الفصل السادس والعشرون
فتح «بنطابوليس»
رأى عمرو بن العاص أنه بفتح الإسكندرية قد قضى على سلطان الروم في مصر، ولكنه لم
يرَ أنه قد أتم ما كان ينبغي له من الفتح، وقد خرج جيش الروم من مصر وشُرط عليه ألا يعود
إليها، ولم تبقَ من المقاومة في
مصر إلا جذوةٌ صغيرة في أقصى أرض مصر السفلى، وقد اعتصم أصحابها بموانع من طبيعة أرضهم
من نهر أو بحيرة، ولكن تلك المقاومة
لم تكن لتُحدِث في مصير البلاد أثرًا، فبقيت مدينة المنزلة كما رأينا على نضالها أشهرًا
عدة بعد دخول العرب الإسكندرية،
وجاءت الأمداد تترى إلى مصر منذ جاء أولها من فُرسان العرب مع الزبير، فأدركوا عمرو بن
العاص وأغاثوه وهو بين عينَي الخطر،
فكانت تلك الأمداد تحلُّ محل من يلقى الشهادة من المسلمين في الحرب، وزادتهم فوق ذلك
عددًا، فأصبح عمرو وقد صار معه جيشٌ
عظيم فوق ما كان من المسالح في الحصون والمدائن الكبرى، وما كان من الجند في قتال البلاد
التي كان العدو لا يزال يُناجز
فيها ويُقاوم.
وكان عمرو يميل إلى التوسع في الفتح بطبعه، وكان الإسلام في نشأته يرى أن ينشر علَمه
على الآفاق، فما إن أمِن العرب على
مصر ولما ينقضِ فيها القتال كله، حتى عوَّل قائدهم على إنفاذ بعث إلى بنطابوليس، وهو
الإقليم الذي يلي مصر غربًا من بلاد
الدولة الرومانية. ولا بد أن يكون عمرو قد أقام نظام الحكم في وادي النيل في مدة شهور
الهدنة الأحد عشر، حتى إذا ما انقضت
تلك الهدنة ودخل العرب الإسكندرية لم يبقَ عليه إلا أن يُقيم للمدينة وحدها نظامها. ولو
كان الأمر غير ذلك لمَا استطاع
عمرو أن يُنفذ بعثة إلى بلاد المغرب بعد مثل ذلك الزمن القصير من فتح العاصمة؛ فإنه أنفذه
في تاريخ لا يمكن أن يقع بعد أول
عام ٦٤٣
١ بزمنٍ طويل.
وقد بيَّنا من قبلُ عند الكلام عن ثورة هرقل على فوكاس، أنه قد كان في القرن السابع
سلسلة من المدائن والمنازل على
الطريق بين الإسكندرية و«قيرين»، وأن أكثر الطريق كان في أرضٍ خصبةٍ ذات زرع.
٢ وإذا قلنا إن السير في ذلك الطريق كان سهلًا على جند الروم، فإنه كان نزهة لفُرسان العرب،
٣ ولم يلقَوا في سيرهم هذا كبير كيد؛ فلا يُذكر أنه قد وقع قتال حتى بلغ العرب «برقة».
والظاهر أنها سلَّمت لهم
صلحًا على أن تدفع للعرب ثلاثة عشر ألف دينار جزيةً معلومةً كل عام.
٤
وقد جاء في شروط ذلك الصلح شرطان عجيبان: الأول أنه أبيح لأهل برقة أن يبيعوا أبناءهم
ليأتوا بالجزية المفروضة، والثاني
أنه كان عليهم أن يحملوا الجزية إلى مصر حتى لا يُسمح بدخول جُباة لجزية إلى بلادهم.
وقد قال ياقوت إن أكثر أهلها أسلموا.
وسار عمرو بعد فتح برقة إلى طرابلس، وكانت أمنع حصونًا وأعز جيشًا؛ فقد كانت بها مسلحةٌ
كبيرة من الروم، فأقفلت أبوابها
وصبرت على الحصار الذي وضعه العرب عليها بضعة أسابيع.
٥ وكان البحر من ورائها خاليًا من العدو، ولكن لم يأتِها
إمداد منه، حتى إذا ما كاد جيشها يهلك من جهد القتال وشدة الجوع، عرف العرب أن المدينة
كانت غير محصَّنة من قِبل البحر،
وأنهم يستطيعون النفوذ إليها من هناك. فدخل جماعة منهم بين أسوار المدينة والبحر، وقاتلوا
عدوهم من هناك، وصاحوا صيحتهم:
«الله أكبر!» فتردَّدت أصداؤها في طرق المدينة، ولمعت سيوفهم المهنَّدة، فذُعِر المُدافعون
عن المدينة، وحملوا ما استطاعوا
حمله من متاعهم، وأسرعوا إلى السفن وحلوا قلوعها. وفي أثناء ذلك ترك الحُراس الأبواب،
ودخل عمرو بجيشه إلى المدينة.
سار عمرو مُسرعًا كما اعتاد السير، فطلع بغتةً على مدينة سبرة،
٦ وهاجمها في أول الصباح، وأخذ الناس على غِرة؛ إذ كانوا يظنُّون أن العرب لا يزالون في
شغل من حصار طرابلس؛
ولهذا فُتحت المدينة عند أول حملة حملوها عليها، وكان أخذها عنوة، فأعمل فيها العرب النهب،
وكان هذا ختام تلك الحرب
السريعة. فعاد عمرو إلى برقة، وجاءت إليه من قبائل البربر قبيلة لواتة
٧ فدانت له، وهي جُل من كان يسكن تلك البلاد. فلما تم له ذلك عاد بجيشه المنصور إلى مصر
٨ ومعه عددٌ عظيم من الأسرى ومقدارٌ كبير من الغنائم.
وقيل إن عمرو بن العاص أحبَّ أن يتخذ الإسكندرية مَقرًّا له، ولا سيَّما وأنه وجد
بها قصورًا كثيرة من أجلِّ القصور
خاليةً من أصحابها، ولكن عمر بن الخطاب كان قد عوَّل على أن يجعل الفسطاط عاصمة مصر المستقبلة؛
فإنه لم يشأ أن يجعل الأمير
الذي أقامه يتخذ عاصمته في مدينةٍ عظيمة على ساحل البحر، جاعلًا بينه وبين صحراء العرب
مجاري الترع المُتشبكة الآخذة من
النيل. ولعل عودة عمرو إلى حصن بابليون كانت في صيف سنة ٦٤٣، وكان جسرا النيل قد أعيدا
هناك فأقيما بين الروضة وبابليون
على الشاطئ الشرقي، وبينها وبين الجيزة على الشاطئ الغربي،
٩ ولكن الشاطئ الغربي ومدينة منفيس التي كانت عليه كانا عُرضة للغارات المُباغتة من قبائل
الصحراء الضاربة فيما
وراء الأهرام، فأمر عمرو ببناء قلعة في الجيزة تدفع المُغِيرين من قِبلها، وتمكِّن للعرب
في جانب النيل الآخر، فيكون
سلطانهم مبسوطًا على الضفَّتين معًا، فتمَّ ذلك قبل حلول شهر نوفمبر من ذلك العام.
١٠
أصبح السلام سائدًا عند ذلك في كل بلاد مصر السفلى وبلاد وادي النيل إلى حدوده الجنوبية
عند أسوان، ولكن السودان كان عند
ذلك قذًى في عين حكام مصر، وهو لا يزال كذلك في كل العصور؛ وذلك لأن قبائله لا يسهل قيادها،
وكانت في جبالها أو صحرائها لا
ترضى بدين المسيح بدلًا، ولا تحب الدخول في الإسلام، ولا تزال تنظر إلى بلاد مصر ذات
الخيرات أنها غنيمة لها كما كانت
لآبائها وأجدادها لا تدع الإغارة عليها. وقد أرسل عمرو إلى بلاد النوبة جيشًا يغزوها،
ولكن لم يستطع أن يهزم أهلها، بل
اضطرَّ إلى العودة
١١ بعد أن لحقت به خسارةٌ عظيمة مما أصاب الناس من سهام رُماة النوبة الذين سمَّاهم العرب
بعد ذلك رماة الحدق.
وبقي القتال بعد ذلك ينشب بين حين وحين مدة بضع سنين إلى أيام خلافة عثمان، فعقد صلحًا
مع أهل النوبة على أن يدفعوا كل عام
جزيةً من العبيد إلى والي مصر، وشرط لهم العرب أن يُرسلوا إليهم خُلعة ومئونة. ومن ذلك
يظهر أن الصلح كان صلح نِدَّين؛ إذ
لم يكن الوقت قد حان لفتح بلاد السودان.
١٢
كانت بلاد مصر في أثناء هذا آخذةً في الاستقرار والاطمئنان تحت حكم عمرو بن العاص،
وكان عادلًا في حكمه لين الجانب
لرعيته، بدا ذلك منه بعد أن هدأت سَورة الفتح، وذهبت إحن القتال والنضال التي عصفت بالبلاد
زمنًا. وقد أرسل إلى الخليفة
وصفًا لمصر؛ إذ طلب عمر ذلك منه، وهذا الوصف آيةٌ دالة على عمرو، يبدو فيها شاعرًا معسول
القول، وحاكمًا عظيم الكياسة، وهو
في نثرٍ مسجوع ننقله فيما يلي:
١٣
«اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قريةٌ غبراء، وشجرةٌ خضراء. طولها شهر، وعرضها عشر.
يكنفها جبلٌ أغبر، ورمل أعفر. يخط
وسطَها نيلٌ مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر،
له أوانٌ يدرُّ حلابه، ويكثر فيه
ذبابه، تمدُّه عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا اضلخم عجاجه، وتعظَّمت أمواجه، فاض على
جانبَيه، فلم يكن التخلص من القرى
بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل وُرْق الأصائل.
فإذا تكامل في زيادته، نكص على
عقبَيه كأول ما بدا في جريته، وطما في ذرته، فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة،
١٤ يحرثون بطن الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعَوا من
كدهم، فناله منهم بغير
جدهم. فإذا أحدق الزرع وأشرق سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى. فبينما مصر يا أمير المؤمنين
لؤلؤةٌ بيضاء، إذا هي عنبرةٌ
سوداء، فإذا هي زمردةٌ خضراء، فإذا هي ديباجةٌ رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء، الذي
يُصلح هذه البلاد ويُنميها،
ويُقرُّ قاطنيها فيها ألا يُقبَل قول خسيسها في رئيسها، وألا يُستأدى خراج ثمرة إلا في
أوانها، وأن يُصرف ثلث ارتفاعها في
عمل جسورها وترعها. فإذا تقرَّر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال،
والله تعالى يُوفق في المبدأ والمآل.»
١٥
وتبدو حكمة فاتح مصر عينها في خطبته التي قالها في مسجده، وهو الذي يُسمَّى جامع
عمرو إلى يومنا هذا، وذلك في يوم الجمعة
من أيام عيد الفصح من عام ٦٤٤،
١٦ وقد رواها عنه رجلٌ ممن سمعه كان عند ذلك مع أبيه في المسجد، فرأى رجالًا يزجرون الناس
بالسِّياط عند
ازدحامهم، وسمع المؤذن يُقيم الصلاة، ثم رأى عمرو بن العاص قام على المنبر. وقد أثَّرت
هيئة عمرو في نفس ذلك الشاب المسلم؛
إذ كان رَبْعةً قصير القامة وافر الهامة، أدعج أبلج، ورأى عليه ثيابًا مُوشية كأن بها
العقيان يأتلق.
١٧
فلما قام عمرو حمِد الله وأثنى عليه، وصلَّى على نبيه، ثم أمر الناس بالإحسان والصدقة
وطاعة الوالدين، وأمرهم بالقصد
ونهى عن الإفراط والفضول، وحذَّر المسلمين مما يُسبب لهم النَّصَب بعد الراحة، والضيق
بعد السعة، والذلة بعد العزة. وهذه
الأمور التي حذَّرهم منها هي كثرة العيال، وإخفاض الحال، والقيل بعد القال. ثم بيَّن
لهم أن الإفراط في الفراغ واتباع
الشهوات أكبر أسباب الضياع والفساد؛ إذ هي تقضي على فضائل النفس. ثم قصد عمرو بعد ذلك
إلى معنًى آخر، فقال: «يا معشر الناس
إنه قد تدلَّت، الجوزاء وذكَت الشِّعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقلَّ الندى،
وطاب المَرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت
السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر، فحيَّ لكم على بركة الله إلى ريفكم، فنالوا
من خيره ولبنه، وخرافه وصيده،
وأربعوا خيلكم وأسمنوها، وصونوها وأكرموها؛ فإنها جنتُكم من عدوكم، وبها مغانمكم وأنفالكم،
واستوصوا بمن جاورتموه من القبط
خيرًا، وإياكم والمسومات والمعسولات؛ فإنهن يُفسدن الدين ويُقصِّرن الهمم. حدثني عمر
أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله
ﷺ يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرًا؛ فإن لكم منهم صهرًا وذمة.»
فكُفوا أيديكم، وعِفُّوا
فروجكم، وغُضوا أبصاركم،
١٨ ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني مُعترض الخيل كاعتراض الرجال،
فمن أهزل فرسه من
غير علة حططته من فريضته قدر ذلك. واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء
حولكم، وتشوُّق قلوبهم إليكم وإلى
داركم؛ معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية. وحدثني عمر أمير المؤمنين أنه
سمع رسول الله
ﷺ يقول: «إذا
فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض.» فقال له
أبو بكر: «ولمَ يا رسول الله؟» قال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.»
١٩ فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتَّعوا في ريفكم ما طاب لكم. فإذا يبس الزرع،
وسخن العمود، وكثر
الذباب، وحمض اللبن، وصُوِّح البقل، وانقطع الورد من الشجر؛ فحيَّ إلى فسطاطكم على بركة
الله. ولا يقدُمن أحد منكم ذو عيال
على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته.
أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.»
ويروي المسلمون روايةً عجيبة، وهي أن من أول ما صنعه عمرو بمصر أن أبطل عادةً كان
المصريون يتبعونها كل عام، بأن يُضحوا
بفتاةٍ عذراء يُلقونها في النيل حتى يفيض. ويُقال إن النيل لما امتنعت هذه العادة القديمة
بأمر عمرو لم يعلُ وأبى أن يفيض،
حتى كتب الخليفة عمر كتابًا ألقى فيه فعلًا وفاض.
٢٠ وهذه ولا شك قصة من أقاصيص الخرافة؛ فليس فيما اعتاده مسيحيو مصر ما يدعو إلى تصديق
أنهم كانوا يُبيحون
التضحية بالبشر، وليس من سببٍ يدعونا إلى تصديق سر كتاب عمر وقوَّته العجيبة. على أن
هذه القصة تُشبِه أكثر أمثالها من
الأقاصيص في أن لها أساسًا من الحقيقة التاريخية كما يلوح؛ فقد كان من عادة أهل السودان
حقيقةً في أقصى أنحائه الجنوبية أن
ترمي قبائله الهمج في النهر بفتاةٍ عذراء في زينة الزفاف.
٢١ ولعل عادةً كهذه كانت متبعةً في بعض جهات الهمج من بلاد النوبة التي فتحها الإسلام في
أول أمره، ولعل عادة
التضحية بفتاةٍ تُرمى في النهر كانت متبعة في مصر في أيام الفراعنة. وإنه من المحقَّق
أن الاحتفال بالنيل والدعاء من أجل
زيادته وفيضه كانت تقع فيه أعمالٌ خرافيةٌ كثيرة تختلف من العصور القديمة، ولكنها لم
يكن فيها شيءٌ مثل ذلك الجُرم من
التضحية بالعذراء. وقد بقيت بقيةٌ كبيرة من هذه الخرافات القديمة العهد في الاحتفال بالنيل
إلى أيام القرن الرابع عشر،
٢٢ ولكنه من أكذب الكذب أن يُتَّهم المسيحيون بأنهم حافظوا على مثل هذه العادة الشنيعة
التي لا ترضى عنها
ديانتهم، ولا تُقرُّها ملتهم.
وإن قول عمرو الذي اقتبسناه فيما سلف من قولنا ليدلُّ دلالةً واضحة على طريقته في
الحكم، وعلى ما أراد أن يصله من الصلة
بين الغزاة الفاتحين وأهل البلاد. وعندنا دليلٌ أكبر دلالةً على هذا الميل وتلك النزعة
فيما كتبه عمرو في أمره الذي أمره
بتأمين البطريق بنيامين وإعادته إلى سابقة ولايته، وقد حدا به إلى انتهاج تلك الخطة أنه
رأى أن أمور السياسة لا تستقرُّ في
هذا البلد إلا إذا استقرَّت معها أمور الدين.