ولاية هرقل
ولسنا نرى من هرقل في مدة الأشهُر الكثيرة التي قضاها في «سلانيك» إلا سعيًا واحدًا، وهو أن يُكمل خطته، ويجمع الأمداد، ويُذلل الصعاب. ولسنا ندري ما كانت الصعاب التي قامت في سبيله في ذلك العصر الذي لا نجد شيئًا من ذكر حوادثه في دواوين الأخبار، وأكبر ظننا أنه قد أبدى فيه مِثل ما أبداه فيما بعد في حرب الفُرس، فأعجب العالم وأدهشه من همة لا يعتريها كلالٌ مقرونةً إلى حزم وبصر بالأمور. على أنه لم يفرغ من تجهيز أمره إلا في سبتمبر سنة ٦١٠، وعند ذلك أقلع الأسطول الذي جمعه، وأعد ما يحتاج إليه من المئونة والعُدة، ولم ينسَ أن يحمل معه آثار الأبرار من القديسين في السفن التي في الصدر، ورفع علَم الصليب على رءوس سارياتها، وجعل فوق سفينته دميةً ذات حُرمة خاصة، «دمية لم تنحتها أيدي البشر»، جعلها عند مقدم السفينة. وانتشرت أنباء الأسطول ومجيئه إلى الدردنيل انتشارَ النار في الهشيم حتى بلغت العاصمة، وما كادت حتى جهرت جماعةٌ كبيرة من الشيوخ وأهل الدولة بالدخول في طاعة «هرقل»، وكان معهم «تيودور» المجيد، ولكن يلوح أن «كريسبوس» بقي قابعًا لا يُحرِّك ساكنًا في أول الأمر. ويقول «حنا النقيوسي» إن رعاع المدينة وغوغاءها ثارت على الإمبراطور، وشرعت تصبُّ عليه صنوف السباب.
وهذه القصة قصة «بنوسوس» وموته قد جمعناها من ديوان «قدرينوس» وكتاب «حنا النقيوسي» و«ديوان بسكال»، ومن العجيب أنهم يتفقون جميعًا فيما يُورِدونه، ولا يختلفون اختلافًا حقيقيًّا إلا قليلًا؛ فقد تختلف رواياتهم ولكن اختلافها ناشئ من نقص شيء أو زيادة آخر، وليس فيما بينها تناقض في ذكر الحوادث، وفوق هذا فإن مواضع الاتفاق بينهم في كثير من الأحيان واضحةٌ تسترعي النظر، وهم إنما يتفقون في الجوهر لا في تفصيل الوصف، وهذا يدل على أنهم كتبوا ما كتبوه وكلٌّ منهم وحده مستقلٌّ عن الآخرين. وفي هذا ما يبعثنا على الاطمئنان إلى رواياتهم والاعتماد عليها، وليس ثَمة ما يبعث على الظن أنهم رجعوا جميعًا إلى مرجعٍ واحد نقلوا عنه.
ومنذ علِم الإمبراطور بما أصاب «بنوسوس» عرف أن ساعته قد دنَت، ولم يكن في نيته أن يخلع عن نفسه التاج، في حين لم يكن يتوقع الرحمة إذا هو سلَّم لأعدائه؛ فكان أمله الوحيد في أن يُقاتل إلى أن يحكم السيف حكمه. غير أن تسلُّل خير جنوده عنه لم يدَع له أملًا إلا قليلًا، فلم يبقَ له إلا ولاء الحزب الأزرق، وإن شئت فقل لم يبقَ له إلا تلك العداوة الشديدة التي كان يحملها الحزب الأزرق لأعدائه أصحاب الحزب الأخضر، وما داخَلهم من الحنق عندما رأوا نجاح الفئة المُعادية لهم؛ وعلى ذلك جهَّز «فوكاس» أسطولًا، وجعل رجاله من الحزب الأزرق، وجعله في ميناء «أيا صوفيا»، واستعدَّ لقتال هرقل. وإنا ناقلون هنا قصةً يرويها «حنا النقيوسي»، ولا نعرف أن مؤرخًا آخر ذكرها؛ وذلك أن «فوكاس» و«خازن أمواله» «ليونتيوس» السوري عندما علِما أن حياتهما أصبحت بعد قتل «بنوسوس» في أشد الخطر من غوغاء المدينة، أخذا كل ما في خزائن الدولة من الأموال وقذفا بها في البحر؛ فضاع بذلك في لحظةٍ واحدة كلُّ ما كان للإمبراطور «موريق» من الثروة، وما جمعه «فوكاس» من الذهب والجواهر بغصب أموال من قتل من ضحاياه، وما كنزه «بنوسوس» من أموال وتُحَف وأوانٍ نفيسة حصَّلها بالظلم البالغ والغصب المُتعدد. قال المطران: «وهكذا كان «فوكاس» سببًا في وقوع الفاقة والعوز بالدولة الرومانية الشرقية.»
وكانت هذه الفعلة شفاءً للغل، ورِيًّا للحقد، وهي جديرة بخُلق «فوكاس»، والظاهر أنها وقعت في اللحظة التي لاح فيها نصر هرقل في الوقعة البحرية، ولا بد أن تلك الكنوز كانت محمولة في سفينة الإمبراطور حتى لا تؤخذ نهبًا في أثناء القتال؛ فلما وقعت الهزيمة أُلقيَ بها في اليم جميعًا. وما كان من شك في نهاية الأمر، وعلى من تكون الدبرة مهما كان من شدة القتال، فهُزمت سفن الإمبراطور، وقُذف بها إلى الشاطئ أو استولى عليها العدو، وفرَّ من استطاع من الجند فاستأمن في كنيسة «أيا صوفيا». وأما «فوكاس» فالظاهر أنه عاد بصحبة «ليونتيوس» إلى «قصر الملك الأكبر»، فلحِقَ به «فوتيوس»، أو هو «فوتنيوس»، و«بروبس»، فضربا التاج عن رأسه فتردَّى عنه، ثم وُضع هو في القيود والسلاسل، وجيء به يُجرُّ جرًّا على جانب المرفأ وقد تمزَّقت ثيابه كل ممزَّق، وعُرِض هناك على جنود الجيش والأسطول المُنتصرين، ثم اقتادوه بين التهليل إلى حضرة الفاتح المنتصر في كنيسة «الرسول توماس» وصيحات اللعن الصاخبة تصدع أذنَيه.
ومن الجائز أن «هرقل» اختار هذه الكنيسة ليصلِّي فيها شكرًا لله على ما أولاه، ولم يختَر كنيسة «أيا صوفيا» إذ كان بها عددٌ عظيم ممن فرَّ من الحزب المقهور؛ ولهذا لم تكن تتَّسع لجمعٍ كبير فوق ذلك أو لحفلٍ ديني. ولسنا في حاجة إلى أن نُكلِّف خيالنا شططًا ليُصوِّر لنا كل ما جرى بين «فوكاس» و«هرقل»، وحسبُنا أن نتصوَّر كنيسةً فخمةً تزدحم برجال الدولة من قُواد وشيوخ وجنود، وبقومٍ من رجال الدين مثلوا في ثيابهم السنية حول المِحراب وقد وُضعت عليه آنية الذهب، ومن حولهم يُدوي المكان بأصداء النشيد نشيد الشكر لله، ثم يدخل «فوكاس» مكبَّلًا بالقيود.
لبث الإمبراطور المخلوع برهةً أمام تابعه المنتصر، وقد وصفهما «قدرينوس» وصفًا مشهورًا؛ فهرقل فتًى في زهرة العمر؛ إذ كان في نحو الخامسة والثلاثين، وهو من بيتٍ نبيل، وكان رَبعةً لا هو بالقصير ولا بالطويل، مَتين البناء، عريض الصدر، له قوامٌ قوي مفتول، وكان شعره أشقر وكذلك لحيته، وكان وجهه ناصعًا مُنيرًا، له عينان لونهما صافي الزُّرقة، وتعلوه وسامةٌ بديعة؛ فكان ظاهره ينمُّ عن رجلٍ صادقٍ صريح عليه وقار وهيبة، قوي في جسمه وعقله، تبدو على وجهه سيماء الشجاعة والحزم والقدرة، ولعله كانت تبدو عليه كذلك صفةٌ أخرى ذكرها «سعيد بن بطريق»، ألا وهي أنه لا يعبأ بما يرتكب في سبيل إتمام قصده. أما «فوكاس» فكان في مثل قامته، ولكن هذا كل ما كان بينهما من الشَّبه؛ فقد كانت صورته كريهة مما بها من العاهات، وكان لا لحية له، يعترض وجهَه ندبُ جرح قبيح غائر فيه، وكان ذلك الندب يحمرُّ أو يربدُّ كلما ملكته سَورة وثارت ثائرته، وكان حاجباه بارزين يقترنان في جبهةٍ خفيضة من فوقها جمة من شعرٍ أحمر، ومن دونها عينان تُومضان وميضًا وحشيًّا، وكان بذيء اللسان، مُدمنًا للخمر، مُقبِلًا على المعاصي، قاسي القلب لا يتحرك قلبه بشفقة إذا ما عذَّب أو سفك الدماء. هذه صورة ذلك الجندي الذي سلَّط على الدولة الشرقية سوط عذاب ثمانيَ حِجج، ثم جاء عند ذلك ليُحاسَب على ما جنَت يداه، فتُلي عليه كتاب ذنوبه، وكُشفت منه جريمة بعد أخرى، وقال هرقل: «أهذا سبيل حكمك؟» فكان رده: «وهل أنت من يحكم خيرًا من هذا؟»
وأُلبسَ هرقل التاج، كما يقول «حنا النقيوسي»، وما كان راغبًا فيه، وذلك في الكنيسة عينها كنيسة «القديس توماس»، وعاد بعد أن أدَّى الصلاة ذاهبًا إلى القصر، وجاء أعيان المدينة يؤدون له الولاء، ويقول «قدرينوس» إن تتويجه إنما حدث في كنيسة «القديس إسطفن»، وهي متصلة بالقصر، في حين أن «ديوان بسكال» يذكر أن تتويجه حدث بين حادثة إحراق «فوكاس» وبين إحراق تمثاله، ولا يذكُر مكانًا لذلك. وهذا فيه من الخلط ما فيه. ومن العجيب أن ديوان «حنا النقيوسي» يؤيد قصة تردُّد «هرقل» في قبول التاج، وأن «ديوان بسكال» وسائر مؤرخي بيزنطة يؤكدون وقوع ذلك التردد. على أنه لم يلبث أن زالت وساوسه، وأُعلنت ولايته للأمر إمبراطورًا للدولة في اليوم الخامس من شهر أكتوبر سنة ٦١٠، وأصبحت عروسه المخطوبة «فابيا» إمبراطورة للدولة، وصار اسمها «أودوقيا».
والظاهر أن «نيقتاس» لم يعمل على أن يتصل بهرقل عند القسطنطينية على خلاف ما جاء في ديوان حنا؛ مما يدل سياقه على أن «نيقتاس» كان في العاصمة عندما خُلع «فوكاس»، ولا بد أن يكون الصواب ما ذهب إليه «زوتنبرج» من أن ذكر اسم «نيقتاس» في هذا الوضع إنما كان نتيجة سهو وقع فيه الكاتب أو الناسخ، وأن الصواب هو «كريسبوس». ولو كان «نيقتاس» ترك مصر حقيقةً ولحِقَ بهرقل فاشترك معه وتم له ما ابتغى، لَمَا خفي الأمر على أحد، ولَمَا جاء ذكره عرَضًا في غموض وإبهام. على أنني لا يسعني إلا أن أُخالف «جبون» حيث يقول: «كانت رحلة هرقل سهلةً موفَّقة، وأما سير «نيقتاس» فقد كان شاقًّا عسيرًا، ولم يتم حتى كان النضال قد انتهى، فخضع للقضاء الذي حبا صديقه، ولم يُظهر أقل تألُّم مما كان.»
وما هذا القول إلا قلبٌ للحقيقة كما بيَّنَّا؛ فإن مسير نيقتاس هو الذي كان سهلًا موفَّقًا على وجه الإجمال، وقد بلغ مقصده الذي رمى إليه منذ ملك مصر على رغم ما اعترض سبيله من الأخطار، وما لقي من العوائق بوقوف «بنوسوس» في وجهه، وقد وقع كل ذلك قبل أن يستطيع هرقل أن يزحف من «سلانيك» على العاصمة بزمنٍ طويل؛ فمما سبق نرى من العدل أن نقول إن هرقل لاقى عقبات ومصائب في رحلته، وكان عليه أن يقهرها، ولكن ليس في أيدينا من وصفها شيء، ولا نستطيع أن نُدركها أو نعرف حقيقتها.
فنجد فيه وصفًا شيقًا لموقع المدينة، وذكرًا مفصَّلًا لِما كان فيها من أسوار وحصون ومرافئ. ويدلنا ما كان بها من طُرقٍ عظيمة وبناءٍ شامخ وتجارةٍ واسعةٍ رائجة وثروة وغنًى، يدلنا كل ذلك على ما كان للمدينة من كبير الشأن في نظر هرقل. وقد كتبه الكاتب حوالَي سنة ٩٠٠ للميلاد.