ياسر كبير الخصيان
فتعجَّب سعيد لمجيء ياسر في ذلك اليوم، وكان قد سمع بخروجه، هو وتمَّام الفتى الآخر، لاستقبال رسل الروم مبالغةً في إكرامهم؛ لأن ياسرًا، وتمَّامًا، كانا كبيرَي الخصيان في القصر، بما يشبه «الباش آغا» في ذلك العهد، وكان للخصيان في ذلك العهد أيضًا سطوة ونفوذ؛ لأنهم أصحاب الخلوة مع الخليفة عبد الرحمن الناصر وحرمه، وبيدهم القصر السلطاني، فإرسال كبيرَي الخصيان لاستقبال هؤلاء الرسل يُعد من المبالغة في الإكرام.
وكان ياسر طويل القامة، أبيض الوجه؛ لأنه من الصقالبة البيض، أزرق العينين، غائرهما، عريض ما بينهما، بارز الوجنات، أجرد الوجه مثل سائر الخصيان.
فاستقبله سعيد ورحَّب به، فرأي على وجهه انقباضًا، فتجاهل وقال له: «أهلًا بالأستاذ ياسر!» ودعاه للدخول إلى قاعة المطالعة للاستراحة.
فردَّ ياسر التحية لسعيد بصوت رفيع كصوت الأطفال مثل أصوات سائر الخصيان، ولم يبتسم كعادته، ولكنه أطاع سعيدًا ومشى معه حتى جلس على مقعد قدَّمه له، فجلس وهو يتلفت، فقال له سعيد: «هل يلزم مولاي شيء من الكتب أو الورق فأحضره؟»
قال ياسر: «لا، ولكنني حسبت الفقيه محمد بن عبد البر دخل هذا المكان!»
قال سعيد: «نعم يا سيدي، وهو يطالع في الغرفة الأخرى. هل أدعوه؟»
قال ياسر: «كلا، دعه في عمله.»
فأراد سعيد أن يعرف ما تنطوي عليه نفسه، فقال له: «ألم تذهب اليوم يا سيدي لاستقبال رسل صاحب القسطنطينية؟»
قال ياسر: «نعم، ذهبت وأنا عائد الآن، وقد وصل القوم إلى الربض، فأقمنا عليهم الحراس حتى يأمر أمير المؤمنين بإحضارهم إليه.» قال ذلك، وفي نفسه شيء يكتمه.
فقال سعيد: «أعتقد أن يوم استقبالهم سيكون حافلًا. أين يكون ذلك يا ترى؟»
قال ياسر: «في القصر الزاهر من قصور الخلافة. إنهم يهيئون المكان منذ أيام.»
قال سعيد: «كنت أظن أن أمير المؤمنين يستقبل هؤلاء الرسل في قصر من قصور الزهراء الفخمة؟»
فقال ياسر: «ولكن مولاي الأمير أمر أن يهيئوا القصر الزاهر لهذه الغاية.»
قال سعيد: «إنه سيكون مشهدًا جميلًا في داخل القصر.»
فأدرك ياسر أن سعيدًا يرغب في الحضور، فقال له: «إذا شئت الحضور فادخل في رفقة الفقيه ابن عبد البر فلا يعترضك أحد. وإن كنت أنا في جملة المستقبِلين فلا بأس عليك.» قال ذلك وبلع ريقه كأنه يخفي امتعاضًا خامره، وكان سعيد يرقب كل حركة تبدو منه، فلما لاحظ استياءه، قال وهو يُظهر الدهشة: «وهل هناك شك في أن تكون أنت ضمن المستقبِلين؟! لا ريب أنك ستكون في المقدمة.»
فقال ياسر وفي صدره شيء يريد التصريح به ليشفي ما في نفسه من الغيظ، ولكنه أمسك نفسه وقال: «ربما لا أكون هناك.» فضحك سعيد وأظهر أنه لم يصدق كلامه، وقال: «كلا، إنك ستكون في صدر البهو. إني أعرف منزلتك عند أمير المؤمنين.»
فنهض ياسر فجأة ووضع أنامله على فم سعيد، كأنه يتلطف في إسكاته، وابتسم وقال: «كانت تلك المنزلة؛ ولكن …» وخشي أن يخونه لسانه فيقول ما يندم عليه، فتظاهر بتغيير الحديث، وقال: «إني أري أناسًا قادمين إليك، ولا أحب أن يعلم أحد بمجيئي إلى هنا اليوم. أستودعك الله.» قال ياسر ذلك وخرج تاركًا سعيدًا يفكر في سبب مجيئه، وفيما بدا منه من الألفاظ القليلة العدد، الكبيرة المعنى، وقد أهمه الاطلاع على ما في نفس ياسر.
وبعد قليل أخذ الناس يتوافدون إلى منزل سعيد، وكل منهم يشتغل بشيء من كتابة أو نسخ أو مطالعة، وإذا أرادوا الاستفهام عن أمر صعب عليهم عمدوا إلى سعيد، وهو يرشدهم إلى ما يريدون. وكانوا يعتقدون الصدق فيما يقوله ولو خالف الحد المعقول؛ لأنه كان قوي الحجة، قوي الدليل، وكان في عينيه ما يشبه المغناطيس، إذا تفرس في عيني جليسه تغلَّب عليه كأنه جذبه بقوة مغناطيسية، فلا يشعر جليسه إلا وهو طوع إرادته.
وكان سعيد الوراق هذا في نحو الأربعين من عمره، صحيح البنية، عريض الكتفين، قوي العضل، كبير الرأس، تتجلي الرزانة في جبينه، والذكاء في عينيه، والثبات حول شفتيه. لا يباحث أحدًا من الناس إلا أقنعه، وكان خفيف العارضين واللحية، قلَّما يضحك، ولكن الابتسام دائمًا في وجهه. وقد مضى عليه بضع سنين يشتغل بالوراقة في قرطبة، أو تجارة الكتب، ولم يعامله أحد إلا أُعجب بأخلاقه العالية وذكائه المفرط، فكان الأدباء من الفقهاء وأهل الدولة يترددون على منزله كما يجتمع الناس في نادٍ للمطالعة والاستفادة، ولكنه كان يشترط أن يكون ذلك أثناء النهار، فإذا غربت الشمس أغلق منزله.
فلما رأى سعيد أن الناس يتوافدون على مكتبته في ذلك اليوم أمر خادمه بتقديم ما يحتاجون إليه، ولم يكن جوهر خادمه خصيًّا مثل سائر خدم قرطبة، فإن أهلها قلدوا أميرهم باقتناء الخصيان على اختلاف أجناسهم وكانت كثيرة يومئذٍ، وكانوا يأتون بهم من أطراف العالم إلى دار الإسلام، وخاصة الأندلس لأنها كانت أكثر الممالك الإسلامية رخاءً في ذلك العهد، وإنما كان خادم سعيد بربريًّا من أهل المغرب في غاية السذاجة.