الفصل السابع
فتح الفُرس لمصر
في الوقت الذي كانت فيه العِير التي أرسلها حنا الرحوم تقطع الصحراء آتيةً من مصر
إلى بيت المقدس في أول خريف سنة ٦١٥، أتى إلى «أنستاسيوس» بطريق القبط ضيفٌ نزل عليه،
وهو «أنستاسيوس» بطريق أنطاكية، وكان
قد اعتزل عند غزوة الفُرس، وكان لقاؤهما — كما ذكرنا آنفًا — في دير «الهانطون» على الساحل
إلى غرب الإسكندرية. ولعل بطريق
أنطاكية كان يصحبه مطران أو اثنان من مطارنة الشام، وكان قد حل في الدير من قبلُ مطارنةٌ
آخرون أمثال «توما الهركلي»
و«بولص التَّلوي»، وكانوا دائبين في عملهم العظيم، ألا وهو مراجعة ترجمة الإنجيل السريانية
ومقابلتها على النص اليوناني،
وكان سِواهم في مصر كثيرون جاءوا إليها لائذين؛ فإنه «قد هرب كل من استطاع الهروب؛ إذ
كان الفُرس يُفسدون في الشام خوفًا
أن يُدركهم شرهم، وكان فيهم ناسٌ علمانيون من كل الطبقات، وقسوس من جميع الدرجات ومعهم
مطارنتهم، جاءوا كلهم إلى
الإسكندرية يحتمون بها».
١ فكان على ذلك من المحتمل أن تصدِّق الأقوال الشائعة عن وجود خمسة من المطارنة مع البطريقين
عند اجتماعهما. وقد
كان من أثر هذا الاجتماع اتحاد الكنيستين الشامية والقبطية، ولم يبقَ «أنستاسيوس» في
مصر إلا شهرًا واحدًا، ثم عاد إلى
الشام، وشهد فيها أول عهد التسامح العجيب الذي كان على ما يظهر يحلُّ سريعًا في إثر غُزاة
الفُرس عقب القتال الأول العنيف
الذي كانت الدماء تسيل فيه غزارًا؛ إذ كان الفُرس في حربهم غلاظ القلوب ما دام السيف
في أيديهم، وكانت غلظتهم وحشيةً لا
يُبررها عقل ولا تدعو إليها حاجة، حتى كان يُخيَّل إلى الناس أن جندهم لا يمل من سفك
الدم، فإذا ما ساد السلام وعاد الأمن
صار حكمهم عادلًا وديعًا على غير توقُّع، كانوا على ذلك في بلاد العرب وفي الشام وفلسطين،
وكانوا على ذلك أيضًا في مصر كما
تشهد حوادثها بعد حين.
استغرق فتح الشام سنين ستة، وكان فتح بيت المقدس آخر ما كان عليهم القيام به هناك،
لم يبقَ بعده إلا قليل من الأمور.
فلما اقترب خريف سنة ٦١٦ كان الاستعداد قد تم لغزو مصر. ويظهر أن القائد لم يكن «خوريام»،
وهو «شاه-ورز»، بل كان قائدًا
آخر اسمُه «شاهين».
٢ سار شاهين على مَحجة الحرب وطريقها الواضح، وهي الطريق التي سار فيها قمبيز و«أنطيوخس
أبيفانس» والإسكندر
الأكبر، والتي كان مقدَّرًا عليها أن تشهد سير عمرو بعد سنواتٍ قليلة وهو يقود جيوش العرب.
كان أول تلك الطريق عند العريش (رينوقولورا)، وكانت تَتْبع ساحل البحر إلى الفرما
ومنها إلى ممفيس، ثم تبلغ مجمع النهرين
عند رأس مصر السفلى، ومن «ممفيس» كانت تصل إلى «نقيوس» متبعةً فرع النيل الغربي، ومن
هناك تسير إلى الإسكندرية. ولم يكن
لدى أهل وادي النيل رغبة في قتالٍ شديد ولا قدرة عليه؛ ولهذا لا نجد ذكرًا لوقعةٍ ذات
شأن، ولا لسعيٍ شديد في سبيل الدفاع
عن البلاد.
ويصف مؤرخو اليونان كل هذه الحرب في كلمةٍ قصيرة؛ إذ يقولون: «جاء الفرس فأخذوا مصر
كلها والإسكندرية وليبيا إلى حدود
أثيوبيا، ثم عادوا ومعهم عددٌ عظيم من الأسرى، وغنائم جليلة المقدار.»
٣ ويزيد المؤرخون المصريون على تلك القصة شيئًا يسيرًا لا يشفي غلة. على أننا نعرف منهم
أنه قد فُتحت الفرما
بغير كبير عناء، وأن الفرس خربوا من كنائسها الكثيرة وأديرتها.
٤ ولا يرِد ذكر لإخضاع حصن بابليون بقرب ممفيس، ولنا أن نقول إنه كان غير محصَّن، ولم
تكن فيه حاميات من الجنود
تدفع عنه — ولو أن الفرس كانوا بلا شكٍّ أهل السبق والتبريز في فنون الحصار وحروبه —
وكذلك نعرف منهم أن جيش الفرس سار في
البر بعد فتح «ممفيس» يُساعده أسطولٌ عظيم في نهر النيل، وسار متبعًا الشاطئ الشرقي من
الفرع الأكبر الغربي، ومرَّ بمدينة
«نقيوس» في طريقه إلى الإسكندرية.
٥
وأما فتح الإسكندرية فقد بقي وصفٌ شائق له،
٦ يقول كاتبه إن تلك المدينة العظمى «بناها الإسكندر كما أوصاه أستاذه أرسطو، فجعل لها
سورًا، وأجرى وراء
الأسوار مياه النيل، وجعل لها أبوابًا قوية»، وقد ظل الحصار زمنًا ولم يستطع الفرس أن
يدخلوا ذلك المَعقل المَنيع مع ما
كانوا عليه من بصر بأمور الحصار. والحق أن حصونها كانت قوية لا يكاد عدوٌّ يجد فيها مَطمعًا.
وكان ذلك الحصار في عام ٦١٧؛
أي بعد آخر غزوة غزاها الفرس مصر بنحو ١١٧ عامًا. وقد استطاع الفرس في تلك الغزوة السابقة
أن يفتحوا مصر السفلى، وغمر
أتيُّهم أرضها جميعًا، ولكنه ارتدَّ عاجزًا عند أسوار الإسكندرية.
٧ وقد قامت هذه الأسوار نفسها منذ ثماني حِجج ماثلةً بين يدَي جيوش «بنوسوس»، فارتدَّت
عنها تلك الكتائب
المُستميتة وهي خاسئة، كأنما هي أمواج البحر ترتطم بصخور الساحل. وقد أراد الله أن تقوم
تلك الأسوار مرةً أخرى بعد ربع قرن
وهي راسيةٌ قوية تحاد جيوش العرب حتى استطالت بها مدة الحصار. فمن الواضح على ذلك أن
تلك الأسوار كانت في الوقت الذي نصِفه
هنا لا تزال على عهدها خطًّا عظيمًا من الحصون والآطام ذات بأس ومنعة، ولو أُتيحَ لها
جندٌ عاهدوا أنفسهم على الدفاع يدًا
واحدة لكان في استطاعتها أن تثبُت حتى يكلَّ المُحاصِرون وتنفد قوَّتهم، ولاستطاع جندها
عند ذلك أن يسحقوهم وقد أُنهكت
قُواهم، أو أن يُرغموهم على رفع الحصار وترك المدينة، ولا سيَّما وقد كان البحر من ورائها
تأتي منه الأمداد تترى إليها؛ إذ
كان الروم لا يزالون سادة البحر إلى ذلك الحين.
ولكن أنَّى لها ذلك وقد بعُد عهدها باجتماع الشمل وتوحيد الكلمة، وصار أهلها أخلاطًا
مضطربة من قبط وروم وسوريين ويهود،
وجماعة من طلاب العلم، وآخرين من اللاجئين أتَوا إليها من كل أنحاء الدولة؟ فكان القبط
والسوريون يكرهون الروم، وكان
اليهود يمقتون أتباع المسيح مقتًا لا يسلُّه من قلوبهم الخطر الداهم عليهم جميعًا، وكانوا
جميعًا لا يُدركون أن الواجب
عليهم أن يجتمعوا من كل جنس أو طبقة أو مذهب يربطهم رباط الاشتراك في الوطن، وهو الوسيلة
لا وسيلة غيرها إلى ضم شملهم. ما
كانوا ليُدركوا معنًى لهذا، بل كانوا يسخرون منه؛ فلم يكن عجيبًا مع هذا أن نرى الخيانة
تعمل على وقوع المدينة في يد
أعدائها.
وكان الفرس في أثناء مدة الحصار يُوقِعون بما حول المدينة من الريف، ولا سيَّما بما
فيه من الأديرة؛ يشفون بذلك ما في
نفوسهم من الغيظ لفشلهم. وقد جاء في الأخبار أنه كان بأرباض الإسكندرية نحو ستمائة من
الأديرة لها آطام على شكل أبراج الحمام،
٨ وكان الرهبان آمنين وراء هذه الحصون واثقين بمَناعتها؛ فلم يلتفتوا إلى اتخاذ الحيطة
وإعداد الأمر لسلامتهم،
بل دفعهم الاطمئنان إلى الجرأة على مُحادَّة عدوهم جهرًا، ولكن جاءت إليهم كتيبة من الغرب
٩ حيث كان معسكر الفرس، وأحاطت بأسوارهم، وما أسرع أن دكَّت حصونهم الضعيفة الساذجة، ثم
قتل الفرس من فيها من
الرجال لم يكَد يُفلت منهم أحد إلا النزر اليسير ممن دخلوا الجحور والثنايا، ونُهب ما
في الأديرة جميعه من مال ومتاع،
وهُدِّمت الكنائس والأبنية أو أُحرقت، وأصبحت خاوية على عروشها، وظلَّت كذلك أطلاله ماثلةً
إلى زمنٍ طويل بعد فتح العرب
مصر.
ولكن ذلك العدو أخذ فيما أخذ من الغنائم الثمينة كنوزًا علمية كانت تملأ مكاتب الأديرة.
ولسنا نعلَم عِلم اليقين ماذا
كان من أمرها، ولكن لا شك في أن كل تلك المكاتب لم تهلك، بل بقي بعضها. وأكبر ما حدث
أن الدير الكبير دير «الهانطون» لم
يصل إليه أذًى لبُعده عن الإسكندرية، وأغلب الظن أن ما كان فيه من الكتب والمنسوخات لم
يمسَّه سوء. ويدلنا على أن الدير
نجا من الخراب أن البطريق «سيمون» سنة ٦٩٤ للميلاد نشأ منه ثم دُفن فيه.
١٠ وكان سيمون هذا سوريَّ المولد، معروفًا بضلاعته من علم الفقه المسيحي. ومن هذا نرى أن
ذلك الدير بقي على صلته
بسوريا، وأنه احتفظ بما عُرِف عنه من شهرة بالعلم، ويتردد ذكره في صفحات التاريخ بعد
هذه الأيام. وكذلك أفلت من الدمار
ديرٌ آخر، وهو دير «قبريوس»، وهو إلى الشمال الشرقي من الإسكندرية على ساحل البحر.
١١ ومن هذا نرى أن تخريب الفرس حول المدينة العظمى كان في حدودٍ ضيِّقة الرقعة لم يتعدَّها،
وهو أمرٌ غريبٌ سببه
أن الفرس كانوا أثناء الحصار بين أمرين؛ إما أنهم كانوا في شغل من حصارهم، وإما أنهم
كانوا أقصر همة من أن يبعثوا البعوث
بضعةَ أميال في الصحاري الرملية ليُضيِّقوا على تلك البيوت المُنعزلة ومن فيها من الرهبان.
ولا بد أن الأديرة التي
دمَّروها ونهبوها — وكانت عدتها كبيرة — كانت كلها على مرأًى من معسكرهم، أو تكاد تكون
على مرأًى منه.
ولا بد لنا هنا أن نُخالف «ساويرس» في روايةٍ رواها عن فتح الإسكندرية؛ فقد روى أنه
عندما أتت أنباء هدم الأديرة وقتل
رهبانها إلى الإسكندرية استولى الرعب على أهلها، ففتحوا أبواب المدينة. وكان «سلار» الفرس،
أي قائدهم، قد رأى فيما يرى
النائم أن عظيمًا ظهر له ووعده أن يُسلِّم المدينة إلى الفرس، ثم تقدَّم إليه أن يأخذ
أهل المدينة بشدةٍ لا لين فيها، وألا
يغادر من أهلها أحد ينجو من النكال؛ وذلك لأنهم كانوا جميعًا من أهل الكفر والنفاق. فأمر
«السلار»، أو هو «شاهين»، أن يخرج
كل من في المدينة من الرجال ذوي القوة ممن كانوا بين الثامنة عشرة من العمر والخمسين،
مُظهرًا أنه قد أعد لكلٍّ منهم
قطعتين من الذهب. فلما خرجوا إليه جميعًا في صعيدٍ واحد أمر بأسمائهم أن تُكتب، ثم أمر
جنده أن يفتكوا بهم ويقتلوهم،
وكانوا نحو ثمانين ألفًا.
هذه روايته ولا يُصدقها عقل، ولندَعْ ما جاء فيها من ذكر الرؤيا، وما فيها من تحريض
للفرس على جماعةٍ مخالفة من
المسيحيين، وإن كنا نستطيع من سياق القصة أن نرى ميل الكاتب «ساويرس» لمذهب المونوفيسيين،
وما كان يختلج في قلبه من السرور
إذ يُفكر في مذبحةٍ تحلُّ بأهل المدينة العظمى، وهم من أتباع المذهب الملكاني، ولكن من
ناحيةٍ أخرى كان الرهبان الذين
هلكوا من «المونوفيسيين» وهم القبط؛ ولذلك كان كل ما كتبه «ساويرس» تظهر منه كراهةٌ شديدة
للفرس ومقتٌ لهم؛ فهذه القصة على
ذلك لا يمكن أن نتوسع في دلالتها فنقول إنها تدل على اتفاق أيًّا كان نوعه بين القبط
والفرس. وعلى أي حال فإن الفرس، وإن
كانوا قساة، كانت شريعة الحرب عندهم لا تُبيح لهم أن يقتلوا أهل مدينة سلَّمت إليهم بغير
قتال.
١٢ ولا شك أنه من المُضحك ما جاء في تلك القصة من ذكر الوعد الذي وعده القائد بإعطاء المال،
وكذلك كتابة أسماء
ثمانين ألفًا من الأسماء تمهيدًا للقتل. هذا إذا سلَّمنا أن أبواب المدينة كان من الممكن
أن تُفتح بغير عهد يستأمن للناس
على حياتهم؛ إذن فلندع «ساويرس» وروايته، ولنرجع إلى الديوان «السوري»؛ ففيه روايةٌ أخرى
لفتح المدينة أقرب لأن يسيغها
العقل.
نعلَم أن الترعة التي كانت تأتي بالماء العذب إلى الإسكندرية وتحمل إليها الأقوات،
كانت تسير في الْتِواء بإزاء السور
الجنوبي، ثم تذهب فجأةً إلى الشمال، فتدخل إلى المدينة وتشقُّها حتى تصل إلى البحر، وكان
على كلٍّ من مَنفذَيها بابٌ قوي
الحصون، عليه آلاتٌ شديدة من آلات الحرب. فإذا وقع للمدينة حصارٌ قلَّ نقل الأشياء على
الترعة إلى ما وراء المدينة أو
امتنع؛ وذلك لأنها تكون عندئذٍ تحت سلطان العدو، أو على الأقل ما كان منها بعيدًا عن
مرمى المجانيق التي مع المُدافعين في
الحصون. ولو اتفق وجود شيء في الترعة عند ذلك من السفن التي تحمل الغلال أو سِوى ذلك
من الزوارق، لاستولى عليه
المُحاصِرون، ولكن الباب الذي كان يلي البحر كان مفتوحًا أبدًا لكي تدخل منه السفن الآتية
بتجارتها من البحر، ولتدخل منه
زوارق صيد السمك الكثيرة التي تأتي كل يوم إلى أسواق المدينة بما تحمل، وكان ذلك الباب
على طرف المرفأ، وفيه سفن الحرب
الرومانية لا يُدافعها مُدافع؛ ولهذا كانت حراسته من غير شك مهملةً بعضَ الإهمال.
فوجد الخائن في هذا الباب فرصته؛ إذ تسلَّل خُفيةً إلى ما وراء الأسوار، وذهب إلى
فسطاط قائد الفرس، فأفضى إليه بخطةٍ
يستطيع بها أن يفتح المدينة، فاستحسن القائد رأيه واتَّبعه، فجاء الفرس بعدة من سفن الصيد،
وجعلوا فيها الجند في لباس
صيَّادي السمك، وخرجت بهم السفن في ظلام الليل إلى البحر. فلما كان وقت السَّحر جاءت
تلك السفن الصغيرة حتى صارت عند الباب
الشمالي، ونطق من فيها بشعار القوم فلم يعترض أحدٌ سبيلهم، ودخلت السفن حتى بلغت القنطرة
التي فوق الترعة، وهي التي يتصل
بها الطريق الأعظم في المدينة، وعند ذلك أخذ القوم سيوفهم وكان الظلام لا يزال سادلًا
ستره، ثم نزلوا إلى البر، وساروا في
الطريق الأعظم إلى الغرب بغير أن يُحدِثوا ضجة حتى بلغوا «باب القمر»، ولم يفطن إليهم
أحد بفضل تنكُّرهم. فلما أن صاروا
هناك هبطوا على الحُراس فجأةً، فأخذوهم على غِرَّة وقتلوهم، وكان كل ذلك في وقتٍ قصير،
فاستطاعوا أن يفتحوا الأبواب الضخمة
قبل أن يُنذِر القوم بهم. فلما طلع النهار مُشرقًا على قصور الإسكندرية ومعابدها، كانت
جموع «شاهين» تتدفَّق إليها رافعةً
ألويةَ النصر، هاتفةً باسم كسرى من رءوس الأسوار.
وجاء في «الديوان السوري» بعد ذلك أن من استطاع النجاة من الناس هرب، وأن خزائن الكنيسة
وأموال عظماء الدولة، وكانوا قد
جعلوها في السفن حرصًا عليها وحذرًا من أجلها، قد هبَّت ريحٌ عاصفة دفعت السفن بها إلى
الساحل على مَقربة من عسكر الفرس،
أي إلى غرب المدينة،
١٣ فأخذ الفرس ما بالسفن من الذهب والفضة والجوهر، وأرسلوه مع مفاتيح المدينة إلى كسرى.
ومن العجيب ألا يرِد
بالديوان السوري ذكر للمَقتلة العظيمة التي ذكرها «ساويرس»، ولكن من أبعد الأشياء أن
يكون هذا المؤرخ المصري مُخطئًا كل
الخطأ وهو الذي كان يُقِيم في مصر ويعرف أخبارها. وإن مَقتلة كهذه التي يذكرها المؤرخ
المصري تتفق كل الاتفاق مع ما اعتاده
الفرس في حربهم إذا ما فتحت مدينة عنوةً، لم تُسلِّم عن رضًا، ولم يستأمن لأهلها بعهد
ولا عقد.
على أنه من الظاهر أن المدينة كانت تتوقع أن ينزل بها ما نزل؛ إذ أنذرها به مُنذِر،
ألا وهو اليأس؛ فقد أُخذ من جندها
عددٌ كبير ليُدافع عن بلادٍ أخرى من الدولة، أو ليُدافع عن بيزنطة ذاتها؛ إذ كان الفرس
يفتحون أرضًا بعد أرض من بلاد
الدولة «ويطئونها كما يطأ الثُّوار أرض البيدر»؛
١٤ فكان هذا سببًا في إضعاف المُدافعين عنها إضعافًا جعل المدينة في خطرٍ داهم. وفوق ذلك
كان القمح لا يصل إليها
من ريف مصر. حقًّا إن أهل الإسكندرية كانوا يطعمون جزءًا صغيرًا من القمح الوارد إليها،
ولكن تجارة القمح العظيمة كانت
تصدر عن الإسكندرية إلى كل جوانب البحر الأبيض المتوسط، فكانت التجارة كلها تتدفق إلى
خارج المدينة. فلما انقطع المَورد لم
يكن من الممكن أن تنقلب الحال، ويصبح واردًا ما كان بالأمس صادرًا. فلما استطال الزمن
على ذلك الحال، وقلَّ ما كان في
الخزائن بغير أن يأتي مدد من «هرقل»؛ كان لا بد أن تشتدَّ الحاجة بالناس، ويُوقِنوا أنهم
لا بد أن يُسلِّموا عندما يفتك
بهم الجوع. إذا عرفنا هذا لم يكن بعدُ عجيبًا أن يهرب «نيقتاس» حاكم القُطر، وهو من نعرف
فيه الشجاعة في الحرب والقوة في
العمل والولاء والإخلاص لدولته، وقد هرب «نيقتاس» في سفينة إلى القسطنطينية يصحبه «حنا
الرحوم»، وذلك «عندما كانت الإسكندرية على وشك التسليم للكفرة الفارسيين»،
١٥ فبلغت السفينة بهما إلى «رودس» ثم مرض البطريق. ولما أحسَّ بدنوِّ أجله سافر إلى قبرص
فنزل بها، ثم مات بعد
قليل في الموضع الذي وُلِد فيه، وهو «أماتوس»، وذلك في ١١ نوفمبر سنة ٦١٧.
١٦
إذن لا بد لنا أن نُقرَّ أن أهل الإسكندرية كانوا قد ضاع أملهم في النجاة، وكل ما
فعله بطرس طالب العلم الغريب الذي دل
على عورتهم هو أنه أسرع بهم إلى القضاء المحتوم الذي كان لا بد نازلًا بمدينتهم، وأغلب
الظن أن ذلك القضاء لم يتقدم إلا
زمنًا قصيرًا. ولسنا نعرف عن ذلك الخائن إلا أنه أتى من إقليم البحرين الواقع في الشمال
الشرقي من بلاد العرب، ولسنا
نستطيع الوثوق من دينه أكان مسيحيًّا أم يهوديًّا أم وثنيًّا، ولسنا ندري أكان له باعث
على خيانته لتلك المدينة العظيمة،
التي كانت مقر العلم وآوته إلى أحضانها، سوى خوفه الدنيء على حياته، وسعيه لتخليصها مهما
بذل في سبيل ذلك، ولكنا نعرف أن
البحرين كانت تحت حكم فارس، وأن أهلها كانوا، كما وصفهم العارفون، خليطًا أكثره من الفرس
واليهود،
١٧ وبقيت كذلك إلى ما بعد العصر الذي نصِفه الآن؛ وعلى هذا فإنه من الممكن أن ذلك الطالب
قد ذهب إلى خيانته
مُتسترًا بستار الإخلاص لدولته. وقد جاء في القصة أن بطرس هذا قرأ يومًا في ديوان سجلات
المدينة كتابًا جاء في آخره: «إذا
ما عصفت الحوادث بالإسكندرية من الباب الغربي الذي من قِبل البحر، فقد آن أوان سقوطها.»
ولا شك أن هذه النبوءة قد وُضعت
بعد هذا الحادث، ولو أنها تصدق على فتح «نيقتاس» للمدينة في سنة ٦٠٩، ولكنها على أي حال
لا تكشف لنا عن الباعث الذي دفع
الخائن إلى عمله ولا عن ديانته، بل الذي يمكن أن نعرفه منها هو أن بطرس كان يعرف أنه
كان يُنفِّذ قضاءً محتومًا على
المدينة عندما ذهب إلى الفرس وبايعهم على أن يدلَّهم على عورتها.
ولعل مفاتيح الإسكندرية قد بُعثت إلى كسرى في أول سنة ٦١٨. أما أهلها فقد قُتل منهم
كثيرون عند أول فتح المدينة، ولكن
الفرس أبقَوا على عددٍ كبير منهم، أُخذ بعضهم سبيًا وأُرسل إلى بلاد الفرس،
١٨ وبقي البعض الآخر لم يمسَسْه سوء. وكان بين الذين نجَوا بغير أذًى البطريق «أندرونيكوس»،
وقد لقي من الرفق على
ما يلوح مِثلما لقي «مودستوس» في بيت المقدس، وكان ذلك عن أمر ملِك الفرس نفسه، ولكن
أثر المصائب التي شهدها تحلُّ بقومه،
والخراب الذي نزل بهم في جميع أنحاء أرض مصر، لم يزَل في قلبه يملؤه حزنًا وأسًى حتى
قضى على حياته.
١٩
قد رأينا أنه قد أُبيحَ للبطريق أندرونيكوس أن يبقى في الإسكندرية مدة ولايته للدين؛
وذلك لأنه كانت له عِترةٌ ذات بأس،
وكان ابن عمه كبير «مجلس الإسكندرية» عندما ولي الأمر. وهذا الخبر كبير الدلالة؛ إذ نعلَم
منه أن بعض القبط كانوا يبلغون
المراتب العالية في الدولة حتى في أيام هرقل، ونعلَم منه أيضًا أن الفرس عندما استقرَّ
بهم الأمر في البلاد بعد الفتح
استخدموا كبار رجال الدولة السابقة التي أزالوها وحلُّوا محلَّها، وسنرى بعد حينٍ أن
العرب ساروا على السُّنة ذاتها غير
حائدين عنها شيئًا. وليس في الاستطاعة من سبيلٍ غير ذلك كلما غزا جيشٌ أجنبي بلادًا لها
مدنيةٌ تسبق مدنيته، ويرى واجبًا
عليه أن يُدبِّر أمورها، وهي منظَّمة تنظيمًا حسنًا في أوضاعٍ جليلةٍ ذات شُعَب وفروع.
ولا نِزاع في أن القبط قد اشتركوا
في هذا الأمر، وما كان لهم أن يرفضوا ذلك الاشتراك؛ إذ إن الرفض حمقٌ لا مُبرِّر له،
ولكن ذلك الاشتراك شيء، وما يعزوه
إليهم الكُتاب المُحدَثون عادةً شيءٌ آخر؛ فإنهم يعزون إليهم أنهم رحَّبوا بالفرس ورأوا
فيهم رُسُل الخلاص؛
٢٠ فإن هذه التهمة لا مُبرِّر لها، وهي فوق ذلك قلبٌ للحقيقة ومسخ لها.
إذ يجب أن نذكُر أن الفرس جاءوا إلى مصر وأيديهم لا تزال ملطَّخة بما اقترفوه من
النهب والقتل زمنًا طويلًا، وكان أكثر ضحاياهم من المسيحيين الذين اتَّحدوا مع القبط،
وبعيدٌ أن يعطف الفرس في مصر على مثل
من قتلوا في الشام، في حين أن دفاع الإسكندرية ومقاومتها لهم ذلك الزمن الطويل لا بد
أن يكون قد أثار حقدهم، ولا سيَّما
وقد كان فيها أولئك اللاجئون الذين أتَوا إليها من بيت المقدس؛ فلا شك إذن أن المَقتلة
كانت لا تمييز فيها لأحد على آخر.
غير أن المقريزي
٢١ يقول إن اليهود اتفقوا مع الفرس كما فعلوا من قبل في فلسطين. وقد جاء في كتابه أن كسرى
وجنوده جاءوا إلى مصر
فقتلوا طائفةً كبيرة من المسيحيين، وأسَرُوا عددًا عظيمًا منهم، وساعَدهم اليهود على
إهلاك المسيحيين وتخريب كنائسهم.
٢٢ ونص هذه الرواية مِثل سائر النصوص مُضطربٌ بعض الاضطراب، ولما كانت لا تُفرِّق بين حرب
الشام وحرب مصر، كان
لنا أن نقول إن المقصود منها مساعدة اليهود في بيت المقدس وحدها. على أنه قد كان في مصر
عددٌ كبير من اليهود، وكان لهم حي
في الإسكندرية، ومن الجائز أن يكون اليهود قد انتهزوا في مصر فرصةً جديدة ليُساعدوا أعداء
الصليب، ولكنا نستبعد أن يكون
القبط قد أظهروا شيئًا من المودَّة للكفار الذين كانت أيديهم ملطَّخة بدماء إخوانهم في
الدين في «أنطاكية» و«بيت المقدس»،
ولعل بطرس البحريني كان يهوديًّا، ولعله كان أداةَ خطةٍ مكر بها اليهود للكيد لأعدائهم.
فإذا كان الأمر كذلك كان عمله في
الخيانة أقل دناءة وخسة، وكان من السهل على الأفهام إدراكه.
ولكنَّا لسنا في حاجة إلى القياس والتخمين لكي نُظهر براءة القبط مما عُزِي إليهم؛
فإنه لا شك في أن أكثر من هلك من
الرهبان فيما حول الإسكندرية كانوا من القبط، ولو لم يكن لدينا من الأدلة إلا هذه الحقيقة
لكانت كافية لدحض افتراء
المُفترين على القبط بأنهم رحَّبوا بالفرس، ولكن ليست هذه الحقيقة كل ما لدينا؛ فإنا
نعلَم أنه بعد فتح الإسكندرية سار
قائد جيوش كسرى بجنده صعدًا إلى الجنوب بحذاء النيل لكي يفتح الصعيد، وكانت معاملته للقبط
واحدة في كل مكان واحدة؛ يحلُّ
الموتُ والخراب حيث حل. ويقول ساويرس إنه لما بلغ مدينة «بشاتي»، وهي «نقيوس»،
٢٣ وشى إليه عدوٌّ من أعداء القبط بالرهبان الذين كانوا يعيشون في مَغاور الجبال، قائلًا
إن عندهم مالًا كثيرًا،
وإنهم أهل فساد وظلم، ثم قال له إن كثيرين منهم كانوا مجتمعين عند ذلك في الحصن.
٢٤ فأثَّرت فيه هذه الوشاية، فحاصر المكان في الليل بجنوده. ولما أصبح الصباح اقتحموه،
وأوقعوا بمن فيه من
المسيحيين فقتلوهم، ولم ينجُ منهم أحد.
ولا شك أن الرهبان الذين قُتلوا في ذلك المكان أيضًا كانوا من القبط، وقد حدث في
الصعيد مِثل ما حدث في «نقيوس». ولدينا
في هذا الموضع روايةٌ رواها من هو أصدق من «ساويرس»، وأقرب منه عهدًا بتلك الحوادث، وتكاد
كتابته تكون في نفس ذلك العهد
الذي يقصُّ علينا نبأه؛ فقد كان بمدينة قفط بالصعيد في وقت غزو الفرس مصر مطرانٌ لتلك
الأبرشية اسمه «بيزنتيوس»، ومن حسن
الحظ قد بقيت ترجمة حياته، وترجمها عن القبطية «المسيو أميلنو».
٢٥ وهذه القصة فيها عدة أمور تسترعي النظر؛ ولهذا لا حاجة بنا إلى الاعتذار عن إيرادها
هنا مع شيء من
التفصيل.
معلومٌ أنه كان من المعتاد في كل عام أن ينشر بطريق الإسكندرية كتابًا على الناس
يُبيِّن فيه يوم عيد الفصح. وإن في
المتحف البريطاني قطعة من أحد هذه الكتب، وهو حسن الخط مكتوب بحروفٍ مُستديرة، ومؤرَّخ
حوالَي سنة ٥٧٧، ويكثُر وجود أمثال
هذا الكتاب أو قِطع منها. ونجد في ترجمة «بيزنتيوس» أنه في عهد غزو الفرس أو قريبًا من
ذلك جاء كتاب البطريق المُعتاد،
فكتب «بيزنتيوس» موعظةً بعث بها إلى أبرشيته كلها، وقال فيها: «لقد خذلنا الله لِما نقترفه
من الذنوب، وسلَّط علينا من
الأمم من لا يرحمنا.»
٢٦ وكان قد بلغه نبأ عبَدة النار ونزولهم بالديار، وأزعجه ما سمع من قسوتهم، ولم يكن يريد
البقاء حيث هو ليكون
شهيدًا فآثر الهرب. فلما أعدَّ عدَّته لذلك، وتصدَّق على الفقراء بما يملك؛ ذهب إلى جبل
«جيمي» بقرب المدينة، وكان معه
تلميذه المُخلِص حنا. كان هذا قبل أن يطلع العدوُّ على الصعيد، فلم يكن هروبه في لحظة
فزع تملَّكه على غِرة، بل كان تدبير
رجل عالم بأنه إن بقي مكانه لم يكن نصيبه سوى الموت، ولم تُخامره فكرة الخضوع للفرس والاحتماء
بهم، ولم يخطر بباله أن يخطب
ودهم؛ فعمله هذا لا يتفق في شيء مع قول من قال إن القبط رحَّبوا بالفرس.
ولما هرب «بيزنتيوس» وتلميذه حنا إلى الجبل، أخذا معهما مقدارًا كبيرًا من الخبز وماء
النيل. ولما نفد منهما الماء لقيا
مَشقةً عظيمة؛ لأنهما لم يجرُآ على الاقتراب من النيل حتى ذهب «بيزنتيوس» تحت جنح الليل
وهو حذِرٌ يترقب وأخذ الماء.
وما زالا في ذلك المخبأ زمنًا طويلًا يُصلِّيان إلى الله نهارًا وليلًا، ويدعوانه أن
يُنجي قومهما من أسْر تلك الأمم
الظالمة، ويفكَّ عنهم غلها. وكان كل ذلك قبل أن يأخذ الفرس مدينته «قفط». فلما أن أدركوها
وصارت في يدهم، هرب «بيزنتيوس»
مُوغلًا في الصحراء نحو ثلاثة أميال أخرى، فوجد الرفيقان هناك بابًا مفتوحًا في عُرْض
الجبل فدخلاه، وكان يُفضي إلى حجرةٍ
مساحتها سبعون قدمًا مربَّعًا، وكان علوُّها يُناسب سعتها، وكلها نُقَر في صخر الجبل،
تدعمها ست دعائم أو أعمدة، وكانت هذه
مَدفنًا به عددٌ عظيم من الجثث المحنَّطة مُضطجعةً ضجعتها، مطمئنَّةً في توابيتها.
فعزم «بيزنتيوس» على أن يُقِيم هناك وحده، وأمر تلميذه حنا أن يذهب عنه، على أن يغدو
عليه مرةً كل أسبوع بكيل من الدقيق
ومقدار من الماء. فلما أزمع حنا السير وجد قطعة من الرق ملفوفة، فناولها للمطران، فلما
قرأها وجد بها أسماء من كانوا في
ذلك المَدفن من الموتى. والاعتقاد الشائع أن هذه الصحيفة كانت كتابتها بلغة مصر القديمة
(الهيروغليفية)؛
٢٧ ومن ثَم يقولون إن تلك الكتابة كانت لا تزال معروفة إلى القرن السابع على الأقل، ولكن
شيئًا من ذلك لا يأتي
ذكره في الترجمة القبطية (التي نحن بصددها). وعلى كل حال قد جاء في القصة بعد ذلك أنه
لما عاد حنا إلى المَغارة سمع مولاه
يتكلم فأصغى إليه، فألْفَاه يُحدِّث إحدى الجُثث وقد خرجت من تابوتها ترجو منه الشفاعة،
قائلةً إنها كانت هي وذووها جميعًا
من اليونانيين الذين كانوا يعبدون الأوثان. وهذه القصة على ما بها من خرافةٍ تدل على
أن التحنيط كان لا يزال متَّبَعًا إلى
القرن الثاني أو الثالث كما يدل عليه ذكر أكفانها، وأنها كانت من «الحرير الخالص الذي
تلبسه الملوك»، وكما يدل عليه تحنيط
الأصابع مفردة. ولعلنا نستطيع أن نستخلص من ذلك أن الصحيفة كانت كتابتها بالحروف اليونانية.
٢٨
نرجع الآن إلى قصتنا؛ فإن الجثة بعد أن أتمَّت كلامها عادت إلى تابوتها، والذي يؤسَف
له أنه لا يرِد بعد ذلك ذكر للفُرس
وما فعلوه بعد أخذ «قفط»، ولا كم من الزمن أقاموا في الصعيد. وقد عاد «بيزنتيوس» آخر
الأمر إلى شعبه، ولما مات دُفن في
الكنيسة في قرية «بسنتي» بعد أن قاموا الليل على جنازته بالصلاة المسنونة، وقد أوصى وهو
على فِراش موته بكل ما عنده من
الكتب إلى صديقه «موسى»، وهو الذي خلَفه مطرانًا على الأبرشية وكتب ترجمة حياته. وجليٌّ
أن كلا المطرانين كان على شيء من
العلم، ولكنهما كانا مثل سائر أمثالهما من كُتاب القبط لا ينصرفان إلا إلى قصصٍ تافهةٍ
خرافية تذكُر ما كان على أيدي
القديسين من الكرامات العجيبة، فلا يحلو لهم إلا ذكر المعجزات وخوارق المألوف، ولا يذكرون
حادثةً حقيقية إلا عرَضًا أو
سهوًا، وإن كانت مما يرتجُّ له العالم من حوادث وقعت تحت أنظارهم، وهم يعلمون أنها حوادث
يتوقف عليها مصير بلادهم.
على أننا نستطيع أن نستخلص أمرين من تلك القصة؛ الأول: أن الفرس بلَغوا في فتوحهم
أبعد أطراف وادي النيل حتى أسوان.
والثاني: أن المصريين القبط لم يُرحِّبوا بهم أو يرَوا فيهم الخلاص، بل كانوا يرونهم
بعين الجزع والمقت، وحُق لهم أن
يفعلوا ذلك.
وكانت كتابة قصة «بيزنتيوس» في القرن السابع. وإليك صحيفةً أخرى في المعنى ذاته تاريخها
بعد تاريخ القصة الآنفة، ولكنها
في القرن نفسه، وهي تصف ما قاساه القبط من الفرس وصفًا أدق وأكثر وضوحًا، وهذه الصحيفة
هي ترجمة حياة ظهرت حديثًا
٢٩ للولي القبطي المعروف «الأنبا شنودة».
٣٠ وقد أورد فيها الكاتب ذكر الغزو الفارسي وجعله في صورة نبوءة، ولكنه كتبها ولا يزال
في الأحياء جماعة من
الشيوخ أدركوا الحوادث التي يذكرها، وها هي الكلمة: «سيأتي الفرس إلى مصر يسفكون فيها
الدماء، ويسلبون أموال المصريين،
ويَسْبون أبناءهم يبيعونهم بالذهب؛ فإنهم قومٌ ظالمون مُعتدون، وستنزل المصائب على أيديهم
بمصر، يغصبون الكنائس ما بها من
آنيةٍ مقدَّسة، ويشربون الخمر في المحراب لا يُبالون، ويهتكون أعراض النساء على مرأًى
من رجالهن، وسيبلغ الشر أعظمه
والشقاء قصاراه، وسيهلك ثلث من يبقى من الناس في بؤس وعذاب، وسيبقى الفرس في مصر حينًا
من الدهر ثم يخرجون منها.»
ولسنا نطمع في دليلٍ أوضح من هذا ولا أبلغ دلالة؛ فهو يهدم كل ما زعم «شارب»؛ إذ زعم
أن القبط فرحوا بالفرس، كما أنه
يهدم ما ذهب إليه من أن سبب ذلك الفرح الموهوم هو صلة نسب وقرابة زعم أنها كانت بين المصريين
وجنود الفرس. وإليك ما قاله
«ساويرس» مجمَلًا وصفه لقائد الفرس، قال: «قد اقترف ذلك «السلار» كثيرًا من الظلم والقسوة؛
لأنه كان لا يعرف الله، وإن
الوقت لَيضيق عن ذكر كل ما ارتكبه.» وقد ظل التاريخ صامتًا لا يذكر شيئًا عن غزو الفرس
لمصر حتى عُرفت كلمة «ساويرس»
الأخيرة التي اقتبسناها، ثم ظهرت بعد ذلك الصحيفتان اللتان تخلَّفتا عن ذلك العصر نفسه
أو قريبًا منه، وعند ذلك تجلَّت
الحقيقة. غير أن صمت التاريخ اتُّخذ أساسًا بُنيت عليه قصةٌ قوامها الظن والحدس، فيها
حط من شأن القبط لا مبرِّر له،
فلنشهد الآن انهيار ذلك البناء.
بقي الفرس سادة البلاد عشر سنين أو اثنتَي عشرة سنة، ولعلهم قضَوا ثلاث سنوات
٣١ يُمهدون لسلطانهم في طول البلاد وعرضها في مصر و«بنطابوليس»، ولكن لا يرِد ذكر لمقاومةٍ
عنيفة، أو لقتالٍ
استطالت به المدة، اللهم إلا عند الإسكندرية. وإن مضيَّ هذه المدة هو أكبر علة لاضطراب
ترتيب الحوادث في هذه الفترة وقلة
الضبط في تواريخها، وكان الفرس في أثناء القتال يُظهرون قسوةً عنيفة. فلما أن خبَت سَورتهم
واستقرَّ أمرهم، صار حكمهم أبعد
شيء عن أن يكون ظالمًا. فلما أن أُخرج جند الروم أو من بقي منهم من وادي النيل، وفرُّوا
في البحر، استقرَّ القبط على شيء
من الاطمئنان، وخضعوا مرةً أخرى لسيدٍ جديد بعد زوال سلطان السيد القديم عنهم. وقد كان
هذا شأن تاريخهم السياسي من أقدم
الأزمان أن تتبدل عليهم السادة وتتعاقب.
وما هو إلا أن عاد السِّلم حتى أمِنت الكنيسة المصرية، واستطاعت أن تُداوي بعض ما
أصابها من الجروح بعد ما عانته من
السلب والتخريب، وبعد أن كادت آثارها تُمحى في بعض المواضع. على أن «أندرونيكوس» لم يقُم
بشيء في سبيل إعادة بناء الأديرة
المخرَّبة. وأغلب الظن أن الفرس فرضوا على الكنائس جزيةً تؤديها، أو لعلهم على الأقل
استصفَوا ما كان للكنائس الملكانية
الطريدة من أوقاف وأرزاق. وأما الأبنية الأهلية فقد لقيت من الفرس رفقًا لم يرفقوا مِثله
في مكانٍ آخر؛ فقد قدَّمنا أنهم
كانوا في الشام يمنُّون على المدائن والناس في أثناء الحرب كلها إذا هم سلَّموا إليهم
أمانًا، وأما إذا كانت مُقاومة فقد
كانت عادتهم أن ينهبوا ما فتحوه عنوةً، فيسلبوا منه كل ما استطاعوا حمله من تُحَف أو
كنوز، ثم كانوا فوق ذلك يهدمون البناء
نفسه كي يأخذوا ما فيه من العُمد البديعة، والإطارات الجميلة، والمرمر الثمين، ويُرسلوه
إلى الملك الأعظم يُحلي به قصرًا
من قصوره. وأما مصر فقد حماها بُعْدها الشاسع من مثل هذا التخريب الشنيع؛ لأن الروم كانوا
لا يزالون سادة البحار، وكان
بمصر السفلى عددٌ لا حصر له من التُّرع لا قناطر عليها، وكان بين مصر والشام شُقةٌ واسعة
من صحراء ذات رمال، فكان حمل ما
ثقل من الأشياء من قُطر إلى آخر أمرًا عسيرًا فوق الطاقة، وكذلك نعرف أدلةً تدل صراحةً
على أن الأبنية العامة الشامخة
بالإسكندرية لم يُصِبها أذًى من الفرس في أكثر الأحوال، على خلاف ما حدث للأديرة التي
في ظاهر أسوار المدينة. وفي الحق أن
أثر هؤلاء الغُزاة في البناء كان أعظم من أثرهم في التدمير في تلك العاصمة؛ إذ بنَوا
بها قصرًا عظيمًا بقي معروفًا إلى
زمنٍ بعيد بعد ذلك باسم قصر الفرس.
٣٢ وأكبر ظننا أن أخبار تدميرهم وتخريبهم للمواضع الأخرى مُبالَغ فيها؛ فمثلًا يقول «جبون»
إنهم محَوا من الوجود
مدينتَي «قيرين» و«برقة»، في حين أن العرب وجدوا هاتين المدينتين بعد سنين من ذلك الوقت،
وكانتا جديرتين بفتحٍ جديد، بل إن
هاتين المدينتين في هذا الوقت الذي نصِفه لم تذهبا وتَنْمحيا، بل إنا لا نستطيع أن نُفسِّر
قوله هذا بأنهما نُزعتا إلى
الأبد من الدولة الرومانية؛ فإن ذلك لم يكن، وليس في الأخبار ما يُبرِّر أن حظ هاتين
المدينتين كان غير حظ مصر؛ فإنها
جميعًا دخلت في حكم كسرى، وبقيت على ذلك حينًا من الدهر، ثم قُدر لها أن تعود إلى حكم
هرقل قبل أن تدخل في الإسلام وتصير
إلى الأبد في حكمه.
٣٣
وإنا لا نعرف عن حكم الفرس في مصر إلا قليلًا، غير أنَّا نعلم أن هؤلاء الفاتحين
لم يكونوا من الصلابة في أمر دينهم بحيث
يُرغِمون المغلوبين على عبادة النار،
٣٤ وكذلك نعلم أنه بعد أن استقرَّ لهم الأمر ساروا على سُنة التسامح في أمور الدين، وكانت
تلك سُنتهم في فلسطين
وبلاد العرب؛ فقد رأينا أن كسرى سمح للمطران «مودستوس» أن يجمع المال ليُعيد بناء كنائس
بيت المقدس، ثم أباح لبطريق القبط
أن يبقى في الإسكندرية حتى موته، وألا يُنازعه مُنازع في رئاسة الدين. وكذلك يظهر لنا
أن انتخاب خليفته «بنيامين» تمَّ في
سلام واطمئنان، وأنه قضى أول سِنِي ولايته مُستظلًّا بحكم الفرس. وكانت تلك السنين هادئةً
مطمئنة إذا قِيست بسائر مدة
ولايته الطويلة المليئة بعواصف الحدَثان. وكما أن طُرُق الإسكندرية وأبنيتها العامة بقيت
على عهدها من الفخامة والشموخ لم
يعتورها فساد على يد الفرس، كذلك قد بقيت تلك «المدينة العظمى» على عهدها مَقرًّا للعلوم
لم ينطفئ نورها، وإن اعتراه شيء
من الضعف.