سعيد وعابدة
فخرج سعيد بعد أن حيَّا وتأدب على جاري العادة، ومشى في الإيوان، والخصيان وقوف بأسلحتهم وملابسهم.
ولم يكد يخرج من الباب حتى لقيه ياسر، ومعه رجل عرف سعيد من ملابسه وقلنسوته أنه سليمان أبو بكر بن تاج طبيب الناصر، وكان سعيد يعرفه ويعرف مهارته في الطب ومنزلته عند الناصر بعد أن شفاه من رمدٍ أُصيب به، فحيَّاه وابتدره ياسر قائلًا: «ألم تعرف هذا الطبيب؟»
قال سعيد: «كيف لا؟ أليس هو أبا بكر بن تاج الحكيم النبيل؟»
فهشَّ له الطبيب وصافحه وقال: «لله درُّك! صدق الأستاذ ياسر؛ إنك لا تجهل شيئًا، وقد سرَّني أن لقيتك الساعة، وأنا أعلم بمهارتك في معرفة الكتب، وقد سمعت بكتاب في الطب قيل لي إنه أكمل الكتب وأحسنها.»
فقطع سعيد كلامه قائلًا: «لعلك تعني كتاب الحاوي لمحمد بن زكريا الرازي؟»
فبدا الاستغراب على وجه الطبيب لسرعة خاطر سعيد وقال: «إياه أعني.»
قال سعيد: «إنه كتاب نفيس، وهو أحسن كتب الرازي وأعظمها في هذه الصناعة؛ لأنه جمع فيه كل ما وجده متفرقًا في ذكر الأمراض ومداواتها من سائر الكتب الطبية للمتقدمين، ومن أتى بعدهم إلى زمانه، ونسب كل شيء نقله إلى قائله.»
قال الطبيب: «لقد سمعت إطراءً كثيرًا في الكتاب، فهل من سبيل إليه؟»
قال سعيد: «لا أعرف منه نسخًا في قرطبة، ولكنني أبعث من ينسخه لك في بغداد، وقد درسته وحفظت أهم مواده.» قال ذلك وهو يمشي والطبيب بجانبه وياسر إلى الجانب الآخر، والحرس ينظرون إلى ذلك الضيف ويعجبون بما لاقاه من الحفاوة لدى أمير المؤمنين.
قال ابن تاج: «إذا تمكنت من نسخ هذا الكتاب لي، عددت ذلك فضلًا كبيرًا منك.»
قال سعيد: «سأفعل إن شاء الله.» والتفت إلى ياسر وقال: «أخبرني أمير المؤمنين أنه سيكلفك بإحضار عابدة الليلة إلى بيت المنام ليسمع غنائها، وأنا ذاهب الآن لتعليمها بعض ما تقوله في حضرته.»
فعلم الطبيب أنه آن له أن يستأذن في الانصراف وهو يثني على سعيد، وسار سعيد وياسر إلى جانبه وهو يقول له همسًا: «كيف وجدت الرجل؟» يعني الناصر.
قال: «إنه كما ينبغي، ولكل أجل كتاب.»
ثم سمع ياسر صوتًا يستوقفه، فنظر فإذا بأحد الصقالبة يقول له: «إن أمير المؤمنين يدعوك إليه.» فقال: «إني ذاهب الساعة.» ثم التفت إلى سعيد وقال: «إني منصرف إلى أمير المؤمنين، واذهب أنت مع هذا الصقلبي وهو يدلك على مكان عابدة.»
ومشى سعيد والصقلبي بين يديه حتى بلغ قصر المؤنس، فتحول به إلى غرفة من غرف الضيوف وقال له: «سأرسل إليك عابدة الساعة.» ومضى.
ومكث سعيد وهو يُعمل فكره فيما يدبره لإتمام غرضه، وبعد قليل جاءت عابدة، وقد تزيَّنت بأحسن الملابس وأتقنت هندامها فرأى فيها جمالًا لم يعهده فيها من قبل، فعلم أنها تتوقع احتفاءه بها فهش لها ورحَّب بها وأجلسها إلى جانبه، فجلست وهي تبتسم وقلبها يخفق، وقد تبادر إلى ذهنها أن حسن هندامها يزيده رغبة فيها؛ لأنها ظلت حتى تلك الساعة تخشى صدوده، ورغم ما كان يبديه لها من الميل إليها فقد ظلت تخاف أن يؤخذ منها. أما هو فرحب بها وبالغ في إظهار إعجابه بها، فجلست وهي مطرقة تنتظر ما يبدو منه فقال لها: «كيف تجدين نفسك هنا؟»
فتنهدت وقالت: «أجدني تعسة.»
قال سعيد: «أتقولين الحق!»
قالت عابدة: «نعم وحياتك.» قالت ذلك وصوتها يرتجف.
فقال سعيد: «وهل يمكن أن تكوني في حال أحسن وأنت الآن جليسة الخليفة وموضع إعجابه؟!»
فتنهدت وهي تنظر إليه وتحاذر أن ينظر إليها فتضطر إلى أن تحوِّل وجهها عنه، وقالت: «ألم أقل لك إني لا أطمع في شيء من هذه السفاسف، وإنما منيتي وغاية مطلبي هي أن …» وسكتت.
فقال سعيد: «فهمت مرادك، وقد قلت لك إن ذلك ميسور لنا متى شئنا، ولكن لا بد من إتمام الأمر الذي جئنا من أجله. أين هو ذلك الحُقُّ؟»
قال عابدة: «هو عندي في مكان أمين.»
قال سعيد: «احتفظي به، واعلمي أن أمير المؤمنين سيدعوك الليلة ليسمع حديثك ويستمتع بغنائك، فابذلي الجهد في إرضائه.»
قالت عابدة: «سأفعل ذلك جهد طاقتي.»
قال سعيد: «غنِّيه مما حفظته من كتاب الأغاني.»
قالت عابدة: «حسنًا، سأفعل.»
قال سعيد: «هل عرفت أحدًا من أهل هذا القصر؟»
فأجفلت لعلمها أن ذلك القصر ليس فيه أحد غير الجواري والسراري، وهي تغار من مجرد سماع ذلك من حبيبها، ولكنها لم تستطع السكوت عن الجواب فقالت: «عرفت بعض نسائه.»
قال سعيد: «من منهن عرفت؟»
قالت عابدة: «أنت تريد أن أحدثك عن الزهراء، زينة هذه القصور كلها!» قالت ذلك وهي تنظر إليه، وعيناها تبرقان وتراقب ما يبدو منه.
فأظهر سعيد عدم الاكتراث بما ظهر منها وقال: «الزهراء؟ قد بلغني أنها ربة هذه القصور لشدة تعلق الخليفة بها. هل هي تستحق هذا الإكرام يا ترى؟»
قالت عابدة: «أما أنا فلا أراها بالعين التي يراها بها الناصر، ولعلِّي أظلمها إذا قلت إنها لا تمتاز عن كثيرات من نساء هذه القصور.»
فقال سعيد: «لا شك أن حب الخليفة لها يرفع مقامها، فأرجو أن تنالي من الخليفة الليلة ما يجعلك في منزلة أعلى من منزلتها.»
فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا أريد ذلك، وإن كنت أراه بعيدًا عني، إذ ليس فيَّ ما يبعث على الإعجاب، وأنا فتاة مسكينة أحفظ الأبيات من الشعر وأتلوها وهذا لا يعجب إلا القليلين. وهب أني كما قلت فأنا لا أريد أن أستقر في قلب أحد سواك. آه يا سعيد!» وتلعثم لسانها وكاد الدمع يتناثر من عينيها، فضحك سعيد باستخفاف، وقال: «كم يجب أن أكون سعيدًا بهذه المحبة!»
قالت عابدة: «إنك سعيد يا سعيد، وأنا الشقية.» وغصَّت بريقها.
فابتدرها سعيد قائلًا: «لا أزال أراك تستسلمين للشك.»
قالت عابدة: «كلا، ولكن قلبي يدلني. لا لا، لا شك أنك تحبني ولو على سبيل الشفقة عليَّ. ألا تشفق على قلبي! طبعًا أنت ترى ما أنا فيه من الهيام بك، وترى أني أتفانى في سبيل مرضاتك، فكيف لا تحبني أو لا تشفق عليَّ!» ومسحت عينيها بكمها.
فنظر إليها وحدَّق فيها وقال: «أراك عدت إلى الشك.»
فقطعت كلامه مسرعة وقالت: «لا، لا، أنا واثقة بك فافعل ما تريد.»
قال سعيد: «سترين صدق قولي، والآن افعلي ما قلت لك. ولكن أخاف أن تغار الزهراء منك.»
قالت عابدة: «ولماذا؟ أنا لا أسابقها على شيء إلا إذا كانت تسابقني هي.» وعضت على كمها بأسنانها كأنها تلهو بذلك عن التصريح بما كادت تنطق به.
فوقف وهو يمد يده إلى يدها ليصرفها، فأحست أنه يريد الذهاب فجذبت يدها من يده وقالت: «هل أنت ذاهب؟»
قال سعيد: «نعم، ولكننا سنكون معًا الليلة في حضرة الخليفة.»
فتنهدت وقالت: «نعم سنلتقي ولكن …»
فأمسك يدها وودعها وهو يقول: «أبعدي عنك الأوهام والمخاوف، فإن الوقت قد دنا، اذهبي الآن إلى غرفتك.» قال ذلك وخرج.
فظلت هي واقفة لحظة تنظر إليه، ثم تحولت نحو القصر تمشي الهوينى، وقد استغرقت في أفكارها وتحيرت في أمرها.