القصور
وأومأ الفقيه إلى سعيد أن يلتفت نحو الشمال الغربي؛ ليرى أبنية القصر وبساتينه، فرأى ما بهره من القصور المختلفة الأشكال، وبينها الحدائق والبساتين، تتخللها البرك والبحيرات والأحواض المصنوعة من الرخام المنقوش، وعليها تماثيل من الرخام أو الفضة على أشكال مختلفة، يجري ماؤها من أنابيب، بعضها كأفواه الحيوانات، أكثرها من الرخام، وبعضها من الفضة والبعض الآخر من الذهب، تتلألأ عن بعد في أشعة الشمس، وبعض الأحواض عليها التماثيل من النحاس المموه على أشكال جميلة، والماء ينساب من جوانبها فيتلوَّن رشاشه بألوان قوس القزح، فانبهر سعيد من تلك المناظر لأنه لم تسبق له رؤيتها من ذلك السطح المشرف فقال: «في الحقيقة إن الخليفة عبد الرحمن الناصر قد أبدع في بناء هذا القصر وإتقانه، وأغرب ما فيه هذه الأحواض المنقوشة وعليها التماثيل، يتفجر الماء من جوانبها أو رءوسها أو أفواهها. هل هو ماء النهر حُمل إليها؟»
فضحك الفقيه وقال: «ماء النهر؟! وهل يصعد الماء من هذا الوادي إلى هذه القصور؟ إنه ماء مجلوب من هذه الجبال العالية على أبعاد شاسعة، وقد أنفقوا في سبيل جلبه ما لا يقدَّر من الأموال. يكفي أن تتصور جلب هذا الماء من تلك الجبال إلى هذه القصور في قنوات من الرصاص، فكم حفروا من صخور، وبنوا من سدود لكي يجري الماء بانتظام في الأنابيب! ثم تصوَّر توزيع الماء بعد وصوله إلى هذه القصور والبحيرات والبرك والصهاريج، حتى يتدفق من تماثيل الفضة، أو الرخام، أو النحاس المموه، وبعضه يجري من أنابيب الذهب، غير ما أنفق في نقش هذه التماثيل الرخامية فوق الأحواض!»
كان الفقيه ابن عبد البر يتكلم، وسعيد مطرِق يفكر، حتى فرغ الرجل من كلامه، فقال له: «لا يدهشني مقدار ما أنفق من الأموال مثلما يدهشني صنعه لهذه التماثيل، فهل أفتيتم له بعملها، وهي محرمة على ما أعلم؟»
فهز الفقيه رأسه وقال: «ومن الذي أفتى له؟! إنه هو الذي أفتى لنفسه.»
ثم استوقفهما صوت النفير، فالتفتا نحو الجسر، فرأيا الناس يتسابقون نحوه لمشاهدة أولئك الرسل، وقد أقبلوا على جيادهم وعليهم الملابس المذهبة تتألق في أشعة الشمس فوق السروج المفضضة، وقد أحاطت بهم كوكبة من الوصفاء من شباب الصقالبة، عليهم الدروع السابغة، والسيوف المزينة، وقد امتطوا جيادًا عليها اللُّجم المحلاة بالذهب، وقد بالغ عبد الرحمن الناصر في إظهار الأبهة والعظمة إرهابًا للأعداء.
فأراد سعيد أن ينزل من السطح، فقال له الفقيه: «إلى أين؟ إن الطريق مكتظ بالناس، ولا سبيل لنا في الذهاب إلى القصر الآن، فالأفضل أن نمكث هنا ريثما يمر الركب ثم ندركه على عجل، أو نسبقه من طريق قصير أعرفه. انظر إلى ما أراده أمير المؤمنين من الإرهاب بحشد خيرة رجاله في طريق أولئك الرسل! إن رجَّالته العبيد واقفون على الجسر صفوفًا، وهذه كوكبة من الفتيان الأصاغر تحيط بالرسل. ألا ترى هؤلاء الروم قد أحنوا رءوسهم خوفًا ورهبة! انظر إلى باب الجنان، وكم نصب عليه من الأعلام! وكم وقف بجانبيه من الفرسان وعليهم الملابس الثمينة! وهؤلاء ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة قد لبسوا البياض وبأيديهم السيوف، ووراءهم — ابتداءً من هذا الباب حتى الباب الثاني من أبواب القصر — صفٌّ من الرماة وقد تنكَّبوا قسيَّهم وجعابهم، وإذا أمعنت النظر في الوقوف بالباب الثاني وما وراءه، رأيت طائفة أخرى من الصقالبة الأكابر في ملابس أثمن وأبهج، ولا ريب عندي أن أولئك الرومان قد دهشوا من هذه المناظر. وسترى أغرب من ذلك متى ذهبت إلى القصر، ورأيت ما أعدوه هناك من الرياش والأثاث، ومظاهر الملك وأبهة الدولة.»
قال سعيد: «أخشى أن يبدأ الاحتفال قبل وصولنا فيذهب سعينا هباءً؟»
فهزَّ الفقيه رأسه استخفافًا وقال: «لا يبدءون قبل وصول الخطباء، ومع ذلك فإني آخذك من طريق قصير نصل منه إلى القصر قبل وصول الناس إليه.»
قال سعيد: «افعل، إذا شئت.»
فتحول الفقيه ومعه سعيد، فلما صار في الطريق، أشار إلى سعيد أن يترك بغلته ويسير معه ماشيًا لأن ذلك أسهل عليهما، فأشار سعيد إلى جوهر خادمه أن يحتفظ بالبغلة، ومشى مع الفقيه، فسار به في البساتين بين الأشجار والرياحين، وقد سرَّه المشي هناك بدلًا من الركوب، ليتمكن من رؤية كل شيء، وقد وقف طويلًا عند بعض الأحواض الرخامية يتأمل انسياب الماء من جوانبها، أو من أواسطها في الأنابيب المختلفة الأشكال والألوان، وحولها البستانيون يتعهدونها بالإصلاح والري والتنظيم. ولاحظ الفقيه إعجاب سعيد بما يشاهده هناك، فقال له: «أراك يا سعيد قد دهشت مما تراه في هذا القصر من البذخ! فكيف إذا دخلت قصر الزهراء ورأيت أبهاءها وقاعاتها وحدائقها وقبابها! كيف إذا رأيت القبة التي صُنعت قراميدها من الذهب!»
فقال سعيد: «قراميدها من الذهب؟! إني أستغرب ذلك من أمير المؤمنين بعد أن عُهدت إليه الخلافة، فصار نائبًا عن النبي ﷺ، وهو الناهي عن اتخاذ ذلك!» فأومأ إليه الفقيه بسبابته على شفته السفلى أن: «دع هذا الكلام الآن.»