الفصل الثامن والعشرون
الحكم الإسلامي
لم يكن عَجبًا من أمر القبط أن يسعَوا إلى الإيقاع بأتباع المذهب الملكاني والاقتصاص
منهم، بعد ما ذاقوه من الروم
وبطريقهم قيرس من سوء العذاب، ولكن ما كان عمرو ليُبيح لهم مثل هذا الأمر إن دار في خَلدهم
أن يفعلوه؛ فإن عمرًا كان في
حكمه يسير على نهج الاعتدال والتسامح، ولم يكن له هوًى مع أحد المذهبين الدينيين. ولدينا
كثير من الأدلة على صدق هذا
الرأي؛ فمثلًا يذكر ساويرس أن أسقفًا ملكانيًّا بقي على مذهبه حتى مات لم يمسسه أحد بأذًى،
وذكر أن بنيامين كان يستميل
الناس إلى مذهبه بالبرهان والإقناع. وقد ورد ذكر كثير من كنائس الملكانيين بقيت إلى ما
بعد ذلك من العصور،
١ وورد ذكر الملكانيين، وأن عددًا كبيرًا منهم كان باقيًا في مصر إلى ما بعد الفتح بخمسين
عامًا.
٢ وعلى هذا لا بد لنا من أن نقول إن المذهبين كليهما قد بقيا جنبًا إلى جنب في مصر يُظلُّهما
الفاتحون بذمتهم،
ويحمونهما جميعًا بحمايتهم.
والظاهر أن حماية المسلمين لأهل الذمة كانت في ذلك الوقت الأول من حكم الإسلام لا
تُقيدها القيود التي دخلت فيما بعد على
أحكامه في أمر أهل الذمة؛ فإن شرط الصلح مع المسيحيين في مصر قضى بأن يدفعوا الجزية على
أن يأمنوا في بلادهم، ويُدفع عنهم
من أراد غزوهم من عدوهم؛ فكان هذا عهد أهل الذمة الذي استقرُّوا عليه، ولكنا نجد تغيرًا
طرأ على هذا العهد، فنجد منذ القرن
العاشر أن دفع الجزية تقيَّد بنوعين من الشروط؛ فالنوع الأول من هذه الشروط ما يجب لزومه
واتباعه في كل الأحوال، والنوع
الثاني ما يكون لزومه واتباعه بحسب شرط العقد إن وُجد. والشروط التي لا بد من لزومها
واتباعها هي:
- (١)
ألا يُعتدى على القرآن ولا تُحرق مصاحفه.
- (٢)
ألا يُقال عن النبي إنه كذاب، ولا يُحقر في القول.
- (٣)
ألا يُسَب دين الإسلام، ولا يُرد عليه بالتكذيب.
- (٤)
ألا يتزوج مسيحي من مسلمة.
- (٥)
ألا يُغرَّر بمسلم أو يُغْرى على أن يرتدَّ عن الإسلام، ولا أن يؤذى في ماله ولا في نفسه.
- (٦)
ألا يُوالى أعداء الإسلام، ولا يُنصروا، ولا يُكرم أغنياؤهم.
وأما الأمور التي يُتبع فيها شرط العقد فهي:
- (١)
أن يلبس أهل الذمة لباسًا يُميزهم، ويعقدوا الزنانير على أوساطهم.
- (٢)
ألا يعلوا في بُنيانهم على المسلمين.
- (٣)
ألا يؤذوا المسلمين بقرع نواقيسهم،
٣ ولا بترتيلهم في صلاتهم، ولا بما يرَون في عقائدهم، سواء في ذلك اليهود والنصارى.
- (٤)
ألا يُبدوا صُلبانهم، ولا يشربوا الخمر جهارًا، ولا يُظهروا خنازيرهم.
- (٥)
أن تُقام مآتمهم بغير احتفال، وتُدفن موتاهم كذلك.
- (٦)
أن يركب أهل الذمة البراذين والخيول المعتادة، وأن يتجنَّبوا ركوب الأصائل.
٤
وليس في كل هذه الشروط ما لا يقبله العقل، ولكنا نشكُّ في أنها كانت مُشترَطة عند
أول دفع الجزية وقت الفتح؛ فإن كثيرًا من الأمور التي جرت عليها العادة أصبحت في حكم
القانون، وصار الناس ينظرون إليها
فيما بعد كأنها من أصل الدين ومن أحكام الإسلام، فقال الماوردي مثلًا: «إنه لا يحقُّ
لأهل الذمة أن يتخذوا لأنفسهم كنائس
أو بِيعًا جديدة في دار الإسلام، فإذا بنَوا لأنفسهم ذلك هُدم، ولكن لهم أن يُعيدوا بناء
ما تهدَّم من كنائسهم أو بِيعهم.»
وهذا التفريق لم يكن في أول عهد حكم الإسلام في مصر؛ فقد ورد أن القائد «سنوتيوس» أرسل
إلى بنيامين مقدارًا عظيمًا من
المال لبناء كنيسة القديس مرقص في الإسكندرية،
٥ وورد أيضًا أن البطريق «حنا السمنودي» بنى كنيسة وكرَّسها باسم ذلك القدِّيس عينه.
٦ فلما جاء بعده البطريق إسحاق قيل إن حاكم مصر نفسه عبد العزيز بن مروان أمر أن تُبنى
كنيسة في مدينته الجديدة حلوان.
٧ فالظاهر من هذا أن القبط نالوا في أول الأمر كل ما يتصوره العقل ويُبيحه من الحرية.
وليس من المُستطاع أن نحدِّد النظام السياسي الذي سارت عليه البلاد عند ذلك بمثل
هذه السهولة، غير أن الحكم المدني كان على وجه الإجمال على عهده الأول لم يُغيَّر فيه
شيء؛ إذ كان العرب رجال حرب وسيف لم
يتعوَّدوا حكم البلاد، ولم يحذقوا فنونه، ولم يكن بينهم نظامٌ معروف قد يتخذونه في مصر
أو يُدخلون منه شيئًا في إدارة
أمورها، ومصر عريقة في الحضارة ذات نظام مقرَّر مُشعب، بيْدَ أن العرب كانوا أهل ذكاء
وفهم سريع؛ فكان في استطاعتهم أن
يتناولوا أعنَّة الحكم التي وجدوها دونهم ويُديروا بها الأمور على ما كانت سائرة عليه
من قبلهم. وقد بيَّنا فيما سلف أن
بعض أكابر حكام الروم قد بقوا في أعمالهم، ولعل طائفةً كبيرة من عامة الروم ساروا في
ذلك على منهاجهم، غير أنه لا بد قد
خلت أعمالٌ كثيرة؛ إذ نزح عمالها الروم الذين لم يرضَوا أن يكونوا من رعية الإسلام، فجعل
العرب في مكانهم عمالًا من القبط،
فما مرَّ إلا قليل زمن حتى صار عمال الدولة يكادون جميعًا يكونون من المسيحيين. وهذا
أمر كان لا بد منه في مثل تلك الحال؛
إذ كان العرب قومًا لا عهد لهم بالمدينة، وفُتحت لهم بلادٌ ذات حضارة عالية. وقد تنبَّأ
بذلك الرسول نفسه بثاقب نظره،
وأقرَّه في قوله إقرارًا صريحًا؛ وعلى ذلك خلا المسلمون من أعباء الحكم وانصرفوا إلى
أمور الدين؛ إذ لم تشغلهم عنه مشاغل
الدنيا. ومن العجيب أن نجد كثيرًا من أسماء الروم وألقابهم باقيةً في حكم الإسلام، ورغم
تطاوُل الزمن؛ فقد بقي القبط إلى
آخر القرن السابع يُسمُّون المسجل أو الناموس باسمه الروماني «الخرتولاريوس»، ويُسمُّون
رئيسه باسم «الأرباخوس» أو
«الأرخون»، ويُسمُّون مَقرَّ الحاكم باسم «البريتوريوم»، وكانوا يُسمُّون حاكم الإسكندرية
باسم «الأغسطل».
٨ وقد ورد لقب «دقس» في كثير مما كُتِب في القرن الثامن،
٩ ولا سيَّما في الحجج الشرعية، وقد استعمله الكاتب «ساويرس»، وكان في القرن العاشر.
١٠
ولكن الظاهر أن العرب وإن حافظوا على طرق الروم في تدوين دواوينهم وجمع ضرائبهم،
كانوا على ما يلوح لنا أخفَّ منهم وطأة
في جباية الأموال؛ إذ كان مقدار الجزية والضرائب الذي اتفقوا عليه في عهد الصلح أخفَّ
حملًا على الناس وأقل إحراجًا لهم.
وإنه من الصعب أن يعرف الإنسان حقيقة مثل هذا الأمر؛ فليس دوننا إلا ما كتبه العرب، واختلافهم
يبلغ معظمه في إحصاء الأعداد
وذكر الأرقام؛ فابن عبد الحكم مثلًا
١١ يقول إنه لما استقرَّ الأمر لعمرو بن العاص جعل القبط يدفعون من الجزية مثل ما كانوا
يدفعون للروم، غير أنها
كانت تتغير بحسب غناهم ورواج أمورهم. وليس لهذا في نظرنا إلا معنًى واحد، وهو أن عمرًا
سار على ما كان الرومان يسيرون عليه
في جباية خراج الأرض؛ لأن الجزية التي فرضها العرب على القبط كان مقدارًا معلومًا، في
حين كان خراج الأرض يتغير بحسب علو
الفيضان وبحسب حال الزراعة. ويقول ابن عبد الحكم بعد ذلك: إن زعماء الناس في القرى كان
عليهم أن يجتمعوا لينظروا في حال
الزراعة، ويجعلوا جباية المال مناسبة لذلك؛ فكانوا في ذلك بمثابة لجنة خاصة تجتمع لتقدير
مقدار ما يُجبى من الأموال. فإذا
اجتمع من ذلك المال شيءٌ فوق ما فُرِض على قريتهم أُنفقَ في إصلاح أحوالها. وكانت تُجعل
في كل بلد قطعة من الأرض يُخصَّص
ريعها لإصلاح الأبنية العامة وصيانتها، وذلك مثل الكنائس والحمامات. وكانوا كذلك يقدِّرون
ما يُفرض على الناس من المال
لضيافة العرب، وكان هذا حقًّا من حقوق العرب عليهم، وكذلك ما كان يُفرض من المال لضيافة
الحاكم وإكرامه إذا وفد
عليهم.
هذا وصفٌ لا بأس به لحال الضرائب وجبايتها على الأرض، ولكنا لا نعلم هل وقع الاتفاق
عليها في شرط الصلح عند الفتح أم
أنها بقيت على ما كانت عليه يعدُّونها ضريبة على ملك الأرض، وكذلك ليس من الجلي ما يقصده
مؤرخو العرب إذ يذكرون خراج مصر؛
أيقصدون كل ما يُجبى من أموالها، أم يقصدون الجزية وحدها، أم الخراج وحده؟ غير أنه يلوح
لنا أنهم إنما يقصدون الخراج؛ فقد
جاء عنهم أن عدد من فُرضت عليهم الجزية دينارين: ستة آلاف ألف نفس. وجاء بعد ذلك أن مقدار
المال الذي جُبي من مصر كان
اثنَي عشر ألف ألف دينار.
١٢ ويقول مؤرخو المسلمين إن هذا المال أقل مما كان يجبيه المقوقس، ومقداره عشرون ألف ألف
دينار.
١٣ فإذا صحَّ لنا أن نصدِّق هذه الأعداد، ونثق في أنها قُدِّرت على أساسٍ واحد في الحالين،
وأنها تصلح لأن تكون
أساسًا للمقارنة؛ كان لا بد لنا أن نتخذها دليلًا على أن حكم العرب كان بركة على المصريين
خفَّف عنهم وطأة الضرائب. على أن
الأمر كان على غير ذلك؛ إذ إن المال الذي يذكره العرب لا يُقصد منه إلا مال الجزية، في
حين أن ما يُذكر عن أموال الروم لا
يُقصد به في أغلب الظن الجزية وحدها؛ إذ إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس
وضرائب أخرى كثيرة العدد.
١٤ ومع كل هذا فإنه مما لا شك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس
على غير عدل؛ إذ كانت
تُعفى منها طائفةٌ ممتازة من أفراد أو جماعات.
١٥ وكذلك لا شك في أن الدولة في أيام هرقل كانت في أشد الحاجة إلى المال، وذلك في السنوات
التي قبل الفتح، فليس
ثَمة من سببٍ يحدو بنا إلى تكذيب ما ذكره مؤرخو المسلمين من خفة وطأة الضرائب على المصريين
بعد فتح العرب. هذا إلى أن
العرب أزالوا ما كان مقرَّرًا من التفريق بين الناس في جباية الضرائب وإعفاء بعضهم منها،
غير أن النفس بها شيء من الشك في
أمر الإسكندرية؛ إذ من المحقَّق أن أهلها كانوا شديدي الضجر من الحكم الجديد. ولعل هذا
الضجر قد لحقهم لِما أصابهم من زوال
بعض امتياز كان لهم؛ إذ لعلهم كانوا من قبلُ لا تُفرض عليهم جزية على الأنفس، أو لعلهم
قد لحقهم ضرر لِما أصاب المدينة في
أرزاقها من فادح الخسارة في تجارتها، وكساد أسواقها في مدة الحرب الطويلة التي حلَّت
ببلدهم، ومما فقدته من الخير عندما
هاجر منها كثير من أغنياء التجار والأعيان عند الفتح وتسليم المدينة. وإذا صح أن عهد
الصلح شرط على المدينة أن تفقد ما
امتازت به قديمًا، وهو الإعفاء من جزية الأنفس، كان من العسير علينا أن نُدرك كُنْه ذلك
الصلح. وأغلب الظن أن مدينة
الإسكندرية قد حُرمت من ذلك الامتياز قبل فتح العرب بحين من الدهر.
وقد رأينا فيما سلف أن الضريبة التي كان العرب يُسمُّونها الجزية كانت دينارين على
كل رجل، ليس على الصغير الذي لم يبلغ الحلم، ولا الشيخ الفاني، ولم تُفرض على النساء،
ولا على الرقيق، ولا على المجانين أو
المساكين المُعدمين. على أن الجزية وإن كانت في مجموعها على عدد الرءوس عن كل رجل دينارين،
لم تكن على ما يظهر لنا واحدة
على كل فرد، بل كانت تختلف؛ وذلك لأن الدينارين لا يتكلف الغني في حملهما شيئًا، في حين
أنهما يبهظان الفلاح الفقير؛ فلعل
الحاكم كان له الخيار أن يقسم من تُفرض عليهم الجزية إلى ثلاثة أقسام: الفقراء، وأوساط
الناس، والأغنياء. فكان يضع على كل
فئة قسطًا من الجزية خلاف ما يضعه على غيرها.
١٦ وهذا أمرٌ لا يأباه العقل ولا يرى فيه ظلمًا، غير أنه كان بلا شك عُرضةً لأن يفسد. وقد
تطرَّق إليه الفساد؛
فمكَّن الحكام أن يزيدوا مقدار الجزية ويُمزقوا بذلك عهد الصلح؛ فإنك إذا نظرت إلى الأمر
في ذاته لم تجد بأسًا بأن تكون
الجزية على الناس بحسب طاقاتهم مع بقاء جملتها واحدة لا تتغير، وكذلك لا تجد بأسًا في
أن يكون خراج الأرض في جملته
مُتغيرًا بحسب السنة وخصبها، وأن يتغير ما يُفرض على صاحب الأرض من الخراج بحسب خصب أرضه
ومقدار ثمرتها، ولكن ليس في طاقة
البشر أن يبقى مثل هذا النظام ثابتًا لا تُفسده الأطماع؛ فكان لا بد له من عدلٍ كامل
لا شائبة فيه كيما يبقى على صلاحه،
غير أنه كان عُرضة لأن يُداخله الفساد وتعصف به الأطماع، ولم يكن بالعجيب أنه قد فسد
بعد حين من العمل به.
وإن هذا لمَوضعٌ لذكر ما رواه ابن عبد الحكم أن الخليفة عمر بن الخطاب تقدَّم إلى
عمرو بن العاص في أن يستشير البطريق بنيامين
١٧ في خير وسيلة لحكم البلاد وجباية أموالها، فأشار عليه البطريق بالشروط التالية:
- (١)
أن يُستخرج خراج مصر في أوانٍ واحد عند فراغ الناس من زروعهم.
- (٢)
أن يُرفع خراجها في أوانٍ واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم.
- (٣)
أن تُحفر خلجانها كل عام.
- (٤)
أن تُصلح جسورها وتُسَد ترعها.
- (٥)
ألا يُختار عاملٌ ظالم لِيليَ أمور الناس.
١٨
وكان ذلك الشرط الخامس أشقَّ الأمور وأصعبها تحقيقًا؛ فإن السيادة التي جرى عليها
الحكام في اختيار العمال كانت لا بد أن
توجد فيهم تلك الصفات التي تُفسد نظام الحكم وتجعله مشئومًا.
إنا لا نشكُّ في أن عمرو بن العاص كان في أول حكمه لا يقصد إلا العدل والرأفة بأهل
البلاد، ولكن الخليفة لم يُواتِه في
هذا ولم يُوافقه عليه؛ فقد رأى الخليفة أن عمرًا قد ملأ أنباره بالقمح من مصر، ودرَّ
على خزائنه الذهب، ومد سلطان العرب
على فسيح البلاد، ولكن الخليفة عمر لم يجزِه بذلك إلا هوانًا وجحودًا. وقد بقيت صيغة
بعض كتب مما تردَّد بين الخليفة
وواليه، وإنا لا نشكُّ في صحتها،
١٩ وهي تُظهر لنا ظهورًا جليًّا ما كان عليه الرَّجلان في صلتهما؛ فقد كتب الخليفة عمر
مرة إلى عمرو:
٢٠ «أما بعد، فإني فكَّرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرضٌ واسعةٌ عريضةٌ رفيعة،
وقد أعطى الله أهلها
عددًا وجلَدًا وقوة بر وبحر، وإنها قد عالجتها الفراعنة، وعملوا فيها عملًا مُحكَمًا
مع شدةِ عتوِّهم وكفرهم، فعجِبت من
ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط
ولا جدب. ولقد أكثرت في مكاتبتك في
الذي على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر، ورجوت أن تُفيق فترفع إليَّ
ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض
تعبأ بها لا تُوافق الذي في نفسي، لست قابلًا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل
ذلك. ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك
من كتابي وقبضك؛ فلئن كنت مُجربًا كافيًا صحيحًا إن البراءة لنافعة، وإن كنت مُضيعًا
نطعًا إن الأمر لعلى غير ما تحدِّث به
نفسك. وقد تركت أن أبتلي ذلك منك في العام الماضي
٢١ رجاءَ أن تُفيق فترفع إليَّ ذلك. وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا أن عمالك عمال السوء،
وما توالس عليك وتلفف
اتخذوك كهفًا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه؛ فلا تجزع أبا عبد الله أن
يؤخذ منك الحق وتُعطاه؛ فإن النهر
يُخرِج الدر، والحق أبلج، ودعني وما عنه تلجلج؛ فإنه قد برح الخفاء، والسلام.»
٢٢
فردَّ عمرو على ذلك بأن قال: إن الخراج كان من قبله أوفر وأكثر، والأرض أعمر؛ لأن
الفراعنة على كفرهم كانوا أرغب في
عمارة أرضهم من العرب مذ كان الإسلام.
٢٣ ثم وجَّه إليه شكوى مما وجَّهه إليه من شديد التأنيب، وقال: «ولقد عملنا لرسول الله
ﷺ ولمن بعده،
فكنَّا بحمد الله مؤدين لأمانتنا حافظين لِما عظَّم الله من حق أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحًا
والعمل به شينًا، فتعرف ذلك لنا
ونصدق فيه قلبنا. معاذَ الله من تلك الطُّعم، ومن شر الشيم، والاجتراء على كل مأثم. فأمضِ
عملك؛ فإن الله قد نزَّهني عن
تلك الطعم الدنية والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبقِ فيه عِرضًا، ولم تُكرم فيه أخًا.
والله يا ابن الخطاب لأنا حين
يُراد ذلك مني أشد غضبًا لنفسي ولها إنزاهًا وإكرامًا، وما عملت من عملٍ أرى عليَّ فيه
مُتعلقًا، ولكني حفظت ما لم تحفظ،
ولو كنت من يهود يثرب ما زدت. يغفر الله لك ولنا! وسكتُّ عن أشياء كنت بها عالمًا، وكان
اللسان بها مني ذلولًا، ولكن الله
عظَّم من حقك ما لا يُجهل.»
ولكن هذا الرد السهل في أسلوبه الجليل في معناه لم يكن له أثر في عمر؛ فإنه رد عليه
في جفاء، فقال:
٢٤ «أما بعد، فإني قد عجِبت من كثرة كُتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إليَّ بثنيَّات
الطُّرق، وقد علمت أني
لست أرضى منك إلا بالحق المُبين، ولم أُقدمك إلى مصر
٢٥ أجعلها لك طُعمةً ولا لقومك، ولكني وجَّهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك.
فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل
الخراج؛ فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قومٌ محصورون، والسلام.»
وقد طلب عمرو أن ينتظر به على الناس حتى تُدرك غلتهم، مُتبعًا في ذلك مشورة بنيامين.
وقال لعمر إنه لا يستطيع أن يزيد
الخراج على الناس بغير أن يؤذيهم، وإن الرفق بهم خير من التشديد في أمرهم، وإكراههم على
أن يبيعوا ما هم في حاجة إليه في
أمور معيشتهم
٢٦ لكي يؤدُّوا ما يُطلب منهم. وقد اتهمه «فيل» في مراجعته هذه بالنفاق، وأنه إنما كان
يضنُّ بالمال كي يحتفظ به
لنفسه، غير أنَّا لا نجد ما يدعونا إلى مثل ذلك الظن؛ فإنا لو آمنَّا بأن الطمع والجشع
قد دبَّا في قلبه لم يكن لنا أن
نذهب إلى أنهما قد ملكا عليه لبَّه فأنسياه العدل، وجعلاه يتخلى عن أداء أمانته نحو المصريين،
غير أن عمر جعل كل قوله وراء
ظهره ودبر أذنه، فلم يستشعر رحمة في جباية الأموال،
٢٧ فأرسل محمد بن مسلمة إلى مصر، وأمره أن يجبي منها ما استطاع من المال فوق الجزية التي
أرسلها عمرو من قبل.
وقيل في روايةٍ أخرى إنه إنما أوفده إلى عمرو لكي يُقاسمه ماله. وقد اتهم ابن مسلمة عمرو
بن العاص بأنه كان يتستر بالدفاع
عن أهل مصر لحاجة في نفسه يريد قضاءها، كما اتهمه عمر بن الخطاب بالخيانة والتفريط، ولكن
عمرًا كان يُدافع عن المصريين كما
أقرَّ ابن مسلمة. فإذا أضفنا إلى هذا ما قاله في الدفاع عن نفسه رجح عندنا صدقه وإخلاصه،
واستبعدنا اتهامه. وفي الحق أن
عمر بن الخطاب أولى بأن يُتهم بالحرص؛ فقد روى البلاذري أنه كان كلما استعمل عاملًا على
بلدٍ أثبت مقدار المال الذي عليه
جبايته منه، فإذا زادت الجباية على ذلك شيئًا قاسَم العامل فيه أو أخذه في بعض الأحيان
كله؛ ولهذا لم ينجُ منه البطل خالد
بن الوليد نفسه؛ فإنه بعث إليه في الشام بمن يُحاسبه على ماله، وأمره أن ينزل عن نِصفه،
حتى لقد قيل إنه قد أخذ إحدى
نعلَيه. وقد أشار بعضهم على عمر بأن يرد عليه ما أخذ منه، فقال: «والله لا أردُّ شيئًا؛
فإنما أنا تاجر للمسلمين.» ولكنه
كان إذا قال المسلمين لم يقصد إلا نفسه، أو تلك الفئة القليلة التي كانت معه في مكة.
وقد كان ذلك وبالًا عليه؛ فإن ذلك
الرأي الذي كان يراه في أداء أمانته نحو المسلمين وملء بيت المال مما يجمعه من البلاد
التي فتحها المسلمون منذ حين، كان كل
ذلك سببًا في القضاء على حياته.
وقد حذق خلَفه ذلك الدرس، وهو لعَمْري درسٌ وبيل؛ فإن عثمان عزل عمرًا عن ولاية مصر،
واستعمل عليها عبد الله بن سعد،
وكان عمر قد استعمله مع عمرو بن العاص على الصعيد والفيوم، فزاد في جباية الأموال ألفَي
ألف دينار، حتى بلغ ما جمعه أربعة
عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو عند ذلك: «إن اللقاح بمصر بعدك قد درَّت ألبانها.»
فأجابه عمرو: «ولكنها أعجفت
فصيلها.» وكانت زيادة الجزية فوق ذلك نقضًا للعهد؛ فقد بيَّنا فيما مضى أن معاوية عندما
أمر وردان أن يزيد الجزية على
القبط، قال له إن ذلك غير ممكن، وإلا نُقض عهد الصلح.
٢٨ وقد روينا عن عروة بن الزبير أنه قال: «إن الناس كان يُفرض عليهم ما لا طاقة لهم به
فآذاهم ذلك، مع أن عمرو بن
العاص كان قد عقد لهم عقدًا جعل لهم فيه شروطًا معلومة.»
وذلك الوصف يحملنا على أن نحمد لعمرو عدله، غير أن ابن عبد الحكم روى رواية إن صحَّت
كانت ناقضة لذلك؛ فقد قال إن عمرو
بن العاص أنذر القبط أن من أخفى منهم كنزًا من الكنوز اقتصَّ منه بالقتل. فسُعي إليه
بأحد قبط الصعيد اسمه بطرس أنه يُخفي
كنزًا. فلما مثل بين يدَيه أنكر ذلك وأصرَّ على الإنكار، فسجنه عمرو، وسأل بعد حين فقال:
هل ذكر بطرس اسم أحد من الناس؟
فقيل له إنه لم يذكر إلا اسم راهب في الطور. فأمر عمرو فأخذ خاتم بطرس، وكتب كتابًا إلى
ذلك الراهب فقال فيه: «أرسِلْ
إليَّ ما عندك.» ثم ختمه بذلك الخاتم. فجاء إليه بعد مدة رسولٌ يحمل قِدرًا مُقفَلة عليها
خاتم من رصاص، ففتحه عمرو، فوجد
فيه رقعة كُتِب عليها: «إن مالك تحت الحوض.» فأمر عمرو بالماء الذي في الحوض فأُفرغ،
ونُزعت الأحجار التي في قاعه، فوُجدت
غرفة فيها اثنان وثلاثون
٢٩ مُدًّا من نقود الذهب. فأمر عمرو بضرب عنق بطرس عند باب مسجده في بابليون. ولا يسعنا
أن نمرَّ على قصة كهذه
بغير كلمة نقولها؛ فإنها غير جديرة بالتصديق، ولا تحتمل النقد، فما هي إلا قصة من تلك
القصص التي خلقها الخيال، وكان ذلك
المؤرخ مُغرَمًا بإيراد أمثالها يُحلي بها كتابه؛ فإنه من الثابت أن القبط كانوا أجدر
الناس بأن يأسفوا مُر الأسف عندما
عُزل عنهم عمرو بن العاص.
لم يبقَ إلا الشيء اليسير فوق ما قلناه في أمر الضرائب، غير أن أمرًا واحدًا يجب
أن نذكره لِما له من الشأن، وذلك أن
المسلمين في أول الأمر لم يُبَح لهم أن يملكوا الأرض، وكان إقطاع الأرض في ذلك الوقت
قليلًا؛
٣٠ إذ كان الرأي أن يبقى العرب على رباطهم لا يشتغلون بالزرع، ولا يحلُّون بالبلاد كأهلها.
فلما أن اطمأنوا في
البلاد، أخذ ذلك المنع يرتفع عنهم، وأبيح لهم أن يملكوا الأرض، وكانوا إذا ملكوا أرضًا
دفعوا عنها الخراج كسائر الناس، ولم
يتغير نصيب أرض من الخراج إذا ملكها مسلم من قبطي، بل بقي على حاله، والناس فيه سواء؛
ولهذا كان القبطي إذا دخل في الإسلام
لم يرتفع عنه خراج أرضه، ولكن الجزية كانت على غير ذلك؛ إذ كانت الجزية سِمة لأهل الذمة
وعلامة لغير المسلمين، فكان الدخول
في الإسلام كافيًا لزوالها؛ إذ تزول بذلك صفتا الذمة واختلاف الدين. وهذا أمر قد أجمع
عليه مؤرخو العرب؛ فإن المقريزي يأخذ
على عمر بن عبد العزيز (وكانت وفاته في شهر يناير من عام ٧٢٠ للميلاد) أنه حكم بأن
الذميَّ إذا مات استحقَّت الجزية من ورثته. ويقول المقريزي: «يحتمل أن تكون مصر فُتحت
بصلح، فذلك الصلح ثابت على من بقي
منهم، وإن موت من مات منهم لا يجعل على خلَفه
٣١ مما صالحوا عليه شيئًا»، ولكن رُوي عن عمر بن عبد العزيز نفسه أنه «وضع الجزية عمن أسلم
من أهل الذمة من أهل
مصر، وأُلحق في الديون صلح من أسلم منهم في عشائر من أسلموا على يديه، وكانت تؤخذ قبل
ذلك ممن أسلم». وأول من أخذ الجزية
ممن أسلم من أهل الذمة الحجاج بن يوسف الثقفي، ثم كتب عبد الملك بن مروان إلى عبد العزيز
بن مروان أن يضع الجزية على من
أسلم من أهل الذمة، فكلَّمه ابن جحيرة في ذلك، فقال: «أُعيذك بالله أيها الأمير أن تكون
أول من سنَّ ذلك بمصر، فوالله إن أهل الذمة لا يتحمَّلون جزية من ترهَّب منهم، فكيف تضعها
على من أسلم منهم؟» فتركهم عند ذلك.
٣٢
وقيل إن ابن شريح،
٣٣ وهو الذي جاءه أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، كتب إلى الخليفة يقول إن الإسلام قد أضرَّ
بالجزية، حتى لقد نقص
عشرون ألف دينار من عطاء أهل الديوان. فكتب إليه الخليفة كتابًا شديدًا قال فيه: «أما
بعد، فقد بلغني كتابك، وقد ولَّيتك
جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطًا. فضع الجزية عمن
أسلم قبَّح الله رأيك، فإن الله إنما
بعث محمدًا
ﷺ هاديًا ولم يبعثه جابيًا. ولعَمْري لعُمَر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه.»
٣٤ راجع كتاب الخطط، الجزء الأول، صفحة ٧٨ والصفحتين السابقتين لذلك.
وعلى ذلك قد كان في الدخول في الإسلام ربح وغُنم. ولقد كان عهد الصلح مع القبط كفيلًا
من الوجهة النظرية بأن يكونوا
آمنين في دينهم، غير أن الأمر صار بعد حين إلى خرق العهد ونقضه؛ فالحق أن الأمن في الدين
إذا كان مُقترنًا بأن يكون الرجل
مَهينًا بين الناس، وأن يحمل ثقلًا في ماله، لم يكن أمنًا حقيقيًّا ولا باقيًا. فلما
انتشر الإسلام بين الناس زادت وطأته
اشتدادًا على القبط، وأصبح عبء الجزية ثقيلًا لا ترضاه النفوس، وأصبح أصحاب الجزية من
اليهود والنصارى بعد حين وقد صاروا
في قلةٍ ظاهرة بسبب من كان يُسلِم منهم عامًا بعد عام. فكان هذا الأمر فاسدًا؛ إذ هو
بمثابة رشوة لتحريض النصارى على
الخروج من ملتهم، فوق ما كان من أثره في نقص مقدار الأموال نقصًا ظاهرًا، وكان نقص الجزية
سريعًا، فبَيْنا كان مقدارها في
أيام عمرو اثنَي عشر ألف ألف دينار، وفي أيام خلَفه الظالم عبد الله بن سعد أربعة عشر
ألف ألف، إذا بها في خلافة معاوية
خمسة آلاف ألف بعد أن أسلم عددٌ عظيم من القبط، ثم إذا بها في خلافة هارون الرشيد أربعة
آلاف ألف، ثم ثبتت الجزية على
ثلاثة آلاف إلى أواخر القرن العاشر.
٣٥ ولما حدث هذا النقص في الأموال التي كانت تُجبى من الجزية، استحدث الحكام وسائل جديدة
يعوِّضون بها ما نقص من
مال الجزية. وليس ثَمة من شك في أن الحكام عندما استحدثوا تلك الضرائب الجديدة فرَّقوا
فيها بين معاملة المسلمين وأهل
الذمة، فميَّزوا المسلمين فيها؛ فأكبر الظن على ذلك أن المسيحيين قد آل أمرهم في حقيقته
ومظهره إلى زيادة فيما يحملون،
وكان عبؤهم يزيد عليهم ثقلًا كلما قل عددهم؛ فلا عجب إذن أن يخضع كثير من القبط فيسوقهم
أتيُّ الحوادث إلى الإسلام، بل
العجب أن يبقى عددٌ عظيم منهم ثابتًا في جرية ذلك الأتي، ولم تستطع عواصف الحدثان التي
توالت عليهم ثلاثة عشر قرنًا أن
تُزعزعهم عن عقيدةٍ قائمة في قلوبهم على صخرة.
على أننا إن قلنا ذلك فلسنا ننسى أن التاريخ لم يحوِ بين صفحاته ما هو أعجب من العرب
وفتحهم؛ إذ جاءوا إلى مصر فئةً
قليلة من الصحراء فانتصروا بها، ثم نقول إجمالًا إنهم أقاموا لأنفسهم بُنيانًا مما هدموه
فيها من ديانةٍ مسيحية، ومدنيةٍ
بيزنطية، قد اجتمع بها ضعف ورقَّة، إلى جمال وروعة، منذ امتزجت بها أكبر المدنيات القديمة
الثلاث: المدنية المصرية،
والمدنية اليونانية، والمدنية الرومانية.