الفصل السابع والعشرون
إعادة بنيامين
لما مات البطريق الروماني «قيرس»، ورحلت عن مصر جيوش الروم التي كان سلطانه يعتمد
عليها، حدث تغيرٌ كبير في حال الأحزاب الدينية؛ إذ انقضى بذلك أمد البلاء الأكبر الذي
حل طويلًا بالناس من جرَّاء
الاضطهاد. وقد أقيم خلَفًا لبطريق الرومان في الإسكندرية ليقوم على ولاية أمر المذهب
الملكاني، ولكن ولايته كانت لا تتعدى
أسوار المدينة، وذهب عنه سلطانه، وانفضَّ من حوله كثير من أتباعه، ولكن بطريق القبط كان
لا يزال على اختفائه طريدًا يضرب
في أنحاء الصعيد ويَهِيم على وجهه فيه؛ فكان يُخيَّل إلى الناس أن مذهبه قد بات صريعًا
لا تكاد الحياة تدبُّ فيه؛ مما
أصابه من الوطء والعسف في محنته التي تطاولت به مدتها نحو عشر سنوات على يد قيرس الذي
كان لا يعرف الرحمة، ولا تخطر على
قلبه هوادة. وقد أصبحت مصر بعدُ وليس دينها دين المسيح؛ إذ وُضعت عليها حماية الإسلام
تعلو أحزابها جميعًا، وأصبح سيفه
بينها فيصلًا حائلًا؛ فأدَّى ذلك إلى تنفُّس الناس في عباداتهم، واختيار ما يشاءونه في
تديُّنهم، فلم يكن بالمسلمين اهتمام
لمُنازعات الأحزاب في شأن مجمع خلقيدونية، واختلافهم في صدق ما أقرَّه ذلك المجمع أو
كذَّبه، وأصبح القبط في مأمن من الخوف
الذي كان يُلجئهم إلى إنكار عقيدتهم أو إخفائها تقيةً ومُداراة؛ فعادت الحياة إلى مذهب
القبط في هذا الجو الجديد، جو
الحرية الدينية، وما لبث أن صار مذهب الكثرة الذي يحقُّ له أن يكون مذهب الأمة السائد،
وقد قضى عمرو بن العاص بأنه كذلك،
وأنفذ قضاءه بأن كتب أمانًا لبنيامين وأقرَّ عودته.
وقيل إن الذي حدا بعمرو إلى المبادرة بهذا الأمر ما أبلغه إياه رجلٌ اسمه سنوتيوس
(أو هو شنودة)، وكان من قبط مصر، إلا
أنه كان مع ذلك من بين قُواد جيش الرومان،
١ ولكن الموضع الذي كان به «بنيامين» كان مجهولًا
٢ لا يعلم به أحد، ولا يعرفه «شنودة» نفسه؛ وعلى ذلك كان لا بد من كتابة أمر الأمان على
هيئة كتاب لا تخصيص فيه،
وكانت صورته كما يلي:
«أينما كان بطريق القبط بنيامين نعِده الحماية والأمان وعهد الله، فليأتِ البطريق
إلى هاهنا في أمان واطمئنان لِيليَ أمر
ديانته، ويرعى أهل ملته.»
٣ وليس بالمُستبعَد أن يكون سعي «شنودة» هذا كان في الوقت الذي جاء فيه رهبان وادي النطرون
إلى عمرو يُظهرون له
الطاعة لحكم المسلمين؛ فقد روى المقريزي نقلًا عن بعض مؤرخي المسيحيين أن سبعين ألفًا
من الرهبان خرجوا من تلك الأديرة
للقاء عمرو بن العاص، وكان كلٌّ منهم يحمل في يده عصًا. فلما دانوا له بالطاعة أعطاهم
كتابًا لا شك أنه كان «عهد أمان»،
ولعله كان العهد الذي نذكره الآن، وهو عهد بنيامين.
٤ وقد دخلت مبالغةٌ كبيرة على عدد الرهبان كما جرت عادة العرب في إخبارهم؛ إذ يزيدون في
العدد زيادةً تخرج به عن
تصوُّر الأفهام. ولا يمنعنا شيء من أن نصدِّق أن جماعة من الرهبان قد خرجوا إلى عمرو
في نحو سبعين أو سبعمائة منهم فأحسن
لقاءهم ورحَّب بهم؛ فإنا لا نجد بأسًا بمثل هذا الخبر، ويمكن للتاريخ أن يُسيغه.
ولم يلبث عهد الأمان أن بلغ بنيامين فعاد من مخبئه، ودخل إلى الإسكندرية دخول الظافر،
وفرح الناس برجوعه فرحًا عظيمًا
بعد أن بلغت مدة غيابه ثلاثة عشر عامًا منذ هجر مقرَّه وهرب إلى الصحراء الغربية عند
مقدم «قيرس»، ومن هذه المدة عشر سنين
وقع فيها الاضطهاد الأكبر، والثلاث الباقية كانت في مدة حكم المسلمين.
٥ وكان بنيامين في كل هذه المدة يتنقل خُفيةً بين أصحاب مذهبه، أو يُقيم مُختبئًا في أديرة
الصحراء. وإنه لمن
الجدير بالالتفات أن هذا البطريق الطريد لم يحمله على الخروج من اختفائه فتح المسلمين
لمصر واستقرار أمرهم في البلاد، ولا
خروج جيوش الروم عنها. وليس أدل من هذا على افتراء التاريخ على القبط، واتهامهم كذبًا
بأنهم ساعدوا العرب ورحَّبوا بهم،
ورأوا فيهم الخلاص، مع أنهم أعداء بلادهم. ولو صحَّ أن القبط رحَّبوا بالعرب لكان ذلك
عن أمر بطريقهم أو رضائه، ولو رضي
بنيامين بمثل هذه المساعدة وأقرَّها لمَا بقي في منفاه ثلاث سنوات بعد تمام النصر للعرب،
ثم لا يعود بعد ذلك من مخبئه إلا
بعهد وأمان لا شرط فيه. ولو لم يكن في الحوادث دليل على كذب هذه الفِرية غير هذا الحادث
لكان برهانًا قويًّا، وإن لم يكن
برهانًا قاطعًا فهو حلقة نضمُّه إلى سلسلة ما لدينا من الأدلة، وقد أصبحت سلسلةً لا يقوى
على نقضها شيء.
ولما أبلغ شنودة عمرو بن العاص مَقدم بنيامين أمر عمرو بإحضاره إليه، وأمر بأن يُقابَل
بما يليق به من الترحاب والتكريم.
وقد كان بنيامين ذا هيئةٍ جميلة تلوح عليه سِيما الوقار والجلال، وكان عَذْب المنطق في
تؤدة ورزانة؛ فكان لذلك أثرٌ عظيم
في نفس عمرو، حتى قال لأصحابه: «إنني لم أرَ يومًا في بلد من البلاد التي فتحها الله
علينا رجلًا مثل هذا بين رجال الدين.»
وقد قيل إن بنيامين قال عند ذلك «خطبةً جليلة». ولا شك أن عمرًا لم يفهم من ذلك حرفًا،
ولكنه عندما عرف ما يقصده وفهم
مراميه، أحسن تلقِّيها وقَبولها، وجعله أميرًا على قومه لا يُدافَع فيهم أمره، وجعل له
ولاية أمر دينهم.
ولقد كان لعودة بنيامين أثرٌ عظيم في حل عقدة مذهب القبط وتفريج كربته، إن لم تكن
عودته قد تداركت تلك الملة قبل الضياع
والهلاك؛ إذ لم يكن قبط مصر في وقت من الأوقات أشدَّ حاجة منهم في ذلك الوقت إلى ذي رأيٍ
حصيف وخُلقٍ مَتين يقودهم ويلي
أمرهم؛ فقد كان منهم من خرجوا من عقيدتهم وهم ألوف، ورضوا باتباع مذهب «خلقيدونية» خوفًا
من اضطهاد قيرس. ولا شك أن الخروج
من الدين كرهًا أو خوفًا لا يكون في مبدأ أمره حقيقيًّا، ولكن لقد مضى على ذلك الأمر
عشر سنين، واعتاد الناس السير على ما
دخلوا فيه، وما كان بناء عشر سنين ليتهدَّم في لحظة ويزول. ولقد كان أشدَّ خطرًا على
القبط مَن كان يخرج منهم إلى الإسلام.
وليس من العدل أن يقول قائل إن كل من أسلم منهم إنما كان يقصد الدنيا وزينتها؛ فإنه مما
لا شك فيه أن كثيرًا منهم أسلم لما
كان يطمع فيه من مساواة بالمسلمين الفاتحين، حتى يكون له ما لهم، وينجو من دفع الجزية،
ولكن هذه المطامع ما كانت لتدفع إلا
من كانت عقائدهم غير راسية. وأما الحقيقة المُرة فهي أن كثيرين من أهل الرأي والحصافة
قد كرهوا المسيحية لِما كان منها من
عصيان لصاحبها؛ إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء في الله، ونسيت ذلك في ثوراتها وحروبها
التي كانت تنشب بين شيعها
وأحزابها. ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجئوا إلى الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته
وطمأنينته وبساطته.
ولم يكن من اليسير أن يُعاد من خرج من المسيحية إلى حظيرتها بعد أن قطع أسبابها؛
فإن ذلك كان لا رجاء فيه، ولكن الأمر
كان على غير ذلك في أكثر من اضطرَّ إلى اتباع مذهب الملكانيين خوفًا أو كرهًا. وقد كان
لعودة بنيامين إلى عرش الإسكندرية
وأبنائها رنةُ طرب في قلوب أهل مصر جميعًا، فعاد جُل العامة إلى راعيهم القديم والفرح
يملؤهم، «ونالوا على يدَيه تاج الاعتراف».
٦ ونادى البطريق المطارنة الذين اتبعوا مذهب الدولة أن ارجعوا إلى سابق عهدكم وملتكم،
فعاد بعضهم يذرفون الدمع
السخين ندمًا، ولكن قيل إن واحدًا منهم أبى أن يعود حتى لا يلحقه العار خوف أن تُعرف
عنه الردة الأولى، وفعل الكثيرين
كانوا مثله في هذا. ومهما يكن من الأمر فقد نما أمر القبط وزاد أتباع ملتهم. وكان همُّ
بنيامين في أول الأمر أن «يقدح فكره
ليلًا ونهارًا في أمر رعيته، وإرجاع من ضل منهم في أيام هرقل». فلما أن تمَّ له جمع قومه
ولمُّ شعثهم اتَّجهت همته إلى
إصلاح ما تهدَّم من الأديرة، ولا سيَّما ما كان منها في وادي النطرون، وقد لحقها من التخريب
في أوائل القرن السابع ما لم
تعُد معه إلى سابق عهدها.
وقد استطاع بنيامين أن يجد ما يلزم لذلك الإصلاح من المال، ثم أتمَّه على ما أراد.
وقد وصف «ساويرس» ما يتصل بهذا الأمر
من الحوادث وصفًا شائقًا، فقال إن جماعة من الرهبان وفدوا إلى الإسكندرية حتى دخلوا «باب
الملائكة»،
٧ وكان بنيامين عند ذلك يُصلي بالناس صلاة عيد الميلاد، فطلبوا إليه أن يذهب معهم ليُبارك
الكنيسة الجديدة التي
بُنيت في الصحراء، وهي كنيسة القديس «مقاريوس»، فأجابهم إلى ما طلبوا، وسافر معهم إلى
«المنى» و«جبل البرنوج» حتى بلغ «دير
البراموس»، وذهب بعد ذلك من هناك لزيارة الأديرة الأخرى. وجاء في اليوم الثاني من شهر
يناير إلى «دير مقاريوس»، فلقِيه
هناك المُعلم الأكبر «بازل» مطران نقيوس، ورحَّب به في موكبٍ حُملت فيه بين يدَيه المباخر
وسعف النخيل. وفي اليوم التالي
وهو الثامن من شهر طوبة، احتفل بمباركة الكنيسة، واتفقت له عند ذلك — كما قال ساويرس
— آيات وكرامات لا محل لذكرها هنا.
ولعله من المُستحسَن أن نذكر هنا كلمات «بازل» الذي شكر الله على ما أولى البطريق من
زيارة الصحراء المباركة مرةً ثانية،
وأن يرى من فيها من الآباء المقدَّسين والإخوة الطيبين الأبرار، ويشهد بها شعائر الدين
القويم، ثم شكر الله على أن أنجاه
من الكفرة، وحفظ قلبه من ذلك الطاغية الأكبر الذي شرَّده، فعاد إلى أبنائه يراهم مُلتفين
حوله مرةً أخرى.
٨
وإن هذا القول لا ينمُّ عن قومٍ يشعرون بأنهم في قيد الذل، بل ينمُّ عمن يبتهج بالنجاة
والخلاص. وقد جاء في غير هذا
الموضع من كتاب الكاتب عينه ما يؤيد هذا المعنى ويُوافقه. قال على لسان بنيامين: «كنت
في بلدي وهو الإسكندرية، فوجدت بها
أمنًا من الخوف واطمئنانًا بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة وبأسهم.»
٩ وقد وصف قومه بأنهم «فرحوا كما يفرح الأسخال إذا ما حُلت لهم قيودهم، وأُطلقوا ليرتشفوا
من لبان أمهاتهم».
وكتب «حنا النقيوسي» بعد الفتح بخمسين عامًا، وهو لا يتورَّع عن أن يصف الإسلام بأشنع
الأوصاف، ويتهم من دخلوا فيه بأشدِّ
التُّهم، ولكنه يقول في عمرو إنه «قد تشدَّد في جباية الضرائب التي وقع الاتفاق عليها،
ولكنه لم يضع يده على شيء من ملك
الكنائس، ولم يرتكب شيئًا من النهب أو الغصب، بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة
حياته».
١٠
إذن فما كان أعظمَ ابتهاجَ القبط بخلاصهم مما كانوا فيه! فقد خرجوا من عهد ظلم وعسف
تطاوَل بهم، وهوت بهم إليه حماقة
البيزنطيين، وآل أمرهم بعد خروجهم منه إلى عهد من السلام والاطمئنان، وكانوا من قبل تحت
نيرَين من ظلم حكام الدنيا واضطهاد
أهل الدين، فأصبحوا وقد فُكَّ من قيدهم في أمور الدنيا، وأُرخيَ من عنانهم، وأما دينهم
فقد صاروا فيه إلى تنفسٍ حر وأمرٍ
طليق. وقد يُقال إن حكامهم الجديدين قد أدخلوا إلى الأرض دينًا غريبًا غير دين المسيح.
وهذا حق، غير أنهم لم يرَوا في ذلك
إلا عدلًا من الله؛ إذ أجمع الناس على قولٍ واحد، فقالوا: «ما خرج الروم من الأرض وانتصر
عليهم المسلمون إلا لما ارتكبه
هرقل من الكبائر، وما أنزله بالقبط وملتهم على يد قيرس؛ فقد كان هذا سبب ضياع أمر الروم
وفتح المسلمين لبلاد مصر.»
١١ هكذا كان الناس يرَون، وهكذا كانوا يحكمون، غير أن التاريخ لن يحكم مثل حكمهم هذا الذي
دفعهم إليه الميل إلى
ملتهم وحزبهم، ولكنه لن يستطيع إلا أن يحكم بأن العسف وسوء الحكم هما اللذان هويا بدولة
الروم بغير شك إلى الضياع وزوال
السلطان.