مكتبة في قرطبة
قال جوهر خادم المكتبة: «مالي أري الناس في شاغل عن النسخ والمطالعة اليوم يا سيدي؟»
فأجابه سعيد صاحب المكتبة: «إن الناس في شاغل عن كل شيء بسبب رسل قيصر الروم، الذين جاءوا بالهدايا من قسطنطين بن ليون صاحب القسطنطينية، إلى مولانا أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر، فخرجوا من قرطبة لمشاهدة الوفد قبل وصوله. كأنك كنت غائبًا عن قرطبة؟»
قال جوهر: «لم أكن غائبًا، ولكنني لم أبرح هذه الدار منذ أسبوع يا سيدي.»
فانتبه إليه سعيد، وقال: «صدقت، إن الخليفة حين بلغه مجيء رسل ملك الروم أمر أن يُستقبلوا أحسن استقبال، وأرسل جماعة من خاصته يستقبلونهم في بجاية، وأن يحسنوا خدمتهم في الطريق، فوصلوا أمس إلى قرب قرطبة، فأمر بإرسال الجند والحاشية والخدم للقائهم، فاشتغل أكثر الناس بانتظارهم في الطرق، ومشاهدة موكبهم، فلم يأتنا أحد منهم.»
فقال جوهر: «ومن هم رسل ملك الروم؟»
فاستغرب سعيد سذاجة خادمه جوهر، وقال له: «إنهم أناس مثلنا. هل تحب أن تراهم؟»
قال جوهر: «نعم.»
قال سعيد: «ولكن ذلك غير مستطاع لأحد؛ لأن الخليفة عبد الرحمن الناصر أمر أن ينزلوا في الربض خارج المدينة، بمنية الحكم ولي العهد، وأن يُمنعوا من مخالطة الناس، وأن يقام الحجَّاب على أبوابهم حتى لا يخاطبوا أحدًا ولا يراهم أحد.»
فقال جوهر: «عجبًا! وهل يخشى منهم على دولته؟»
قال سعيد: «كلا، ولكن للملوك سياسة لا تفهمها. هذا الفقيه ابن عبد البر قادم، أعدد له المقعد، وضع له الدواة على المنضدة في غرفة المطالعة.»
ولم يُتمَّ سعيد كلامه حتى وصل ابن عبد البر، وهو من كبار الفقهاء في قرطبة، وقد شبَّ في حاشية الحكم ولي العهد، ثم لازم أخاه عبد الله بن الناصر. وكان عبد الله يحب العلماء وأهل الأدب ويُكثر من مجالستهم.
وكان ابن عبد البر هذا يتردد على هذه المكتبة مثل كثيرين من الأدباء ومحبِّي المطالعة. وكانت قرطبة يومئذٍ في أوج مجدها، واقتناء الكتب فيها من لوازم الرخاء — كما تقدم — بل هي كالأثاث لا يُستغنى عنها في بيت من البيوت؛ لأن الخليفة نفسه كان محبًا للعلم مقرِّبًا للعلماء، وشبَّ أولاده على ذلك، وخاصة الحكم ولي العهد، وأخوه عبد الله، واقتدى بهم سائر أهل الدولة، والناس على دين ملوكهم، فأصبحت تجارة الكتب من أروج التجارات عند الوجهاء وأهل الرياسة، فكثر الوراقون، وهم الذين يشتغلون ببيع الكتب ونسخها.
وكان سعيد صاحب هذه المكتبة قد أنشأها في الربض خارج قرطبة، في بيتٍ على ضفة الوادي الكبير (نهر قرطبة)، فهي تُطل على قرطبة عن بعد وبينهما النهر، وقد جعلها أشبه بنادي مطالعة أكثر منه بمستودع كتب، أو دار نسخ، فكان أدباء قرطبة يتوافدون عليها للمطالعة، أو الشراء، أو النسخ، فيلمسون من سعيد استئناسًا ولطفًا وتساهلًا، ويرتاحون لمعاشرته؛ لسعة اطلاعه ودماثة أخلاقه، وكان سعيد كثير الاحتفاء بالناس وخاصة بالفقيه ابن عبد البر، وكان هذا يظن أن احتفاء سعيد به راجع إلى رغبة الانتفاع منه بكتاب يبيعه بواسطته لولي العهد، أو لأخيه عبد الله بن الناصر؛ لأن الفقيه كان معدودًا من خاصة عبد الله، وكان هذا مغرمًا باقتناء الكتب، فإذا سمع بكتاب بذل في سبيله الأموال الطائلة حتى يقتنيه، وكثيرًا ما كان يبتاعها من عند سعيد بواسطة ابن عبد البر، ولكن احتفاء سعيد به كان لغرض آخر يبعُد عن ذهن الفقيه ابن عبد البر إدراكه.
فلما أطل الفقيه من باب الحديقة، خفَّ سعيد لاستقباله في الدار، ورحب به، فدخل وعلى وجهه أمارات الاستعجال، فتجاهل سعيدٌ ورحَّب به، وقال: «ما بال الفقيه قد أبطأ علينا اليوم؟ لعله كان في جملة الذين خرجوا لمشاهدة رسل القسطنطينية؟»
فقال الفقيه وهو يُخرج يده من جيب جبته، وفيها لفافة من الورق: «كلا، لم أذهب معهم، ولكني شُغلت بالمطالعة. هل في مكتبتك كتاب البيان والتبيين للجاحظ؟»
قال سعيد: «نعم، أظنك تشتغل بإعداد خطبة تتلوها في يوم الاحتفال باستقبال هؤلاء الرسل في حضرة الخليفة؟»
فضحك الفقيه ضحكة معجب بنفسه ولم يُجب، وظل ماشيًا وهو يصلح عمامته، ويُخرج منها قلمًا كان قد غرسه فيها حين قام مسرعًا من منزله لمراجعة شيء في كتاب «البيان والتبيين»، ومشى سعيد أمامه حتى وصل إلى مخزن الكتب، وهو غرفة واسعة فيها رفوف مثبَّتة في الحائط، وعليها الكتب مرتبة حسب موضوعاتها، وأكثرها من كتب الأدب، ولم يكن يتجاسر على إظهار كتب الطبيعيات، والفلسفة؛ لأن أصحابها كانوا متهمين بالكفر، وبدلًا من أن يأمر الخادم أن يُخرج كتاب «البيان والتبيين» ويقدمه للفقيه، أسرع سعيد بنفسه وأحضره إليه مبالغة في الإكرام، فتناول الفقيه ابن عبد البر الكتاب وجلس على المقعد المعد له وهو يقول: «إن هذا الكتاب عندنا منه عدة نسخ في مكتبة مولانا الأمير عبد الله، ولكنني أردت أن أخلو به هنا بجوارك يا صاحبي.»
فقال سعيد: «إن ذلك من حسن حظي يا مولاي.» وتركه وانصرف إلى ناحية من المنزل تطل على النهر، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل، فرأي الناس في الزوارق عائدين من استقبال رسل القسطنطينية، وعرف من حديثهم أن الرسل قد وصلوا إلى الربض، ونزلوا في منية الحكم فوقف برهة صامتًا واستغرق في تأملاته حتى نسي موقفه، ولم ينتبه حتى ناداه جوهر الخادم، فالتفت إليه، فإذا هو يشير له أن يأتي، فأسرع نحوه وهو يقول والدهشة بادية على وجهه: «إن ياسرًا فتى أمير المؤمنين.» وتلعثم لسان جوهر من الدهشة.