عبد الله يناجي نفسه
أما الأمير عبد الله فلما خلا بنفسه بعد ذهاب سعيد والفقيه، مكث برهة وأفكاره تائهة، والكتاب في يده يقلِّب صفحاته كأنه يتصفحه، ولكنه لم يكن يرى شيئًا لاستغراقه فيما أشارا إليه، وقد جاش في صدره أمرٌ لم يخطر بباله من قبل؛ فمنذ أن أُسندت ولاية العهد لأخيه، لم يخطر له أن أحدًا من الناس يراه أولى بها منه، ولا هو خطر له شيء من ذلك، ولكن الإنسان لا يبرح ضعيفًا متقلبًا ما دام محبًّا لنفسه يؤثرها على غيرها، ويرى فيها من الفضائل ما ليس في سواها، فهو ضعيف من هذه الناحية، بحيث إذا أردت إغراءه أو تحريضه على أمر لا تجده راغبًا فيه، فإنك إذا بينت له علاقته به وما يعود عليه منه، فإنه لا يلبث أن يهتم به.
والأمير عبد الله لم يكن يخطر له أن يزاحم أخاه الحكم على الخلافة؛ ولذلك فإنه استغرب تعريض الفقيه بشيء من هذا الشأن وانتهره. لكنه ما إن اختلى وحده حتى أخذ يناجي نفسه، ويحدثها بما لا يمكن أن يكاشف به أحدًا. وأفكار الإنسان من حيث مكاشفة الآخرين بها ثلاث طبقات؛ الأولى: أسرار يُطلع عليها أصدقاءه ومعارفه. والثانية: أسرار لا يُطلع عليها إلا أخصَّ أصدقائه أو زوجته، ولا يتجاوز بها غيرهم، وهو حريص على كتمانها عن سواهم. وهناك خواطر لا يُطلع عليها أحدًا، ولو علم أن سواه يعرفها لتنغص عيشه وافتضح أمره، وتنطوي هذه الخواطر على حقيقة ضمير الرجل وكنه طبيعته، وقد يكون ثمة بينها وبين ما يُظهره للناس من أفكار تناقض عجيب، وقد تتقارب ولا تختلف إلا قليلًا، وأكثر الناس دهاءً أبعدهم ما بين ظاهرهم وباطنهم.
ولم يكن الأمير عبد الله من أهل الدهاء، ولكن ما سمعه تلك الليلة أثار في قلبه الحسد لأخيه على ولاية العهد، وبالغ في كتمان ذلك حتى ود لو يكتمه عن نفسه، وفكر في حاله وعجزه عن مناوأة أخيه، فأخذ يتعلل بما يغنيه عن أبهة الدولة ويبعده عن متاعب الملك، فقال في نفسه: «إن متاعب الحكومة كثيرة، وما الذي يرجوه الإنسان من دنياه غير التمتع بالحياة بأيسر الطرق وأنفعها؟! وأنا لا ينقصني شيء من مطالب الحياة وضروراتها، وليس عليَّ من واجبات الخلافة ما يشغلني عن مطالعة الكتب والتبحر في العلم، ولا ينقصني شيء من الوسائل التي للخلفاء لتهيئة أسباب الراحة والنعيم.» وخطر بباله على الفور ما سمعه تلك الليلة من عابدة، فأحس براحة ولذة وقال في نفسه: «إن جلوسي مع هذه الفتاة أطارحها الأشعار، وأحادثها وأسمع غناءها خير من الأمر والنهي، وما ينوبهما من تعب القلب وخشية الفتنة أو الحذر من أهل الدس وغيرهم.»
وكان يفكر في ذلك وهو واقف أمام منضدة عليها كتاب «العقد الفريد»، وأخذ يقلِّب صفحاته والحاجب واقف بالباب، ينتظر أمره فيما يريد من وسائل الراحة. ثم انتبه الأمير عبد الله لنفسه، فالتفت فرأى المائدة لا تزال هناك وعليها الفاكهة، فتناول تفاحة وقطعها وأكل جانبًا منها وهو غارق في بحار الهواجس، ولم ينشرح خاطره لأنه لم يستقرَّ على رأي يعوِّل عليه، فأخذت الخواطر تتقاذفه بين أن يصغي لقول الطاعنين على أخيه الحكم، أو يبقي على ما كان عليه من حسن الظن فيه.
وأخيرًا رأى أن حسن الظن أدعى إلى السلامة والوفاق، فطرد تلك الخواطر من ذهنه، وأراح ضميره من جهة أخيه، وذهب إلى فراشه، فعادت إلى ذهنه صورة عابدة، وتذكَّر ما سمعه من حديثها فأحس بلذة، وشعر أن وجودها في منزله من أكبر أسباب التسلية، وأخذ يمنِّي نفسه بمجالستها والتمتع بأدبها.
بات الأمير عبد الله تلك الليلة على عزم الإخلاص لأخيه الحكم، والتسليم له بحق ولاية العهد، فلما أصبح الصباح دخل مكتبته، وكانت تشغل قاعة كبيرة ثُبِّتت على جدرانها رفوف وُضعت عليها الكتب بدون ترتيب، فوضع كتاب «العقد الفريد» في صدر كتب الأدب بحيث يسهل تناوله عند الحاجة إليه، وأخذ يقلِّب ما بين يديه من كتب الفقه والحديث، ويعود إلى الأدب والشعر، فكان يرى مشقة في الوصول إلى الكتب، فأخذ يعلل نفسه بترتيبها متى عاد سعيد.