خيبة بنوسوس
غير أن أهل الإسكندرية لم يكُونوا في حالٍ يستطيعون معها صبرًا على الحصار؛ فيُقال إن قديسًا من أهل صعيد مصر اسمه «تيوفيلوس» (الواثق بالله)، أو «صاحب الاعتراف»، كان يعيش على رأس عمود. ويلوح أنه تلقَّى فوق ذلك العمود الحكمة والكياسة، فنصح «نيقتاس» أن يخرج ويُناجز أعداءه القتال. فخرج بجنوده، ووقف بهم داخل «باب أون»، وكان الطريق الأكبر الذي يشق المدينة طولًا طريقًا واسعًا فسيحًا، فكان فيه ما يتسع لحشد الجيش. أما اسم «باب أون» فلا يفسِّره «زوتنبرج»، ولا يجد الناظر إليه لأول مرة أيَّ شبه بينه وبين علَمٍ معروف من أعلام الإسكندرية، ولكنا نجد في موضعٍ آخر من الكتاب أن اسم «أون» مُرادف ﻟ «عين شمس»، واسم «عين شمس» هو الاسم العربي للمدينة المشهورة ﺑ «هليوبوليس»، وكان الاسم المصري القديم لهليوبوليس هو «أون»؛ ﻓ «باب أون» على ذلك هو الباب المتجه نحو مدينة «هليوبوليس»، ويمكن فوق ذلك أن يُقال إنه هو بعينه الباب المعروف ﺑ «باب الشمس»، وهو في نهاية الطرف الشرقي لذلك الطريق الواسع الذي كان يشق الإسكندرية من الشرق إلى الغرب، كما أن «باب القمر» كان عند نهاية الطرف الغربي منه، وكان يقطعه عند مفترق واسع طريقٌ آخر يتجه بين الشمال والجنوب. ولنا أن نقول هنا إن كثرة ورود الأسماء المصرية القديمة، كما هو ظاهر من استعمال اسم «أون» هنا وفي أسماءٍ وردت في مواضع أخرى، يدل دلالةً قوية على أن «حنا النقيوسي» كتب هذا الجزء من ديوانه الأصلي باللغة القبطية.
والآن فلنَعُد إلى ما كنَّا فيه؛ فإن الجيوش الإمبراطورية أتاها الأمر عند ذلك أن تزحف على المدينة يقودها قائدٌ فارس، فتقدَّموا ولكنهم قبل أن يقتربوا من المدينة أُرسلت عليهم النيران المُحرقة من مجانيق عظيمة كانت تُزمجر وتخور فوق الأسوار والآطام، وأصابت إحدى تلك المقذوفات القائد فكسرت فكَّه، وأرْدَته صريعًا لم تُمهِله، وأصابت أخرى قائدًا ثانيًا فقتلته؛ فتردَّد الزاحفون وقد أوقعت هذه المجانيق فيهم الرعب والاضطراب. وعند ذلك أمر «نيقتاس» جيشه بالخروج من المدينة، ففتح «باب الشمس» وخرج الجيش منه، فوقف صفًّا، وحمل على العدوِّ حملةً صادقة ثلَم بها صفوفه، واستحر القتال، ثم انجلى عن شطر جيش «بنوسوس» شطرين، ووقعت على أثر ذلك الهزيمة. ولما رأى «نيقتاس» أن أكثر المُنهزمين يُسرعون نحو الشمال، سار بجماعة من رديفه، وهم من جنود السودان، وخرج من بابٍ آخر قريب من كنيسة «مار مرقص» في الجهة الشمالية من المدينة تجاه البحر، وعند نهاية السور من الشمال الشرقي؛ فما لبث أن سبق المُنهزمين الفارِّين وأخذ عليهم السبيل، فردَّهم من حيث جاءوا، فكانوا في رجوعهم بين مُستهدف تحت الأسوار تحصده القذائف من حجارة وسهام، وبين جانح نحو البساتين يلجأ إلى حوائطها ذات الأشواك، فيُحصر هناك ويُقتل. وأما من هربوا من جيش «بنوسوس» نحو اليسار، أي إلى الجنوب، فقد وجدوا أنفسهم حيال ترعة تقطع عليهم سبيلهم، وكانت سيوف العدو تلمع من ورائهم وهم يتبعونهم، فأخذ الخوف بقلوبهم وأذهل ألبابهم، فصاروا يخبط بعضهم بعضًا خبطًا بالسلاح وقد أعمى الهول أبصارهم.
وهكذا تمزَّق جيش «بنوسوس» كل ممزَّق، وكان بين القتلى «مرقيان» حاكم «أثريب» و«ليونتيوس» و«فالنس» وكثير من الأعيان، وكان للواقعة من الأثر ما جعل الحزب الأزرق نفسه يتخلى عن «فوكاس»، ولكن «بنوسوس» نجا بنفسه وارتدَّ إلى قلعة «كريون»، وكريون مدينة سيأتي ذكرها بعد ثلاثين عامًا عند مَسير العرب بقيادة عمرو إلى الإسكندرية، وكانت واقعة على كلتا ضفَّتَي الترعة الآتية من النيل إلى العاصمة، ويصفها «ابن حوقل» بأنها كانت في أيامه مدينةً كبيرة جميلة تُحيط بها الحدائق، وهي لا تزال باقية إلى اليوم، ولكنها قريةٌ صغيرة. ولسنا ندري أي عمل قام به «بول» وأسطوله في أثناء هذا القتال، فلعله كان يُناجز جانبًا من جيش العدو في الجنوب الغربي من المدينة؛ فلم يكن قريبًا هو وأسطوله من محل القتال، ولم يُساعد في حرب البر، ولم تكن له يد في حماية الفارِّين.
فلما سمع «بول» بعد ذلك بتلك الهزيمة القاضية، سوَّلت له نفسه أن يسلِّم ويلتحق بأصحاب «نيقتاس»، ولكنه مع ذلك ثبت في جانب حزبه، واستطاع أن يتقهقر بوسيلة من الوسائل إلى مدينة «كريون» حيث لحق بالقائد «بنوسوس». ولا بد لنا أن نُقر بالإعجاب على كُره منَّا بما كان لهذا القائد «بنوسوس» من قوة الجَنان وسَعة الحيلة؛ فإنه لم يدُر في خَلده ساعةً أن يخرج هاربًا من النضال، فسار مُسرعًا في الترعة إلى أن بلغ فرع النيل الغربي، ثم سار في النهر صعدًا إلى «نقيوس»، وكان جنوده لا يزالون يحمونها، فجمع هناك أسطوله، وأصلح من شأنه، واستطاع أن يسيطر على النهر بعد أن دمَّر عددًا كبيرًا من سفن الإسكندرية. وإذ كان غير قادر على لقاء «نيقتاس» مرةً أخرى، اتخذ سبيله في ترعةٍ أخرى (ولعلها ترعة الروجاشات) سائرًا نحو مريوط، ثم سلك ترعة الثعبان التي في غرب الإسكندرية قاصدًا نحو مريوط يريد أن يستولي عليها، ويجعلها قاعدة له يُجهز منها السرايا إلى الإسكندرية، ولكن «نيقتاس» بلغه خبر هذه النية، فأمر أن تُهدم القنطرة التي عند «دفاشير» بقرب مريوط؛ وبذلك سد مجرى الترعة، وحال دون إتمام ما أراد عدوه.
فثارت ثورة «بنوسوس» عندما علم بهذا الفشل، وعزم على أن يدع الحرب الصريحة، وأن يقتل «نيقتاس» غيلة؛ فأوعز إلى أحد جنوده أن يذهب إليه كأنه رسول جاء ليُفاوضه في أمر التسليم وشروطه، وقال له: «خذ معك خنجرًا صغيرًا، واجعله تحت ردائك، فإذا ما اقتربت من «نيقتاس» فضعه فيه، واخرق به قلبه حتى تتركه قتيلًا، ولعلك تقدر أن تنجو في أثناء الاضطراب الذي يعقب ذلك، فإذا أنت لم تستطع النجاة فقد متَّ شهيدًا في سبيل حماية الإمبراطورية، وسأجعل ولدك جميعًا في قصر الملِك أتعهَّدهم بنفسي، وأُجري عليهم الأرزاق مدى حياتهم.» ذلك كان تدبير «بنوسوس»، ولكنه فشا؛ إذ أذاعه خائن؛ فإن رجلًا ممن كان معه اسمه «حنا» أرسل كتابًا يُنذر فيه «نيقتاس» ويحذِّره، حتى إذا ما جاء الفاتك إليه أحاط به الحُراس وفتَّشوه، فوجدوا معه الخنجر مخبوءًا، فضربوا به عنقه.
فلما خاب «بنوسوس» في كيده سار في البر إلى «دفاشير»، وشفى غلَّه بأن أحدث في أهلها مَقتلةً عظيمة، وجاء «نيقتاس» يسعى للقائه، غير أن «بنوسوس» كان يعلم أنه من الحمق أن يُخاطر بمُناجزته القتال بمن معه وهم فلولٌ ضعيفة، فعاد أدراجه على ذلك، وعبر نهر النيل، والتجأ إلى «نقيوس» ليتحصن فيها مرةً أخرى. وأما «نيقتاس» فإنه لم يتبعه إلى العَدْوة الأخرى، بل بقي في غرب النهر وسار إلى مريوط، فأخذ المدينة والإقليم، ووضع فيهما جندًا كثيرًا. وكان شديد القلق لِما لقيه من استماتة عدوه وشجاعته، وسرعة حركته التي كان يغلب بها خططه؛ ولهذا كان يقدِّم الحزم في مقابلة حركات عدوه الجريء، فلم يعبر (نيقتاس) النهر ذاهبًا نحو منوف إلا بعد أن خلص له كل ما وراءه، وثبت قدمه على الجانب الغربي من النيل، وكان في منوف حصنٌ حصين، وهو من أكبر ما أقامه «تراجان»، وكان في طاقته أن يبقى على المقاومة ما شاء لو دافَع عنه من فيه دفاعًا قويًّا، ولكن الناس كانوا من غير شك يميلون إلى حزب الثوار، وكان جنود الإمبراطورية تخبو شجاعتهم برغم شجاعة قائدهم وجراءة احتياله في الحرب، ففرَّ عددٌ كبير من جند الحامية، وأُخذ الحصن عنوةً بعد قتالٍ ضعيف.
فلما تم ﻟ «نيقتاس» ملك ضفَّتَي النيل وما حولهما من البلاد، سار قاصدًا مدينة «نقيوس»، وقد ضيَّق عليها من كل جانب؛ فبلغ الأمر بالقائد «بنوسوس» أن وهنت عزيمته، ففرَّ تحت جنح الليل، ولعله انسلَّ من بين الجيش المُحاصَر، وسار إلى الشرق نحو «أثريب»، أو لعله هوى مع النهر إلى الشمال، ثم ضرب نحو مدينة «صان» سالكًا إليها إحدى الترع الكثيرة التي هناك. وعلى كلا الحالين استطاع أن يبلغ «الفرما» سالمًا؛ ومن ثَم ركب البحر إلى فلسطين، ومنها سار في طريقه إلى القسطنطينية تُشيِّعه لعنات الناس إلى أن لحق بسيده «فوكاس». وكان فتح «منوف» و«نقيوس» إيذانًا للمدن الأخرى ولسائر القُواد أن يسلِّموا، وأُسِر «بول» حاكم «سمنود»، وصديقه المُقعَد الجريء «كسماس»، ولكن الفاتح المُنتصر عفا عنهما عفوًا صريحًا، ثم قبض «نيقتاس» على زعماء الحزب الأخضر، وأنذرهم وأوعدهم إذا لم يسيروا بالحسنى؛ وذلك لأنه رآهم قد اتخذوا نصره على عدوه ذريعة للاعتداء على الحزب الأزرق، ولقتل الأنفس ونهب الأموال، فتصالح الحزبان، وعُقد لحكامٍ جديدين على المدائن كلها، واستقرَّ الأمر، وعاد سلطان القانون، وصار هرقل سيد القُطر المصري.
لقد كانت الحرب قتال المُستميت، وطالت بها مدة الزمن، وتقلَّبت بها الأمور تقلبًا عجيبًا، تارةً يبسم فيها الحظ، وتارةً يعبس؛ فقد رأينا البلاد في سُباتها وهي جاهمةٌ كارهة، فإذا هي تهبُّ على صوت الصور من جيوش «هرقل»، ثم فتح «نيقتاس» الإسكندرية بغير قتال يُذكَر، ورأينا الثورة تنتصر في مصر، ثم رأينا «بنوسوس» وهو يهوي كأنه نمرٌ انقضَّ على رأس مصر السفلى، فاكتسح كل ما دونه حتى بلغ أسوار الإسكندرية، وصدم حصونها صدمةً لم تُغنِ شيئًا، فارتدَّ وهو كليمٌ حسيرٌ عاجز عن المضيِّ في النضال إلا مُناجزةً هيِّنة بين حين وحين، وبقي على ذلك مدة تُحمَد فيها شجاعته وحماسته المتَّقدة؛ فلما لم يبقَ له ما يستطيع به المقاومة مكر بأعدائه الذين أحاطوا به، فهرب منهم تحت جنح الليل، ولم يمكِّنهم من نيل ثأرهم منه. وإنها لصورةٌ بديعةٌ زاهية الألوان، تدل كل ناحية منها على حقيقة ما تُصوِّره، وقد بقيت كلها مجهولة لا يعرف عنها التاريخ شيئًا حتى كشف عنها تاريخ «حنا» أسقف «نقيوس».
حسبُنا هذا القول لندلَّ به على ما كانت عليه مصر في ذلك العصر من السلام في داخلها. أما ما يزعم الزاعمون من أنها كانت بمنجاة من غزوات الأجانب وإغاراتهم، فيكفي لإظهار خطئه أن نذكُر إغارة الفُرس في أيام الإمبراطور «أنستاسيوس» حين أُحرقت كل أرباض الإسكندرية كما يشهد بذلك «سعيد بن بطريق»، وهو كاتبٌ مصري المولد، وهو يذكُر أن القتال ظل قائمًا بين المصريين وغزاة الفُرس في مواقع يتلو بعضها بعضًا، وأن البلاد عصفت بها مَخالب الخراب، فلم تكَد تنجو من السيف حتى أصابتها مجاعةٌ دفعت بالناس إلى الثورة. وماذا عسانا أن نذكُر عن عسف الاضطهاد، وعن المذابح وما سال فيها من الدماء، وتشجيع الحكام لذلك حتى «جستنيان» نفسه؟ وماذا عسانا أن نذكُر من الثورات الصغيرة مثل تمرُّد «أرستماخوس» في أيام الإمبراطور «موريق»، ومن خروج اللصوص في عصاباتٍ منظَّمة، ومن غارات البدو وقبائل السودان وما يصحبها من انزعاجٍ دائم؛ إذ كانت تلك القبائل إذ ذاك كما هي اليوم خطرًا يُهدد حدود البلاد؟ فلئن كانت الحرب في كثير من الأحيان غير ثائرة في البلاد في الحقيقة، فإن شبحها المُخيف كان يتراءى لها أبدًا، ويرفعه الآل على آفاقها.