الفصل التاسع والعشرون
ثورة الإسكندرية بقيادة منويل
ظهر بعدُ أن فتح مصر لم يتم؛ فإن الحرب عادت جذعة بعد أن ظن الناس أنها قد وضعت أوزارها؛
إذ جاء الروم يسعَون سعي
المُستميت لكي يسترجعوا ما فقدوه من ملكهم، ولا يسعنا إلا أن نصِف هذا السعي ولو على
وجه الإيجاز.
وقد أخطأ عمر بن الخطاب في أنه كان مع عماله جميعًا على سوء الظن يتوقَّعون منه العزل
والمُحاسبة، ويأخذ أموال بلادهم
كلها لا يدع لهم فيها شيئًا. وقد كان لهذه الخطة أثر في التعجيل به، فقُتل لبضعة أيام
بقيت من ذي الحجة من عام ٢٣ للهجرة،
ودُفن في غُرة المحرم من عام ٢٤ للهجرة،
١ وفي ذلك اليوم اختير عثمان خليفة له. على أن عمر وإن أخطأ في بعض أمره لم تلقَ دولة
المسلمين خيرًا بوفاته
وولاية خلَفه؛ فإنه إن كان يُضايق خير ولاته ويُسيء إليهم فقد كان عثمان الذي جاء بعده
يعزلهم. وكان من آخر ما أتاه عمر في
حياته أن قلَّل من سلطان عمرو بن العاص، وذلك بأن ولَّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح حكم
الصعيد والفيوم، وجعل إليه جباية
الخراج. فأتمَّ عثمان ما شرع فيه عمر بأن عزل ابن العاص عن ولاية مصر، وجمع ولايتها جميعًا
لعبد الله بن سعد، فجاء هذا
لِيليَ أمره من مدينة شطنوة في إقليم الفيوم، وكان مُقيمًا بها.
وقد اختلفت الآراء في هذا الوالي الجديد، فقال عنه النواوي: «كان من أعقل قريش وأشرفهم.»
٢ في حين أن عمرو بن العاص نعى عليه ضعفه وقلة كفايته في حكم البلاد وفي قيادة الجيوش،
ويصفه الطبري بأشنع
الصفات، فيقول عنه: «لم يكن في وكلاء عثمان أسوأ من عبد الله والي مصر.»
٣ وكانت ولايته هذه في وقتٍ ساء فيه حكم الولاة، وثارت ثورة الناس عليهم، وعلى الخليفة
لجورهم في الحكم. والظاهر
أن من وصف عبد الله وصفًا حسنًا إنما يدل على سخافته وحماقته، وليس لوصفه قيمة في التاريخ؛
فإنه لا مراء فيما ارتكبه في
مصر من الظلم، وقد ولَّاه الخليفة قصدًا لكي يزيد في جباية الجزية. وإن لدينا من الأسباب
ما يحملنا على أن نقول إن
عبد الله قد جعل أول همه زيادة الضرائب على أهل الإسكندرية؛ إذ لا شك أنهم كانوا عند
ذلك يرزحون تحت عبء ثقيل من الضرائب.
ولقد كان من أثر هذا العبء الثقيل أن جماعة من زعمائهم أنفذوا كتبًا إلى الإمبراطور «قنسطانز»
في قسطنطينية يسألونه أن
يُخلصهم من ظلم المسلمين، وقالوا له إن الإسكندرية ليس فيها إلا مسلحةٌ ضعيفة لا تقوى
على دفع جيش روماني.
فأثَّرت هذه الكتب في الإمبراطور؛ إذ إنه لم ينسَ ما أصابه في عزته، وما لحق دولتَه
من الضرر من ضياع مصر، فأمر بإعداد
قوة عظيمة، وكتم أمرها كتمانًا شديدًا. وكان الروم إلى ذلك الحين لا يزالون على سلطانهم
في البحر غير مُدافعين ولا
مُعاندين، وكان عمر يسمع بحروب البحر، فكتب إلى عمرو بن العاص يسأله عن ذلك، وقال له:
«صِف لي البحر وراكبه.» فكتب إليه
عمرو كتابًا عجيبًا قال فيه: «إني رأيت خلقًا كبيرًا يركبه خلقٌ صغير، إن ركن خرَّق القلوب،
وإن تحرَّك أزاغ العقول، يزداد
فيه اليقين قلةً، والشك كثرةً. هم فيه كدودٍ على عُود، إن مال غرق، وإن نجا برق.»
٤ فكان وصفه هذا باعثًا لعمر على الإشفاق منه، على ما كان عليه من إقدام وشجاعة، فلم يُبِح
لمعاوية أن يُجهز السفن،
٥ ولم يجرؤ أحد على خوضه حتى آلت الخلافة إلى معاوية، فأخذ العرب عند ذلك في سبيله، وعرفوا
قيمة السيادة
عليه.
وعلى ذلك لم يكن للعرب في الوقت الذي نصِفه سفينةٌ واحدة تأتيهم بأنباء أسطول
الروم الذي بعث به الإمبراطور بقيادة منويل للاستيلاء على الإسكندرية. فما فجأ العربَ
إلا أسطولٌ عظيم يدخل ميناء
الإسكندرية في عدة ثلاثمائة سفينة، وألقى فيها مراسيه غير مُدافَع.
٦ ولم يكن بالمدينة إلا ألف رجل من العرب للدفاع عنها، فغلبهم الروم، وقتلوهم جميعًا إلا
نفرًا قليلًا منهم
استطاعوا النجاة، وعادت بذلك الإسكندرية إلى ملك الروم.
وهذه الحادثة منشأ الرواية العجيبة التي رواها «جبون» وسواه من الكُتاب؛ وذلك أنهم
قالوا إن الروم عادوا بعد ثلاثة أيام أو أربعة من فتح الإسكندرية الأول بعد أن كانوا
قد سافروا في البحر ورحلوا عن مصر،
فأخذوا العرب على غِرة وهم مُتفرقون، فملكوا المدينة مرةً ثانية، ولبثوا يحكمونها بعد
ذلك حينًا قصيرًا. وليس ثَمة من
حقيقة لهذه الرواية؛ فإنما مَنشؤها خطأ في التأويل؛ وذلك أنهم خلطوا بين فتح الإسكندرية
في المرة الأولى وفتحها في المرة
الأخيرة، ومزجوا بين وصفَي الحادثين؛ فهم يقولون مثلًا إن فتح الإسكندرية كان في المرة
الأولى عنوة، وجعلوا بناء روايتهم
كله على أنها فُتحت عنوة، في حين أنَّا قد بيَّنا بيانًا واضحًا لا نزاع فيه أن فتح الإسكندرية
في المرة الأولى كان صلحًا،
وأن العرب جعلوا لأهلها هدنةً مدتها أحد عشر شهرًا، ثم دخلوا بعد ذلك إلى المدينة مُسالمين،
وظلوا بعد ذلك على ملك المدينة
لا يحدث لهم حدث حتى جاء منويل في بعثه.
٧
وقد اتفق مؤرخو العرب اتفاقًا يقلُّ مِثله على أن استرجاع الروم لمدينة الإسكندرية
قد وقع في أوائل السنة الخامسة
والعشرين للهجرة، وذلك نحو آخر سنة ٦٤٥ للميلاد،
٨ ولكنهم لم يتفقوا مثل هذا الاتفاق في ذكر المكان الذي كان فيه عمرو بن العاص عند ذلك.
فإذا صحَّت رواية
الطبري، وروايته جديرة بالتصديق، كان عمرو عند ذلك في مكة
٩ معزولًا. فلما جاءت أنباء هذه الثورة أُمر بأن يعود إلى قيادة الجيش بمصر. وعلى أي حال
فالظاهر أنه عُزل قبل
مجيء الروم، ولم يلتفت خلَفه العاجز إلى حماية البلاد، فأهمل تحصينها حتى بدا عجزها واشتدَّ
خللها، ولم يقِف جيش «منويل»
عند الإسكندرية بعد أن ملكها وخلصت له، بل سار إلى ما يليها من بلاد مصر السفلى ينهب
فيها، ويغصب القمح والخمر والأموال من
أهل قُراها، لا يُدافعه مُدافع. والظاهر أن الروم لم يعبئوا بمن تودَّد إليهم، فكان جندهم
أينما حلَّ أو سار في البلاد
يُعامل الناس معاملة أعداء قد فُتحت بلادهم.
١٠ على أنه قد يكون الأمر على غير ذلك في بعض الأحوال؛ فإن جيش الروم ما عاد إلى امتلاك
البلاد إلا بمساعدة من في
الإسكندرية من الروم، وكانوا لا يزالون على مكانةٍ عظيمة فيها، وكان هؤلاء يعتمدون على
مساعدة بعض الناس في بلاد مصر
السفلى وميلهم إلى الروم. وقد ذُكرت في الأخبار بعض قرًى قامت على بكرة أبيها وانحازت
إلى جانب الروم. غير أن القبط كانوا
على وجه الإجمال لا يرجون خيرًا من وراء رجوع سلطان الروم؛ إذ كانت ذكريات قيرس وعسفه
لا تزال منقوشة على قلوبهم، وكانوا
غير ساخطين على ما هم فيه مع ما أخذ يُظلُّهم عند ذلك من خوف العرب وظلمهم؛ إذ كانت لهم
طمأنينة على دينهم ودنياهم ما
كانوا ليحتفظوا بها إذا عاد حكم الروم؛ ولهذا لاذ القبط بالعرب في هذه المحنة وساعدوهم.
ولو فعلوا غير ذلك لكانوا أحمق
الناس وأجهلهم؛ إذ يكونون كأنهم يسعَون إلى وضع أيديهم في أغلال الروم، وكشف أجسامهم
لجلد سِياطهم. ولسنا نعلم علم اليقين
أبَقي البطريق بنيامين عند ذلك في الإسكندرية أم هرب قبل مجيء جيش الروم؟ على أننا نرجِّح
هروبه وغيابه عن العاصمة في ذلك
الوقت. والأدلة على ذلك قوية، ولكن لا شك في أنه وقف مع قومه من القبط يشدُّون أزْرَ
العرب ويُساعدونهم، ويُظهرون لهم
الود، حافظين بذلك عهدهم الذي تعاهَدوا عليه في صلح الإسكندرية.
وفيما كان الروم يتمتَّعون بما في مصر من ملاذ، ويُضيعون الفرصة على عادتهم في تضييع
ثمين الفرص إذا ما سنحت لهم؛ عاد
عمرو إلى قيادة جيش العرب في بابليون. وقد دعاه العرب لذلك، وألحُّوا فيه منذ رأوا أنه
رجلٌ داهية لا يُدانيه مُدانٍ في
مكيدة الحرب، ولا يثق الناس في أحدٍ ثقتَهم فيه؛ لِما اعتادوا من النصر على يدَيه، وشعروا
بأنهم في أشد الحاجة إليه في ذلك
الوقت العصيب الذي لم يأتِ عليهم وقتٌ أشدُّ منه منذ غزَوا بلاد مصر. ولو لم يُضِع الروم
وقتهم في بلاد مصر السفلى، بل
ساروا لا يلوون على شيء قاصدين إلى الفسطاط؛ لمَا بعُد عليهم أن يهزموا عبد الله ويأخذوا
حصن بابليون، ولكنهم لم يفعلوا
ذلك، بل تهاوَنوا حتى استطاع عمرو أن يحضر إلى مصر ويُجهز جيشه بها. ولم يكن من رأي عمرو
أن يُسرع في أمره، وهذا غير ما
كان يراه خارجة بن حذافة الذي كان عند ذلك قائد مسلحة حصن بابليون؛ إذ كان يرى أن التأخر
ضارٌّ بالمسلمين مُصلِح لأمر
الروم، وأشار على عمرو أن يُبادر إلى العدو قبل أن يأتيه المدد، أو يثب أهل مصر جميعها
وينقضُّوا على العرب. ولكن عمرًا
كان يرى خلاف ذلك، فقال: «ولا، ولكن أدعهم حتى يسيروا إليَّ؛ فإنهم يُصيبون من مرُّوا
به فيخزي الله بعضهم ببعض.» وإنه لمن
الجدير بالذكر أن قُواد العرب في هذا الوقت لم يُميزوا بين قبطي ورومي، بل ظنوا أن الفئتين
معًا إلب على قتالهم. وهذا يدل
على أنه لم يكن ثَمة ما يدعوهم إلى توقُّع محبة القبط لهم، ولا حيادهم في قتال الروم.
ولو صحَّ أن القبط رحَّبوا بالعرب
عند أول مجيئهم إلى مصر ورأوا فيهم الخلاص، لَركن قُواد العرب في هذا الوقت إلى ولاء
القبط ومحبتهم، ولتوقَّعوا منهم الود
والمساعدة.
وعلى هذا سار الروم على مهل حتى استُدرجوا إلى نقيوس،
١١ وهناك لقيتهم طلائع العرب، ولعل جيشهم كان إذ ذاك خمسة عشر ألفًا.
١٢ ولم يذكر التاريخ هل استولى الروم على مدينة نقيوس، غير أنه يذكر أنه قد وقع قتالٌ شديد
بين الجيشين تحت أسوار
حصنها فيما يلي الخليج أو النهر الذي يجري على كثب من المدينة، وقد قاتَل الروم في تلك
الوقعة قتالًا عظيمًا، وأبدَوا فيه
شجاعةً لا مثيل لها، وحارَب عمرو في صفوف الناس، وعُقر تحته فرسه إذ أصابه سهم، فاقتحم
عنه وحارب راجلًا، وانهزم العرب في
بعض ذلك القتال وولَّوا الأدبار، وكان أظهر الرومَ يومئذٍ في شجاعته وحسن عدته رجلٌ فارس
عليه سلاحٌ مذهَّب. فلما تنازَع
الناس القتال دعا العرب إلى البراز، فبرز إليه رجل من زبيد يُقال له «حومل»، فاقتتلا
طويلًا برُمحَين يتطاردان بغير أن
يغلب أحدهما الآخر، ثم ألقى الرومي رمحه، وأخذ السيف فألقى حومل رمحه وأخذ سيفه، وكان
الجيشان في أثناء ذلك وقوفًا يرى
جندهما ذلك البراز وهم في صفوف على الجوانب، ثم حمل الرومي حملةً شديدة، فضربه العربي
بسيفه ضربة في ترقوته فأثبته، وأما
حومل فقد أصابته جِراحةٌ مات منها بعد أيامٍ قليلة، فأرسل عمرو جثته إلى الفسطاط على
سرير، ودفنه عند المقطم.
١٣
ولما قُتل البطل الرومي رجع القتال بين الناس واشتد، وانتهى أمره بهزيمة جيش
منويل، وفرَّ الروم لا يلوون على شيء نحو الإسكندرية. فبلغت فلول جيشهم العاصمة والعرب
في آثارهم، فأقفل الروم الأبواب
واستعدُّوا للحصار.
١٤ وكان عمرو في أثناء سيره في بلاد مصر السفلى يلقى مساعدة من قرى القبط حيث سار، فكانوا
يأتون إليه بمن يُقيم
له الجسور، ويقدِّمون له ما كان في استطاعتهم تقديمه بعد ما حل بهم من نهب الروم وغصبهم.
فلما بلغ جيش العرب أسوار
الإسكندرية، ورأى عمرو ما عليه المدينة من المنعة؛ اشتد به الألم؛ لأنه رأى أنه أخطأ
في ترك أسوارها قائمة ولم يجعل بها من
الجند مسلحةً قوية، وحلف لئن أظفره الله بها ليهدمنَّ أسوارها حتى تكون مثل بيت الزانية
يؤتى من كل مكان. وجعل عسكر العرب
في الجانب الشرقي من المدينة، وهو الجانب الذي كان الحصار منه ممكنًا. وقيل إنه أقام
آلات الحصار وصدع بها الأسوار. غير أن
ذلك لا يتفق مع ما هو معروف عن أسوارها من القوة. وإنه لأقرب إلى الأفهام أن نصدِّق روايةً
أخرى تجعل مرجع فتح المدينة في
هذا الحصار جُله إلى الخيانة من داخلها، كما وقع لها في حصار دقلديانوس؛ فقد قيل إنه
كان في الإسكندرية بوَّابٌ اسمه «ابن
بسامة»، سأل عمرًا أن يؤمِّنه على نفسه وأهله وأرضه ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى
ذلك.
١٥
ومهما يكن من الأمر فقد أخذ العرب المدينة عنوة، ودخولها يقتلون ويغنمون ويحرقون حتى
ذهب في الحريق كل ما كان باقيًا على
مقربة من الباب في الحي الشرقي، ومن ذلك كنيسة القديس مرقص. واستمرَّ القتل حتى بلغ العرب
وسط المدينة، فأمرهم عمرو أن
يرفعوا أيديهم، وبُني مسجد في الموضع الذي أمر عمرو فيه برفع السيف، وهو «مسجد الرحمة»،
وقد لاذت طائفة من جند الروم
بسفنهم فهربوا في البحر، ولكن كثيرًا منهم قُتل في المدينة، وكان منويل بين من قُتل،
وأخذ العرب النساء والذراري فجعلوهم
فيئًا.
وكان هذا الفتح الثاني في صيف سنة ٦٤٦، وكان عنوة بالسيف؛ وبهذا يكون بين الفتح
الأول والفتح الثاني فروقٌ تُميز بين وقت وقوع كل منهما وحوادثه، ولكن من سوء الحظ أن
كُتاب العرب لم يفرِّقوا بين
الفتحين. وإنه لمن أصعب الأمور وأشدها استعصاءً أن يُعيد باحث إلى الحوادث نظامها في
كل من الحالين؛ إذ يجد بعضها داخلًا
في بعض مختلطًا به اختلاطًا من كل وجه. وإنا نرى أن هذا الوصف موضع لذكر حادثة قد وُضعت
في غير موضعها في وصف الفتح الأول،
فنشأ عن ذلك خلطٌ عظيم، وتلك الحادثة هي الزيارة التي قيل إن المقوقس زارها لعمرو ليعرض
عليه فيها أمورًا عجيبة. ولا شك أن
المقوقس قد مات منذ زمن طويل، غير أن العرب كانوا يُطلِقون ذلك اللقب خطأً على أشخاصٍ
عدة؛ فقد سمَّوا به الحاكم الذي كتب
إليه النبي كتابه قبل فتح العرب لمصر، ثم أخطئوا فسمَّوا به بعد الفتح بطريق القبط بنيامين؛
١٦ وعلى ذلك فإنا إذا قرأنا أن المقوقس جاء إلى عمرو في وقت الحصار، ووعده أن يساعده على
شروطٍ ثلاثة، كان لا بد
لنا أن نعزو تلك القصة إلى «بنيامين» وما كان منه عند ثورة الإسكندرية واستيلاء منويل
عليها.
وإن تحريف هذه القصة ووضعها في غير موضعها له أثرٌ كبير في تاريخ الفتح؛ فإن ذلك
منشأ الخلط الذي بُنيت عليه رواياتٌ
كثيرة؛ فإن المؤرخين لم تسبق لهم كتابة تاريخ للفتح نقدوا فيه أخباره وبحثوها، فلا نجد
في كتب تواريخ العرب إلا سردًا
لحوادث اختاروها وروَوها عن مصادر مختلفة، ولكنهم في اختيار ما يروون من أخبار تلك الحوادث
لا يفرِّقون بين أشياء كان يجب
عليهم التفريق بينها، فيجمعون من أخبار الحوادث ما وقع في أوقاتٍ مختلفة، لا يتحرَّون
في ذلك ترتيبها ولا تاريخ وقوعها.
فإذا ما صار الخبر في غير موضعها لا يتناسب مع السياق والقرائن حوَّروه لكي يُلائم ذلك
السياق الجديد، وقد يصير الخبر بذلك
التحوير في كثير من الأحوال سخيفًا أو باطلًا فاسدًا. وهذا ما كان في تاريخ هذا الحادث
الذي نحن بصدده؛ فقد روى
١٧ المقريزي ثلاثة شروط اشترطها المقوقس على عمرو، وهي:
وإنا نرى أن هذه الرواية عما اشترطه المقوقس بعيدة لا يُسيغها العقل، وهي فوق ذلك
قلب للخبر الأول الذي نُقلت منه؛ فهي
تصوِّر المقوقس كما هو ظاهر كأنه رجل من الروم يسأل العرب أن يفُوا للقبط بعهدهم، وألا
يُصالحوا الروم؛ ومن ثَم نشأت قصة
القبط، وأنهم وحدهم انفصلوا عن الروم وصالحوا العرب عند أول هبوطهم مصر. ومن تلك الرواية
كذلك نشأت قصةٌ أخرى، وهي أن
القبط رحَّبوا بالعرب ورأوا فيهم الخلاص. على أن المؤرخ نفسه يُورِد الشروط
١٩ عن مصدرٍ آخر، وهو ابن عبد الحكم، ويجعلها كما يأتي:
- (١)
ألا يُبذل للروم ما بُذل للقبط؛ لأنه نصحهم فاستغشوه.
- (٢)
ألا ينقض القبط؛ فإن النقض لم يأتِ من قِبلهم.
- (٣)
أن يُدفن المقوقس في كنيسة يوحنس.
وهذه روايةٌ أقرب إلى عهد الحادث؛ فهي لذلك أقرب إلى الحقيقة. ومما يستحق الذكر أن
هذه الرواية ليس فيها قوله: «وأن
يُدخله معهم (أي المقوقس مع القبط) ويلزمه ما لزمهم.» ونرى أن ذلك القول الذي عزاه المؤلف
إلى المقوقس، وهو سؤاله لعمرو أن
يُدخله مع القبط، قولٌ لا مبرِّر له، وإنما أراد به المؤلف أن يوضح أمرًا لم يجد إيضاحًا
له غير ذلك؛ فهو يريد أن يُعزز
بقوله هذا أن المقوقس كان يميل مع القبط (وهو قولٌ بعيد عن الصواب)، وأنه كان يأخذ لهم
من العرب ميثاقًا وعهدًا.
ولكن من حسن الحظ أنَّا نجد في تاريخ البلاذري رواية عن المقوقس وما طلبه من عمرو،
وهي تدل دلالةً قاطعة على أن هذا
الأمر لا علاقة له بفتح الإسكندرية أول مرة، بل إنه حدث عند ثورة الإسكندرية وحرب «منويل»؛
وعلى هذا لا يمكن إلا أن يكون
المقصود من «المقوقس» هو بنيامين بطريق القبط. وجاء في هذه الرواية أن بنيامين سأل عمرًا
فقال:
وقوله «إذ إن نقض العهد لم يأتِ من قِبلهم» تُوضح الأمر كله وتجلوه؛ فإن القبط لم
تكن لهم يد في ثورة الإسكندرية التي
نُقض بها الصلح الذي عقده قيرس (المقوقس)، ولم يكن لهم ضلع في تلك المؤامرة التي كان
يُقصد بها عود سلطان الروم؛ وعلى ذلك
ذهب كبيرهم — وكان عند ذلك بنيامين — فعرض على عمرو مساعدة القبط له على شرط أن يُجازَوا
على ولائهم بأن تُحسِن معاملتهم،
ولا يُكال لهم بكيل الروم الذين ثاروا بالمسلمين. فإذا نحن وضعنا هذا الخبر في موضعه
بدا لنا واضحًا بينًا عظيم الدلالة
بعد أن كان وهو محرَّف في غير موضعه غامضًا مُحيرًا. ولقد استبحت الإطالة في ذكر هذا
الخبر لِما له من عظيم الشأن بين
أخبار التاريخ، ولأنه مثلٌ يظهر منه ما يُلاقيه الباحث من المشقة في بحثه، وما يُعانيه
من الصعاب في سبيل جلاء
الحقيقة.
هذا ما عرضه البطريق على عمرو. فلما سمع عمرو ذلك منه قال، يقصد الشرط الثالث: «هذه
أهونهن علينا.» فقد كان من السهل
عليه أن يعِد بنيامين بأن يُدفن في كنيسة القديس يوحنس، ولكن لم يكن من السهل عليه أن
يُفرق في كل الأحوال بين القبط وبين
الروم فيما كان منهم، أو أن يحكم في أمر القبط ومبلغ اشتراكهم في ثورة الإسكندرية. ولسنا
نعرف على وجه اليقين الموضع الذي
لقي فيه بنيامين عمرو بن العاص، ولعل ذلك كان في بابليون قبل أن يسير عمرو إلى لقاء الروم،
وقبل أن يعرف نصيب القبط من تلك
الثورة. وأغلب الظن أن القبط من أول الأمر أعرضوا عن منويل، ولا شك في أنهم سهَّلوا على
العرب السير في بلاد مصر السفلى،
ولا بد أن ذلك كان راجعًا إلى فعل بنيامين واتفاقه مع قائد العرب.
وفي هذا الوقت إذن نرى أن القبط يُمالئون العرب راغبين وهم على عهد معهم، وما زالوا
على ذلك حتى هُزم الروم وتشتَّت شمل
جيشهم، وفُتحت الإسكندرية مرةً أخرى. وهذا هو المنشأ الحقيقي لقصة ترحيب القبط بالعرب
ومُمالأتهم لهم منذ هبطوا مصر، وهي
قصةٌ لا صِدق فيها، وقد بيَّنا بُطلانها مرة بعد مرة في تاريخنا هذا. غير أنَّا نرى مما
أوضحناه هنا أن تلك القصة قائمة
على أساس قد اختلط به الحق والباطل، والْتَبست فيه الأخبار واستغلقت على الرواة؛ فهي
بالاختصار تروي خبرًا صحيحًا، ولكنه
وقع في القتال الذي انتهى بفتح الإسكندرية للمرة الثانية لا في أي قتال قبله، وهي تصدُق
على ثورة الإسكندرية، ولكنها لا
تصدُق على فتح مصر الأول، وهي صورةٌ تاريخيةٌ صحيحة، ولكنها قد أُلبست إطارًا كاذبًا.
٢١
وبعدُ، فثَم قصةٌ أخرى كان لها حظٌّ عظيم من تضليل المؤرخين وتحييرهم، وهذا موضع
تفنيدها؛ فقد ذكرنا فيما مر من القول
قصةً وجدناها في كتاب «ساويرس» وكتاب «تيوفانز»، وهي أن «قيرس» دفع للعرب الجزية قبل
غزوهم مصر مدة ثلاث سنين أو تزيد،
وكان يقصد بذلك أن يدفع عن مصر غزوتهم، وقد قلنا إن هذه القصة غير جديرة بالتصديق،
٢٢ ولكنا لم نُبين كذبها، وقد ظهرت لنا الآن حقيقة منشئها جليةً، فما هي إلا زعمٌ فاسد
توهَّمه من قرأ أخبار
الفتح في كتابٍ مجملٍ مبتور، ولا شك عندي في أن منشأ تلك القصة كتابٌ يوناني مثل «تيوفانز»
سرد أخبار عدة سنين في جملٍ
قليلةٍ مجملةٍ مختلطة، لم يتحرَّ فيها ترتيب التاريخ؛ فقد قال «تيوفانز» إن العرب لما
غزَوا مصر صالَحهم قيرس على أن تدفع
مصر لهم جزيةً مائتَي ألف دينار، ثم قال:
٢٣ «فحفظ قيرس بذلك مصر من الضياع ثلاث سنين، غير أنه اتُّهم عند الإمبراطور
بأنه يدفع أموال مصر إلى العرب، فعزله الإمبراطور وغضب عليه، وأقام مكانه «منويل» الأرمني
ليكون قائد جيش الروم، فلما مرَّ
العام أرسل العرب في طلب الجزية فأجابهم «منويل»: «لست بالعاجز المُستضعَف (قيرس) فأدفع
لكم الجزية، فما لكم عندي إلا
السيف.» ولم يُعطِهم شيئًا. فتجهَّز العرب لغزو مصر، وجاءوا لحربها، وهزموا منويل، فهرب
مع فلول جيشه إلى الإسكندرية، وفرض
العرب الجزية على مصر مرةً أخرى. فلما سمع الإمبراطور بذلك بعث «قيرس» ليحمل العرب على
الخروج من مصر على الشروط التي
عقدوها معه، فجاء «قيرس» إلى عسكرهم، وقال لهم إنه لم يأتِ النقض من قِبله، وإنه يُقسِم
أن يُعيد معهم العهد الذي عقده من
قبل، فأبى العرب ذلك كل الإباء.» وإنه لمن أشق الأشياء أن يعيِّن الإنسان مواضع الخلط
والخطأ في هذه الرواية؛ فما هي إلا
نسيج من التحريف، ولكن من قرأها لا يسعه إلا أن يقول إن العرب عندما غزَوا مصر في أول
الأمر لقيهم «قيرس» فأعطاهم مالًا
على أن يرجعوا عن مصر، فلما سمع هرقل بذلك أرسل إلى مصر «منويل» على الفور، فلما هُزم
«منويل» أبى العرب أن يعودوا إلى عهد
الصلح الأول الذي اشتُرط عليهم فيه الخروج من مصر. هذا ما آل إليه الخبر من التحوير؛
ومن ثَم نشأت قصة الجزية، ولا حاجة
بنا أن نقول بعد ذلك كلمة في إظهار فسادها.
٢٤ ومع ذلك فإننا نرى اليوم من بين الكتب الكبرى من يأخذ بهذه القصة ويراها روايةً صحيحة.
٢٥