الفقيه في طريقه
فارق الفقيه ابن عبد البر صاحبه سعيدًا، وهو يتمنى لو طال الحديث بينهما في مسألة الأمير عبد الله؛ لأنه رأى في الطعن على الحكم وأبيه شفاءً لما تولَّاه من الخجل في ذلك الاحتفال. وكان قد نشأ في بيئة تميل إلى التعصب للتقاليد القديمة ورفض كل جديد، فرأى في انتقاد عبد الرحمن الناصر لاقتنائه الخصيان والتوسع في البذخ والترف بابًا للنقمة عليه، ولكنه كان غاضبًا على الحكم، فلما سمع ما قاله سعيد من حبه للفلسفة، أباح لنفسه التشهير به، ولم يشأ أن يتأكد من صحة الخبر خشية أن يكون كاذبًا فيضعف عزمه عن تحقيق ما يسعى إليه.
ظل الفقيه غارقًا في مثل هذه الهواجس معظم الطريق، وهو لا ينتبه لبغلته كيف تسير، ولا إلى أين تتجه، ولولا الخادم الذي كان يقودها، أو ينبِّه المارة لمسيرها لعثرت أو تاهت، وخاصة على الجسر؛ لأنه كان غاصًا بالناس بعد فراغهم من مشاهدة الاحتفال، ولما قطع الجسر قل الازدحام، وما زال الفقيه راكبًا حتى اقترب من قصر مروان، وهو منزل الأمير عبد الله، ولم ينتبه إلا وهو بالقرب منه، فاستوقف بغلته وأشار إلى الخادم أن يحوِّل زمامها نحو منزله لعلمه أن عبد الله لم يعد إلى قصره بعد، لاشتغاله بالحديث مع أبيه، أو أخيه، وهو مع ذلك يخجل من مقابلته.
ساق الفقيه بغلته إلى منزله، وهو على مقربة من قصر مروان، فترجَّل ودخل غرفة نزع فيها ملابسه وتهيأ للراحة، فجاء الطاهي يدعوه إلى المائدة ليتناول الطعام، فتذكر أنه جائع فنهض، وتناول طعامه وعاد إلى مجلسه، وأمر الخادم أن لا يُدخل عليه أحدًا التماسًا للراحة، وهو في الحقيقة يطلب الانفراد بنفسه خجلًا من الناس بسبب فشله في إلقاء الخطاب، حتى تهيأ له أن الناس جميعهم عيون تتغامز عليه أو تهزأ منه، لتلجلجه ولعثمة لسانه، وأصبح إذا لاحظ أن الخصيَّ يبطئ في تنفيذ أمره توهَّم أنه يفعل ذلك احتقارًا له بسبب ذلك الفشل أيضًا، وهذا راجع إلى ضعف الثقة بالنفس أو الجبن، ولو كان قوي الثقة بنفسه، لم يبالِ بفشلٍ قد يصيب كل إنسان، ولكان له من اعتداده بمواهبه الأخرى ما يُذهب عنه ذلة ذلك الفشل.
تناول الفقيه الطعام وهو منقبض النفس فعسر هضمه، فزاد ذلك اضطراب تفكيره وتجسيم فشله. فلما اختلى بنفسه أخذ يفكر فيما يشفي غليله، ويبرر موقفه بين يدي الأمير عبد الله، وكان لا يكف منذ انضم إليه يفتخر بفصاحته وقوة ذكائه، فكيف يظهر منه هذا الضعف؟! فلم يجد خيرًا من أن يزعم أن السبب ارتباك طرأ عليه لشيء شاهده في تلك الجلسة، ويُشرك عبد الله معه كي يحفزه إلى مشاركته في الانتقام، ولما خطر له هذا الخاطر ارتاحت نفسه، وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب، فنهض ولبس ثيابه وصفق، فجاء الخصي، فأمره أن يُحضر له البغلة، فركبها وسار يطلب قصر مروان، منزل الأمير عبد الله.
وكان عبد الله شابًا في مقتبل العمر. قد تثقَّف كما تثقف سائر أولاد عبد الرحمن الناصر، وشبَّ على حب العلم والأدب والتقوى والدين، ولم يكن حر الفكر مثل أخيه الحكم؛ ولذلك فإنه لم يكن يستريح لغير الفقهاء المتعصبين الذين ينكرون النظر في غير علوم الدين، ولم يكن يقتني غير كتب الأدب والدين، ولو بحثت فيما تحتويه مكتبته ما وجدت فيها ورقة في الفلسفة أو المنطق أو الطب أو غيرها من كتب الطبيعيات. وأما أخوه الحكم، فربما وجدت عنده كتبًا تحوي هذه الموضوعات، لكنه لم يكن يظهرها مجاراة للعامة في ميولهم.
وكان الأمير عبد الله صادق السريرة بغير دهاء أو تعقُّل، ونظرًا لتقواه وتديُّنه، فقد كان كل من يأتيه من جهة الدين يغلبه أو يتسلط على أفكاره؛ ولذلك كان يحترم الفقهاء ويقرِّبهم إليه وخاصة الفقيه ابن عبد البر؛ لما سبق إلى ذهنه من سعة علمه ومقدرته على حل المشاكل، ليس لدليل محسوس، وإنما اعتقد ذلك بناء على دعوى الفقيه لنفسه.