جوهر
وسار سعيد إلى حيث علم أنه سيجد ياسرًا، فلما التقيا دعاه ياسر إلى الطعام معه، وفي أثناء الطعام قال ياسر: «ما الذي فعلته بالخليفة؟»
فقال سعيد: «لم أفعل شيئًا، ولماذا؟»
قال ياسر: «رأيت الخليفة قد تغير كثيرًا وامتلأ إعجابًا بك.»
قال سعيد: «لم أفعل شيئًا يوجب إعجابه. وما هو التغيير الذي أصابه؟»
قال ياسر: «لا أستطيع أن أحدد التغيير الذي حدث، ولكنني فهمت ذلك من سياق حديثه في بعض الشئون المتعلقة بالزهراء.»
فلما سمع سعيد ذلك الاسم اختلج قلبه، ولكن رباطة جأشه أخفت ذلك عن جليسه فقال: «لماذا تغيَّر عليها؟ لا أظنك مصيبًا لأني لم أذكر هذه الجارية في حديثي معه مطلقًا.»
قال ياسر: «لا أعلم ما الذي قلته له، ولكنني أعلم أني رأيته تغيَّر، وعلى كل حال إن هذه الجارية قد بالغت في الاستبداد، وآن لها أن تعرف ما لها وما عليها.» قال ذلك بلهجة التهديد.
فبدا سعيد كأنه لم يهمه الأمر كثيرًا وقال: «ربما كان السبب في تغيُّره عليها ما لاحظه من استبدادها، فقد علمت أنها أصبحت لفرط دلالها تتدخل في أمور ليست من شأنها، حتى أسمعها الناصر ما تكره، وظل غاضبًا عليها يومًا وليلة.»
فبُغت ياسر ونظر إلى سعيد، فرآه مستغرقًا في تقطيع صدر دجاجة بين يديه كأنه لم يقل شيئًا، فقال ياسر: «ومن أبلغك هذا الأمر؟ ليس في هذا القصر أحد يعلم ذلك غيري؛ لأن الناصر أسمعها تلك الكلمات وغضب عليها، ولم يدع أحدًا يشعر بذلك خوفًا من الشماتة؛ لأن جميع نساء هذا القصر يحسدن الزهراء على منزلتها. قل لي كيف عرفت ذلك؟»
قال سعيد: «عرفته.» وهز كتفيه وحاجبيه وهو ينظر إلى السقف تجاهلًا.
فقال ياسر: «حقيقة إنك عبقري في التنجيم، كأنك تطلع على الغيب! لله درُّك من عالم حكيم!»
فضحك سعيد وقال: «إن الأمر لا يحتاج إلى معرفة الغيب. دعنا من ذلك الآن، وقل لي: هل أوصاك الخليفة بأن تُحضر له عابدة الليلة؟»
قال ياسر: «نعم.»
قال سعيد: «وهل طلب إليك أن تكون الزهراء حاضرة؟»
قال ياسر: «نعم.»
قال سعيد: «فإذن سنراها الليلة. إني طالما سمعت بجمالها.»
فقطع ياسر كلامه قائلًا: «ولكنه أمرني أن تجالسكم من وراء الستار، وكثيرًا ما يفعل ذلك في مثل هذه الحالة؛ لأنه شديد الغيرة عليها.»
فقال سعيد: «من وراء الستار؟ وما هي لذته بمجالستها على هذه الصورة؟»
قال ياسر: «هو لا يحجبها إلا إذا حضر مجلسه أحد من الرجال غيرةً عليها، والليلة ستكون أنت حاضرًا. أين أجدك لأذهب بك إلى ذلك المجلس؟»
قال سعيد: «إني ذاهب للاستراحة قليلًا، وربما نمت ساعة استعدادًا للسهر.»
قال ياسر: «سأمر بك وقت العشاء، ونذهب معًا إلى بيت المنام، أو أرسل إليك من يأتي بك إليَّ» ووقف سعيد فوقف ياسر وودعه وخرج إلى غرفته، ولم يكن يطلب النوم، وإنما أراد أن يخلو بنفسه للتفكير فيما يكون تلك الليلة.
وبينما هو متوسد هناك، وقد دنا الغروب، إذ سمع جلبة وقهقهة في ساحة القصر، فأصغى فإذا بجماعة من الخصيان يداعبون خصيًّا منهم وهو يصيح فيهم.
فلما سمع سعيد صوته استبشر، وعلم أنه قادم إليه، وقال في نفسه: «أتى جوهر الخبيث.»
ثم هدأت الجلبة، وبعد قليل دخل على سعيد خصيٌّ قصير القامة غريب الهيئة، قصير الساقين، كبير الرأس، واسع الوجه، بارز الجبهة، قبيح الخلقة، عليه ملابس ثمينة، مظهره يضحك الثكلى لغرابته، على رأسه قبعة طويلة مخروطية الشكل في رأسها شرابة، وعليه جبة من خز مطرزة، تحتها قفطان من حرير أحمر لامع. دخل على سعيد ولم يحيِّ، فنهض سعيد وقال له: «ما الذي جاء بك يا جوهر؟»
فتقدم الغلام وقبَّل يد سعيد وقال: «أتيت أعرض عليك خدمة أقوم بها.»
قال سعيد: «ومن أنبأك أني هنا؟»
قال جوهر: «هل تفوتني حركة من حركاتك يا سيدي؟ كيف تأتي هنا ولا أعلم؟»
قال سعيد: «كيف هي؟»
قال جوهر: «هي كما تعهدها لا تزال خالية الذهن، صلبة القلب.»
قال سعيد: «هل علمت أني في قرطبة؟»
قال جوهر: «لا تعلم شيئًا من ذلك.»
قال سعيد: «ألم تتغير محبتها لذلك الرجل؟»
قال جوهر: «إن ذلك الرجل لم يترك لها سبيلًا للتفكير في سواه؛ إذا غضبت استرضاها، وإذا أمرت نفَّذ أمرها مهما يكن كما قلت لك قبل الآن.»
فأطرق سعيد وقال: «هل يعلم أحد أنك جئت إلى هذا المكان؟»
قال جوهر: «من يعلم ذلك؟ لقد أتيت بحجة اللعب في ساحة القصر مع بعض الرفاق الصقالبة، وفررت من بينهم كأني أطلب حاجة لنفسي.»
قال سعيد: «نحن اليوم ضيوفكم في بيت المنام.»
قال جوهر: «أعلم ذلك، وإنما أتيت لأخبرك أنها ستحضر المجلس وتسمع الغناء، وهي شديدة الولع بالصوت الرخيم، ولها دراية بالموسيقى، فهي تعزف على العود، وقد حفظت كثيرًا من الشعر. ولما علمت اليوم بمجيء عابدة رأيت الغيرة قد دبَّت في عروقها، وأظنها تحب أن تزداد تعمقًا في هذه الصناعة.»
قال سعيد: «تحب أن تتعلم الأشعار والغناء؟»
قال جوهر: «أظنها تميل إلى ذلك.»
قال سعيد: «فإذن أنت تعرف كيف يجب أن تجعلها تطلب من مولاها أن أعلمها الشعر. فهمت؟»
قال جوهر: «نعم يا سيدي، سمعًا وطاعة، إني لا أنسى فضلك.»
فقطع سعيد كلامه قائلًا: «هل أنت منقطع لخدمتها الآن؟»
قال جوهر: «أنا منذ بضعة أسابيع في خدمتها، وأراها ترتاح إليَّ وتطرب لمنظري وحديثي، لكنني أحسبها هذين اليومين في شاغل؛ إذ يندر أن تطلبني إليها، ولا أعلم السبب.»
قال سعيد: «لعلها غاضبة أو عاتبة أو خائفة؟»
قال جوهر: «لا أعلم، وربما عرفت السبب بعدئذ. هل تأذن بانصرافي الآن؟ فإني أخاف أن يستبطئوني ويطَّلعوا على خبري معك.»
قال سعيد: «اذهب.»
فانحنى وحيَّا ومضى.