنيةٌ ذات
آزاج. وكانت هذه الأبنية تتصل بسواها
مما كان فيه مدرسة الطب والتشريح والجِراحة ومدرسة الرياضيات والفلك ومدرسة القانون والفلسفة،
وكان يتصل بالبناء بستانٌ
كبير وحديقة لعلم النبات ومرصد.
٩ وفي ذلك كما ترى جهاز جامعة من أكبر الجامعات، ولسنا نستطيع أن نعيِّن على وجه الدقة
الموضع الذي كانت فيه
المكتبة، ولا هيئة بناء المتحف، بل قد اختلف العلماء في تعيين موضع ذلك المتحف. ومن المؤلم
أن سترابو لا يذكر شيئًا عن
المكتبة؛ فإنه لو ذكر عنها شيئًا لكان دليله قاطعًا في هذه المسألة، ولعرفنا الحقيقة
عما رواه بعض المؤرخين القدماء من
ضياع المكتبة في حريق سنة ٤٨ للميلاد؛ أي قبل زيارته ببضع سنين؛ فقد كان قيصر عند ذلك
محصورًا في حي البروكيون يُحيط به
المصريون من كل جانب، وعليهم قائدهم «أخيلاس»، فأحرق السفن التي في الميناء، وقيل إن
النار امتدَّت من هناك وأحرقت المكتبة
فأفنتها. أما قيصر نفسه — وذلك إذا كان هو كاتب وصف ذلك الحادث — فإنه لا يُشير إلى شيء
من أمر نكبة كهذه، بل إنه يقول إن
الإسكندرية لا تكاد النيران تسري فيها؛
١٠ إذ كان بناؤها لا خشب فيه، بل كان قائمًا على عقود وآزاج، وسقوفه من الحجر والبلاط المُتجمد.
١١ وإن إشارةً مثل هذه لا يكون القصد منها إلا التضليل والإيهام إذا كان الكاتب يُداري
في أمره، ويتستر على أنه
شهد إحراق مكتبة الإسكندرية، وأنه كان السبب في إحراقها. وإنه من أشق الأمور أن ننتهي
إلى نهاية في أمر قيصر فنتَّهمه أو
نُبرئه. أما «بلوتارك» فلم يكن به شك في الأمر؛ إذ قال: «ولما رأى أسطوله يقع في يد عدوه
اضطرَّ أن يدفع الخطر بالحريق،
فامتدَّت النار من المراسي في الميناء فأحرقت المكتبة.»
١٢ وواضحٌ أن سنيكا قد صدَّق هذه القصة؛ إذ قال: «لقد أُحرق في الإسكندرية أربعمائة ألف
كتاب.»
١٣ وما أغرب ما قاله «ديوكاسيوس»
١٤ إذ قال: «وامتدَّت النيران إلى ما وراء المراسي بالميناء فقضت على أنبار القمح ومخازن
الكتب. وقيل إن هذه
الكتب كانت كثيرة العدد عظيمة القيمة.» وليس بنا من شك فيما كان معروفًا بين الناس في
القرن الرابع؛ فإن قول «أميانوس مرسلينوس»
١٥ واضحٌ جلي؛ إذ وصف «مكاتب الإسكندرية التي لا تقوم بثمن، والتي اتفق الكُتاب الأقدمون
على أنها كانت تحوي
سبعمائة ألف كتاب بذل في جمعها البطالسة جهدًا كبيرًا، ولقوا في سبيل ذلك عناءً كبيرًا،
وقد أحرقتها النيران في حرب
الإسكندرية عندما غزاها قيصر وخرَّبها.» وقد كتب «أورسيوس» ما يُعزز هذا القول، وذلك
حيث يقول: «وفي أثناء النضال أمر
بإحراق أسطول الملك، وكان عند ذلك راسيًا على الشاطئ، فامتدَّت النيران إلى جزء من المدينة،
وأحرقت فيها أربعمائة ألف كتاب
كانت في بناءٍ قريب من الحريق؛ فضاعت خزانةٌ أدبيةٌ عجيبة مما خلَّفه آباؤنا الذين جمعوا
هذه المجموعة الجليلة من مؤلفات النابغين.»
١٦ وخلاصة القول أننا نرى الأقرب إلى العقل أن نصدِّق ما جاء من أخبار ضياع المكتبة في
حريق الإسكندرية على يد
قيصر لا أن نكذِّبها.
ولكن بعد سبع سنوات أو ثمانٍ من ذلك الحادث الذي وقع لقيصر أرسل «مارك أنطون» إلى
الإسكندرية
١٧ مكتبة ملوك «برجاموس». ولا نقدر على البت في موضع هذه الكتب؛ أكان المتحف لا يزال صالحًا
لأن يكون لها
مَقرًّا، أم وُضعت في السرابيوم، فكان ذلك منشأ مكتبة السرابيوم المتأخرة؟ فإن هذا الأمر
لا يزال موضع الخلاف والبحث بين العلماء.
١٨ وإنا نرى الأقرب إلى الصواب تكذيب هذين الرأيين كليهما؛ فقد رأينا فيما سلف أن المعبد
الكبير معبد القيصريون
كان من بناء كليوبترا أنشأته تكريمًا لقيصر،
١٩ وأن «أغسطس» أتمَّه بعد ذلك. وذكر أنه كان من أجلِّ ما يُحليه مجموعة كُتبه. فإذا كانت
مكتبة المتحف قد
أُحرقت، كان أقرب الأمور إلى العقل أن يُجعل معبد القيصريون مقرًّا لمكتبة «برجاموس»،
وإن لم يكن مقرًّا لجميعها فلا أقل
من أن يُجعل جزء منها فيه، ولعل ما يبقى بعد ذلك يُجعل في معبد السرابيوم.
ومهما يكن من ذلك الأمر، فإن أمرين يكاد ألا يكون شك فيهما؛ أولهما: أن جزءًا من
بناء المتحف كان لا يزال باقيًا صالحًا
إلى أيام «كراكلا» الذي أسال الدماء في المدينة أنهارًا، وأقفل الملاهي بها، وأمر بمنع
الناس من الذهاب إلى «السيسيتيا»،
وهي القاعة العامة في المتحف، وكان ذلك في عام ٢١٦ للميلاد. وثاني الأمرين: أنه في أوائل
التاريخ المسيحي أُنشئت مكتبةٌ
كبرى بدل مكتبة المتحف التي ضاعت، وجُعلت في معبد السرابيوم على قلعة «الأكروبولس». وقيل
إن أورليان هدم أبنية المتحف
وسوَّاها بالأرض
٢٠ في عام ٢٧٣، وذلك عندما أوقع بحي البروكيون فخرَّبه انتقامًا من أهل الإسكندرية على
ثورتهم مع «فيرموس». وهرب
عند ذلك أعضاء المتحف الذين كانوا ينتسبون إليه فلجئوا إلى السرابيوم، أو خرجوا في البحر
فرارًا. وكانت مكتبة السرابيوم
تُعرف ﺑ «المكتبة الصغرى» أو «المكتبة الوليدة»،
٢١ ولكنا لا نستطيع أن نعيِّن تاريخًا لنهاية «المكتبة الأم»،
٢٢ ولا لابتداء «المكتبة الوليدة». على أنه قيل في الأخيرة إن الذي أنشأها «بطليموس فلادلفوس».
ولكن هذا أمر لا
شأن له ببحثنا هذا؛ فحسبُنا أن نعرف أن المكتبة الأولى القديمة كانت في القرن الرابع
قد قُضي عليها وفنيت، وأن المكتبة
الثانية الصغرى كانت عند ذلك قد مضى زمنٌ ما على إنشائها.
إذن قد سار معهد السرابيوم على سُنة الماضين في تحصيل العلم، وأُنشئت جامعة بها
عددٌ عظيم من الكتب، وبقي اسم أرسطو متصلًا بالعلم الإسكندري في معهد السرابيوم،
٢٣ كما كان من قبلُ متصلًا بمعهد المتحف. ومعنى ذلك أن دراسة الفلسفة والعلوم بقيت على
عهدها بالإسكندرية، وهي
التي جعلت تلك المدينة من قبلُ مَقرَّ العلوم في العالم، ولم يتغير إلا شيءٌ واحد، وهو
أن مقرَّ الدراسة أصبح السرابيوم
بعد أن كان المتحف.
ولكن كان مقدورًا على السرابيوم أن يُقضى عليه في أواخر القرن الرابع على يد المسيحيين
يقودهم «تيوفيلوس». وقد رأينا
فيما سلف كيف خرَّب القيصريون ونهبوا في سنة ٣٦٦ في أثناء نضال ديني، وأغلب الظن أن المكتبة
التي كانت فيه قد ذهبت ضحية في
ذلك النضال. وكان نضال المسيحيين مع عبَدة الأوثان يزداد شدة وهولًا كلما زاد المسيحيون
قوة، وكان السرابيوم بلا شكٍّ حصن
الوثنية وملاذها، وظل الوثنيون مدةً يُغِيرون من هناك على المدينة ويقتلون أشد المسيحيين
عليهم، وقد انتفعوا في ذلك بمناعة
موقع السرابيوم، فثأر المسيحيون بأن حاصروا «قلعة الأكروبولس»، ولكن قبل أن يصل النضال
إلى نهايته اتفق الجانبان على تحكيم
الإمبراطور فيما بينهم؛ فقضى «تيودوسيوس» للمسيحيين، وقُرئ حكمه على الناس من الحزبين
في ساحة السرابيوم، فهرب عبدة
الأوثان المصرية القديمة، وأهوى المسيحيون إلى المعبد العظيم معبد «سرابيس»، وعلى رأسهم
«تيوفيلوس»، وجعلوا يهدمونه
ويُخربون فيه، وكان ذلك في عام ٣٩١، ولا يختلف فيه اثنان.
فلنمضِ الآن إلى بحثٍ آخر لنرى هل ضاعت المكتبة في ذلك التخريب. وإنا لا نستطيع أن
نقول على وجه البت إنها قد ضاعت؛
٢٤ فإن ذلك أمرٌ مختلف فيه. ولا بد لنا من فحص ما يُتاح لنا من أدلةٍ بتراء لعلنا ننتهي
منها إلى حكم، وأول شيء
نُثبته أن المعبد ذاته قد تهدَّم في عام ٣٩١، وكان هدمه تامًّا؛ إذ سُوي بناؤه بالأرض
ونُقض من أساسه، كما قال «أونابيوس»،
ولعله كان مبالغًا في قوله بعض المبالغة. وقد بُني في موضعه كنيسة أو أكثر من كنائس المسيحيين،
ولكن لم يذكر أحدٌ أن
المكتبة قد ضاعت فيما ضاع عند ذلك؛ فلا بد لنا إذن من إثبات أحد أمرين إذا أردنا أن نُثبت
ضياعها: إما أن نُبرهن على أن
المكتبة كان مَقرُّها ذلك المعبد، وإما أن نُبرهن على أن أبنية «الأكروبولس» قد خُربت
جميعها في الثورة؛ إذ هدمها
المسيحيون مع «تيوفيلوس».
٢٥ ولكن أحد هذين الأمرين محقَّق، وهو الأمر الثاني؛ فإن المسيحيين لم يهدموا أبنية «الأكروبولس»
جميعًا. ومن
السهل إثبات هذا؛ فقد سبق لنا البرهان على أن بقيةً عظيمةً ذات جلال رائع كانت لا تزال
باقية من بناء السرابيوم إلى القرن
الثاني عشر، ولكنا نجهل كل الجهل موضع هذه البقية، كما أنَّا نجهل الغرض من إنشائها أولًا.
٢٦ وبقاء هذه البقية إنما يدل على أن المكتبة قد تكون بقيت سليمة إذا كانت في البناء الباقي
الذي لم يصل إليه
الهدم في ثورة المسيحيين، ولا يدل على أكثر من ذلك، ولكن بين أيدينا براهين تدل على موضع
المكتبة ومقدار ما لحقها من التلف
على يد المسيحيين، وأول هذه الأدلة ما قاله «أفطونيوس»، وقد زاد السرابيوم في القرن الرابع
قبل تدميره بزمن.
٢٧ وثاني هذه الأدلة ما قاله «روفينوس»، وقد شهد ذلك التخريب وكتب ما كتبه بعده. وقول كل
من هذين الكاتبين يُكمل
قول الآخر ويصدِّقه، ولكن من العجيب أن أحدهما لا يذكر المعبد في قوله ولا يُشير إليه،
في حين أن الثاني لا يذكر المكتبة
ولا يُشير إليها، ولكن مع ذلك لا شك في أن «أفطونيوس» يُلحق المكتبة بالمعبد، ولا يُلحقها
بأي بناء آخر من أبنية «الأكروبولس»،
٢٨ كما لا شك في أن المكتبة كانت في وقت زيارته للإسكندرية قائمة هناك مفتوحة الأبواب كعادتها
لمن يقصدها من طلاب
العلم والقراءة.
فإذا نحن آمنَّا بأن المكتبة كانت مُلحَقة بالمعبد، وبأن المعبد قد خُرب ودُمر؛ فكيف
يمكن أن نقول إن المكتبة قد نجت ولم
تصِر إلى ما صار إليه المعبد؟ لا سيَّما وقد كان خراب المعبد كاملًا؛ إذ نُقض من أساسه
وسُوي بالأرض. قال «أونابيوس»:
٢٩ «إنهم خرَّبوا السرابيوم وحطَّموا أوثانه، ولم تبقَ إلا الجدران ذاتها؛ إذ عجزوا عن
إزالة تلك القطع العظيمة
من الحجارة.» وقال «ثيودوريت» في وصف هذه الحوادث عينها: «ونُزعت محاريب الأصنام من أساسها.»
٣٠ وقال سقراط: «وأمر الإمبراطور بهدم كل معابد الوثنيين في الإسكندرية.» ثم قال: «فهدم
«تيوفيلوس» معبد سرابيس.»
وقال: «وهُدمت المعابد، وصُهرت الأوثان التي من معدن البرونز، واتُخذت منها الأواني.»
٣١ وقال في موضعٍ آخر: «إنه قد كُشفت حجارة عليها نقوش بالحرف المصري القديم عندما كان
الناس يهدمون معبد
السرابيوم.» وقال مثلَ ذلك «سوزومن»،
٣٢ وهو يقول إن المسيحيين استولَوا على السرابيوم منذ أخذه «تيوفيلوس» إلى وقته الذي كتب
فيه. وكل هؤلاء الكُتاب
كما ترى ممن كتب في النصف الأول من القرن الخامس؛ وعلى ذلك يكادون يكونون كلهم ممن عاشوا
في وقتٍ واحد. ومما يؤسف له أنهم
لم يقولوا في المكتبة قولًا صريحًا فنعلم مصيرها على غير شك، ولم يذكروا شيئًا عن تخريب
أبنية «الأكروبولس» الأخرى، ولم
يرِد شيء من الإيضاح إلا فيما كتبه «روفينوس»؛ فإنه يذكر أن الأبنية التي كانت تكتنف
الربوة من خارجها لم يمسَّها ضر، وكل
ما لحقها أن عبدة الأوثان أُخرجوا منها. ويقول إن هذه الأبنية هي التي بقيت بما كان فيها
من قاعات الدرس وأروقة البيت، في
حين أن معبد سرابيس الأكبر وما كان فيه من عُمدٍ لم يبقَ فيه حجر على حجر، بل سُوي بالأرض.
٣٣
إذن فالأمر كما يلي: قد ثبت أن المكتبة كانت في حجراتٍ متصلة ببناء المعبد، شأنها
في ذلك شأن المشاهد التي كانت للأصنام
المصرية القديمة، وثبت أن بناء ذلك المعبد كله قد هُدم وخُرب، فلا بد أن تكون المكتبة
قد لحقها الخراب نفسه.
٣٤
وقد يقول قائل لعل الكتب قد أُنجيت من ذلك الدمار الذي لحق البناء الذي كانت فيه،
بل لقد قيل إن تلك الكتب قد نُقلت
جميعها؛ إذ نقلها «جورج القبادوقي» من هناك قبل ثورة المسيحيين بقيادة «تيوفيلوس»، وقبل
أخذهم المعبد بثلاثين سنة، وقيل
كذلك إنه عندما أخذ المسيحيون «الأكروبولس» أُرسلت تلك الكتب إلى القسطنطينية.
٣٥ وإنه لمِمَّا يُشَك فيه أن يكون الناس الثائرون قد أبقَوا على تلك الكتب وأشفقوا على
تلك الكنوز أن تضيع، وهي
في نظرهم كُتب الوثنيين قد وضعوها هناك وديعة عند الوثن الأكبر. إنهم خليقون ألا يفعلوا
ذلك وهم الذين حطَّموا أوثان
«سرابيس» وأحرقوا حطامه،
٣٦ ولم يُبقوا في معبده حجرًا قائمًا؛ ذلك المعبد الذي كان آية العظمة والإبداع في بلاد
العالم. وإنا لنعجب من
إغفال كُتاب العصر ذكر هذا الحادث، ولكنا مع ذلك نجد الأقرب إلى الأفهام أن تلك الكتب
قد ضاعت طُعمة اللهيب
٣٧ الذي أحرق وثن «سرابيس»، وأنها لم تُنزع من براثن ذلك التخريب الذي مزَّق المعبد كله،
ولم تُرسَل في البحر إلى
موضعٍ آخر. وقد نُقل عن «أوروسيوس» أنه رأى الرفوف أو الصناديق في السرابيوم فارغةً ليس
عليها شيء من الكتب. فإذا صحَّ ذلك
لكان دليلًا على أن الكتب لم يكن لها وجود منذ سنة ٤١٦، وذلك هو العام الذي كتب فيه «أوروسيوس»،
ولكان ذلك دليلًا على أن
بناء المكتبة بقي إلى ذلك الوقت قائمًا، ولكن ذلك قولٌ غير دقيق، ولفظ الرواية لا يُبرره؛
٣٨ فإن «أوروسيوس» لا يذكر بناء السرابيوم، بل يذكر حريق مكتبة المتحف، ويُدلي بحجته على
النحو الآتي بوجه
التقريب: «إذا فُرض أننا نرى اليوم رفوفًا مما توضع عليها الكتب (في بعض المعابد)، وإذا
فُرض أنها فارغة ليس عليها شيء قد خلت من الكتب لِما أصابها من أيامنا هذه، إذا فُرض
ذلك ثبت منه أنه قد كانت في تلك
المواضع مكاتب في الأزمان القريبة من عهدنا، ولكن لا يثبت منه أن مكتبةً قد بقيت وكانت
جزءًا من مكتبة المتحف القديمة،
وأنها نجت من النيران بأن وُضعت في بناءٍ آخر، بل إن الذي نستطيع أن ننتهي إليه أنه قد
جُمعت كتبٌ أخرى تقليدًا للمكتبة
القديمة، وكان جمعها بعد الحريق.»
هذه حجة «أوروسيوس» يريد بها أن يُبرهن على أنه لم ينجُ شيء من المكتبة القديمة التي
أنشأها البطالسة، ولم يُشِر فيها
إلى مكتبة السرابيوم.
٣٩ وقد عزَّز هذا الرأيَ كُتابٌ آخرون، من بينهم «ماتر»، وهذا هو الحق بعينه، ولكن ذلك
القول له دلالة من وجهتين؛
فإنه إذا كان لقول «أوروسيوس» معنًى لا يختلف فيه اثنان، فهو أنه لم تكن في عصره مكتبةٌ
قديمةٌ عظيمة في الإسكندرية؛ إذ لو
كان في عصره مكتبةٌ كبرى بمعبد السرابيوم لمَا أغفل «أوروسيوس» ذكرها في أثناء قوله الذي
بينَّاه آنفًا؛ وعلى ذلك يمكن أن
نقول إن «أوروسيوس» وإن لم يشهد تدمير مكتبة السرابيوم في عام ٣٩١، قد شهد أنها لم تكن
في الوجود في عام ٤١٦.
ولكنَّا لم ننتهِ بعدُ من برهاننا على النقطة التي نحن بصددها، وهي أن المكتبة لم
يكن لها وجود في القرن السابع؛ فإنه لا
يستطيع أحدٌ أن يقول إن كل كتب الإسكندرية قد ضاعت في أثناء تلك الحروب الشعواء التي
شُنَّت على المكاتب، أمثال حرب
«دقلديانوس» على مؤلفات المسيحيين، وحرب «تيوفيلوس» على مؤلفات الوثنيين؛ فلا بد أنه
قد بقيت بعد تخريب المكاتب العامة
الكبرى بقيةٌ كبرى من تلك الكتب في ملك أفراد الناس، أو في مكاتب الأديرة البعيدة. وإن
بقاء العلم في الإسكندرية لم تنطفئ
أنواره ليقوم وحده دليلًا على بقاء الكتب وانتفاع الناس بها، غير أننا نستبعد كل الاستبعاد
أن تكون مكتبة السرابيوم الكبرى
قد بقيت إلى القرن السابع، من غير أن نجد في كتابة أحد من كُتاب القرنين الخامس والسادس
ما يدل على وجودها دلالةً صريحة لا
لبس فيها ولا إبهام. ولنذكُر من ذلك مثلًا واحدًا وهو «حنا مسكوس»، وقد سبق لنا ذكر زيارته
لمصر مع صديقه «صفرونيوس» قبل
فتح العرب بسنين غير كثيرة. وقد بينَّا ما كان عليه هذان الرجلان من محبة العلم، وشغفهما
بالكتب وما يتصل بها،
٤٠ وقد كتبا مقدارًا عظيمًا، وسافرا إلى كثير من بلاد مصر وأقاما فيها زمنًا طويلًا، ولكنا
لا نرى في كتابٍ مِن
كتبهما إذا قلَّبناها واستوعبنا قراءتها ذكرًا لمكتبةٍ عامة في البلاد اللهم إلا لمكاتب
أفراد الناس؛ وعلى ذلك يكون قد
مرَّ قرنان لا تُذكر فيهما تلك المكتبة. وجاء في آخر هذين القرنين كاتبان مُكثِران، وهما
«حنا مسكوس» و«صفرونيوس»، وهما لا
يذكران عنها شيئًا. ولا يتأتَّى مع كل هذا أن يقول قائل إن الإسكندرية كانت مكتبةً عامةً
كبرى عندما فتحها العرب.
بقي علينا أن نُثبت أمرًا أو أمرين؛ فإننا إذا سلَّمنا بأن كل ما سبق إيراده من الحجج
لم يكفِ لأن يُزعزع رأي من يذهبون
إلى بقاء مكتبة السرابيوم، ثم سلَّمنا بأن تلك المكتبة بقيت على عهدها حتى فتح العرب
الإسكندرية، إذا سلَّمنا بذلك كان
أبعد الأمور أن يكون العرب قد أتلفوها ودمَّروها. ولذلك سببٌ نُورِده؛ فإن العرب لم يدخلوا
المدينة إلا بعد أحد عشر شهرًا
من الفتح، وقد جاء في شروط الصلح أن الروم في مدة الهدنة لهم أن يخرجوا من البلد إذا
شاءوا، وأن يحملوا معهم كل ما
استطاعوا نقله من متاعهم وأموالهم،
٤١ وكان البحر في كل هذه المدة خاليًا من العدو لا يقف شيء فيه بين الروم وبين القسطنطينية
أو سواها من ثغور
البحر، فلو كانت مكتبة السرابيوم عند ذلك باقية لطمع الناس في ثمن كتبها، وأغراهم ذلك
بنقلها إن لم يُغرِهم شيءٌ آخر؛ إذ
كانت كتبًا قيمةً عظيمة القدر يُقبِل على شرائها كثير من الناس الذين لهم شغف بالعلوم
وطلبها، وكان لا بد لمثل هؤلاء أن
يكونوا على مثال الشخص الذي جاء في القصص وهو «حنا فليبونوس»، فيسعوا إلى نقل تلك الكنوز
العلمية في وقت الهدنة إذا كانت
الفرصة مُمكنة، وما كانوا ليتركوها تقع لمُحاربي الصحراء الذين لا علم لهم بقيمتها، وهم
على وشك أن يدخلوا المدينة.
وبعدُ، فإن الصمت الذي يلزمه كُتاب القرنين الخامس والسادس، وإغفالهم ذكر تلك المكتبة،
بقي إلى ما بعد الفتح؛ فلم يكن
بين العرب مؤرخون كتبوا عن تاريخ مصر في القرنين السابع والثامن. وقد يُقال إن متأخري
الكُتاب تعمَّدوا إغفال ذكرها،
ولكننا لا نستطيع أن نقول ذلك عن «حنا النقيوسي» الأسقف المصري، وقد كان رجلًا من أهل
العلم، وكانت كتابته قبل القرن
السابع، وقد كتب في ديوانه الأخبار المفصَّلة، وأحاط فيه بمختلف الأحداث. وفي هذا دلالة
على أنه كان عظيم الاطلاع، واسع
العلم بالأخبار، ولم يفصل بينه وبين فتح العرب إلا خمسون عامًا. وإن أبا الفرج نفسه (صاحب
القصة التي يتَّهم فيها العرب)
ليشهد بأن الإسكندرية بقيت مقصدًا لطلاب العلم إلى حوالَي سنة ٦٨٠ للميلاد؛ فإنه يذكر
أن «يعقوب الأذاسي» ذهب إلى
الإسكندرية ليُتمَّ تحصيله للعلم بعد أن أتمَّ درس اللغة اليونانية والكتاب المقدس في
أحد الأديرة بالشام.
٤٢ وهذا يدل على أن بعض المكتبات كانت لا تزال باقية بمصر عند أفراد الناس وفي الأديرة
بعد الفتح كما كان قبله،
وإلا فلو كان في المدينة مكتبةٌ عامةٌ كبرى قبل الفتح ثم أحرقها العرب عند فتحهم لها،
لمَا أغفل ذكرَ هذا الحادث رجلٌ مثل
«حنا النقيوسي»؛ كاتبٌ قريب العهد بالفتح، قد أفاض في ذكر الإسكندرية، وفصَّل في وصف
فتحها، وما كان ليُبيح لنفسه أن يدع
للنسيان حادثةً كان لها عظيم الأثر؛ إذ ذهبت بما كان يمكنه الاعتماد عليه في كتابة تاريخه،
وحرمت العالمَ أجمع من كنز من
أكبر كنوز العلم حرمانًا أبديًّا.
ولعلنا لا نكون مُخطئين إذا نحن أجملنا فيما يلي أدلة حجتنا؛ فإن قصدنا أن نُبين
حقيقة أمر مكتبة الإسكندرية، ومقدار
نصيب قصة إحراق العرب لها من الصحة أو الكذب. وقد بيَّنا فيما سلف الأمور الآتية:
- (١)
أن قصة إحراق العرب لها لم تظهر إلا بعد نيف وخمسمائة عام من وقوع الحادثة التي نذكرها.
- (٢)
أننا فحصنا القصة وحلَّلنا ما جاء فيها، فألفيناه سخافاتٍ مُستبعَدةً يُنكرها العقل.
- (٣)
أن الرجل الذي تذكُر القصة أنه كان أكبر عامل فيها مات قبل غزوة العرب بزمنٍ طويل.
- (٤)
أن القصة قد تُشير إلى واحدة من مكتبتين؛ الأولى: مكتبة المتحف، وهذه ضاعت في الحريق
الكبير الذي أحدثه
قيصر، وإن لم تتلف عند ذلك كان ضياعها فيما بعدُ في وقتٍ لا يقلُّ عن أربعمائة عام قبل
فتح العرب. وأما
الثانية، وهي مكتبة السرابيوم: فإما أن تكون قد نُقلت من المعبد قبل عام ٣٩١، وإما أن
تكون قد هلكت أو تفرَّقت
كتبُها وضاعت، فتكون على أي حال قد اختفت قبل فتح العرب بقرنين ونصف قرن.
- (٥)
أن كُتاب القرنين الخامس والسادس لا يذكُرون شيئًا عن وجودها، وكذلك كُتاب أوائل القرن
السابع.
- (٦)
أن هذه المكتبة لو كانت لا تزال باقية عندما عقد «قيرس» صلحه مع العرب على تسليم الإسكندرية،
لكان من المؤكد
أن تُنقل كتبها، وقد أبيح ذلك في شرط الصلح الذي يسمح بنقل المتاع والأموال في مدة الهدنة
التي بين عقد الصلح
ودخول العرب في المدينة، وقدر ذلك أحد عشر شهرًا.
- (٧)
لو صحَّ أن هذه المكتبة قد نُقلت، أو لو كان العرب قد أتلفوها حقيقةً، لمَا أغفل ذِكرَ
ذلك كاتبٌ من أهل
العلم كان قريب العهد من الفتح مثل «حنا النقيوسي»، ولمَا مرَّ على ذلك بغير أن يكتب
حرفًا عنه.
ولا يمكن أن يبقى شك في الأمر بعد ذلك؛ فإن الأدلة قاطعة، وهي تُبرر ما ذهب إليه
«رينودو» من الشك في قصة أبي الفرج، وما
ذهب إليه «جبون» من عدم تصديقها. ولا بد لنا أن نقول إن رواية أبي الفرج لا تعدو أن تكون
قصة من أقاصيص الخرافة ليس لها
أساس في التاريخ.
٤٣