رسول ولي العهد
مضى معظم النهار ولم يعد سعيد ولا الفقيه، فلما كان الأصيل سئم الأمير عبد الله من الانتظار، فتذكر عابدة، فأمر ساهرًا حاجبه أن يأمر القهرمانة بإرسالها إليه في القاعة؛ ليستمتع بحديثها ريثما يأتي سعيد والفقيه أو أحدهما، وقد أحس بشوق إلى لقياهما كي يعاود حديث الأمس، ويُظهر لهما ما عوَّل عليه من إغفال أمر ولاية العهد، ويتوقع أن يوافقاه على رأيه، فيزداد رسوخًا في الأمر.
وعاد الحاجب يقول للأمير عبد الله: «إن جاريتك عابدة آتية.» فأمره أن يعد مائدة من الفاكهة والحلوى وألوان الشراب المنعش، فأعدها الخدم في غرفة الأمس، وجلس الأمير عبد الله وبيده كتاب «الشعر والشعراء» لابن قتيبة يقلِّب في صفحاته.
وبعد قليل جاءت عابدة، وهي أجمل مما كانت بالأمس، فتلقاها بالترحاب وأمرها بالجلوس، وسألها عما إذا كانت تُحسن العزف على العود.
فأجابت عابدة: «نعم.»
فأمر الأمير عبد الله بإحضار عود، فتناولته عابدة، ولاحظ عليها علامات الخجل والانقباض، فظن أن ذلك بسبب انشغالها لغياب سعيد، فابتدرها قائلًا: «كيف وجدت نفسك عندنا يا عابدة؟»
قالت عابدة: «إني بخير يا مولاي. وكيف لا أكون سعيدة وأنا في رعايتك؟!»
قال الأمير عبد الله: «يظهر أنك في شاغل لغياب سعيد! وأنا أيضًا في قلق لغيابه، ولكنه لا يلبث أن يأتي قريبًا ولن يتكرر غيابه.»
فلما سمعت عابدة ذكر سعيد صعد الدم إلى وجهها، فظن الأمير عبد الله أن ذلك نتيجة الخجل، ولم يعلم ما يختلج في قلبها من الهيام بسعيد، فقال: «لا يلبث سعيد أن يأتي، وقد شعرت بالحاجة إليه في هذه الساعة، حين دخلت مكتبتي وجدت الكتب فيها مبعثرة، وسأكلفه بترتيبها. إنه رجل حكيم، وقد وقع من نفسي موقعًا حسنًا، ويكفي من فضله أنه كان السبب في معرفتك.»
فازداد تورد وجنتيها، وعمدت إلى التخلص، فقالت: «لعل هذا السبب الأخير أقل حسناته بالنسبة إلى مولاي الأمير، وأما بالنسبة إلى هذه الجارية فهو فضل كبير.»
ففرح الأمير عبد الله من رقة أسلوبها، وتحقق أنها راضية بالإقامة في قصره، فقال: «لا، بل الفضل له عليَّ في ذلك، وأرجو أن أستطيع مكافأته على هذا الصنيع.»
فتنهدت عابدة وقالت وهي تصلح العود في حجرها: «إن سعيدًا يستحق ثقة مولاي الأمير، وإذا اختبره وجده حكيمًا عاقلًا صاحب رأي وهمة يتفانى في خدمته.»
فقطع الأمير عبد الله كلامها بلطف وقال: «لا نريده إلا سالمًا معافًى، ولنا فيه خير مساعد يرتب مكتبتنا، ويهدينا إلى ما نطلبه من الكتب النفيسة.»
قالت عابدة: «نعم، ولكنه يفيد في كل أمر يستشار فيه.» قالت ذلك وهي تتشاغل بإصلاح وتر معوج، وأظهرت عند الفراغ من هذه الجملة أن العود قد تم إصلاحه، وعزفت عليه لحنًا من الألحان المطربة، وغنَّت فطرب الأمير عبد الله، وتقدم إليها ببعض الفاكهة والحلوى، وأخذ في تقريظ الصوت الذي سمعه وإطراء أدائها له، وهي تتواضع وتجيد في العزف والغناء، والأمير عبد الله متكئ على وسادة لا يزداد إلا إعجابًا بالفتاة وطربًا، وقد قرر أن يكتفي بها عن سائر مطامع الخلافة.
وبينما هما في ذلك، إذ دخل الحاجب ووقف بحيث يعلم الأمير عبد الله أنه يريد أن يخاطبه، فالتفت إليه وأشار بيده يسأله عن غرضه فقال: «إن بالباب رسولًا من مولانا ولي العهد يحمل كتابًا إلى مولاي الأمير.»
قال الأمير عبد الله: «ولي العهد؟» وقد ساءه الرجوع إلى شيء من أمره.
فقال الحاجب: «نعم يا سيدي.»
فقال الأمير عبد الله: «أين الكتاب؟»
فخرج الحاجب وعاد والكتاب بيده، فسلمه إلى الأمير، فتناوله وهو يجلس، وفضَّه وحوَّل وجهه نحو نافذة يدخل منها النور، وأخذ يقرؤه وقد توقفت عابدة عن الغناء، وأخذت تراقبه، فرأت على وجهه تغيرًا وهو يتفرس في الكتاب ويعيد قراءته، ثم اعتدل في مجلسه وطوى الكتاب وجعله تحت الوسادة، وأراد التظاهر بعدم الاكتراث، ولم يخفَ على عابدة ما تولاه من الاضطراب، ولكنها لم تعرف السبب، فرأت من الأدب أن تبقى صامتة تنتظر أمره.
أما الأمير عبد الله، فإنه بعد أن أطرق برهة وقف وتظاهر أنه يطلب حاجة في الغرفة الأخرى، فمشى نحو الباب ثم رجع كأنه تذكر شيئًا يستدعي رجوعه، وجلس في مكانه وعاد فأخرج الكتاب من تحت الوسادة وأعاد قراءته، ثم شعر بما ظهر من قلقه بين يدي عابدة، فأراد أن يوهمها بغير الواقع فقال: «ما بالك لا تغنِّين يا عابدة؟»
فتناولت العود، وقالت: «خشيت أن أشغل مولاي عن قراءة الكتاب، ولعل فيه ما يهمه أو يدعو إلى إعمال الفكر فيشوش عليه عودي.»
قال الأمير عبد الله: «ليس فيه شيء.» وبدا الانقباض على وجهه، ثم قال: «غني يا عابدة. غني ما شئت.»
فأخذت عابدة العود وغنت أغنية أخرى، فأوقفها الأمير عبد الله وقال: «غني قول عمرو بن كلثوم الذي ذكرته بالأمس:
فأدركت من طلبه أن في الأمر سرًّا غاظه، وكانت قد علمت أن الكتاب جاءه من أخيه ففهمت بعض الشيء، فأخذت تغني وتجوِّد وهو يترنَّح لها والغضب ظاهر على محيَّاه.