مجلس الخليفة
قال ياسر: «حسنًا.» ومشى وسعيد يمشي إلى جانبه، واتجهت أنظار الخدم نحوه هذه المرة؛ لأنه مع ياسر رئيس الخصيان، وهو صاحب النفوذ الأكبر في قصر الناصر، والناس لا يعرفون ما جدَّ في العلاقة بينه وبين الخليفة، ولكن سعيدًا شُغل عن كل ذلك بفخامة قصر الخلافة، فما أطل على بابه حتى بهره ما زُيِّن به من الذهب، وما على عتبته من بديع النقش، وقد وقف الحجَّاب تعظيمًا لياسر، فحيَّاهم ثم سألهم: «هل عند أمير المؤمنين أحد؟»
فأجابه رئيس الحجَّاب: «ليس عنده سوى القاضي منذر بن سعيد.»
فتذكر سعيد هذا الرجل وقد حضر خطبته يوم الاحتفال برسل ملك الروم، وأدرك أنه إنما نال منصب القضاء بسبب ذلك.
أما ياسر فدخل وسعيد معه، فدهش سعيد بداخل ذلك القصر أضعاف ما أدهشه مظهره الخارجي؛ فقد كانت جدرانه الداخلية مبطنة بالرخام السميك الملوَّن على اختلاف أنواعه، وسقفه قد طُعِّم بالذهب، فمشيا في دهليز حتى انتهيا إلى باحة كالبهو، سقفها مزيَّن بأنواع الأصبغة المذهبة، والصقالبة وقوف بالحراب والسيوف، وكان سعيد يمشي ولا يتكلم، وقد أخذ بذلك البذخ العظيم، ولاحظ ياسر دهشته فقال: «أراك قد دهشت لما تراه ونحن لم ندخل مجلس الخليفة بعدُ، فإذا دخلته فهناك الدهشة حقًّا.»
فقال سعيد: «وهل في الإمكان أفخم من ذلك. لقد شاهدت قصور الخلفاء في بغداد ودمشق فلم أرَ مثل هذا.»
قال ياسر: «إن أولئك كانوا يستنكفون من استخدام الذهب في أبنيتهم. امكث هنا حتى أدخل وأعود إليك.»
فوقف وشُغل بمشاهدة ما على رخام الجدران من الرسوم الجميلة المحلَّاة بالذهب، وما على الأرض من الطنافس المزركشة، وبينما هو في ذلك إذ رأى الحجَّاب الصقالبة في حركة كأنهم يتأهبون للسلام على قادم، فالتفت فرأى منذر بن سعيد خارجًا من مجلس الخليفة، فأصبح يتوقع سرعة استدعائه إليه، لكنه مكث طويلًا ولم يُطلب فشُغل خاطره. ثم جاءه أحد الخصيان يطلب إليه الدخول على أمير المؤمنين، فدخل متأدبًا، وكان قد شاهد الناصر في قصره بقرطبة يوم استقبال رسل ملك الروم، وكان أبناؤه إلى جانبيه. أما في ذلك اليوم فلم يكن في مجلسه سواه بعد أن صرف قاضيه منذر بن سعيد.
فلما دخل سعيد على الخليفة رآه في صدر المجلس جالسًا على سرير من الذهب الخالص، والمجلس المذكور قاعة كبيرة جدًا في وسطها بركة يأخذ لمعانها بالبصر؛ لأنها مملوءة بالزئبق تقع عليه أشعة النور من نوافذ في جدران المجلس، يغشاها زجاج ملوَّن، فيتلون سطح الزئبق ألوانًا جميلة يزيدها لمعان سطحه جمالًا.
ومع رباطة جأش سعيد وكِبر نفسه لم يتمالك عن الدهشة من فخامة ذلك المجلس، ولو نظر إلى السقف لرأى قراميده من الذهب والفضة مرتبة في هندسة جميلة، ولكنه اشتغل بالمثول بين يدي الخليفة فوقف عن بعد، وحنا رأسه ثم حيَّا الناصر بتحية الخلافة فقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته»، وظل واقفًا، فوقع صوته في أذني الناصر موقعًا جميلًا، فأشار إليه الناصر بأن يتقدم، فدار حتى وقف بين يديه، فأومأ إليه أن يجلس فجلس، وياسر لا يزال واقفًا، ثم انصرف ياسر ولم يبقَ في ذلك المجلس الكبير إلا الخليفة وسعيد.
وتأدَّب سعيد في جلوسه، وأطرق فوقع بصره على الزئبق فشغله لمعانه الباهر، ولكنه مكث صامتًا ينتظر أمر الخليفة، وكان قد لاحظ على وجه الناصر انقباضًا، وكأنه شاهد في عينيه دموعًا، فافتتح الخليفة الكلام فقال: «أين الجارية التي بعث بها ولدنا؟»
قال سعيد: «هي في قصر أمير المؤمنين، استلمها عبده ياسر رئيس الخصيان.»
قال الناصر: «من أين أتيت بها؟ بلغني من كتاب ولدي هذا أنك صاحبها تعلِّمها وتهذِّبها.»
قال سعيد: «هي يا أمير المؤمنين جاريةُ أدبٍ ومنادمةٍ من مولَّدات بغداد.»
قال الناصر: «بلغني أنها تُحسن الغناء أيضًا؟»
قال سعيد: «نعم يا سيدي، إنها كذلك.»
فقال الناصر وهو يمشط لحيته بأنامله: «بارك الله في بغداد؛ إنها لا تزال تأتينا بالتحف والذخائر! وهل أنت من بغداد أيضًا؟»
قال سعيد: «إن عبد أمير المؤمنين من هذه الديار، ولكنني رحلت إلى بغداد والشام في طلب الكتب وجمع نوادر الأدب.»
قال الناصر: «بلغني أنك من نوابغ الرجال.»
فوقف سعيد تأدبًا وحياءً وقال: «لست شيئًا من ذلك، ولكنني أكون كما يشاء أمير المؤمنين.»
فقال الناصر وهو يشير إليه أن يجلس: «اجلس ولا ينبغي أن تتهيَّب من مجلسنا، فقد علمت من خادمنا ياسر أنك من أهل العلم الواسع، ونحن نحب العلم ونكرم العلماء.»
فتحفز سعيد للوقوف ثانية، فأجلسه الخليفة وقال: «قلت لك لا تتهيَّب. إن العلماء ملوك العقول، ولا يستغني ملوك الرقاب عنهم. كن مطمئنًا، ولأزيدك اطمئنانًا أقول لك: انظر إلى عينيَّ.»
فرفع سعيد بصره ونظر في عيني الخليفة فرأى الدمع فيهما، وأحس الخليفة عند وقوع بصره على بصر سعيد بقوة أثرت فيه، كأنَّ سعيدًا أرسل من عينيه أشعة نفذت إلى أحشاء الناصر، ولكنه أتم حديثه فقال: «أرأيت الدمع في عيني؟ إنه من احترامنا لأقوال أهل العلم. أرأيت قاضينا خارجًا الآن؟»
قال سعيد: «نعم يا مولاي.»
قال الناصر: «وقد كان عندي الساعة، ولعلك تعلم أني وليته القضاء بالأمس، فما عتَّم أن خطب في المسجد وجعل موضوع كلامه نقد تشييد البنيان والإفراط في الزخرفة والإسراف في الإنفاق، وأغرق في ذلك، فعرفت أنه ينتقد ما أنشأته من هذه الأبنية، فما ملكت أن بكيت، ثم استقدمته إليَّ اليوم لأسأله عما أراده، فما كتمني قصده، وأتاني بآيات من القرآن الكريم تقبِّح عملي، فأشفقت على نفسي وبكيت، وإنما صارحتك بهذا القول لتطمئن نفسك وتُخلص لي الخدمة.»
فحنا سعيد رأسه وقال: «إني عبد أمير المؤمنين وطوع إرادته.»
قال الناصر: «إني أعرفك قبل الآن يا سعيد، وقد طالما قرأت اسمك على الكتب التي أُحضرت لنا على يدك، فهل عندك كتب جديدة؟»
قال سعيد: «لا يخلو الأمر من كتب سأعرضها على أمير المؤمنين، ولكنني أتيته بكتاب حي ناطق لا يُسأل عن أدب أو شعر إلا نطق به.»
فشخص الناصر فيه كأنه يستفهم منه عما يقصد، فقال: «أعني الجارية عابدة التي صارت في قصر الزهراء الآن؛ فهي تغني عن الكتب، وقد انقطعت عن سائر الأعمال في سبيل تعليمها.»
قال الناصر: «سنحضرها ونشنِّف أسماعنا بحديثها. وأما الآن فاصدقني، قد بلغني أنك بارع في فن التنجيم!»
فقال سعيد: «ذلك شيء تعلمناه من الصغر، ولا يزال بعضه عالقًا بالذهن.»
قال الناصر: «إن خير العلم ما أُخذ في الصغر؛ لأنه يكون كالنقش في الحجر.»