الفصل الثامن
الفن والأدب
قلما تخلَّف عن هذا العصر أثر من آثار الأدب، وإن كان ما كُتِب عنه كثيرًا فوق ما
يتوقَّعه الإنسان.
١ ويقول بعضهم إن حنا «فيلوبونوس» كان عند ذلك لا يزال حيًّا في الإسكندرية، ولكن ذلك
غير صحيح.
٢ على أن أثر مذهبه — وإن شئت قلت أثر اعتزاله وانشقاقه — كان لا يزال باقيًا، حتى لقد
رأى البطريق «سرجيوس» أن
الأمر جدير بعنايته، فشرع يكتب في نقض آراء حنا وتفنيدها مُشتركًا في ذلك مع «جورج البيسيدي».
٣ ولم يكن حنا هذا بصاحب الرأي الطريف المبتكَر، ولكنه كان عالِمًا ضليعًا بفنونٍ كثيرة
من العلم، ولا تزال بعض
مؤلَّفاته باقية، وهي حواشٍ على كتاب أرسطو. وفي ذلك الوقت كتب قسٌّ من الإسكندرية اسمه
هارون رسائل في علم الطب باللغة
السريانية بقيت معروفةً يرجع إليها العرب، كما قال أبو الفرج.
٤
وكان أطباء الإسكندرية معروفين مشهودًا لهم زمنًا طويلًا، وكانت مدرسة الطب في تلك
المدينة كعبة للطلاب يقصدونها من كل
أنحاء الدولة. وقد جاء في كتاب زكريا المتليني عن وصفه للقرن السادس أن طبيب الإمبراطور
بازيليكوس كان من أهل الإسكندرية.
وجاء في موضعٍ آخر في وصف «سرجيوس
٥ طبيب ريزاينا الأكبر» أنه كان يطَّلع على كثير من كتب الإغريق، وكان فوق ذلك فقيهًا
في الدين وعالمًا في الطب
في الإسكندرية، وكان يُجيد السريانية قراءة وكلامًا.
٦ ولعلنا نفهم من هذا الوصف أنه قد كان ثمةَ اتصالٌ خاص بين لغة السريان ودراسة الطب،
وأنه لا يبعد أن أعظم كتب
الطب في القرنين السادس والسابع كانت باللغة السريانية، ولا شك أن تلك اللغة كانت ذائعة
بين الناس، وأن آدابها كانت دائمًا
تُدرس في الإسكندرية حتى قبل أن تفِد جموع العلماء إلى مصر من سوريا عند غزو الفرس لها.
ومن العجيب أن «هارون» و«سرجيوس» كلاهما كان فقيهًا في الدين وعالمًا في الطب في
وقتٍ واحد، وكذلك البطريق أوتيكيوس
(سعيد بن بطريق). وقد قام أكبر الأدلة على أنه قد ازدهرت في ذلك الوقت مدرسةٌ مستقلة
من مدارس الفقه؛ فنسمع أن جماعة من
العلماء السوريين كانوا قُبيل غزو الفرس مصر يُراجعون الترجمة السريانية للإنجيل، ويُترجمون
إلى السريانية كتاب التوراة
السبعينية من جديد، وكان أكبر من اشترك في هذا العمل «توما الهركلي» و«بولص التلوي».
٧ وقد قامت الجماعة بعملها في أكثر الأوقات في الدير المعروف دير «الهانطون». ولسنا في
حاجة لأن نُبرهن على أن
ذلك العهد نشط إلى دراسة الكتاب المقدس نشاطًا كبيرًا، ولكن «أجاتياس» يُحدِّثنا أحاديث
مُدهشة عن الهوَّة السحيقة من
التضليل والكذب التي قد تهوي إليها المُناظرات الدينية؛ فإنه يُحدِّثنا عن حاكم من كبار
حكام الدولة أنه جمع أربعة عشر
كاتبًا أو ناسخًا يعملون في تحوير ما كتبه الآباء، ولا سيَّما «قيريل»؛ حتى يستطيع أن
يدعم المذهب الذي ينتمي إليه بما شاء
من أكاذيب يعزوها إلى أكبر حُجَج الدين فيما ينشره من الكتب. وإنا لنرجو أن تكون هذه
الأكاذيب قليلة الحدوث، ولكنها كُتبت
في أوائل القرن السابع، حين كان الخلاف المذهبي على أشده لا يتورع أصحابه عن الكذب
ومخالفة الفضائل في سبيله، ولم تكن دور الكتب في دير «الهانطون» وحده، بل كان لكل دير
مكتبتُه وقُصاده من أجل العلم. ولعل
الدير السرياني
٨ أو الدير السوري الذي لا يزال إلى اليوم في صحراء وادي النطرون، قد نشأ في ذلك الوقت
عندما جاء إلى مصر كثير
من السوريين وعلمائهم هاربين من خطر حرب الفرس. وكان الرهبان والزهاد في صوامعهم في كل
مكان في الصحاري والجبال بعيدين عن
العاصمة وما فيها من حياة العلم، يكتبون باللغة القبطية رسائل في خلافاتهم وتراجم لحياة
بطارقتهم، ولكنهم لم يكتبوا من
حوادث التاريخ إلا قليلًا.
لم يبقَ مما كُتِب في ذلك الوقت من التاريخ الصحيح إلا شيءٌ يسير؛ فقد بقيت بعض أخبار
قيِّمة كتبها «تيوفيلا كت
سيموكاتا». على أنه قلما يذكُر الإسكندرية وإن كان من أبنائها، في حين أن الكاتب المجهول
الذي ألَّف «ديوان بسكال» أو
«الديوان الإسكندري» قد خلَّف لنا صحيفةً يصف فيها عصره، لها قيمةٌ جليلة، وهي جديرة
بكل عناية، وكتب «حنا النقيوسي»
ديوانه في أواخر القرن السابع، ولكنه كان من غير شك يأخذ عما سبقه من المؤلفات التي لم
يبقَ منها شيء حتى الاسم.
وهذه الأسماء التي ذكرناها تدلنا على أنه قد كان في ذلك العصر درس وبحث في التاريخ
والفلسفة وفقه الدين والطب، ولكنها مع
ذلك قليلة العدد لا تكفي للدلالة على ما كان بالإسكندرية من نشاط أهل العلم في مختلف
الفنون؛ فقد ضاعت أكثر مؤلفات ذلك
العصر في أثناء عواصف الفتوح التي اجتاحت مصر في النصف الأول من القرن السابع. على أنه
قد بقي منها ما يشهد للإسكندرية
بأنها كانت جديرة بأن تكون مَقرَّ الآداب في العالم أجمع، ومَقصدَ طلاب العلم، وكان لا
يزال بها أثرٌ يزدهر من العلم
القديم، وإن كان أكثر العلم فيها عند ذلك خاصًّا بالدين. وقد أُلِّفت رسائل في الأخلاق
المسيحية أو المثل الأعلى المسيحي
قُصِد بها أن تكون قائمة على أساس مذاهب أفلاطون وأرسطو. وكما أن «بولص السيلنتياري»
كتب مدحةً يذكُر فيها فضائل «القديسة
صوفيا» في شعرٍ هومري
٩ من ذي الستة المقاطع، كذلك رأى «صفرونيوس» وهو في الإسكندرية أنه لا عار عليه في أن
يكتب قصيدةً يبثُّ فيها
شوقه إلى الأرض المقدسة في صورة شعر غزلي على نمط تشبيب الشاعر الإغريقي «أناكريون».
١٠
وقد اتفق أن بقي في كتب «حنا مسكوس» شيء من الوصف الشائق للحياة في الإسكندرية في
ذلك العهد، على أن هذا الوصف الذي بقي
قليل لا يكفي لأن يملأ صحيفةً كبيرة من الرِّقاع التي كانت تُستعمل للكتابة، وقد كتبه
الكاتب عرَضًا بغير أن يقصد به
شيئًا، غير أنه مع ذلك يُصوِّر لنا صورةً عجيبة. وكان «حنا مسكوس» هذا سوريَّ المولد
ولسانه لسان الإغريق، وقد طاف في مصر
بضع سنين قُرْب آخر القرن السادس مع صديقه وتلميذه «صفرونيوس»، وهو دمشقي الموطن، وقضيا
مدةً طويلة معًا في أديرة
«الثيبائيد»، وهو صعيد مصر. ولما رجعا إلى وطنهما حمل حنا تلميذه «صفرونيوس» على أن يترهَّب.
ويُقال إنهما طُردا من الشام
في سنة ٦٠٥ في أثناء حروب «فوكاس» فذهبا إلى الإسكندرية، وقضيا مدةً أخرى نحو ثماني سنين
أو عشر في القراءة والكتابة،
وكانا بين حين وحين يزوران الأديرة المُجاورة للإسكندرية وأديرة الصحراء والواحة الكبرى،
وكان كلاهما صديقًا ﻟ «حنا
الرحوم»، على أنه قد كان أقل منهما علمًا، وقد هربا مثله من الإسكندرية في وقت غزو الفرس،
حتى لقد قيل إنهما صحباه إلى
قبرص، وإن «صفرونيوس» ألقى خطبة على جنازته، ولكن الأدلة تنقض هذه الرواية. ومن المحقَّق
أنهما ساحا في الجزائر الإغريقية،
ورحلا بعد ذلك إلى روما، وهناك أعاد «حنا مسكوس» قراءة كتابه، ونقَّح فيه التنقيح الأخير.
ولما وافاه أجله أعطاه إلى
تلميذه صفرونيوس لينشره. فلما رجع الأمن حوالَي سنة ٦٢٠، وأُبيحَ للمسيحيين أن يعودوا
إلى التعبد على دينهم تحت حكم الفرس؛
عاد «صفرونيوس» إلى فلسطين، ونشر بعد حين جزءًا من كتاب أستاذه، وهو الجزء الباقي إلى
اليوم، واسمه «مَسارح الروح».
١١
وهذا الكتاب على ما فيه من قصص شفاء الأمراض بالمعجزات، ومن الأحلام، وأمثال ذلك
مما لا قيمة له عند المؤرخ، يشتمل على
أخبارٍ قيِّمة ينشرح لها الصدر إذا ما استطاع الباحث أن يستخرجها منه بشق النفس. والكتاب
مع ذلك فيه شيء من فوضى علمية
واستطرادٍ غير منظَّم يجعله شهيَّ المَقرأ، ويخلع لذة على المواضع التي تدعو فيه إلى
الملال والسأم. وسنرى فيما بعدُ بعض
ما جاء به عن وصف إقليم الإسكندرية، ولكن لا بد لنا من أن نذكُر هنا صفةً تظهر في كل
صفحة من صفحاته، ألا وهي حب العلم
حبًّا شديدًا؛ فقد كان الصديقان لا يستقرُّ لهما قرار في طلبهما للعلم. ويدل على ذلك
تنقُّلهما في الأقطار، وإن كان بعض
رحلاتهما إنما قصدا فيه القيام بخدمات للكنيسة.
١٢ فبَيْنا كانا في الإسكندرية يُحدِّثان مطران «دارنه» أو هي «دارنيس» على ساحل البحر
في ليبيا، إذا هما مع رئيس
الدير «تيودور الحكيم» أو مع «زويلوس القارئ». وكان «تيودور» و«زويلوس» كلاهما نادرة
في العلم والخُلق، وكانا فقيرين فقرًا
مُدقِعًا؛ فقد ورد عنهما أنهما لم يكن لأحدهما من حُطام هذه الدنيا إلا رداؤه وبعض الكتب.
وكان «تيودور» عالِمًا بالفلسفة،
في حين أن «زويلوس» كان مُفسرًا للكتب المخطوطة،
١٣ ويُوضحها بالرسم. وقد وجد الصديقان غير ذلك رئيسَ دير قريب من الإسكندرية، وكان شيخًا
جليلًا قضى في الرهبانية
ثمانين عامًا،
١٤ وكان يحب الناس، ولكنه كان فوق ذلك مُتصفًا بخصلةٍ أخرى قلما اتَّصف بها أحد، وهي حب
الحيوان؛ فكان كلَّ يوم
يُطعِم طير الجو، والنمل صغاره وكباره، حتى الكلاب التي كانت تسرح حول الدير. وإذا كنا
قد وصفنا «تيودور» و«زويلوس» بأنهما
كانا لا يملكان إلا شيئًا واحدًا احتفظا به وهو الكتب، فقد كان هذا الشيخ الذي يحب الحيوان
لا يُبقي على شيء؛ فلم يكن عنده
درهم ولا رداء، بل لم يكن عنده كتاب؛ إذ كان يعطي الفقراء وأهل الحاجة كل ما يملك.
١٥
ولكن أرْعَى مَوضع للنظر في كتاب «حنا مسكوس» قطعةٌ غير كاملة إذا قرأها الإنسان
استزاد منها فلم يجد منها زيادة، وهي
تصف صلة الصاحبين بكزماس العالِم،
١٦ وكانت صلةً وثيقة العُرى، وكان حنا إذا وصف شيئًا استعمل صيغة المثنى في وصفه؛ يقصد
نفسه وصاحبه «صفرونيوس»
الذي كان شريكه في أسفاره ومباحثه جميعًا. وهذه القطعة عظيمة الشأن؛ فلنا العذر إذا نحن
أوردنا هنا شيئًا يُشبِه
نصها.
قال حنا: «ولن نقول عن «كزماس العالم» كلمةً ننقلها عما يقوله الناس، بل سنكتب ما
خبَرناه وشهدناه بأعيُننا. كان رجلًا لا كُلفةَ فيه، زاهدًا طاهرًا، وكان هينًا لينًا
مؤلَّفًا كريمًا يعطف على الفقراء.
وقد انتفعنا به انتفاعًا كبيرًا؛ إذ فاض علينا من علمه ورأيه.
١٧ وكانت عنده فوق ذلك «خير مكتبة في الإسكندرية، وكان يُعِير من كتبها في سخاء لمن يحب
أن يقرأ».
١٨ وكان فقيرًا فقرًا شديدًا؛ فلم يكن في بيته من الأثاث إلا فِراشه ومِنضدة، على أن الكتب
كانت تملؤه. وكان
يُبيح لكل من شاء أن يدخل مكتبته، ومن أراد من القارئين كتابًا طلبه وقرأه هناك. وكنت
أزور «كزماس» كل يوم، ولست أذكر إلا
الحق إذا قلت إني ما دخلت بيته يومًا إلا وجدته مُكبًّا على القراءة أو الكتابة، يردُّ
على اليهود أو يُجادلهم. وكان لا
يحب أن يترك مكتبته؛ فكان كثيرًا ما يبعثني لأجادل بعض اليهود بما جاء في الكتب التي
كتبها.
وقد تجرَّأت يومًا على أن أسأله سؤالًا فقلت: «أتتفضَّل عليَّ بأن تُخبرني كم من الزمن
بقيت منعزلًا في مكانك هذا؟»
فأمسك ولم يردَّ عليَّ حرفًا، فقلت له عند ذلك: «عزمت عليك بالله إلا ما قلت لي جواب
مسألتي.» فتردَّد أولًا ثم قال: «بقيت
هنا ثلاثًا وثلاثين سنة.» ولما أن ألحفت عليه بالسؤال قال لي إنه قد تعلَّم أمورًا ثلاثة
مما قرأ، وهي ألا يضحك، ولا يحلف،
ولا يكذب.»
وهذه صورة ولا شك بديعةٌ لعالمٍ فقير في الإسكندرية جعل بيته مُرتادًا لطالبي الكتب
ومُحبيها،
١٩ وهي صورة تجعل القارئ يستزيد، ولكن لا يجد فيها ما يشفي شوقه. ويرجع ذلك إلى أمرين؛
الأول: أنها لا تذكُر
شيئًا عن نوع الكتب التي كانت في المكتبة أو أنواعها، ولا عن عددها. والثاني: أنه يسوءنا
كثيرًا أن «حنا مسكوس»
و«صفرونيوس» لا يذكُران شيئًا ما عن المكتبة العامة الكبرى بالإسكندرية، وقد طبَّق ذكرُها
الخافقين، مع ما كانا عليه من حب
القراءة والعلم وعظيم العناية بأمر الكتب وجامعيها. فلسنا ندري أكانت تلك المكتبة في
أيامهما موجودة أم غير موجودة، وقد
كانا قاب قوسين أو أدنى من إبانة ذلك الأمر؛ فكانا يستطيعان بكلمة يقولانها أن يُجليا
سره الذي ما زال مكنونًا يضل فيه
الباحث، ولكنهما يُولِّيان عنه في صمت وينصرفان.
ولا شك أن سكوتهما في نفسه متى قُرن إلى صمت غيرهم من الكُتاب، وهم كُثُر، له دلالة
في الأفهام، ولكن ليس هذا مقام القول
في الوقت الذي ضاعت فيه تلك المكتبة العظيمة، وسيأتي مقامه في موضعٍ آخر من هذا الكتاب.
وأما هنا فحسبُنا أن نُظهر الأسف
على أننا إذا قرأنا كتاب «حنا مسكوس» «مَسارح الروح»، أو إذا قرأنا ما بين أيدينا من
كتب صفرونيوس الضخمة؛ لا نجد في أي
موضع منها إشارةً واحدة نعرف منها أكانت تلك المكتبة لم تزَل إلى أيامهما باقية في السرابيوم
أم لم تكن.
ولكن كل شيء يذكُر كتب الإسكندرية في هذا الوقت أو قريبًا منه له في بحثنا هذا قيمةٌ
عظمى، ولو كان قطعة من دليل أو
نُتفة من خبر؛ وعلى ذلك فقد يكون لنا العذر إذا نحن أوردنا ذكر مجموعة أخرى من الكتب،
وهي مجموعة مطران «أميدو» السوري
«مورو باركستانت» في النصف الأول من القرن السادس. قيل في وصفه إنه كان «فصيحًا يتكلم
اليونانية»، ولكنه «نُفي إلى «بطرة»
بعد أن أقام في مقرِّ رئاسته للدين مدةً قصيرة، ثم نُفي بعد ذلك إلى الإسكندرية فأقام
بها حينًا، وجمع مكتبةً تحوي كثيرًا
من الكتب القيِّمة، يجد فيها من يرغب في العلم من أهل البحث والفهم فوائد جليلة. وقد
نُقلت هذه الكتب بعد موته إلى خزانة
كنيسة «أميدو»، وما زال يتعمق في القراءة وهو في الإسكندرية حتى لحقه السُّبات.» ومن
هذه النبذة الهامة التي جاءت في كتاب
«زكريا المتليني»
٢٠ يمكننا أن نستخلص أمرين؛ الأول: أن الإسكندرية كانت إلى ذلك الوقت سوقًا رائجة لمن أراد
أن يجمع الكتب.
والثاني: أن إصدار الكتب إلى البلاد الأخرى كان مُباحًا.
على أن إقبال أهل العلم في الإسكندرية لم يكن على آداب الإغريق وفقه الدين وحدهما؛
فقد كانت مدينة بطليموس وإقليدس لا
تزال مشهورة بخدمتها لعلم الفلك، معروفةً بمهارةِ من فيها من علماء الرياضة وعلم الحِيَل،
٢١ وكان فيها من لا يزال يُمارس التنجيم. ولم يخلُ ذلك من فائدة للعلم؛ لأن هؤلاء المُنجمين
كانوا على شيء من
العلم بالنجوم، وكان الملوك وحكام البلاد يُرسِلون من كل أقطار العالم إلى رهبان الصحاري
ليُنبئوهم بما في ضمير الغيب لهم،
وكانوا في ذلك يعتمدون على علم الرهبان بالكواكب أكثر من اعتمادهم على ربَّانيتهم، ولم
يخلُ هؤلاء المُنجمون من التأثير في
أمور السياسة. وكان أكبر علماء الفلك في ذلك الوقت «إسطفن الإسكندري»، ولا يزال كتابه
في علم الفلك باقيًا، وهو معروف
أيضًا بدرايته بالتنجيم، ولو صح أنه تنبَّأ بمجيء دولة الإسلام
٢٢ لكان من المؤكَّد أن كثيرين من سرعان أهل وطنه صدَّقوا ما قاله منذ سمعوه، وداخَلهم
خوفٌ خلع أفئدتهم ووهن من
قوَّتهم عندما جاء وقت النضال والبلاء، ولكن «إسطفن» كان فذًّا في الرجال، ويُلقبونه
ﺑ «حكيم العالم» و«علَّامة الزمان»،
وليست درايته بالتنجيم لتزيد في قدره إلا قليلًا. وكان علم تقويم البُلدان من فروع العلم
المعروفة في ذلك الوقت؛ فقد زادت
معرفة الناس بالبِحار الشرقية بفضل رحلات الكشف التي قام بها «كزماس» المعروف ﺑ «البحَّار
الهندي»، وكان تاجرًا من أهل
الإسكندرية جريئًا على المَخاطر، قام بسياحاتٍ علميةٍ طويلةٍ حول بلاد العرب والهند،
دفعه إليها حبُّه للأسفار والاطلاع
على مَجاهل البلاد أكثر مما دفعه إليها حب المال والربح، وقد مات قبل ذلك الوقت الذي
نصفه ببضع سنين، غير أن ما كتبه كان
لا يزال فيه باقيًا في أيدي الناس يُعجبون به، ولكن من سوء حظنا أن أكثر ما كتبه وأعظمه
قيمةً ضاع ولم يصِل إلى أيدينا.
٢٣
وإذا حُق لنا أن نقول إن الآثار الأدبية كانت لم تزَل باقية يُعتزُّ بها في الإسكندرية،
فإنه يحقُّ لنا أكثر من ذلك أن
نقول إن الفنون كانت بها زاهيةً مُزدهرة؛ فقد كان بُنيان المدينة يأخذ بالألباب بعظمته
ورونقه؛ من أسوارٍ مُنيفة، وحصونٍ
مَنيعة، وقصورٍ برَّاقة، وكنائس فخمة، وطُرقٍ ذات عُمدٍ مرصوصة. وكانت مهارة البنَّائين
على عهدها لم تضمحل ولم تضعف عما
عليه في أيام «جستنيان»؛ إذ اتخذ من أهل الإسكندرية ذلك البنَّاء الذي أقام الساحة الكبرى
بالقسطنطينية، بها ألف عمود
وعمود، ولا تزال إلى الآن باقية، ورءوس الأعمدة في هذه الساحة يرجع إليها الفضل كما يقول
الأستاذ «فريمن» في الانفصال عن
قيود الماضي انفصالًا تامًّا، وتمهيد الطريق للبناء الجليل الذي أقامه «أنتيميوس»، ألا
وهو بناء القديسة صوفيا.
٢٤ وكان حجر السماق الأحمر والأخضر الذي استُعمل في تحلية هذا البناء يؤتى به من مصر محمولًا
في النيل،
٢٥ وكانت مصر منذ أيام الفراعنة شهيرة بما فيها من المرمر البديع، وكانت حلية الكنائس والقصور
في جميع بلاد
العالم من هذا الحجر الثمين، وكانت سوقه في الإسكندرية، وبقيت هناك حتى قُضي عليها في
أيام الفتح العربي.
وكان فن التصوير من أتباع فن البناء يُستخدم في تجميل الجدران في داخل البناء، كما
كان من وسائل ذلك التجميل نقوش
الفُسيفساء ذات الألوان، وصور الفسيفساء
٢٦ الزجاجية، وأفاريز المرمر فوق الجدران، وتغطية الأرض بالرخام. وقد احتفظ القبط زمنًا
طويلًا وهم تحت حكم العرب
بالدراية في هذه الفنون؛ فنون البناء، وصناعة فسيفساء الزجاج، وصناعة خاصة بالمرمر كان
يُطلَق عليها اسم «الفن الإسكندري»
٢٧ تمييزًا لها. وكانت أسوار العاصمة الجديدة «القاهرة» وما فيها من مساجد بديعة، من صناعة
المصريين في بنائها
وزخرفها، وما كان نبوغهم في هذه الصناعة وأساليبهم فيها إلا ما ورثوه كابرًا عن كابر
في الفن عن الإسكندرية
القديمة.
ولا ننسى فن تفسير الكتب وإيضاحها بالرسم، وقد رأينا أن «سيموكاتا» يذكُر صديقًا
له كان «مُفسرًا»، وأن «حنا مسكوس» يصف «زويلوس» بأنه كان ممن يُعالج هذا الفن. والحقيقة
أن فن الكتابة المزخرفة ورسم
الصور الصغيرة في الكتب كان شائعًا بالغًا حده من الإتقان في هذا العصر في كل بلاد الشرق،
وكان خير المخطوطات إذ ذاك يُتخذ
من الرَّق، يُدهَن بلَونٍ أرجواني، ويُكتب عليه بحروف من الذهب، وكانت أمثال هذه الكتب
تُتخذ لمكتبة الإمبراطور. وإن بين
أيدينا خطابًا خطيرًا أرسله أكبر مطارنة الإسكندرية، وهو «تيوناس»، إلى رجلٍ اسمه «لوقيانوس»،
وهو الوصيف الأكبر
للإمبراطور وأمين خِزانة كُتبه. ولعل هذا موضعٌ صالح لذكره وإن كانت كتابته في سنة ٢٩٠
للميلاد. وقد جاء في أول ذلك الخطاب
وصف لِما ينبغي أن يسير عليه الكتاب في دواوين حسابهم، وما في عهدهم من الخُلع والحلى،
ووصف لطريق إثبات ما في الخزائن من
آنية الذهب والفضة والبلور وقماقم المر وغير ذلك من تُحَف القصر، وجاء فيه بعد ذلك أن
المكتبة أثمن ما في القصر، وأنه يجب
على المسيحي ألا يترفَّع عن مُطالعة كتب الأدب الدنيوي، وأنه يجب على أمين خزانة الكتب
أن يكون مُلمًّا بكل ما فيها، وأن
يُرتِّبها على نظامٍ ثابت، ويجعل لها ثبتًا تُدوَّن فيه أسماؤها، وعليه أن يستوثق من
أمر الكتب، وأن النُّسخ التي عنده
منها صحيحةٌ غير محرَّفة، وعليه أن يُعِيد كتابة النسخ وتزيينها بالصور إذا هي بَلِيت.
وجاء في آخر خطاب «تيوناس» هذا أنه
ليس من الضروري أن تكون «كل» الكتب منسوخة بحروف من ذهب على رقٍّ أرجواني
٢٨ إلا إذا أمر الإمبراطور بذلك أمرًا. وهذا الخطاب يدلنا على الأقل على أن كبير المطارنة
كان له علم بأمور مكتبة
عظيمة جليلة. وقد ازدادت صناعة إيضاح الكتب بالرسم، وانتشرت في أثناء القرون الثلاثة
التي تلت كتابة هذا الخطاب، ولم تنقص
شيئًا، ولم تتبدل تبدلًا كبيرًا في الوقت الذي نكتب عنه عما كانت عليه في وقت كتابة الخطاب.
وكان أكثر إيضاح الكتب في مصر
عند ذلك يقوم به الرهبان في الأديرة، وذلك نظير ما حدث في أوروبا فيما بعد. وقد كانت
أعظم المواضع التي تُخرج هذا الفن
القسطنطينية والإسكندرية. على أنه قد كان من الرهبان في مواضع أخرى من يقضون أعمارهم
في كتابة الكتب القيِّمة وتحلية
صفحاتها بأبدع أنواع الزخرف وأجمل الألوان،
٢٩ ومن تلك المواضع ما كان في مصر، ومنها ما كان في آسيا الصغرى أو الشام أو بلاد الفرس.
وأما النحت في هذا العصر فلا نعرف عنه إلا القليل؛ فلا نعلم عنه إلا أنه كان لا يزال
من المعتاد أن تُجعل تماثيل
للإمبراطور الحاكم في العاصمة وفي أكبر مدائن الريف؛ وعلى ذلك فلم يكن هذا الفن مضيَّعًا
كل التضييع.
٣٠ وكانت المدرسة البطليموسية في هذا الفن أولى مدارس العالم في ذلك العصر، وإن في بعض
ما صنعته لجمالًا كأنك به
عين جمال صناعة القدماء ورونقه؛ فقد بقيت آثار الصناعة حتى في العصور المسيحية، ومن أمثال
ذلك التمثال الجليل الضخم لأحد
الأباطرة من حجر السماق الأحمر، ومقرُّه الآن دار الآثار المصرية بالقاهرة.
٣١
على أنه لا شك في أنه ما أتى القرن السادس حتى كانت صناعة النحت قد اضمحلت، ولكن
الصناعة البيزنطية الخالصة، صناعة نحت
العاج، بلغت وقتئذٍ قصارى الكمال، ترى بها دقة الصناعة وإبداع الفن.
٣٢ وكذلك كانت صناعة الذهب وتطعيم المعدن؛ فقد برعت مدرسة الإسكندرية فيها جميعًا وبرزت
فيها. وإذا كانت هذه
الصناعات تمَّت بأصلها إلى صناع مصر القديمة، فإنها بقيت إلى ما بعد فتح الإسكندرية بزمنٍ
طويل، وقد عادت الحياة إليها في
القرون الوسطى، وكانت عند ذلك النشور بارعة، ولم يخبُ نورها، بل لا تزال باقية إلى أيامنا
هذه.
وكان بالإسكندرية عدا ما ذكرنا صناعاتٌ زاهيةٌ مُزدهرة، نذكُر منها صناعة الورق وعمل
الزجاج والمنسوجات وبناء السفن،
فكان في مصر السفلى عددٌ عظيم من غياضٍ فسيحة تُنبت البردي؛ ذلك النبات الطويل الحسن،
وكان الورق يُتخذ من لُبابه يُشق
شرائح تُجعل منها صحائف بالضغط، ثم تُصقل بآلة من العاج، وكانت الصحائف بعد ذلك يوصل
بعضها ببعض فتكون لفائف يسهل
استعمالها، وكانت مقادير عظيمة من البردي تصدر من مصر من مَراسي الإسكندرية المُزدحمة.
ولسنا ندري متى ضعف أمر هذه
التجارة، ولا الأسباب التي أدَّت إلى القضاء على هذا النبات في مصر.
٣٣ وأما صناعة الزجاج فقد بقيت معروفةً ذائعة الصيت زمنًا طويلًا في الإسكندرية وصحراء
النطرون. وقد قال سترابو
إن صناع الزجاج في مصر كانت لهم أسرار يحفظونها، ولا سيَّما في معامل «ديوسبوليس»، وإنهم
كانوا يُقلدون الجواهر في
صناعاتهم ويعملون قماقم المر. وكان الزجاج من بين الأشياء التي فرضها «أغسطس»
٣٤ على مصر تُرسَل عينًا ضمن الجزية السنوية. ولا تزال في متحف الإسكندرية أمثالٌ بديعة
من منتجات هذه الصناعة.
ولا خلاف في أن هذه الصناعة أسلمها القبط بعضهم لبعض جيلًا بعد جيل حتى العصور الوسطى،
وكان آخر ما أخرجته تلك الصناعة
المصابيح المُطعمة الفاخرة التي كانت تزين الكنائس والمساجد، وهي اليوم مَفخرة المتاحف
التي تجمع آثار العصور الوسطى. أما
صناعة الخزف فلا نعرف على وجه البت في أي وقت بدأ أمرها في الظهور، ولكن كان ذلك لا بد
في عصرٍ قديم؛ فقد ذكر سائحٌ فارسي
٣٥ جاء إلى الفسطاط في سنة ١٠٤٧ للميلاد أمْرَ صناعة الزجاج الرقيق، وذكر سوى ذلك الزجاج
المُزخرَف الذي وجده
يُصنع هناك، قال عنه: «وكان رقيقًا شفَّافًا، حتى إن الإنسان ليرى من وراء الآنية يد
من يُمسكها.» وقد ذكر أيضًا الأواني
اللامعة المختلفة الألوان التي تُشبِه نسيج الحرير المعروف باسم «بوقليمون»، وهو الذي
يتغير لونه كلما تغيَّر موقع الضوء
من سطحه. وهذه الشهادات ذات قيمة عظمى؛ إذ تدل دلالةً قاطعة على ما بلغته صناعة الخزَّاف
والزجاج من التقدم في القاهرة في
القرن الحادي عشر. ولا شك في أن الصناعة الإسبانية المغربية التي جاءت بعد ذلك وذاع ذكرها
وشاع، ترجع بأصلها إلى صناعة
القاهرة.
وأما المنسوجات فقد كانت لها تجارةٌ رائجة، وكانت متعددة الأنواع والأصناف؛ فكان
الكتاب الدقيق لا يزال يُنسج، ولعله كان
أدق خيطًا وصنعة مما كانت تُخرجه مناسج مصر القديمة، وفوق ذلك قد صار الحرير منذ حكم
«جستنيان» أكثر شيوعًا بين الناس،
٣٦ وكان تخرج على أيدي النسَّاجين بدائعُ من الحرير والكتان تُحليها زركشةٌ تأخذ بالألباب،
وقد كُشفت حديثًا
بقايا كثيرة من منسوجات ذلك العصر أو ما هو قريب منه، وُجدت في أخميم بالصعيد، واسمها
القديم «بانوبولس»، وهي محفوظةٌ
اليوم في مجموعة «سوث كنزنجتون» بإنجلترا وفي مجموعاتٍ أخرى، وكل هذه المنسوجات من الكتان،
وهي أبسطةٌ منسوجة. وأما
أنماطها ورسومها فمختلفة؛ فبعضها يُشبِه في رسمه المنسوجات القديمة، وبعضها عليه أثرٌ
واضح من المسيحية، وقِسم منها عليه
أثرٌ ظاهر من أنماط الفرس؛ فإن مدة إقامة الفرس بمصر، وهي تلك السنون العشر أو الاثنتا
عشرة، لا بد قد أثَّرت فيها الرسوم
الفارسية في الصناع، فجعلتهم يُخرجون منسوجاتهم على مثالها. والشَّبه عظيم بين مجموعة
من ورقة البردي في فينا تُنسَب إلى
«تيودور جراف» وبين مجموعة هذه المنسوجات؛ فمجموعة الأوراق التي تختلف تواريخها بين سنة
٤٨٧ وسنة ٩٠٩ للميلاد فيها لغاتٌ
شتى؛ فاليونانية والقبطية والفارسية والساسانية والعبرية والعربية، ومجموعة المنسوجات
التي ترجع إلى نحو هذه العصور تنطبع
فيها صورُ ما مر على مصر من صروف الدهر المختلفة وغِيَر الحادثات السياسية كما تنطبع
صورة في مرآة.
٣٧ ومن أهم الأمور أن نتذكر أن مادة صنوف المنسوجات ورسومها وألوانها تكاد تكون واحدة،
سواء في ذلك ما وُجد في
صقارة أو الفيوم أو الصعيد. وهذه حقيقةٌ تدلنا على اشتراك النسَّاجين في الأنماط وتشابههم
في الأذواق أكثر مما تدلنا على
شدة محافظتهم على القديم وتمسُّكهم به؛ فكان ما جدَّ من طرق الصناعة ورسومها يتنقل سريعًا
في نهر النيل، وهو المَحجة
العظمى، ذاهبًا إلى طائفة بعد طائفة من الصناع في البلاد المنتشرة في ريف مصر، وكان ما
تُخرجه المَناسج يُحمل إلى الأسواق
الكبرى في منف والإسكندرية، أو كان يُحمل في الصحراء مرحلةً قصيرة حتى يبلغ ميناء «بيرينيقة»
على البحر الأحمر، ومن ثَم
يُنقل في السفن إلى البلاد الأخرى. وكانت منسوجات الكتان والستائر ذات الصور — التي
تتخلل نسيجَها خيوطٌ من الذهب، وتُوشيها النقوش البديعة من التطريز في ألوانٍ جميلة —
كانت كلها من صناعة الصانع القبطي.
وإنا كلما أمعنَّا في درس تاريخ مصر، سواء منه ما كان في العصر البيزنطي أو العصر العربي،
زاد يقيننا بأن القبط كانوا
أصحاب الفضل في بقاء آثار الصناعة حيةً ماثلة في البلاد، وذلك في كل شعبة من شُعَبها؛
في صياغة الذهب، وتطعيم المعادن،
والزخرفة بالميناء، وصناعة الزجاج، وغير ذلك من صناعات الإنشاء أو التجميل.
على أنه لا بد لنا أن نتدارك خطأً قد يقع فيه من يتصور أن المهارة في الصنعة وحسن
الاختيار والبصر كانا وقفًا على القبط
فاقوا فيهما كل من عداهم من صناع الدولة البيزنطية أو أرمينيا وأشور وفارس، فإن ذلك لم
يكن، والحق أنه قد كان بكل بلاد
الشرق صناعةٌ فائقة تخرج من المنسوجات والمطرَّزات وآنية الذهب والفضة والجواهر البديعة
الصنع. ولقد كانت مصر تصنع الطنافس
الجميلة، ولكنا لا نقدر أن نقول إنها كانت تُضارع ما تُخرجه بلاد الفرس من طنافسها البديعة.
٣٨ وكذلك كان الحال في بعض الرسوم التي تُوضح الكتب؛ فقد جاء بعض بدائعها من صناعة فارس
والعراق كما جاء من صناعة
بيزنطة. وكانت أكبر المصابغ التي يُصبغ فيها الحرير الأرجواني الذي يُصنع منه بُرْد الملِك
في مدينة بُصرى بالشام، وهي
المدينة التي فتحها الفرس ثم العرب من بعدهم. وقد رأينا فيما سلف أن كسرى لم يكن من الملوك
الهمج أو أشباههم، بل كان رجلًا
مهذبًا عالمًا، وكانت فنون الفرس في عهد الساسانيين قائمة على آثار القدماء من الأشوريين
والبابليين، وكانت تُضارع فنون
الدولة البيزنطية في الدقة وحُسن الانسجام.
وكانت فوق ذلك ذات أثر أبلغ من أثر الروم في صناعة العرب ونشأة مذهبها في الرسم والنقش،
وهو المذهب الذي اشتهرت به دمشق
في العصور الوسطى.
ولعل أكبر صناعات الإسكندرية كانت صناعة بناء السفن؛ فإن الإسكندرية كانت أكبر أسواق
العالم، وأكثر ثغوره ازدحامًا
وحركة، وكانت بها تجارةٌ عظيمة في القمح والكتان والورق والزجاج وغير ذلك من صنوف ما
تُخرجه البلاد، وكانت تُحمل إليها
مقادير عظيمة من الذهب والعاج من بلاد النوبة وأثيوبيا، وكانت فوق ذلك أنواع البهار والحرير
والفضة والجواهر وغيرها تأتي
من بِحار الهند والصين إلى البحر الأحمر، ومن القلزم (وهي السويس)، فتُحمل في الترعة
إلى «منفيس»، ومنها تنحدر في نهر
النيل إلى الإسكندرية، حيث كانت تُبعث إلى أطراف البحر الأبيض المتوسط. ومِثل هذه التجارة
العظيمة لا بد لها من عددٍ كبير
من السفن، وكانت مصر منذ الأزمنة القديمة خلوًا من موارد الخشب الذي تُصنع منه السفن،
ومع ذلك قد كانت الأخشاب تُشترى من
بلاد الشام وغيرها لبناء السفن في الإسكندرية؛ إذ كان بناؤها هناك في مقر التجارة التي
تحتاج إليها أعوَدَ بالربح وأجدى
على التجار، وكانت مصر فوق كل ذلك تُنبت نوعًا من التيل يليق كل اللياقة لعمل الحبال
وأدوات السفن.
٣٩
وقد رأينا فيما سلف أن إحدى سفن الغلال التي كانت للكنيسة في الإسكندرية كانت تحمل
عشرين ألف مُد (كل مد خُمس الإردب)،
ولم يذكر أحدٌ أن حِمل هذه السفينة كان فذًّا، وأكبر الظن أن تلك السفن التجارية كانت
أكبر كثيرًا مما اعتاد الناس أن
يظنُّوا فيها، وكذلك كان حال السفن الحربية. وقد حدث بعد سنين عدة من هذا الوقت عندما
أصبحت مصر في ملك العرب أن أمر
معاوية الزعيم العربي في الشام ببناء عدد من السفن الحربية في الإسكندرية وسواها من المواني
التي في حكم الدولة العربية،
وذلك في وقت لم يكن فيه بمَراسي الإسكندرية أحد من بنَّائي السفن الذين هم من أصلٍ بيزنطي
محض؛ إذ كانوا لا بد قد خرجوا
منها جميعًا. ويقول «سبيوس» إن السفن كانت على نوعين؛ أحدهما يمكن أن نسميه «البوارج»،
والآخر «الطرادات». وكانت البارجة
تحمل ألف رجل، في حين أن السفن الصغرى كانت تحمل كلٌّ منها مائة رجل،
٤٠ وكانت تُجعل للسير السريع واللف حول السفن الكبرى. ويذكر ذلك المؤرخ وصفًا مُسهبًا عظيم
القيمة لِما كان في
سفن الحرب من الآلات والسلاح؛ فكان بها عُدَد القذف «مجانيق وآلات رمي الحجارة»، وكان
في بعضها صروحٌ عاليةٌ فوق ظهرها،
حتى إذا ما جاءت السفن بحذاء أسوار محصَّنة استطاع المُهاجمون أن يكونوا هم والمُدافعون
على علوٍّ سواء، وأمكنهم أن يثِبوا
من تلك الصروح إلى الأسوار، أو أن يُقيموا قنطرة على الفضاء القليل الذي بينهما ويعبُروا
عليها إلى حصون الأسوار.
وأعظم شأنًا من هذا ما جاء في كتب «سبيوس» من الوصف الصريح لِما شهده من تلك السفن
الكبرى، وأنها كانت مجهَّزة ﺑ «آلاتٍ
تقذف النار»، وهي آلات ترمي بالنار المُهلكة المعروفة ﺑ «النار الإغريقية»، وكانت مزيجًا
قويًّا من مواد سريعة الالتهاب،
وكانت تشتعل اشتعالًا شديدًا لا يمكن إطفاؤه، ولعلها كانت فوق ذلك ذات قوة على النسف
والتمزيق، وكانت لذلك تُحدِث تخريبًا
كبيرًا وخوفًا شديدًا، ولكن أكبر ما يسترعي النظر فيما جاء في كتاب «سبيوس» من ذلك الوصف
أنه يقول: إن السفن التي بُنيت في
مصر بعد الفتح العربي بأمر العرب كانت مجهَّزة بالمجانيق لقذف المواد المُلتهبة. وهي
المواد التي قيل إن تجهيزها كان إلى
القرن السابع على الأقل سرًّا مكنونًا اختص به أهل بيزنطة. وقد جرت العادة أن يقولوا
إن أول من اخترع النار الإغريقية رجلٌ
اسمه «قلِّينيكوس»، وهو مهندس في مدينة «هليوبوليس»، ويقولون في تسرُّعٍ إن «هليوبوليس»
المقصودة هي التي بالشام، وليست هي
المدينة القديمة الشهيرة بمصر. أما المؤرخ «جبون» فإنه يعتمد على ما جاء في كتاب «قدرينوس»،
ويقول إن «قلينيكوس» كان
مصريًّا، ولكنه يزعم خطأً أن «هليوبوليس» كانت عند ذلك أطلالًا بالية.
٤١ وإننا لا يمكن أن نتصور أنه كان من الممكن أن تُبنى سفن في الإسكندرية بعد فتح العرب
لمصر بما لا يزيد إلا
قليلًا على عشرين سنة، ثم أن تُجهَّز بتلك الآلات التي تقذف النار الإغريقية، اللهم إلا
إذا كان اختراع مزيج تلك النار
وعمل آلاتها أصله في مصر ذاتها.
ومهما كان من أمر هذه النار، فإنه لا شك على كل حال في أن صناعة بناء السفن كانت عظيمة
في الإسكندرية في النصف الأول من
القرن السابع، وأنها لم تضمحل عندما انتهى أمر الدولة البيزنطية في مصر. وفي هذا ما يدل
على أن الصانع القبطي في هذه
الصناعة وفي غيرها من الصناعات الكبرى في وادي النيل كان مستقلًّا بنفسه بغير إرشاد ولا
تسيير من الروم، إذا لم نقل إنه
كان في الحقيقة الصانع المعلِّم.
قد ألجأنا هذا الفصل المجمَل في كلامنا على الفنون والآداب في الإسكندرية حوالَي
وقت غزو الفرس لمصر إلى أن نخوض في
تاريخ ما سبقه وما جاء بعده من العصور، ولكنَّا قصدنا إلى ذلك قصدًا لأمرين؛ أولهما:
أن نُبين على وجه الإجمال والتقريب ما
كانت عليه المدنية المادية في هذا العصر. وثانيهما: أن ندل على أن سير تلك المدنية كان
متصلًا، ولم يقطعه على الأقل فتح
الفرس للبلاد؛ فإن جيوش كسرى لم تُسبب أذًى كبيرًا للتُّحف الكبرى في العاصمة، سواء كان
ذلك بُنيانًا أو عَلمًا؛ فإن غُزاة
الفرس لم يكونوا هم الذين دمَّروا مكاتب الإسكندرية إذا كانت لم تزَل إلى ذلك الوقت باقية،
وكانت المَنارة الكبرى منارة
«فاروس»، إحدى عجائب الدنيا السبع، لا تزال إلى ذلك الوقت ماثلةً مُشرِفة فيما بين المدينة
والبحر، تُكلِّل هامتَها سُحبٌ
من الدخان في النهار، ولهبٌ من النيران بالليل. ولم يُهدم من أبنية الإسكندرية ما اشتهرت
به المدينة من المعابد القديمة
وساحات العُمد الفسيحة والقصور التي لا تقع تحت حصر، بل إن الكنائس ذاتها التي كانت في
داخل أسوار المدينة لم يمسَسْها
أذًى يستحقُّ الذكر، وكان المُصلُّون يزدحمون في الكنيسة الكبرى كنيسة «القيصريون»، أو
في كنيسة القديس «مرقص»، حيث كان
رفات «رسول مصر»
٤٢ لا تزال في مقرها يعلوها المذبح المُنيف.