الجواب الثاني
وكان الأمير عبد الله في أثناء ذلك مطرقًا يفكر وقد رجع إليه صوابه، وأحس بثقل الأمر الذي يدفعونه إليه، وندم على ما فرط منه، لعلمه بعجزه عن القيام به. لكنه استثقل الرجوع عن كلامه في الحال، فرأى أن يحتال في التخلص فقال: «أرى كلام صاحبنا سعيد أقرب إلى الصواب، فإننا ينبغي لنا قبل الإقبال على هذا الأمر أن نتدبر وننظر فيه قبل أن نشعل نارًا لا نقوى على إطفائها. لا سيما وأن أمير المؤمنين هو صاحب الدولة اليوم، فقيامي بما تدعونني إليه يعد خروجًا عليه، وهو لم يتعرض لي في شيء، ولا أرى عمل أخي الحكم إلا من عند نفسه، قد ارتكبه عن طيش، ولعل والدي أمير المؤمنين إذا علم به أثناه عنه.»
فقال سعيد: «لقد قلت الصواب يا مولاي ورأيت رأي أهل الحزم والعقل. فماذا تنوي إذن؟ هل تطيع أخاك فيما طلب؟»
قال الأمير عبد الله: «كلا، بل أردُّه، فإذا أصرَّ عليه رفعت الأمر إلى أمير المؤمنين.»
فقال الفقيه: «لا أرى من الحكمة أن تضيِّع هذه الفرصة التي سنحت لك؛ إنها فرصة ثمينة يا مولاي، ولا تخشَ شيئًا، إن في قرطبة ألوفًا في انتظار كلمة من الأمير عبد الله ليبايعوه. وإذا أطعتني وعملت برأيي أدلك على الطريق، وإلا فالرأي لك.»
فنظر الأمير عبد الله إلى سعيد كأنه يستشيره فقال سعيد: «إن ما يقوله الفقيه قرين الصواب، وأنا أعلم الناس بخفايا هذا الأمر، وأزيد على ما قاله أن في قرطبة عصابات قوية تجتمع في الخفاء، وهي ناقمة على أمير المؤمنين نفسه لخروجه في خلافته عن سائر الخلفاء الراشدين، وتقريبه الخصيان والصقالبة والعبيد دون أصحاب هذه الدولة ورافعي علم الدين الحنيف، وهم يرون أن الدولة ستنتهي بذلك إلى غير أهلها. وكانت الآمال متعلقة بمن سيخلفه، لعله ينهج طريقًا غير طريقه، ويرجع إلى الصواب، وكانت أفكارهم تتجه إلى مولاي الأمير عبد الله يأملون أن تصير الخلافة إليه، فلما رأوا أباه بايع أخاه الحكم ولم يبايع الأمير عبد الله، قُطع حبل آمالهم ويئسوا من الإصلاح، فإذا طلبها مولانا الأمير وجد من يشد أزره، وإلا فإذا ظللت على بيعة الحكم فأنا مبايعه معك، وليس من الحكمة التسرع في نقض البيعة، فأنا لا أشير عليك بأن تفعل أو لا تفعل، ولكنني أقول ما أعلمه وأنت صاحب الرأي.»
فأُعجب الأمير عبد الله بما تضمنه حديث سعيد من الإخلاص والحزم وصدق النصيحة؛ لأنه ظل يعد نصيحة الفقيه ابن عبد البر مشوبة بالغرض، بسبب نقمته على أخيه الحكم، وهو الذي حرمه من منصب القضاء، فقال: «لله درُّك من حكيم عاقل! وقد فهمت مرادك، فهل ترى سرعة البدء؟»
فأجاب سعيد وهو يُظهر الجد: «لا، بل أنا أدعوك إلى التبصر في العواقب، فإن ظهورك بمنازعة أخيك الحكم على ولاية العهد أمر عظيم، يؤدي إلى فتن وحروب؛ إذ لا يسهل على الحكم التنازل عن شرف قلَّده إياه أبوه، ولا يصح للأمير عبد الله أن يطلب ذلك المنصب ثم يرجع عنه صاغرًا. وإذا رجع هو فأنصاره الذين سيقومون بنصرته لا يرجعون حتى يُسندوا الخلافة إلى أهلها الذين يعرفون قدرها، ويقومون بشروطها؛ لأن قيام هؤلاء ليس حبًّا في شخص الأمير عبد الله، ولكنهم أحبوا فضائله اللائقة بالخلافة رغبة في مصلحة أنفسهم، فإذا طالب بها هو ثم رجع عنها طلبوها لسواه. أرانا قد خرجنا عن الموضوع، ونحن في مسألة طمع ولي العهد الحكم بعابدة، فإذا رجع عن طلبه لم يبقَ ثمة داعٍ للعجلة في مناوأته، وإلا فنرى ماذا يكون.»
وكان الأمير عبد الله والفقيه وعابدة شاخصين إلى سعيد، يسمعون كلامه ويعجبون لما يبديه من الحماس، ولا سيما الأمير عبد الله، فإنه فهم أشياء لم تكن تخطر بباله، فهم أن ثمة عصابات وأحزابًا تُنكر مبايعة أخيه الحكم وتحب مبايعته، ولو كان من أهل المطامع لاتخذ من طلب أخيه ذريعة لشن حرب عليه، لكنه كان ضعيف العزيمة، وإنما سيق إلى ذلك بالإغراء، وظل مع ذلك يخشى مناهضة أخيه الحكم ويخشى سطوة أبيه، فرأى أن يعمد للمسالمة، وساعده على ذلك ما سمعه من سعيد فقال: «قد علمت أشياء لم أكن أعلمها.»
فقطع الفقيه كلامه قائلًا: «والذي علمته أقل من الواقع يا مولاي، وستكشف لك الأيام قدر نفسك، وتعلم أنك رجاء الألوف وألوف الألوف.»
فأومأ سعيد بيده إلى الفقيه وقال: «لا ينبغي أن تحرِّض مولانا الأمير، فإن الصبر أولى والتأنِّي لا بد منه، فالآن ما الذي يراه مولانا؟»
قال الأمير عبد الله: «إني أرى الفقيه متسرعًا، وأوافقك يا سعيد على التأني وطول الأناة؛ ولذلك فأنا مرجئ هذا الأمر إلى فرصة أخرى؛ لأني لا أزال أرى أن أمير المؤمنين سينصرني ويقف في طريق أخي، فيرده عن هذا التعدي، فإذا لم يفعل ذلك فالأيام بيننا.»
فقطع سعيد كلامه قائلًا: «نعم الرأي رأيك، وربما أدرك أمير المؤمنين عند اطلاعه على عمل ولي العهد أنه أساء الاختيار فيما عهده إليه، فيرجع إلى الصواب وينقل ولاية العهد إليك.»
فازداد الأمير عبد الله تمسكًا برأيه، فقال: «فإذن نؤجل ذلك إلى فرصة أخرى، ونبحث الآن في طلب أخي.»
فقالت عابدة: «مهما يكن من رأي الأمير في طلب أخيه فأنا خارجة بأمره من هذا القصر.» قالت ذلك ونهضت وهي تجمع خمارها إلى صدرها، وقد ألقت العود من يدها.
فأمسك الأمير عبد الله بطرف ثوبها وأجلسها وقال لها: «كيف تخرجين؟»
قالت عابدة: «أخرج بأمر مولاي لأني أصبحت سببًا في النزاع مع أخيه و… و…»
فقطع الأمير عبد الله كلامها قائلًا: «لقد أمرتك بألا تخرجي، وقد قلت لك إنه لن ينال قلامة من ظفرك، وها أنا سأكتب إليه رد رسالته الساعة.» والتفت إلى سعيد كأنه يستشيره فيما يكتب.
فقال سعيد: «اكتب إليه بما أرى ولا تشدد الوطأة، فإن الحكمة تقتضي حسن الأسلوب لئلَّا تتغير القلوب، وإذا سمحت لي أن أكتب عنك كتبت، فإذا استحسنت ما أكتبه وقَّعتَ عليه وإلا رفضته.»
قال الأمير عبد الله: «اكتب.»
من الأمير عبد الله إلى أخيه الحكم ولي العهد
أما بعد، فقد تسلَّمت كتابك، وعجبت لإلحاحك في طلب تلك الجارية بعد أن اعتذرت إليك عن إرسالها، وأنت مع ذلك تهددني وتعرِّض بما لك من المنزلة عند أمير المؤمنين — حفظه الله — وأمير المؤمنين أكبر من أن يجاريك في طلبك، ولعلك تحسب ذلك من حقوق ولاية العهد! على رسلك، ليس هذا من الصواب في شيء، وقد رأينا الخلفاء في الدولتين: الأموية بالشام، والعباسية في العراق، وفي دولة آل مروان هنا، إذا أكرموا أحد أبنائهم بولاية العهد عوَّضوا على سائر الأبناء والأعمام بالعطايا الجزيلة، ووسَّعوا لهم في أرزاقهم ووالوهم بالهدايا من الجواري والسراري والقصور والإقطاعات، فإذا علمت ذلك رجوت أن تعدل عن رأيك إلى ما هو جدير بك، في مراعاة حرمة أخيك بعد أن هنَّأك بما نلته من حق الخلافة، وأنت أعقل من أن تغيِّر قلبه عليك، ونحن أحوج إلى التكاتف على عدونا من الانقسام فيما بيننا، والسلام.
فلما فرغ سعيد من الكتابة دفع الكتاب إلى الأمير عبد الله، فقرأه، فأعجبه أسلوبه، ولم يدرك ما فيه من التهديد، فوقَّع عليه وختمه، ونادى الحاجب وأمره أن يدفع به إلى الرسول. ففعل.