التنجيم
وقد كان الملوك في عصر الاستبداد يشعرون بحاجتهم إلى المنجمين؛ لكثرة من كانوا يحيطون بهم من أهل الدسائس والمتملقين، فهم لا يثقون بهم ولا يرون لهم غنًى عنهم، فإذا كانوا يؤمنون بالتنجيم استعانوا به على استطلاع الأسرار وكشف المؤامرات. وكان الناصر قد سمع عن سعيد الوراق من قبل، وعن مهارته في كل فن، ولما دخل عليه ياسر بكتاب ابنه عبد الله ذكر سعيدًا بالخير، وأطرى علمه وبراعته في التنجيم، فوقع من نفسه موقعًا حسنًا، ولم يكن الناصر ساذجًا، فلم يشأ أن يستسلم لسعيد قبل أن يتدبر أمره، فسأله عن قبيلته فقال له ياسر: «إنه غريب لا أهل له، ولا يهمه غير الاشتغال بالكتب وبيعها.» فسبق إلى ذهنه حسن الظن به وفتح له قلبه من أول لقاء، وحينما كلمه شعر بقوة فيه ارتاح لها، وتوقع أن يكون عونًا له.
أما سعيد فلم يفته شيء مما جال في خاطر الناصر، فأخذ يستعد لتدبير ما جاء من أجله فقال: «لا ينبغي لمولاي — حفظه الله — أن يستسلم لحقير مثلي، ولا أن يركن إلى التنجيم كثيرًا فإنه قد يخطئ.»
فأُعجب الناصر بتواضعه وزاد ثقة به، فقال: «إن قولك هذا يزيدني ثقة بعلمك، فإني لم أرَ بين المنجمين الكثيرين في قصري من يعترف بالقصور مثلك.»
فرفع سعيد بصره إلى الناصر وحدق في عينيه وقال: «ولكنني لا أحب أن أُدعى منجمًا، فإذا شاء مولاي أن ينتفع بشيء من علمي فأرغب إليه أن يكتم خبري عن خاصَّته، ولا يعدَّني في جملة المنجمين، بل يجعلني في جملة الخدم، ويتخذني معلمًا لتلك الجارية، وأنا لا أدخر وسعًا في بذل روحي في خدمته من كل وجه.»
فاستحسن الناصر رأيه وقال: «سأفعل ذلك، أما الآن وقد فُتح الحديث، فأخبرني بما يدلك عليه علمك من حالنا، قل لا تخف.»
قال سعيد: «إني لا أخاف شيئًا، ولكني أطلب إلى مولاي أن يثق بحسن النية فيما أقول، وربما كان في بعضه ما يخالف اعتقاده.»
فاستبشر الناصر بشيء يطلع عليه فقال: «قلت لك قل ولا تخف. أخرج كتابك وانظر إليَّ، وقل ما يدلك عليه علمك.»
فمد سعيد يده إلى جيبه وأخرج كتاب التنجيم، ففتحه وأخذ يقلِّب فيه، وينظر إلى الناصر ويعيد النظر إلى الكتاب، ويعد على أصابعه ويلتفت إلى أشعة الشمس تارة وإلى بركة الزئبق تارة أخرى. ثم تظاهر بالارتباك، وقال: «أعفني يا سيدي من الحديث اليوم.»
قال الناصر: «لن أتركك حتى تحدثني عما ترى.»
فاعتدل في مقعده وأعاد النظر في الكتاب ثم قال: «إني أرى الخوف يأتي أمير المؤمنين من أكثر الناس ثقة عنده.» وسكت وهو يقلِّب في صفحات الكتاب ويراقب ما يبدو من الناصر.
أما الناصر فكان لكلام سعيد وقع شديد على سمعه، وقد أثار أفكارًا كانت كامنة في قلبه، ولكنه غالط نفسه وتظاهر بالإصغاء كأنه يسمع بقية الحديث.
ولم يفت سعيدًا ما جال في خاطر الخليفة، فاستأنف الكلام قائلًا: «أخشى أن يكون مولاي أمير المؤمنين قد ندم على طلبه وإلحاحه.»
فقال الناصر: «كلا، بل العكس، فإني مصغٍ لما تقول، لكن نصف الخطاب ليس له جواب. قل، صرِّح بالحقيقة.»
قال: «يظهر أن مولاي يظن أن المنجم يستطيع تعيين الأشخاص، فإذا كان قد قيل له ذلك من قبل فإن القائل ليس من المنجمين، أو أنه يزعم للتنجيم قوة فوق قوته. إن هذه الصناعة يمكن أن تمتزج بالدجل مما لم أتعود عليه، وأنا لا أقول إلا ما تدلني عليه الصناعة تمامًا، وهي إنما تشير إلى الأوصاف والأحوال، وقد قلت لسيدي إن الطالع دلني على أن الخوف في دار أمير المؤمنين من أكثر الناس ثقة عنده وأقربهم مودة إليه، ولو سألني عن اسم ذلك الرجل أو تلك المرأة فلا يكون جوابي إلا من قبيل الرجم بالغيب.»
فأُعجب الناصر بما رآه من صدق لهجة الرجل وعزة نفسه، ولكنه توهَّم أنه يشير إلى أناس لا يريد الناصر أن يرتاب فيهم، ولا هو يرتاب في صدق المنجم، فأصبح في حيرة وندم على أن عرَّض نفسه للشك؛ لأنه كان شديد الحرص على ذلك الحبيب موضع ثقته، وهي الزهراء؛ إذ لم يكن أعز منها على قلبه، ولا يريد أن يدع سبيلًا لسوء الظن بينه وبينها؛ نظرًا لولعه بها وشدة تعلقه بحبها، وقد أنفق الأموال في تشييد تلك القصور لأجلها، فكيف يسبب الشقاء لنفسه بالشكوك، وهو لا يرى له غنًى عنها بوجه من الوجوه، وقد امتلكت فؤاده وغلبته على أمره، فلم يرَ خيرًا من قطع الحديث أو تحويله فقال: «لله درُّك من حكيم خبير! قد فهمت مرادك، وسنعود إلى إتمام المقال. أما الآن فيحسن أن نرى تلك الجارية الأديبة.»
فأسرع سعيد إلى طي الكتاب، ووضعه في جيبه وقال: «هي في دار مولاي بقصر المؤنس في رعاية عبدك ياسر.» قال ذلك وقد سرَّه اكتفاء الخليفة بما قاله.
فقال الناصر: «سنبعث إليه أن يهيئ لنا الجارية، ويحضرها الليلة إلى بيت المنام في المجلس الشرقي (المؤنس).»
فأدرك سعيد أنه قد آن وقت الانصراف، فتحفز للنهوض وهو يقول: «هل يأذن سيدي أن أدربها على شيء تقوله في حضرته؟»
قال الناصر: «لا بأس. افعل ما تريد.»