القصر الزاهر
وظل سعيد والفقيه يتنقلان من بستان إلى بستان، ومن حديقة قصر إلى حديقة قصر آخر وقد سبقا الموكب، حتى أطلا على القصر الزاهر، وهو من أجمل أبنية القصر الكبير، فانتبه سعيد على الخصوص لواجهته، فرأي عليها نقوشًا كالوشم على المعصم في أشكال جميلة، بين أقواس منحوتة على أشكال هندسية عربية، تتخللها الأبواب من أسفل، وهي في غاية ما يكون من إتقان النقش، ويزينها في الطبقة العليا النوافذ والأحنية والقناطر كالرواق القائم على أساطين الرخام، وعلى تيجانها نقوش وكتابة، وفوق التيجان الأقواس قد قطِّعت سقوفها مربعات متداخلة ورُسمت فيها الآيات والدعوات حفرًا أو تصويرًا، وعلى أفاريز النوافذ أبيات من الشعر مذهبة، والأفاريز من الشكل المقرنص، وتنتهي تلك الطبقة بطنف بارز هو امتداد السطح إلى الخارج، وعليه نقوش في غاية الجمال، وحول النوافذ زجاج ملون مصنوع على أشكال هندسية في أجمل زينة.
لم يستطع سعيد التفرس في ذلك البناء طويلًا لما رآه ببابه من الحرس وقوفًا، وهم من خاصة الفتيان الأكابر والمقدمين. عليهم الملابس المحلاة بالقصب، وعلى أكتافهم الظهائر المذهبة، وعلى رءوسهم قلنسوات هرمية الشكل، يزينها الطراز المذهب، وقد تقلَّدوا السيوف المذهبة وهم نخبة الرجال قامةً وجمالًا وهيبةً، مما يلفت الأنظار، فتهيَّب سعيد من تلك العظمة، ولم يكن يتصور أبَّهة الملك تبلغ إلى هذا الحد، فقال في نفسه: «كيف يكون إذن البهو الداخلي الذي أعدوه لاستقبال الرسل؟!» ولم يستطع دخول القصر إلا بعد أن رأى الحرس رفيقه الفقيه ابن عبد البر، وتحققوا أنه من حاشية الأمير عبد الله وصنيعة الحكم، فدخل وتبعه سعيد، فمشيا في طرقات بين الأشجار مفروشة بالأزهار والرياحين، حتى بلغا الباب الخارجي وقد فُرش من عتبته حتى الدهليز وصحن الدار، وهو البهو الخارجي، بأنفس البسط وأندر الأرائك، وظُللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج وأثمن الستائر.
وصعد سعيد ورفيقه من ذلك الصحن على بضع درجات من الرخام المذهب إلى بهو واسع، قد نُقش سقفه وأفاريزه بالذهب والألوان الزاهية، أكثرها الأحمر، والأزرق، والأصفر، وقد جلِّلت جدرانه بالديباج، وفُرشت أرضه بالسجاد الثمين، ونُصبت المقاعد والكراسي في جوانب البهو على حسب الرتب والمناصب.
وفي صدر البهو سرير الخليفة من الذهب مرصع بالزمرد والياقوت، فوقه قبة فيها نقوش وأبيات على أبدع تصوير، وقد فاحت رائحة العنبر من مبخرة مذهبة نُصبت في بعض جوانب البهو، ولم يؤذن بدخولهما هذا المجلس؛ لأن الخليفة لم يكن قد وصل بعد، فوقفا حائرين وسعيد يتفرس في كل شيء، ويُعمل فكره في كل شيء. ثم لاحت منه التفاتة فرأى ياسرًا ينظر إليه، فأشار سعيد أنه يريد الدخول فتقدم ياسر وقال له: «لا يجوز الدخول قبل مجيء الخليفة، ولكن لا بأس من دخولكما خلسة من باب سري، فتجلسان في مكان لا يراكما فيه أحد، ومتي انتظم عقد المدعوين، تجلسان في هذا المكان مع جماعة الفقهاء.» وأشار لهما إلى المكان.
فسرَّ سعيد لهذه الفرصة، ودخل ومعه الفقيه ابن عبد البر، حتى وقفا وراء أحد الأعمدة في آخر البهو، بحيث يريان كل قادم، ولا يراهما أحد.
ولم تمضِ برهة حتى سمعا لغطًا ورأيَا الخصيان في حركة، فعلم الفقيه ابن عبد البر أن الخليفة عبد الرحمن الناصر قادم، فتهيَّب وظهرت الدهشة على وجهه، فأدرك سعيد ذلك، فالتفت إليه وقال: «أظن أن مولانا أمير المؤمنين قادم؟» فأومأ الفقيه ابن عبد البر برأسه أن: «نعم.»
ثم رأياه مقبلًا وقد تزيَّا بزي الخلفاء، فنظر سعيد إلى الفقيه كأنه يستفسره، فقال له بصوت خافت: «لو دخلت على أمير المؤمنين منذ بضع عشرة سنة لرأيت ملابسه تختلف عنها الآن، ولم ترَ هذا القضيب بيده، فإنه قضيب الخلافة، ولم يكن خليفة إلا منذ ذلك الحين؛ ولذلك تراه الآن يلبس العمامة المرصعة بالجواهر ويحمل القضيب بيده، وهذه بردته مثل بردة سائر الخلفاء، لكنه جعلها بيضاء تشبهًا بملابس أقربائه بني أمية بالشام، وترى تحت البردة قباء من الوشي، وهي من ملابس الأمويين في أيام دولتهم بالشام.»
كان الفقيه ابن عبد البر يتكلم بصوت منخفض يحذر أن يسمعه أحد؛ لخلو القاعة من الناس وهدوء المكان، وسعيد شاخص ببصره إلى عبد الرحمن الناصر يتبين ملامحه ويستطلع فراسته، فرآه أبيض اللون مشربًا بحمرة، أزرق العينين، وعلى محيَّاه هيبة وقوة، وقد مشى وبيده قضيب الخلافة، والجلال يتجلى في جبينه والذكاء ينبعث من عينيه، وقد وخطه الشيب، وشُغل سعيد على الخصوص بما على عمامته من الجواهر، والتفت نحو الفقيه فرآه يبالغ في الانزواء خوفًا من وقوع بصر الخليفة عليه، فقال له: «إن أمير المؤمنين فوق ما كنت أتصور، ويظهر لي مع أن والدته أمة نصرانية أن هيبة الخلفاء لم تنقص شيئًا.»