كتاب آخر
ولما فرغوا من تناول الطعام انتقلوا إلى قاعة الاستراحة، وعادوا إلى سماع الغناء وسعيد يبالغ في مدح عابدة، والأمير عبد الله يزداد طربًا بصوتها وإعجابًا بأدبها وجمالها، حتى انتصف الليل وكادوا ينصرفون، وإذا بساهر الحاجب يدخل وبيده كتاب، ووقف حيث يعلم الأمير عبد الله أنه يريد مخاطبته، فناداه وقال: «ماذا تريد يا ساهر؟»
قال ساهر: «كتاب يا سيدي.»
قال الأمير عبد الله: «من الذي أرسله؟»
فتقدم ساهر به إليه وهو يقول: «من مولانا ولي العهد.»
فمد الأمير عبد الله يده وتناول الكتاب من ساهر، فعلم من عنوانه أنه من أخيه الحكم، فاختلج قلبه في صدره تطلُّعًا لما عساه أن يكون فيه، ولا سيما أنه بعث به إليه في تلك الساعة، وكانت يداه ترتعشان وهو يفضُّه، وتطاول الحاضرون بأعناقهم وهم يتكهَّنون بما يحويه الكتاب، سوى سعيد، فإنه كان يعرف ما يحويه، ولم يفُته خبر الكتاب الأول لأنه هو الذي حفَّز ولي العهد على كتابته دون أن يشاهده، ولكنه استخدم في الوصول إلى ذلك دهاءه وحسن تدبيره.
ففض الأمير عبد الله الكتاب وقرأه، ولم يتمالك أن رمى به إلى سعيد وقال له: «لقد صدق ظنك بأخينا ولي العهد؛ هذا هو كتابه، اقرأه.»
فتناول سعيد الكتاب وهو يقول: «وهل أقرؤه بصوت مسموع؟»
قال الأمير عبد الله: «اقرأ، فليس فينا من يحسن الحذر منه.»
من الحكم ولي العهد، إلى أخيه الأمير عبد الله
أما بعد، فإني استبعدت أن تكتب إليَّ بما كتبت، وكدت أُنكره عليك لو لم يكن بخطك وعليه خاتمك. أطلب منك جارية فتضن بها عليَّ؟! وأنت — رعاك الله — لا تجهل منزلة أخيك ولي العهد لدى أمير المؤمنين، فإذا قرأت كتابي هذا فأرسل الجارية مع رسولي الليلة، وعهدي بفطنتك وحسن تدبيرك أنك فاعل إن شاء الله، والسلام.
وكان سعيد يقرأ الكتاب ويقف عند كل فقرة، ويهز رأسه استغرابًا، حتى أتى على آخر الكتاب فدفعه إلى الأمير عبد الله وأطرق، وكان الأمير عبد الله وهو يسمع ما يحويه الكتاب ينظر إلى عابدة، فرآها قد تركت العود من يدها وقد بدت الدهشة على محيَّاها، وتظاهرت بأنها تتهيأ للنهوض، فعظم ذلك على الأمير عبد الله، فلما أعاد سعيد الكتاب إليه تناوله وقال: «أرأيت ما بلغ من طمع أخي فيَّ؟ أصانعه وأجامله وألتمس رضاه وهو يهددني ويلحُّ في طلبه!»
فقال سعيد وهو يُظهر الدهشة: «لم يكن ذلك ليخطر ببالي أو أصدقه لو لم أقرأ هذا الكتاب بنفسي!»
فقال الفقيه بنغمة الفائز الظافر: «أما أنا فلم أكن أستبعده، وقد أشرت إلى مولاي الأمير عبد الله بمثل ذلك؛ لأني كنت أتوقعه، وهو — حفظه الله — يُحسن الظن بأخيه، وربما أساء الظن بي، وحسبني أقول ما قلته لغرض لي، فهذا كتابه جاء شاهدًا يؤيد قولي، فما عليك يا مولاي إلا الطاعة، فإن الرفض يجرُّ إلى البلاء.»
فكبر على الأمير عبد الله تهديد الفقيه واستخفافه بعزمه أمام الفتاة فقال: «الطاعة؟! وهل لولي العهد الحكم طاعة عليَّ في مثل ذلك؟! لم يبقَ إلا أن يطلب نسائي وأولادي إليه، أو لعله يريد أن أكون في خدمته أيضًا!» قال ذلك وهو يهز رأسه.
فقطعت عابدة كلامه وهي تهمُّ بالنهوض قائلة: «لا أريد أن أكون سببًا في الخلاف بين الأمير وأخيه، فأولى بي أن أخرج أنا من هذه الدار وأعود إلى خبائي، أو أرجع إلى بلدي، ولست أنا أهلًا لأن أكون موضع نزاع. لقد عهدنا أبناء الخلفاء يتنازعون على الخلافة، ولكنهم يتهادَون الجواري والمغنيات والمقاطعات.»
فمد الأمير عبد الله يده إليها وأمسك بثوبها وأجلسها، وقد هاجت فيه الأريحية وقال: «ألا تعلمين أن خروجك من قصري إهانة لي، كأني عاجز عن حمايتك فيه. كيف يتسنى لأخي أن يأخذك مني قسرًا؟ وإن تمكن من ذلك فإنني أخرج من هذا القصر قبلك.» قال ذلك وقد ظهر الغضب في عينيه.
فجلست عابدة وهي تتظاهر بالإذعان والانكسار، وتنظر إلى سعيد كأنها تستنجد به.
فنظر سعيد إلى الأمير عبد الله وقال: «تمهَّل يا مولاي. أعرني سمعك لحظة.»
فسكت الأمير عبد الله وقال: «تكلَّم، إني مستمع إليك.»
فتلفت سعيد في أطراف القاعة، كأنه يخشى أن يسمعه أحد، وقال: «هل نحن في مكان مصون لا بأس علينا إذا تكلمنا من واشٍ أو رقيب؟»
قال الأمير عبد الله: «تمهَّل»، وصفق، فجاء الحاجب، فقال له: «لا تدع أحدًا يقرب من مجلسنا.»
قال الحاجب: «سمعًا وطاعة يا سيدي» وخرج وأغلق الباب خلفه.
فقال الأمير عبد الله لسعيد: «تكلم.»
فأرسل سعيد نظرة في عيني الأمير عبد الله نفذت إلى داخل أحشائه، فأحس أنه طوع إرادته. فقال سعيد: «لا ينبغي للأمير عبد الله أن يخرج عن رشده ويطعن على أخيه ولي العهد الحكم ويرد طلبه، إلا وهو على يقين مما يؤدي إليه ذلك من العواقب الخطرة، فعليك أن تتبصَّر في العواقب ثم تقول ما تريد، وقد ظهر لي من تلاوة هذا الكتاب أن ولي العهد كتب إليك كتابًا مثله يطلب فيه عابدة فرددت طلبه، فأعاد الطلب مشفوعًا بالتهديد والوعيد، فعليك إذا أزمعت الرفض أن تثبُت فيه مهما كلَّفك ذلك، وإلا فأذعن وأطع، وكأنك لم ترَ عابدة ولا أتت إلى قصرك.»
فقطعت عابدة كلام سعيد قائلة: «اسمح لي يا سيدي أن أنبهك إلى أمر لعله لم يغب عن فطنتك. إني لا أري من الحكمة أن تحمل الأمير عبد الله على مخاصمة أخيه وهو صاحب القول اليوم، ولا أراه يستطيع أن يرد طلبه، ولا أحب أن أكون سبب هذا الخصام، فالأفضل أن أخرج أنا من هذا المكان أولًا، فيكون عذره أني غير موجودة هنا، وأخشى إذا رد مولانا الأمير طلب أخيه وأنا باقية هنا أن يعمد إلى أخذي بالقوة، وأنا أعترف لك أني لا أريد بديلًا عن سيدي الأمير عبد الله، فلا أبرح هذا المكان إلا قتيلة.»
فأعظم الأمير عبد الله تعلق عابدة به مع ما يتخلل قولها من العتاب الرقيق، وأخذته الحمية فقال: «قلت لك يا عابدة إنك في رعايتي، ولا يستطيع أحد أن يأخذك قهرًا.»
فقال سعيد: «إذا كان مولاي الأمير عبد الله عازمًا على الرفض فليفعل، ولعله إذا تبصَّر في عاقبة ذلك يكون قد حقق ما فيه نفعه ونفع المسلمين.»
فأطرق الأمير عبد الله برهة وهو يفكر في مغزى كلام سعيد، فتصدى الفقيه ابن عبد البر للكلام قائلًا: «أرجو أن يكون مولاي الأمير قد أدرك مغزى هذا القول، وأنا أزيده بيانًا.» قال ذلك وزحف حتى التصقت ركبته بركبة الأمير عبد الله وقال بصوت منخفض: «أتذكر يا مولاي ما قلته لك بالأمس عن ولاية العهد وما يقوله الناس عن أمير المؤمنين، وإسناده إياها إلى الحكم دون سواه؟ قلت لك يا مولاي إن الحكم لا يراه الناس كفئًا لهذا المنصب لأسباب ذكرتها لك. وهم غير راضين عنه، لكنهم لا يجسرون على الكلام إن لم يجدوا من يطالب بها سواه، وهم يرون الأمير عبد الله أولى بها من الجميع، فإذا طلبها وجد أنصارًا كثيرين، فإذا وافقتني وقمت بهذا الأمر، فما عليك إلا أن تقول.»