قصر الزهراء
وبعد أن قطعوا الجسر عرجوا غربًا بجوار القصر الكبير، ثم ساروا شمالًا يطلبون الزهراء، وهي سفح جبل أسود على بعد أربعة أميال من قرطبة، والطريق بينها وبين قرطبة صحراء رملية.
أقبلوا على الزهراء عن بعد قبيل الظهر، وكان يومًا صحوًا صفا جوه، فبدت أبنية الزهراء كالجبال الراسخة تتخللها الأغراس من الشجر والرياحين، وتنعكس الأشعة على جدرانها الملونة بأنواع الرخام، أو الأصباغ، وبينها القباب والمآذن والقناطر والعقود والأعمدة، وعليها النقوش والصور. عدا الأحواض فوقها التماثيل من المرمر المصفح بالذهب، فدهش سعيد لتلك المناظر ولم تكن أول مرة رأى فيها الزهراء، ولكنه لم يكن قد تبيَّن تفاصيلها، فرأى أن يلهو بقية الطريق بالاستفهام عنها، فنادى الرسول الصقلبي، فوقف، فقال له سعيد: «إني أرى الزهراء أعجب ما صنعه الآدميون!»
قال الرسول: «نعم يا سيدي، لقد أجمع الذين شاهدوها أنها أعظم ما صنعه الإنسان، وقد تكلفت ما لا يقدَّر من النفقات، فإن أمير المؤمنين أخذ في بنائها منذ بضع عشرة سنة، ولا يزال العمل جاريًا، ولا أظنه يفرغ قبل مرور عدة سنوات.»
قال سعيد: «هل تعرف كم بلغ مقدار هذه النفقات؟»
قال: «لا أعرف مقدارها تمامًا، ولكنني أعلم أن عدد الفَعلة فيها ١٠ آلاف عامل، وعدد الدواب ١٥٠٠ دابة، وقدَّروا ما يُستهلك فيها من الصخور المنحوتة كل يوم بستة آلاف صخرة سوى الآجرِّ. وأما الرخام فهو كثير في هذا القصر كما ترى، ومع ذلك فإن أمير المؤمنين يُثيب عن كل رخامة صغيرة أو كبيرة عشرة دنانير، ولم يدع بلدًا فيه رخام إلا بعث في شراء رخامه حسب الأنواع. فجلب إليها الرخام الأبيض من المربية، والمجزع من رية، والوردي والأخضر من اسفاقس وقرطاجنة، وفي أحد هذه القصور حوض من الرخام منقوش بالذهب، أحضره من القسطنطينية. فتأمل هذه الهمة العالية! هل سمعت بمثلها بين الملوك؟»
فأحب سعيد أن يستزيده شرحًا عما في تلك القصور من مظاهر البذخ والإسراف فقال: «لم أسمع بمثلها، ولكنني سمعت عن ملوك لا يكتفون بالرخام في أبنيتهم، وإنما يُدخلون فيها فضلًا عن ذلك الذهب والفضة.»
فقطع الصقلبي كلامه، وقال وهو يضحك ويشير بيده إلى قصر نحو الشرق: «هل ترى هذا القصر الشاهق هناك؟ إنك لا ترى منه إلا ما يكاد يخطف البصر من الأشعة اللامعة المنعكسة عن الجدران والنوافذ، ولو اقتربت منه لرأيت عجبًا، إن هذا القصر يُعرف بالمؤنس، ويسمى أيضًا المجلس الشرقي، وفيه غرف النوم، وفي هذا البيت اثنا عشر تمثالًا من الذهب الأحمر مرصعة بالدرِّ النفيس من إنتاج دار الصناعة في هذه المدينة، بينها صورة أسد إلى جانبه غزال فتمساح، وغيرها من أنواع الحيوانات مصنوعة من الذهب المرصع، ويخرج الماء من أفواهها إلى حوض كبير. إن بناء هذا القصر كلَّف أمير المؤمنين مبالغ طائلة، ولم يعتمد في الإشراف على بنائه على غير ابنه ولي العهد، ولا يزال العمل جاريًا فيه.
وقد سمعت صديقًا لي من خصيان هذا القصر يقول: إن أمير المؤمنين ينفق ثلث جباية المملكة في بناء هذه القصور.»
فصاح سعيد: «ثلث الجباية! إن ذلك كثير. أتعرف مقدار الجباية يا صاحب؟»
فقال سعيد: «فاحسب كم يبلغ ثلثها! إن هذا القول لا يخلو من مبالغة.»
فقال سعيد: «لا تستهن بمقدار الجباية، ولكنني سمعت من بعضهم أن مقدار النفقة تبلغ كل عام ٣٠٠٠٠٠٠ دينار، فانظر كم يجتمع من ذلك حتى يتم البناء في أربعين سنة.»
وكانت عابدة تسمع حديثهما وتعجب، وتاقت نفسها إلى رؤية ما هنالك من التحف، وقد ذهبت وحشتها من ذلك الانتقال.
وكانوا يقتربون شيئًا فشيئًا حتى أقبلوا على باب الزهراء الأول، ويُعرف بباب الأقباء، وقد وقف عنده الحرس من الفرسان العبيد وبعض الحشم، فلما رأوا الصقلبي عرفوا أنه رسول الخليفة، ففتحوا له حتى دخل بالهودج، وسعيد معه يتفرَّس في وجوه الناس هناك، فرأى أكثرهم من العبيد. فمشى مسافة حتى أقبلوا على الباب الثاني من أبواب الزهراء، ويُعرف بباب السدَّة وهو عظيم قائم على أعمدة، وعليه البوَّابون وأعوانهم بالملابس الخاصة بهم، وبعد أن دخلوا هذا الباب جعلوا يمرُّون بين الأشجار وبينها طرقات مرصوفة بالحصى الملونة، وقد تزينت جوانبها بالرياحين والأزهار، ونظر سعيد إلى ما حوله فوجد نفسه محاطًا بالقصور من كل ناحية، وأول ما استقبله القصر الممرد وفيه السطح الممرد يجلس فيه الخليفة في الاحتفالات الكبرى، وإلى يساره قصر الخلافة يجلس فيه الخليفة للعمل، وإلى اليمين قصر المؤنس وفيه غرف النوم وغرف الجواري.