ختام الجلسة
أما سعيد فأراد أن يشغل الأمير عبد الله عن ذلك الشأن، فقال: «هل يأمر مولاي أن يسمع أغنية من عابدة قبل الذهاب إلى النوم، أم يفضل سماع الأحاديث والأشعار؟»
قال الأمير عبد الله: «نسمع شيئًا من أخبار العرب.»
فالتفت إلى عابدة وقال: «قصِّي علينا ما تعرفينه يا عابدة.»
قالت عابدة: «وما عساي أن أقول بعد ما سبَّبته من الخلاف بين الأمير عبد الله وأخيه ولي العهد الحكم؟! أود لو أني لم أُخلق، أو أني لم أخرج من بغداد ولا أكون سببًا لهذا الخلاف.»
فقطع الأمير عبد الله كلامها قائلًا: «أنت تنقمين على وجودك، ونحن شاكرون له؛ لأنك ريحانة مجلسنا، وإذا وقع خلاف بيني وبين أخي، فهل هو أول خلاف وقع بين أخوين؟! ولو استطعت الصبر على الضيم لم أرضَ بالخلاف، ولكن أخي تجاوز حدَّه. ما لنا ولذلك؟! قصِّي علينا ما يسلينا ساعة ثم ننصرف.»
فقصَّت عابدة بعض الأخبار وأنشدت بعض الأشعار بعبارة فصيحة زادت الأمير عبد الله تعلقًا بها، وأخيرًا ذهب كل منهم إلى فراشه، ولكل منهم هاجس، وأشد تلك الهواجس عند الأمير عبد الله.
فإنه حين توسد الفراش أخذ يراجع صيغة كتابه إلى أخيه، فتذكر عبارات لا تخلو من الشدة، ولكنه استسلم للقضاء، وقال في نفسه: «لعلها فرصة يعود خيرها عليَّ!» واستسهل العمل بمشورة الفقيه في المطالبة بولاية العهد، وعلل نفسه بأن أباه لا يدع الخلاف يتمكن بين الأخوين إلى هذا الحد.
فكان للفقهاء في الدول الإسلامية يومئذٍ نفوذ عظيم، وقد يكون الخليفة أو السلطان المسلم لا ينكر الفلسفة ولا يعتقد مخالفتها للدين، ولكنه يضطهد أصحابها مراعاة لشعور العامة.
على أن الفلسفة لم يكن لها وجود في الأندلس إلا بعد زمن الناصر؛ أي بعد أن دخلتها رسائل إخوان الصفا في أواسط القرن الرابع. فنبع فيها ابن باجة، وابن رشد، وابن الطفيل في القرن السادس للهجرة. أما في أيام الناصر التي نتحدث عنها، فقد كان قرَّاء الفلسفة قليلين، وكان قد دخل بعض كتب الفلسفة في أيام عبد الرحمن الأوسط، فأخذ بعضهم بشيء منها ومن علم النجوم والرياضيات، ولم ينبغ من العلماء في هذه الفنون إلا عدد قليل، وإنما كان رجال الدين يحرمون هذه الموضوعات اقتداءً بالدولة العباسية، فإنها كانت تطارد رجال الفلسفة وتتهمهم بالكفر في أوائل التمدن الإسلامي.