قرطبة وعبد الرحمن الناصر
قرطبة عاصمة الأمويين في الأندلس، تقع شماليَّ نهر يعرف باسم الوادي الكبير في جنوب إسبانيا، وقد بلغت غاية حضارتها وأوج مجدها في زمن عبد الرحمن الناصر، (تولي سنة ٣٠٠–٣٥٠ للهجرة)، وهو أول من تَسمَّى خليفةً من ملوك الأندلس. تولَّى الملك والأحوال مضطربة، والبلاد قائمة قاعدة؛ لاختلاف الأحزاب وكثرة المطالبين بالحكم من العرب والبربر؛ غير الإفرنج المجاورين له في إشتوريا، وغليكية، ونافار، وبمبلونة، وغسكونية، وغيرها، وقد ظل يحارب ويناضل ويجدُّ ويجتهد، حتى دانت له الرقاب، واستقرَّ له الملك، واستتب الأمر، فتقرب إليه ملوك عصره بالهدايا، وأوفدوا إليه الوفود من القسطنطينية، ورومية، وفرنسا، وروسيا، وغيرها.
ولما أحس من نفسه بالقوة، ورأي الخلافة العباسية قد ضعفت، وأصبح الجنود الأتراك يسيطرون على خلفائها، سمَّى نفسه أمير المؤمنين، فلم يلقَ معارضة، واتفق في أثناء ذلك قيام الدولة الفاطمية (العبيدية) في المغرب، وهم شيعة يطلبون الخلافة باسم عليٍّ، فأصبحت الخلافة الإسلامية يدعيها ثلاث دول: العباسيون في العراق، والفاطميون في المغرب، والأمويون في الأندلس.
ازدهرت قرطبة في أيام عبد الرحمن الناصر، وزاد عمرانها، وكثرت قصورها ومتنزهاتها. يكفي من ذلك قصرها الكبير لأنه آية من آيات الزمان، كان مؤلفًا من أربعمائة وثلاثين دارًا، بينها قصور فخمة، لكل منها اسم خاص، كالكامل، والمجدد، والحائر، والروضة، والمعشوق، والمبارك، والرستق، وقصر البديع، وقد تفننوا في زخرفتها وإتقانها، وأنشئوا فيها البرك، والبحيرات، والصهاريج، والأحواض، وجلبوا إليها الماء في قنوات الرصاص على المسافات البعيدة من الجبال حتى أوصلوه إليها، ووزعوه فيها وفي ساحاتها ونواحيها، في قنوات من الفضة الخالصة، والنحاس المموه، إلى البحيرات الهائلة، والبرك البديعة، والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة، ينصبُّ فيها الماء من أنابيب الذهب أو الفضة في صور الحيوانات الكاسرة، أو الطيور الجميلة، على أشكال مختلفة.
ومن عجائب قرطبة مسجدها المشهور، ولم يكن في بلاد الإسلام أعظم منه ولا أعجب بناءً، وكان في مكانه كنيسة للنصارى شاركهم فيها المسلمون عند الفتح، كما فعلوا بالمسجد الأموي بدمشق، ثم قاموا بتوسيعه والزيادة فيه، حتى كانت سعته في عصر عبد الرحمن الناصر مائتين وخمسة وعشرين ذراعًا طولًا، ومائتين وخمسة أذرع عرضًا، وأغرب ما في هذا المسجد مئذنته التي لم يكن في مساجد المسلمين مئذنة تشبهها؛ إذ بلغ طولها إلى موقف المؤذن أربعة وخمسين ذراعًا، وإلى أعلى الرمانة ثلاثة وسبعين ذراعًا، وعرضها ثمانية عشر ذراعًا.
هذا خلاف ما كان في دولة عبد الرحمن الناصر من رواج العلم، فقد كانت قرطبة كعبة العلم ومجتمع العلماء ومقصد باعة الكتب، وكان اقتناء الكتب من ضروريات الحياة عندهم. كانوا يفعلون ذلك اقتداء بخليفتهم وأبنائه.