الوشاية
فرأى الأمير عبد الله أن في كلام الفقيه ابن عبد البر خروجًا عما ألِف سماعه منه، ولكنه كان حسن الظن فيه، فقال له: «لم يعدل الخلفاء عن أكبر أولادهم إلى سواهم إلا لأسباب تخالف شروط الخلافة.»
قال الفقيه: «هل يذكر مولاي الأمير عبد الله شروط الخلافة؟»
قال الأمير عبد الله: «أعرف أن لها عشرة شروط.»
قال الفقيه: «هل وجدت من بينها أن يكون الخليفة أكبر إخوته؟»
قال الأمير عبد الله: «كلا، ولا أن يكون ابن الخليفة السابق، فإذا عملنا بذلك، وجب اختيار ولي العهد من جمهور المسلمين، وإنما هي قواعد اصطلح عليها الخلفاء بعد أن اتسعت دولة الإسلام.»
قال الفقيه: «ما لنا ولهذا! دعنا منه، وقل لي إذا شئت: ما هي أهم شروط الخلافة، وأولها؟»
قال الأمير عبد الله: «أولها حفظ الدين على أصوله المستقرَّة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن ظهر مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبيَّن له الصواب وأخذه بما يلزم من الحقوق.»
قال الفقيه: «يكفي هذا الشرط، فهل هو متوفر في مولانا ولي العهد؟»
فاستغرب الأمير عبد الله سؤال الفقيه وقال: «كيف لا؟! دعنا من هذا البحث الآن.»
قال الفقيه: «دعنا منه إذا شئت، ولك الأمر يا سيدي. لكن لم يعد يمكنني كتمان ما في نفسي من الغيظ، بعد أن كتمته أعوامًا.»
فتفرس الأمير عبد الله في وجه الفقيه ابن عبد البر، فرأى الجد فيه، فقال: «وما هو؟»
قال الفقيه: «هل أقول ما في نفسي؟»
قال الأمير عبد الله: «قل، ولا بأس عليك.»
قال الفقيه: «ما برحت منذ أُسندت ولاية العهد إلى مولانا الحكم، وأنا أقول في نفسي: لماذا لا تكون لسيدي الأمير عبد الله؛ لعلمي أن شروط الخلافة أوفر فيك عنه. ينبغي لسيدي الأمير عبد الله أن يعتقد صدق نيتي في خدمة المسلمين، ولا يخفى عليك أني صنيعة مولاي الحكم، وأنا أعرف الناس به، وقد خدمت مولاي الأمير أيضًا واطلعت على الحقيقة في الأميرين، فكنت كلما خطر لي هذا الخاطر أشعر بانقباض، وأنا أكتم ذلك عن مولاي الأمير، وأما الآن فلا أجد بدًّا من التصريح بعد أن كدت أفتضح أو افتضحت في ذلك الموقف بالأمس، فلم أستطع كلمة أقولها، ولا أظن أن الأمير عبد الله ينسب ذلك إلى جهلي؛ فما هذه أول مرة وقفت فيها خطيبًا كما تعلم، ولكنني أعترف لك أني حين شاهدت مجلس أمير المؤمنين وأبنائه إلى جانبه، ورأيت تمييز الحكم بالولاية والشارة والمجلس مع علمي بفضل الأمير عبد الله وما ترجوه الأمة على يده، لم أتمالك عن الغضب، وانقبضت نفسي وشُغل خاطري حتى فقدت رشدي، فلما طلب إليَّ الكلام لم أستطعه كما رأيت.» قال ذلك، وقد بدا الاهتمام على محيَّاه وعينيه، وتندَّى جبينه بالعرق.
فلما سمع الأمير عبد الله كلام الفقيه، اعتقد في إخلاصه، لكنه لم يقتنع بانتقاده، فقال: «أراك تقول ما تقوله نتيجة غضبك لنفسك، فلا ينبغي لك أن تجعل ذلك ذريعة للطعن على ولي العهد، ولولا اعتقادي صدق سريرتك لم أصبر على سماع كلامك. إن الحكم أجدر مني بهذا المنصب من كل وجه؛ إنه أكبر مني سنًا، وأوسع علمًا، وأكثر خبرة.»
فخشي الفقيه عاقبة تصريحه، وكاد يغلب على أمره بين يدي الأمير عبد الله، فعمد إلى التخلص، فقال: «قد أسأت فهم مرادي يا سيدي؛ فما أنا طاعن على ولي العهد، ولكنني أقول ما أعرفه، ومع ذلك فأنت صاحب الرأي، وكنت أحسبك تؤمن بصدق نيتي في خدمة المسلمين. أنت أعلم مني بما صارت إليه الخلافة من الانغماس في الترف والانحراف عن خطة الخلفاء الراشدين. ألم ترَ ما يأتيه أمير المؤمنين من تقديم الخصيان دون سواهم حتى كادت السلطة تئول إلى غير أهلها. لا أخشى أن يحدث ذلك في عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر لتعقُّله وتقواه، ولكنني أخشى منه في أيام الحكم وهو لا يبالي.»
فقطع الأمير عبد الله كلام الفقيه وقال: «دع هذ الحديث أيها الفقيه وحدثنا بما يفيد، إني أراك قد تطاولت في طعنك إلى والدنا الخليفة عبد الرحمن الناصر صاحب هذه الدولة، وهو الذي أقام بنيانها وحارب الكفار وغلب الأعداء وناصر الدين!»
فابتدره الفقيه قائلًا: «حاشا لله أن أنكر عليه ذلك! وإنما أنا أخشى ممن يخلُفه. ألا تخشى على الإسلام إذا كان خليفته يقرأ كتب الفلسفة؟»
فصاح الأمير عبد الله: «كتب الفلسفة؟! تعني أن أخي يقرأ هذه الكتب؟ معاذ الله! وإذا فُرض أنه يقرؤها فما علينا إلا النصيحة له بأن يتركها.»
فابتسم الفقيه ابتسامة مصطنعة وقال: «ننصحه؟! هل تظن أنه يقبل النصح؟! فلنتركه عساه يهتدي!»
وشعر الفقيه أنه فشل في وشايته بالحكم، ولم يجد في نفسه قوة على الإقناع، وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وأقبل الظلام، ولم يشعر الفقيه بذلك إلا حين رأى أحد الخدم قد دخل وبيده مسرجة أضاء مسراجها، ووضعها على مقعد في أحد جوانب القاعة، فتذكر الفقيه سعيدًا الوراق، وما سمع من تعريضه بالأمر الذي باحث الأمير عبد الله فيه، فأجَّل الخوض في الموضوع ريثما يأتي، وكان على موعد من مجيئه في تلك الساعة.