خازن كتب الحكم
اشتغل الخادم جوهر بتقديم ما يحتاج إليه الناس، وتوجَّه سعيد إلى الغرفة التي فيها الفقيه ابن عبد البر، فرآه منهمكًا في المطالعة يكتب في كراس بيده، وهو يتأمل فيما يكتبه، وقد نزع عمامته واستغرق في التفكير، وبينما هو ينظر إليه، سمع وقع خطوات خلفه، فالتفت فرأى تليدًا صاحب مخزن كتب الحكم ولي العهد قادمًا على عجل — وهو خصيٌّ وجيهٌ — فقابله سعيد مرحِّبًا، فرآه يشير إليه بسبابته على شفتيه أن يسكت فسكت، وتقدم تليد حتى أطل على الفقيه ابن عبد البر خلسة، فلما رآه مستغرقًا في الكتابة. همس في أذن سعيد: «إن الفقيه يهيئ خطابًا ليتلوه بين يدي أمير المؤمنين غدًا فينال منصب قاضي القضاة.» قال ذلك وهز رأسه استخفافًا، ورجع وهو قابض على يد سعيد حتى دخلا غرفة أخرى والفقيه ابن عبد البر لم ينتبه.
فمشى سعيد مع تليد، وهو ينتظر ما يبدو منه، فإذا به يقول له: «بلغني أن رجلًا من بني أمية اسمه أبو الفرج الأصفهاني ألَّف كتابًا في الأغاني. هل سمعت عنه شيئًا؟»
قال سعيد: «سمعت أنه يؤلِّف هذا الكتاب من عهد بعيد، ولا أدري إذا كان قد أتمَّه الآن أم لا.»
قال تليد: «سمعت أنه أحسنُ كتاب في الأدب.»
قال سعيد: «نعم، وقد بلغني أنه قضى معظم حياته في جمعه وتأليفه، وهو يُغني عن سائر الكتب.»
قال تليد: «بلغ مولاي الحكم خبر هذا الكتاب، وأن مؤلفه أموي مثله، فأحب اقتناءه، وهو يدفع ما تشاء للحصول عليه.»
قال سعيد: «سأبعث في طلبه من العراق؛ لأن صاحبه مقيم هناك.»
قال تليد: «إذا فعلت ذلك لا تذكر خبر مجيئي إليك، ولا خبر هذا الكتاب. هل فهمت؟»
فأجاب سعيد: «نعم.» وقد أدرك أنه يريد أن يخفي ذلك وخاصة عن الفقيه ابن عبد البر؛ لاتصاله بعبد الله شقيق الحكم. وكان عبد الله ينافس أخيه الحكم في اقتناء الكتب، فإذا سبق أحدهما إلى اقتناء كتاب جديد عدَّ ذلك فخرًا له.
وودع تليد سعيدًا بالإشارة، وهمَّ بالخروج فتبعه سعيد إلى الباب وقال له: «هل كنتم في جملة الخارجين لاستقبال رسل الروم. يا حبذا لو كنت معكم!»
قال تليد: «كلا.»
فقال سعيد: «لو كنت ضمن المستقبلين لما حدث ما أغضب ياسرًا.» قال ذلك وهو لا يعرف شيئًا عما أغضبه، ولكنه أراد بذلك أن يعرف سر غضبه.
فقال تليد: «هل علمت ما حدث؟ إني أري ياسرًا على حق في غضبه؛ لأن تمَّامًا مع أنه أقرب عهدًا في خدمة القصر، نراه قد شمخ بأنفه عليه ويريد أن يتقدمه في المجالس والاحتفالات، ولكن ياسرًا عاقل لا أظنه يحاسبه على هذه الجسارة.» قال ذلك وودَّعه وهو يقول: «لا تذكر خبر مجيئي لأحد.»
فأدرك سعيد من هذه المحادثة سبب غضب ياسر واستبشر به، وكتمه في نفسه وعاد إلى عمله، ولما اقتربت الشمس من المغيب أخذ الناس في الانصراف، والفقيه ابن عبد البر مستغرق في مطالعته وكتابته، ولم يشأ سعيد أن ينبِّهه. خرج الجميع ولم يبقَ هناك غيره، فانتبه الفقيه لنفسه لمَّا غابت الشمس وخيَّم الظلام، وهمَّ بالنهوض فرأي جوهرًا الخادم يحمل إليه سراجًا مضيئًا وهو يقول: «إن سيدي قد بعث إليك بهذا السراج لتستضيء به، حتى تُتمَّ عملك.»