العباسيون والأمويون
فتصدَّت عابدة للكلام قائلة: «إن مجالس الأدب كانت تُعقد في البصرة والكوفة على الأكثر، وللكوفيين والبصريين مناظرات ومناقشات كثيرة فيها اللطيف والمفيد.»
فاستحسن الناصر نغم صوت عابدة، ولم يكن قد سمع صوتها بعد، فلفت ذلك انتباهه فوجه كلامه نحوها وقال: «أذكرتني يا عابدة مناقشة طار ذكرها في الآفاق، وقد حضرها الرشيد نفسه.»
قالت عابدة: «أظن مولاي يعني مسألة الزنبور والنحلة؟»
فضحك الناصر وقال: «نعم، إياها أعني.»
قالت عابدة: «إنها من أغرب الحوادث، وهي تبدو أول وهلة مسألة لغوية أو نحوية، ولكن خلفاء بغداد كانوا يمزجون السياسة بكل شيء، حتى بالنحو والحديث والتفسير.»
فأُعجب الناصر بتفكيرها الذي يدل على سعة في العلم وثقة في النفس وقال: «ماذا تعنين بالسياسة يا عابدة؟»
قالت عابدة: «أعني أنهم منذ قبضوا على زمام الدولة لم يدَّخروا وسعًا في تأييدها، ولو خالفوا فيه الشرع أو العقل أو العلم.»
فاستغرب الناصر هذا الرأي، وأحب أن يطَّلع على حقيقته لأنه يساعده في الدفاع عن خلافته، وكان إلى ذلك الحين يعدها مقلقة فقال: «ماذا تعنين بذلك؟»
قالت عابدة: «أعني أنهم لما قاموا يطلبون الخلافة من أجدادكم في الشام تظاهروا بالتقوى والعمل بالكتاب والسنة، وطعنوا في خلفاء بني أمية لأنهم طلبوا الملك العضود، وزعموا أنهم اتخذوا الفتك في سبيل الحكم، فلما ملكوا ارتكبوا أضعاف ما ارتكبه بعض أجدادكم من الفتك والقتل على التهمة. وكانوا يظهرون أنهم يفعلون ذلك رغبة في العلم أو الدين، ولو تدبَّرت الحقيقة لرأيتهم إنما كانوا ينظرون من وراء ذلك إلى مصالحهم. نصر أبو جعفر المنصور فقهاء العراق أصحاب الرأي والقياس على فقهاء المدينة أصحاب الحديث. ولماذا؟ هل فعل ذلك لأنه يعتقد أن الحق في جانب أبي حنيفة رئيس أصحاب الرأي؟ لا أظنه فعل ذلك إلا نكاية في مالك رئيس أصحاب الحديث فيها؛ لأنه أفتى بخلع المنصور، ولو لم يرَ خلعه، أو لو رأى المنصور في نصرته فائدة له لنصره.»
وكان الناصر يسمع كلام عابدة بلذة وشوق، لما حواه من الآراء الفلسفية التي لم يسمعها من أحد قبلها، وخصوصًا لأن الطعن في العباسيين يوافق سياسته. وارتفعت في عينيه وأراد أن يستزيدها فقال: «بورك فيك من فقيهة عاقلة! لكنني رأيتك تشددين النكير على أصحابنا العباسيين، وما أدرانا أن المنصور لم يكن ينصر أبا حنيفة لاعتقاده بصحة رأيه؟»
قالت عابدة: «دعنا من الفقه والحديث، ولنتحدث عما كان من الرشيد وأبنائه في مسألة الزنبور والنحلة، وهي من المسائل النحوية.»
قال الناصر: «هل ترين في هذه أيضًا جانبًا سياسيًّا؟»
قالت عابدة: «نعم يا مولاي؛ لأن العباسيين كانوا يرغبون في نصرة أهل الكوفة؛ لأنهم نصروهم لمَّا قاموا لطلب الخلافة، فقدَّموهم على أهل البصرة، وقربوهم إليهم، فطمع الكوفيون في مسابقة أهل البصرة، وصاروا يجادلونهم في المسائل النحوية، وفي الأدب والشعر، حتى قامت مسألة الزنبور والنحلة بين سيبويه من أهل البصرة والكسائي من أهل الكوفة، وكان الكسائي يعلِّم الأمين بن الرشيد، وكان الأمين ينصره باعتبار أن انتصاره انتصار أهل الكوفة جميعًا وهم أنصار الخلفاء.»
فقطع الناصر كلامها قائلًا: «صدقت، صدقت، ولولا ذلك لم يتخذ الأمين كل وسيلة لقهر سيبويه، فإنه بعد أن ظهر للملأ أن الحق في جانبه أغرى ذلك البدوي على تخطئته والحكم للكسائي، فخرج سيبويه من بغداد وقصد بلاد فارس. لا شك أنهم ظلموه كما قلتِ تحزُّبًا لأنصارهم الكوفيين. لله درك من حكيمة!»