طبيب ماهر
كان عبد الله يراقب حركات سعيد في انتقاء الكتب حسب الموضوعات، وربما ساعده في فرزها وهو في شغل من نفسه بأمر أخيه وعابدة. ونحو الظهيرة أحس بتعب وانحراف في صحته، فأخبر سعيدًا بأنه مضطر للراحة، وبقي سعيد ثم جاء الفقيه، فلما قيل له إن عبد الله في فراشه أخذ يعاون سعيدًا ويحادثه، ويتكهن كل منهما بما عساه أن يكون جواب الحكم على كتاب عبد الله الأخير مع ما فيه من المغامز، فكان الفقيه يزعم أنه موقن بما سيكون حتى قال: «كأني أرى جند الحكم وأعوانه قادمين للقبض علينا وعلى عابدة.»
فهز سعيد كتفيه كأنه يقول «لا أعلم»، ثم قال: «لا أحسب أن ولي العهد يفعل ذلك، ومهما يكن من أمر، فإن عابدة لن تذهب إليه ولو رضي الأمير عبد الله.»
فضحك الفقيه واقترب من سعيد، وفي يده كتاب ينفض عنه الغبار ويقدمه إليه ليضعه في مكانه وقال: «وخلاصة القول: إن النفور قد وقع بين الأخوين، ولا يلبث أميرنا أن يوافقنا على القيام ضده، وأنت ترشدنا إلى الأحزاب المناصرة لنا، فلا يمضي العام إلا وقد انتقلت ولاية العهد أو الخلافة إلى صاحبنا.»
فنظر سعيد في عيني الفقيه، وقد استغرب تسرُّعه في الحكم، كيف أنه تصوَّر بلوغه إلى أقصى المراد وهم لا يزالون في أول الطريق، بل هم لم يخطوا خطوة واحدة بعدُ! ومن الناس من تراه سريع التمسك بحبل الأمل، حسن الظن بالدهر إذا تصور عملًا يعود عليه بالنفع، فبمجرد التصور أو الظن يحسب أن الأمر قد قُضي وأنه سينال ما يريد، فهذا وأمثاله لا يرون الدنيا إلا من وجهها الأبيض، ويعبَّر عنهم بالمتفائلين؛ لأنهم لا يتوقعون دائمًا إلا الخير، وكان الفقيه منهم؛ خلافًا للفئة الأخرى التي لا يتوقع أصحابها في أعمالهم إلا الفشل وهم المتشائمون.
ولم يكن سعيد من المتفائلين أو المتشائمين، وإنما كان يقيس المستقبل على ما يراه في الحاضر، فكان رأيه في نتيجة تلك المغامرة يختلف عن رأي الفقيه، ولكنه كان لدهائه يتظاهر بالجهل والسذاجة حتى يوحي بما يريد الإيحاء به من الأغراض، وكان ينظر إلى الفقيه كأنه طفل لا يعرف من أحوال الدنيا شيئًا؛ ولذلك فإنه يستطيع أن يوجهه كيفما يشاء.
قضوا ذلك النهار في المكتبة، والأمير عبد الله لم يغادر فراشه، ولما أمسي المساء ذهب الفقيه للسؤال عن الأمير، فقيل له إنه محموم، وعنده ساهر الحاجب، فاستأذن في الدخول عليه فأذن له، وسأله عن حاله ثم قال له: «ألا تأمر بطبيب يراك؟»
قال عبد الله: «وأي طبيب؟»
فهز رأسه وقال: «لا هذا ولا ذاك.»
فقال الفقيه «أو إذا شئت استشرت سعيدًا صاحبنا؛ فإنه عالمٌ بفن العلاج مثل علمه بسائر العلوم، إنه رجل عجيب.»
فلما ذكر سعيدًا أحس الأمير عبد الله بارتياح وقال: «إن هذا الرجل من نوادر الزمان، وأشكر الله على أني وُفقت للوصول إليه، ولك الفضل في ذلك.»
فأطرق الفقيه تأدُّبًا وقال: «في الحق إن سعيدًا نادر المثال.»
فقال الأمير: «وعابدة؟ أليست نادرة المثال أيضًا؟ هل رأيت فتاة أديبة تعرف الشعر والغناء مثلها؟» وكأنه تذكر حديث الأمس فانقبضت نفسه، فابتدره الفقيه قائلًا: «هل يأذن سيدي في استقدام سعيد لعله يصف لك علاجًا؟»
قال عبد الله: «ادعُه، إن لم يكن للعلاج بدوائه فللاستئناس برؤيته.»
قال عبد الله: «قد جمعته في هذه القارورة.» وأشار إلى الغلام فأتاه بقارورة فيها البول. فتناولها سعيد وتطلَّع إليها هنيهة ثم قال: «إن مولانا مصاب بحمَّى غضبية، وهذا النوع من الحمَّى لا خوف منه، وإن اشتد.»
فأُعجب عبد الله بسرعة تشخيصه، ووافق ذلك ما في نفسه؛ لأنه كان يعتقد ذلك، وكانت هذه الحمَّى معروفة عندهم بهذا الاسم، فقال: «أظنك عرفت الحقيقة؛ لأني أصبت بها مرة من قبل وشُفيت منها. يظهر أنك طبيب ماهر.»
قال سعيد: «إن معرفة هذه الحمَّى أمر يسير.»
قال عبد الله: «كيف عرفتها؟ وعلى من قرأت الطب؟»
قال سعيد: «تعلمته بالمزاولة على إمام الأطباء الشيخ محمد بن زكريا الرازي رئيس بيت الشفاء في بغداد، وهو الذي دبَّر مارستان الري وألَّف كتاب الحاوي الذي يعتمد عليه الأطباء اليوم في دار السلام.»
قال عبد الله: «صدقت، إن الرازي إمام أهل الطب، ولكنني أحسبه مات.»
قال سعيد: «نعم، إنه مات منذ بضع عشرة سنة. وقد جاء في كتابه المشار إليه وصفٌ كافٍ عن هذه الحمَّى.»
قال عبد الله: «وما العلاج؟»
فقال الفقيه: «لله درُّك من طبيب نطاسي! إن العلاج سهل. أما المفرحات فهذه عابدة قريبة، وعودها رخيم، والحمَّام الفاتر سهل المنال.»
فأشار عبد الله إلى الغلام أن يعدَّ له حمامًا فاترًا، والتفت إلى سعيد، وقال: «سأدخل الحمام بعد قليل، ومتي خرجت منه تأمر عابدة أن تغنينا أغنية مفرحة.»
فنهض سعيد وهو يقول: «سأعود إلى الأمير بعد قليل ومعي عابدة. عجبًا لها من فتاة، لها نفع كثير!»
وخرج ومعه الفقيه ثم أحضر له المروخ ليتمرَّخ به عند الخروج من الحمام، وبعد ساعة بعث الأمير إليه أنه استحمَّ وتمرَّخ، فجاء سعيد ومعه عابدة تحمل عودها، وجاء الفقيه ودخلوا على الأمير في غرفته، وأخذت عابدة تعزف على عودها وتغنِّي، وكان الأمير قد أحسَّ براحة منذ خرج من الحمام، فانشرح صدره لسماع الغناء، واستأنس بالفتاة وزاد تمسكًا بها، وشعر براحة تامة كأنه لم يكن به بأس، فلما انقضى جانب من الليل أشار سعيد عليه بالنوم مبكرًا التماسًا للراحة، فأطاعه، وخرجوا على أن يبكروا في الغد، وذهب كل إلى منزله في قصر مروان.
وفي صباح اليوم التالي خلا سعيد بعابدة يعلِّمها شيئًا من الشعر، وهي إنما كانت تتلذذ بمجالسته شغفًا بحديثه وتمتعًا برؤيته؛ لما علمته من تعلقها به، فقد كانت تهيم به وتتفانى في حبه، ولا تبالي بما تتجشمه في سبيل طاعته.